مسألة الشهادة الثانوية وشهادة الدراسة
(١) إصلاح الشهادة الثانوية
ظهرت النتائج السيئة التي ينتهي إليها التعليم القديم، فما أسرع ما عمل العقل اللاتيني في استكشاف الداء ووصف الدواء، وما أسرع ما استعمل في ذلك المنطق اللاتيني السهل الساذج الذي لا يتعمق في الأشياء، ولا يفهمها بطبيعة الحال كما ينبغي.
وإذن فقد استكشف الداء وهو الشهادة الثانوية التي حملت كل التبعة وباءت بالشر واللعنة، ووصف الدواء وهو سهل: هو إلغاء هذه الشهادة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وضع بسرعة مدهشة مشروع قانون قُدم إلى مجلس الشيوخ، وهو غريب جدًّا؛ لأنه يلغي الشهادة الثانوية ويعيدها في وقت واحد على الطريقة اللاتينية التي تغير الألفاظ وتحسب أنها قد غيرت المعاني.
أُلغيت إذن الشهادة الثانوية، ووضِعت مكانها شهادة أخرى سُميت شهادة الدراسة كما هي العادة في ألمانيا. ولم يفكر واضعو هذا المشروع في أن لفظ الشهادة الثانوية أو شهادة الدراسة ليس من شأنه أن يغير مناهج التعليم ونتائجه. وفي الحق أنهم قد استغنوا عن امتحان الشهادة الثانوية بطائفةٍ من الامتحانات السنوية تسمى امتحانات المرور، ويؤدى أمام لجان تعقد في كل سنة، فكأنهم قد استغنوا عن امتحانٍ واحد بامتحانات عدة. وقد بينت في غير هذا الفصل أن نتيجة هذا الإصلاح لا يمكن أن تكون خيرًا؛ ذلك لأن عدد الساقطين في هذه الامتحانات التي تؤدى في كل سنة سيكثر ويتضاعف، فتفقد المدارس الثانوية نصف تلاميذها، وتخسر الدولة بذلك خسارة فادحة تضطر أمامها لجان الامتحان إلى التسامح وقبول من لا يستحق أن يُقبل، فيعود الأمر كما كان.
(٢) رأي الأساتذة في الشهادة الثانوية
مع أن هذه الشهادة الثانوية أثر من آثار التعليم لا مؤثر في هذا التعليم، فقد اشتدت عليها حملة الأساتذة جميعًا، كلهم يمقتها ويرى أنها مصدر الشر حتى استطاع مسيو «لافيس» أن يصفها بالإجرام. وذلك معقول فإن أساتذة الجامعة يجدون أنفسهم أمام تعليم سيئ من غير شك، ولكنهم لا يستطيعون أن ينصفوا فيلقوا تبعة هذا التعليم السيئ على أنفسهم. وإذن فهم يلقون هذه التبعة على هذه الشهادة التعسة، ولهم في ذلك فنون … فمنهم من ينكر الشهادة؛ لأن الطلبة لا يحسنون الاستعداد لها، ومنهم من ينكرها؛ لأن الطلبة يغشون، حتى استطاع مسيو «بوانكاريه» أن يصف الامتحان بأنه مفسد للأخلاق، والحق أن مصدر الشر كله إنما هو كثرة المواد وسوء تعليمها، فالأساتذة لا يعنون إلا بشيءٍ واحد، وهو أن يكوِّنوا من التلاميذ دوائر معارف وهم يزيدون في كل يوم مقدار ما ينبغي أن يحفظه الطلبة. فليس عجيبًا أن يعجز الطلبة عن أن يسيغوا هذه المقادير الضخمة التي يكلَّفون ازدرادها، فكل طالب ينبغي أن يعرف كل شيء … اللاتينية واليونانية والفرنسية ولغة أجنبية حية، والتاريخ والجغرافيا والرياضة والطبيعة والكيمياء والفلك والتاريخ الطبيعي، وأشياء أخرى لا تحصى، وينسى الأساتذة أن كل واحد منهم إذا تجاوز اختصاصه العلمي ليس أقل جهلًا من تلميذه، بل ربما كان أشد منه جهلًا.
على أن التلاميذ يحسنون التخلص من هذا، فهم لا يستعدون للامتحان وإنما يستعدون للتخلص من الممتحن، فهم يدرسون المسائل التي تعود أن يلقيها فلان وفلان على التلاميذ، وقد بلغ من شأنهم في ذلك أن أحد الأساتذة تعود أن يقسم نبوغ «كرنيل» إلى خمسة عصور، فعرف الطلبة عنه ذلك وأخذوا أنفسهم بهذا التقسيم، فكان يكفي أن يذكروه ليفوزوا، واتفق أن غاب هذا الأستاذ يومًا وخلفه غيره، فألقى على أحد التلاميذ هذه المسألة: ماذا تعرف من «كرنيل»؟ وأخذ التلميذ يقسم نبوغ كرنيل إلى عصورٍ خمسة، فابتدره الأستاذ قائلًا: إنك مخطئٌ فلست أنا فلانًا.
ومع ذلك فالناس يحرصون عليها الحرص كله، حتى إن رئيس لجنة التحقيق أثبت في تقريره أن الطبقة الوسطى تجل هذه الشهادة وتعتبرها درجة من درجات الشرف، والحكومة تؤيدها في ذلك فتغلق أبواب المناصب على الذين لا يحصلون على هذه الشهادة. وإذن فالأمة منقسمة إلى قسمين: الحائزون لهذه الشهادة من جهة، والذين يعملون في التجارة والزراعة والصناعة فيعيشون من عملهم ويحيون البلد من هذا العمل أيضًا.