الفصل الأول
قيمة مناهج الجامعة
(١) منهج الذاكرة
لنترك أميركا ولنعد الآن إلى جامعتنا.
في العصر القديم كان التعليم يكاد ينحصر في درس اللاتينية واليونانية واستظهار ما
كان معروفًا من مبادئ العلم، فكانت طريقة اليسوعيين ملائمة لهذا النوع من الدرس،
فكان تلاميذهم يصلون إلى كتابة اللاتينية ولم يكونوا محتاجين إلى إجهاد الذاكرة
ليستظهروا هذه المبادئ العلمية القليلة التي كانت معروفة يومئذٍ، فكان الاعتماد على
الذاكرة كافيًّا لما يحتاج إليه ذلك العصر، ولكن نما العلم في العصر الحديث فظهرت
الحاجة إلى مناهج أخرى، ولم تستطع الجامعة أن تفهم هذا ولا أن تقدره، وإنما ظلت
تستخدم الذاكرة إلى الآن.
«ومن هنا كثرت البرامج المثقلة التي يُضاف إليها في كل يومٍ علم جديد، والتي
ترى فيها علم الصحة والحقوق والآثار تجاور اللغات الميتة والحية والرياضة
والتاريخ والجغرافيا إلخ … وقد خُيل إلى الجامعة خطأ أنها بهذه الطريقة تصل إلى
التعليم الجدي العملي، فلم تصل إلا إلى التعليم السطحي، خُيل إلى الجامعة أن
الطفل يجب أن يجمع في ذاكرته هذا المقدار الضخم من العلم قبل أن يدخل في
الحياة، فظهر أن هذا المقدار الضخم لا يُعلِّم الطفل شيئًا.»
١
وفي الحق أنه لا يعلم شيئًا في فرع من فروع العلم، كما يثبت التحقيق البرلماني
الذي تتشابه أجزاؤه تشابهًا تامًّا بحيث يمكن الاستغناء ببعضها القليل عن سائرها
الكثير.
(٢) نتيجة تعليم اللاتيني واللغات الحية
يثبت لنا التحقيق البرلماني أن تسعة أعشار الطلبة عاجزون عن أن يترجموا دون
استعانة بالمعجم أسهل الكتب. وإذن فهم عاجزون عن قراءة الكتَّاب اللاتينيين، وإذن
فلا فائدة في البحث عن نفع هذه اللغة التي لا تستطيع الجامعة تعليمها.
٢
عجيب جدًّا عجز الجامعة عن تعليم اللغات قديمها وحديثها، فإن تعليم اللغات أسهل
أنواع التعليم، فيجب أن نتعرف أسباب العجز عن هذا التعليم الذي كان يتقنه اليسوعيون
قديمًا، أهم هذه الأسباب وأعمها أن الأساتذة يتركون الطريقة النافعة في هذا التعليم
… طريقة الترجمة، ويلجئون إلى طريقةٍ عقيمة هي أخذ الطلبة باستظهار كتب النحو
والصرف وما فيها من الفروض والعلل التي لا تخطر إلا لأساتذة الجامعة، فينسى الطالب
كل هذه الأشياء غداة الامتحان، أما اللغة نفسها فليس في حاجةٍ إلى نسيانها؛ لأنه لم
يتعلمها، وتُدرَّس اللغات الحية بنفس هذه الطريقة فيُكرَه التلميذ على أن يستظهر
دقائق النحو؛ ولهذا يمضي الطالب سبعة أعوام أو ثمانية في درس لغةٍ حية ثم لا يستطيع
أن يقرأ في هذه اللغة كتابًا ما، وقد اتفق مع هذا مسيو «لافيس» Lavisse وآخرون من أعضاء لجنة التحقيق.
(٣) نتيجة درس الأدب والتاريخ
تتبع الطريقة نفسها في درس الأدب والتاريخ فتنتج النتيجة بعينها، يدرس الطالب
أرقامًا وأحكامًا معدة ودقائق لا خير فيها، فلا يلبث أن ينساها غداة
الامتحان.
ماذا يدرس في المدارس؟ يكلف الطلبة حفظ أحكام أعدها أساتذتهم، وقراءة كتب في
النقد كتبها قوم أذكياء من المعاصرين ولكنهم ليسوا راسين ولا كورنيل ولا غيرهما من
نوابغ الفرنسيين، وإذن فالذين يكوِّن تلاميذنا إنما هي آثار أساتذتهم أو كتَّابٌ من
الطبقة الثانية، ولكنهم لا يقرءون آثار كتَّابنا والنابغين، ولا آثار كتاب
اللاتينيين ولا اليونان، فأما إنشاؤهم الفرنسي فليس له قيمة ما، فهم يكلفونهم
الكتابة في موضوعات فنية أكثر مما ينبغي، فيحاول الطلبة الأشقياء أن يذكروا ما قال
لهم الأساتذة في هذا الموضوع أو ذاك.
ولقد استُبدل درس الآداب بدرس تاريخها، فأصبح الطالب لا يعرف حِكَم «لاروشفوكولد»
وإنما يعرف طبعاتها المختلفة.
إن العالم يتقدم وإن مسابقة الشعوب الأخرى إيانا لتنذرنا بالخطر، وفي أثناء هذا
الوقت يثرثر الأساتذة كالبيزانطيين حين كان محمد الفاتح يحصرهم، كان العدو على
أسوارهم وكانوا يثرثرون.
٣
(٤) نتيجة درس العلوم
تُتَّبع الطريقة نفسها في درس العلوم، ألفاظ وكتب معقدة دقيقة تُحفظ عن ظهر قلب،
فبدل أن يُعنى في درس الكيمياء بأن يدرس الطالب درسًا حقيقيًّا منتجًا صيغ هذا
العلم وقوانينه وطائفة من العناصر ذات الخطر فيميل الطالب إلى هذا العلم ويُعنى به،
فإن الرأي الشائع يُلزمنا أن نكلف الطالب أن يكون دائرة معارف في الكيمياء، فينتج
من ذلك السأمُ أولًا والنسيان ثانيًا، وكذلك الحال في الطبيعة … فليست العناية
موجهة إلى درس القوانين العامة وتفهمها، وإنما هي موجهة إلى وصف الأدوات المختلفة
المركبة كأننا نريد أن يكون طلابنا عمالًا، ونفس هذا العيب يوجد في الدروس جميعًا،
سواء منها دروس العلم والأدب، وسواء منها دروس الأدب القديم والحديث، وليست نتائج
الدروس الرياضية خيرًا من نتائج العلوم الأخرى.
٤
(٥) نتيجة التعليم العالي وروح الجامعة
يخرج التعليم العالي من برنامج هذا الكتاب، ولكني مضطر إلى أن أقول فيه كلمة؛ لأن
التعليم الثانوي إذا كان قد وصل من النقص إلى هذا الحد الذي بيناه فليس التعليم
العالي أدنى منه إلى الكمال، فكل بلد يرقى التعليم العالي فيه فلا بد من أن يكون
التعليم الثانوي فيه راقيًّا أيضًا، فالتعليم العالي يمتاز عندنا بما يمتاز به
التعليم الثانوي من استظهار الكتب وخزن النظريات التي تذهب بعد الامتحان، وكل الفرق
بين طالب الهندسة ومدرسة المعلمين والحقوق وبين طالب المدرسة الثانوية هو أن ذلك
يستظهر ويعيد أكثر مما يستظهر هذا ويعيد.
تستخدم الذاكرة في جميع ضروب التعليم وهذا هو مصدر انحطاطنا وتفوق الأجنبي علينا،
فإن شبابنا على اختلاف منازلهم العلمية قد حفظوا أكثر مما حفظ الشبان الأجانب في كل
شيء، ولكنهم في الحياة الواقعة أقل منهم علمًا وكفاية في العمل؛ لأنهم لم يستخدموا
إلا الذاكرة.
وليس يظهر هذا الضعف في مناصب الحكومة التي يشغلها خريجو الجامعة، وإنما يظهر
بشكلٍ مؤلم يوم يضطر هؤلاء الناس إلى أن يلتمسوا لأنفسهم وسيلة من وسائل
العيش.
٥
(٦) رأي الجامعة في قيمة تعليمها
لقد قدمنا ما يدل على أن أساتذة الجامعة المستنيرين يشعرون بضعف مناهجهم
التعليمية، ولئن كانوا كما قلت في المقدمة لا يشعرون بسبب هذا الضعف، فشعورهم بهذا
الضعف نفسه يكفي دليلًا على قيمة تعليم الجامعة.
وحسبنا أن ننقل بعض ما يقولون:
«يخرج الطلبة من المدرسة وقد رأوا مختصرات كثيرة تمر أمامهم، وازدادوا
مقادير مختلفة من مواد غير قابلة للهضم، فهم لا يحسنون كتابة اللاتينية بل
ولا قراءتها، وهم لا يشعرون بشيءٍ من جمال الآداب القديمة التي حاولوا أن
يتفهموا بمشقةٍ بعض نصوصها، دون أن يقرءوا كتابًا كاملًا من كتب هذه
الآداب، وأكثرهم عاجز عن أن يكتب صفحةً واحدة دون خطأ إملائي وفي لغة
فرنسية نقية.
٦
ادرس أوراق امتحان الشهادة الثانوية، واحضر بعض الامتحانات الشفهية؛
لتعلم إلى أي حدٍّ من العقم انتهت هذه الجهود الثقيلة التي بذلها أساتذة
أكفاء مخلصون في ستة أعوام أو ثمانية.
٧
أعتقد أن ثلاثة أرباع الذين نالوا الشهادة الثانوية يجهلون الإملاء،
وربما لم يكن هذا الشر عظيمًا، ولكن إذا كان تعليم الآداب لا يعصم من هذا
الشر فما قيمته؟ ولست أشك في أن نِصف أصحاب الليسانس في الحقوق والآداب
يجهلون أسهل مسائل الرياضة، وأن أصحاب الليسانس في جميع أقسام التعليم
يجهلون الجغرافيا، ولقد امتحنا طلاب المدرسة البحرية فعرفنا قيمة التعليم
الثانوي، ولست أدري لِمَ نلح في تسمية هذا التعليم بهذا الاسم، فهو ليس
ثانويًّا ولا أوليًّا ولا عاليًا، هو كل شيء وهو لا شيء، هو أثر من الآثار
القديمة لا يلائم هذا العصر الحديث، هو آثر من آثار النظام القديم وقد فقد
الحياة منذ ثلاثين سنة.
٨
هذا بالدقة هو مركز تعليم الآداب القديمة في هذه الأيام، ضعف هذا التعليم
وأحاط به الخطر من كل مكان فأصبح لا يبعث الثقة كما كان يبعثها قديمًا،
وأصبح يميل إلى أن يكون نوعًا من الاختصاص بحيث تدرس اللاتينية واليونانية
كما تدرس العبرية والهندية وتصبح احتكارًا لبعض الممتازين دون أن تؤثِّر في
تكوين العقل الفرنسي أو الذكاء الفرنسي أو الخلق الفرنسي.
٩
لا أتردد في أن أقول رأيي بصراحة: وهو أن تعليم الآداب القديمة لا يلائم
حاجات العصر، وأن الذين يعلِّمونها والذين يتعلَّمونها يرون هذا
الرأي.»
١٠