درس العلوم التجريبية في مدارس أمريكا
(١) درس الطبيعة
يشرح الأستاذ لسامعيه القوانين الأساسية لعلم الطبيعة، مؤيدًا ذلك بالتجارب، ويحقق الطالب في المعمل طائفة من التجارب تؤيد وتكمل ما سمع في الدرس. والمعمل في كثيرٍ من الأحيان يسبق الدرس في تعليم الطلبة ما يدرسون. والمعمل الطبيعي اختراع أمريكي، فلسنا نعرف مدرسة في القارة الأوروبية تبلغ من الدرس العملي ما تبلغه المدارس الأمريكية.
ولقد زرنا نحو عشرين معملًا من معامل المدارس الثانوية أثناء عملها فكان إعجابنا مضاعفًا بإتقانها وحسن عملها.
والقارئ يستطيع أن يقدر رضا الطلبة حين انتهت التجربة فكتبوا في دفاترهم من عند أنفسهم: «قوانين البدول» إن حركات … متساوية الآناء وهي مناسبة للجزع المربع لطول …
ليس بين الظاهرة الطبيعية من جهةٍ وبين عين التلميذ ومخه من جهةٍ أخرى جمل فارغة، ولا ألفاظ اصطلاحية ولا حدود ولا صيغ يجب أن تحفظ، وإنما هي الحقيقة المجردة تظهر له وتدخل ذاكرته.
والآلات في أكثر المدارس متينة عادية ليس فيها تفنن ولا ترف، ففيها أشياء استُعيرت من الحياة العملية كالآلات الرافعة والموازين وغير ذلك، وكل هذه الآلات في أكثر الأحيان قد رسمها الطلبة وصنعوها في المدارس، وتعتمد التجارب على الكتب وعلى ثبت يبين الغاية التي ترمي إليها كل تجربة، والأغلاط الذي يجب اتقاؤها، والأدوات التي يجب استخدامها، ويقيد التلميذ بعناية في دفتر معه نتائج ملاحظاته، ويلاحظ الأستاذ سير التجارب، تاركًا للتلميذ خير النتائج وشرها.
(٢) تعليم الكيمياء
لأصغر المدارس الثانوية معمل من معامل الكيمياء يستطيع الطالب فيه أن يحقق مقدارًا من العمل الشخصي لا بد منه للحياة أو لدخول المدرسة، ولا يكاد الأمريكيون يعنون بالدروس الشفوية في الكيمياء مهما تكن مقدرة الأستاذ ومهارته في إجراء التجارب، ولم نجد مدرسة واحدة تكتفي بمثل هذا التعليم، ذلك أن الدرس الشفهي للعلوم التجريبية لا يتفق مع النفسية الأمريكية ولا يستطيع الطلبة أن يصبروا عليه، ولا يكاد يوجد في أمريكا كما يوجد عندنا أستاذ يجمع مئة من الطلبة أمام معمل توافرت فيه الأدوات المختلفة للتجارب المختلفة، ولا يوجد هذا الأستاذ الذي يعمل باسم الطلبة ويلقي إليهم بعد ذلك نتائج وصل إليها هو بالتجربة أو من الكتاب، وإنما أساس الدرس في العلوم التجريبية عامة وفي الكيمياء خاصة هو المعمل؛ حيث يفكر الطالب ويعمل في وقتٍ واحد، وكثير من المدارس لا تقرر الدروس الشفهية، فإذا قررتها بعض المدارس فعدد هذه الدروس لا يتجاوز خمسة وعشرين درسًا لكل درس منها ثلاثة أرباع الساعة، وأكثر هذه المدارس تقرر دروس الإلقاء فيدرس الطالب نظرية من النظريات ثم يأتي فيشرحها أمام أستاذه ورفاقه.
ترقى الدروس شيئًا فشيئًا بإجراء التجربة على طائفةٍ من الحوادث تمر تحت أعين الطلبة وأيديهم، ولقد يدهش الذين يعرفون ملل تلاميذنا من دروس الكيمياء التي تعتمد على الكتب إذا رأوا شغف الطلبة الأمريكيين بدروسهم المعتمدة على التجربة، والتي تفيدهم في تربية نفوسهم وفي حياتهم العلمية أيضًا.
وهذه النظريات في رأي التلاميذ تابعة للجزئيات موقوفة عليها، وهم يسترشدون في أعمالهم بهذه الحقيقة الأساسية التي تضمن لهم الفوز.
والمعلمون في أمريكا مجمعون على أن الدروس التجريبية والشفهية ضرورية لاستنباط الكليات من الجزئيات، ولكن تعليم الكيمياء لا يمكن أن يفيد إلا في معمل حسن النظام موفور الأدوات.
(٣) الأعمال اليدوية في التعليم الثانوي
- أولًا: «العمل في الخشب» كالتجارة والخرط وما يشبههما.
- ثانيًا: «العمل في المعدن» كاصطناع الحديد والصلب والبرادة اليدوية أو الآلية.
أما الفتيات فيدرسن العلوم المنزلية: كالطبخ والغسل وتدبير المنزل والخياطة والاقتصاد المنزلي والفنون المنزلية.
والأعمال اليدوية تعليم تُقصد منه التربية قبل كل شيء كما في التعليم الأولي، وهذا التعليم يوصل التلاميذ العاميين إلى مهارةٍ لا بأس بها؛ لأن كل نموذج جديد يشتمل مع جدته على شيءٍ مما درسه التلميذ في الطور الذي تقدمه، والأمريكيون يرون أن الأعمال التي لا تتأثر بفكرةٍ معينة ليس لها قيمة ما من وجهة التربية، وهم يتهمون المربين في السويد بأنهم قد سلبوا مذهبهم في التربية كل حياة وكل روح؛ لأنهم جردوا النماذج من كل أثر فني، وعناية الأمريكيين بإخضاع التعليم اليدوي لفكرةٍ أساسية هي التي تجعل التلاميذ يعدون صورة الأعمال ويتناقشون فيها قبل التنفيذ، وهم لذلك يجتمعون حول الأستاذ فيتبادلون الرأي ويتناقشون ويسألون وينقدون، وما يزالون في ذلك حتى تظهر الفكرة الأساسية دقيقة واضحة، وكذلك إذا أراد الأستاذ تعليم تلاميذه شيئًا جديدًا أو استخدام أداة جديدة جمع التلاميذ حوله، ثم حل هذه الأداة إلى أجزائها الأولى وشرح هذه الأجزاء للتلاميذ ثم يعدها ويركبها من جديد، والأمريكيون يتبعون هذه الطريقة التجريبية بدقةٍ شديدة ولا سيما في مدارس المعلمين الفنية، وإذا كانت قواعد التربية متشابهة أو ميالة إلى التشابه في أمريكا فإن النماذج والأمثلة العملية تختلف اختلافًا لا يكاد يوصف، ومن المدارس الثانوية ما تعنى في هذه الأعمال بالفن الجميل.
(٤) الخلاصة
يبعث الأوروبي ابنه إلى المدرسة ليتعلم فيها شيئًا ما، أما الأمريكي فيريد من المدرسة أن تضمن التربية الكاملة لابنه، التربية العملية والعقلية والخلقية.
لا تُعنى مدارسنا عناية تذكر بما للتربية من أثرٍ عظيم في حياة الأمة ومجدها، وبرامج التعليم عندنا ثابتة لا تتغير، والمناهج لا تُعنى إلا بالمبادئ المجردة والاستدلال المنطقي الخالص وبالنتائج تستخرج من أقيسة المنطق. وتدرس عندنا العلوم بطرقٍ قد اصطلح عليها وبعُد ما بينها وبين صور الحياة الحقيقية، فأما مسائل تنظيم المدارس ووضع البرامج ودرس الاستعداد لحسن التربية فلا تدرس ولا تناقش إلا في طبقاتٍ ضيقة محصورة، والشعب لا يفهم لغة المربين عندنا، وإنما يظل أجنبيًّا بالقياس إلى هذه المناقشات التي هي وقف على الفنيين والموظفين، وأما في أمريكا فعلى العكس من ذلك، لكل مدرسة حركتها الخاصة وكل المسائل الكبرى التي تمس نصيب أمريكا العلمي والمدرسي موضوع مناقشة متصلة في الكتب والمجلات والصحف السيارة، ولا سيما في الجماعات والمؤتمرات التي يحضرها ويفهمها الشعب، فإذا جد في هذه المسائل جديد قُيد ثم نوقش ثم جُرب ثم نُفذ، والشعب الذي يسمح له بحضور الدروس ودخول المعامل يشهد هذا كله ويعلن رضاه، وبتأثيره امتدت الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي دخلت المدارس فأعطت للدروس صورة رخصة نضرة صحيحة، وفي كل أنواع التعليم لا يفصل بين الفكرة وتنفيذها العملي، بهذه التربية العاملة تقوى إرادة الأطفال والشبان وتملك نفسها.
والأمريكي يشعر شعورًا جليًّا بأن مستقبل بلاده كله بين يدي المرأة التي تنقل إلى الطفل نظم التربية وأساليبها، وبينما الأوروبيون لا يعنون بالمرأة في الحياة العقلية وإنما يحصرونها في دائرةٍ ضيقة جدًّا من العلم، تتلقاها في المدارس الخاصة أو المدارس الوسطى القليلة التي لا يدخلها إلا قليل من الفتيات، فإن المدارس الثانوية الأمريكية كلها مكتظة بالفتيات على اختلاف طبقاتهن يدخلن هذه المدارس فتُنمى ملكاتهن العقلية بالعلم والأدب، وملكاتهن العملية بدروس حياة الأسرة والمنزل على اختلافها، وقد اتصل بالمدرسة مطبخ ومحل لخياطة الثياب، فأصبح مجموع هذا كله معملًا حقيقيًّا تكتسب فيه الفتاة قبل أن تصبح زوجة الاستعدادات والمعلومات الضرورية التي تضمن لها حياة مستقلة، وتمكنها من أن تحفظ وتنمي القوة المادية والعقلية للأمة.
وللأمريكيين مثلنا ميل إلى الخير ورغبة في التضامن الاجتماعي. ولكن هذه الرغبة وذلك الميل لا يعتمدان في أمريكا على العواطف والشعور وشيء يشبه التصوف، وإنما يعتمدان على المنفعة العملية للمجتمع. فالأفراد والمدن يستبقون إلى الخير ويتنافسون في إنشاء المكاتب للأطفال والشبان وفي تأييد المدارس ومعاهد العلم والتربية، بما يستطيعون أن يبذلوا من قوة ومال.
والمثل الأعلى للتربية الذي ينشأ عن هذا الشعور الوطني ساذج ديمقراطي، فإن البحث المدرسي العام كالبحث الفني يعتمد على تعليمٍ أساسي واسع، وكذلك تعتمد درجات التعليم بعضها على بعض ويتصل بعضها ببعض اتصالًا صحيحًا سهلًا تود درجات التعليم عندنا لو وفقت إليه.
والمدارس كلها على اختلاف درجاتها وموضوعات الدراسة فيها تؤلف وحدة مستقلة متناسبة الأجزاء.
وبينما المدرسة الأوروبية تقوم على جهل الطبيعة الإنسانية عامة وطبيعة الطفل خاصة، فهي لا تربي التلميذ وإنما تفسده فتصوره دون حياء ولا خجل، هذه الصورة القديمة التي تنمحي فيها الشخصية، فإن المدرسة الأمريكية تخالفها المخالفة كلها، فهي لا تصور الطفل صورة معينة ولا تصبه في قالبٍ معروف، وإنما تربيه وتنمي شخصيته وتقوي فيه كل ما يبعث فيه الإرادة القوية والشخصية البارزة.