الأساتذة والمعيدون
(١) الأساتذة
رأينا فيما مضى حال المدارس وإدارتها فبقي أن نرى أساتذتها، معتمدين في ذلك كما اعتمدنا في غيره على التحقيق البرلماني.
الأستاذ رجل يعلِّم فيجب إذن أن يحسن فن التعليم، ولكن أساتذتنا لم يدرسوا هذا الفن بل هم يجهلونه الجهل كله، حفظوا أشياء كثيرة ولكن أكثرهم لا يستطيعون أن يعلموا شيئًا مما حفظ، وهذا ما تدل عليه شهادة نفر أعظم رجال الجامعة قدرًا وأبعدهم صيتًا.
وقد أثبت مسيو ليون بورجوا أن السبب الأول في عجز الأساتذة إنما هو سوء الاستعداد لشهادة الأستاذية، فقال: «يجب ألا تكون شهادة الأستاذية درجة من درجات التعليم العالي، بل شهادة بحسن الاستعداد للتدريس في المدارس الثانوية، ولكنها تستحيل من وقتٍ إلى وقت إلى مسابقة بين طائفة من العلماء والاختصاصيين، والشر كل الشر في هذه الكلمة الأخيرة التي تقضي على نظام التعليم عندنا.»
وربما استطاع الأساتذة أن يخلصوا أنفسهم من هذه التبعة ويلقوها على الذين علَّموهم فهم لم يوجدوا أنفسهم وإنما أوجدهم أساتذتهم، وإذا كان هناك عيب في مناهجهم التعليمية فليس ينبغي أن يؤخذوا بهذا العيب لأنهم لم يوجدوه، وفي الحق أن الأساتذة يكونون طائفة محصورة كطائفة الجند ورجال القانون، وهم محافظون مبالغون في محافظتهم، لا يقبلون الجديد إلا إذا أقره زعماء منهم لهم مكانة عليا، وهم لذلك مقلدون لا يخترعون شيئًا إلا تعقيد الأشياء، فإذا أراد واحد منهم أن يمتاز تورَّط في أشياء لا خير فيها.
ثم يحاول المؤلف أن يبيِّن أسبابًا أخرى دعت إلى عجز الأستاذ عن النفع، فيذكر كلامًا كثيرًا وينقل كلامًا كثيرًا، ونستطيع نحن أن نلخص هذا وذاك في أن أكثر الأساتذة يخرجون عادة من الطبقات الدنيا، فليست لهم تربية قوية ممتازة، وليست المدارس قادرة على أن تعوض عليهم هذه التربية التي لم يجدوها في الأسرة، ومن هنا ينقص اعتبار الناس لهم وتقديرهم إياهم، ويشعر الأساتذة بهذا النقص فيسخطون على الجماعة ويمقتونها، ويضطرهم ذلك إلى أن يؤدوا أعمالهم بطريقةٍ آلية غير معني بها، فيستحيلون إلى عمال آليين كغيرهم من الذين يعملون في مصالح الدولة، بينما أساتذة المدارس التي يقوم عليها رجال الدين يبرَّءون من هذا العيب؛ لأن تربيتهم الأولى قد تسوء، ولكن تربيتهم المدرسية بحكم صناعتهم الدينية منظمة متقنة، تعودهم أن يكونوا من مراعاة الآداب والبيئات المختلفة، بحيث يستطيعون أن يجالسوا ويعاشروا أرقى الطبقات دون أن يشعروا بضعةٍ أو يكونوا موضع ازدراء، فالعيب الأساسي الذي يحول بين أساتذة الدولة وبين النفع هو سوء التعليم من جهةٍ وسوء التربية من جهةٍ أخرى، ويلاحظ المؤلف أن لهذه القاعدة استثناء ولكنه لا يكاد يذكر، ويود المؤلف لو شجعت الدولة هؤلاء الأفراد القليلين الذين يشذون عن القاعدة.
(٢) المعيدون
لا يكاد المعيد يُعنى بغير مراقبة التلاميذ، وإذا كان شديد الاتصال بالتلاميذ فقد يستطيع أن يؤدي إلى التعليم خدمة قيمة؛ لأن حظه من التعليم عظيم غالبًا.
ولكنه من الوجهة العملية مقصورٌ على مراقبة الطلبة، يزدريه الأساتذة ويكرهه التلاميذ ويشك فيه المدير، فحياته شاقة لا تحتمل.
وقد يوجد بين هؤلاء المعيدين أفراد يحاولون النفع ويجتهدون فيه فيتحببون إلى التلاميذ ويجتهدون في إرشادهم، ولكن الإدارة تشفيهم من هذه العلة؛ لأنها تشك فيهم وتضطرهم إلى أن يسيروا سيرة غيرهم، ولقد قرأت في بعض الصحف أن معيدًا وُبخ؛ لأنه صافح تلميذًا، وآخر طُرد؛ لأنه شارك تلاميذه في الألعاب الرياضية.
ولا ينبغي أن تظن أن هؤلاء المعيدين آلات وإن اعتبروا كذلك، فأكثرهم قد نال شهادة الليسانس، وكثير منهم وصل إلى الدكتوراه.
وربما كان أحسن إصلاح عُرض على لجنة التحقيق في هذا الموضوع هو إلغاء الفرق بين الأستاذ والمعيد، بحيث لا يكون الأستاذ أستاذًا إلا إذا اشتغل بالإعادة خمسة أعوام أو ستة يُمرن في أثنائها على فن التعليم، وقد أضيف أن تعليم المعيد ربما كان أنفع من تعليم الأستاذ؛ لأن رأس المعيد أقل امتلاء بالمعلومات الجوفاء من رأس الأستاذ.
فإذا كان القارئ قد أنعم النظر في هذا الفصل والفصول التي سبقته وعرف المدرسة الثانوية وعيوبها، فلست أشك في أنه يقتنع بأن ما يُقترح الآن من الإصلاح ليس شيئًا بالقياس إلى الإصلاح الصحيح العميق الذي نحتاج إليه، والذي لا نريد أو لا نستطيع أن نتكلم فيه؛ لأن الرأي العام غير مستعد له.