مسألة التربية
(١) ضعف أصول الجامعة في التربية
مسألة التربية أجلُّ خطرًا من مسألة التعليم، الخلق أشد تأثيرًا في الحياة من العلم، فشلت الجامعة في التربية كما فشلت في التعليم.
أما الوسائل التي يجب أن تتخذ للوصول إلى التربية الحسنة فقد جهلها الذين اشتركوا في التحقيق البرلماني جهلًا تامًّا، فخُيل إلى كثير منهم أن الرياضة البدنية هي الوسيلة إلى هذه التربية، وهم يجزعون لقلة العناية بهذه الرياضة، وفي الحق أن العناية بهذه الرياضة قليلة جدًّا رغم منشورات الوزراء ورغم الجماعات الكثيرة التي تنشأ للعناية بها، ولولا أني عَجِل لألححت في بيان قيمة التربية البدنية، وأنها يجب أن تكون في نفس المنزلة التي توضع فيها التربية العقلية، بل يجب أن تقدم على هذه التربية في السنين الأولى.
كل هذا حق، ولكن التربية البدنية ليست كل شيء وإنما هي جزء من التربية، ولست أشك في أنها قادرة على إنشاء شبان لهم قوة هرقل، ولكني لا أدري ما أثرها فيما يُكوِّن الرجل حقًّا من قوة الإرادة وحسن الخلق والقدرة على الابتكار إلى آخر هذه الصفات التي تُكوِّن الشخصيات القوية.
- أولًا: أن ينقص الوقت الذي يمضيه التلاميذ في المدن نقصًا شديدًا، وأن يُنفِق هؤلاء التلاميذ أوقاتًا طوالًا في الخلاء يستمتعون بالهواء والضوء.
- ثانيًا: ويجب مقاومة العادة الإنجليزية التي تنزل التمرينات البدنية العنيفة منزلة مبالغًا فيها.
- ثالثًا: يجب استبدال مناهج التعليم القديمة التي لا تكلف التلاميذ عملًا والتي ورثناها عن اليسوعيين بمناهج أخرى تحمل التلاميذ على أن يعملوا ويفكروا بأنفسهم.
- رابعًا: يجب أن يشترك أعضاء المدرسة جميعًا في تقوية الآراء والأصول والعواطف الخلقية.
(٢) النظام المدرسي أساس للتربية
نفهم بعد هذا التردد أن تعدل الجامعة عن كل نظرية أو رأي في التربية إلا إذا تكلم أساتذتها أو خطبوا، وكل ما تعرفه الجامعة من التربية إنما هو الاحتفاظ بالنظام في المدارس الثانوية، ولسنا نكره النظام ولا نعيبه فهو قوام الحياة، ومن أراد أن يأمر فيُطاع وجب عليه أولًا أن يُطيع إذا أُمر، ولكن النظام الدقيق الضيق المتردد الذي يُصطنع في مدارسنا الثانوية هو شر النظم؛ لأنه لا يفيد ولا يصلح وإنما يفسد ويسيء.
ولقد اشترك رئيس لجنة التحقيق في جهل نفسية الأطفال فألقى هذا السؤال: «أليس من الممكن إذا اتجهنا إلى عقل الطفل واعتمدنا عليه أن نُحمِل الطفل على الطاعة وحسن الخضوع للنظام؟» فأجابه مجيبٌ بأن ذلك غير صحيح وأن الذي عاشر الأطفال وخالطهم مضطر إلى الاقتناع بأن ليس للعقل أثر عظيم في حياة الأطفال.
ولقد يخطئ الذين يعتقدون أن المربين من الإنجليز يعتمدون على العقل في أخذ الأطفال بالنظام، فالإنجليز لا يعتمدون على العقل وإنما يعتمدون على المنفعة التي هي الأساس المتين للحياة والتربية.
التلميذ الإنجليزي حر يؤدي واجبه متى شاء ويتنقل في المدرسة كما يحب، ولكنه خاضع للمراقبة، فهو إذا أساء تأدية الواجب اضطر إلى أن يعيد تأديته، وهو إذا أساء التصرف في حريته فقد هذه الحرية، وهو إذا لم يشتغل أو لم يُمكن غيره من أن يشتغل طُرد من المدرسة أو من المكتب، فتضطره منفعته الخاصة إلى أن يتفهم النظام ويذعن له.
على أني أسرع إلى القول بأن نظام التربية الإنجليزية الذي يلح ناسٌ كثيرون علينا في اصطناعه لا يلائمنا ولا يفيد في بلادنا؛ لشدة الفرق بين الجنسين، وقد أشار إلى ذلك مدير إنجليزي لإحدى المدارس في فرنسا في حديث له مع أحد الصحفيين، فرأى أن الفرق بين الغلام الفرنسي والغلام الإنجليزي كالفرق بين اللبن وحامض الكبريت؟ فبينما نرى الغلام الإنجليزي عاقلًا هادئًا رزينًا مطيعًا، فاهمًا للنظام خاضعًا له، سامعًا لما يُقدم إليه من نصيحة بحيث لا يحتاج إلى عنفٍ ولا إلى شدة، نرى الغلام الفرنسي في عصيانٍ متصل ورغبة لا حدَّ لها في الاستقلال، وماذا تريد يا سيدي العزيز؟ لكل شعبٍ فضائله ورذائله، فالشباب الفرنسي كريمٌ خيِّرٌ ولكنه مضطرب مهتاج، وهل تأذن لي في أن أضيف أن هذا الشاب فاجر بعض الفجور؛ ذلك لأن حواسه تتنبه بسرعة مدهشة، بينما حواس الغلام الإنجليزي خامدة هامدة بحكم الرياضة البدنية العنيفة على اختلافها، وإذن فالمناهج التي تلائم أحد الجنسين خطرة جدًّا بالقياس إلى الجنس الآخر.
كل هذا حق، ومع ذلك فقد نستطيع أن نتبين ما ينبغي أن نتخذ من النظام لنصلح الحياة في مدارسنا الثانوية.
أسوأ شيء في مدارسنا هو هذه المراقبة المتصلة التي تضايق الطفل وتثقل عليه. فاترك له شيئًا من الحرية واجتهد في أن يعلم أن هذه الحرية ستُسلب إذا أساء استعمالها، لا تراقبه ولا تحاصره حتى إذا خالف النظام فأنبئه بأن هناك رقيبًا. دعه يخرج وحده إذا بلغ سنًّا معينة، فإذا أساء استعمال هذه الحرية فاستردها منه. هذا شيء نافع، وقد أخذ عدد قليل من الأساتذة يشعر بنفعه.
إذا أردت أن يحسن الشاب الاعتماد على نفسه في الحياة وجب عليك أن تترك له شيئًا من الحرية، ولقد كانت العادة في فرنسا أن تُغلق أبواب العربات على المسافرين مخافة أن يخرجوا منها أثناء سير القطار، وأن يُحبس الناس في غرف الانتظار في المحطات مخافة أن يسقطوا تحت عجلات القطار، أما الآن فالناس لا يُحبسون في غرف الانتظار والعربات لا تُغلق على المسافرين، وليس ذلك سببًا في ازدياد أخطار السكك الحديدية.
ولقد يجهل رجال الجامعة هذا كله جهلًا تامًّا، وأن له أثرًا سيئًا في التربية، فقد حكى بعض الأساتذة أن خمسة عشر تلميذًا في مدرسةٍ ثانوية في باريس كانوا قد أجمعوا بعد استئذان آبائهم أن يذهبوا إلى غابة بولونيا للاشتراك في لعب الكرة يوم خميس. فلما كان ميعاد خروجهم تأخَّر المراقب وحار مدير المدرسة في أمره، فعرض رئيس التلاميذ، وكان شابًّا عاقلًا رزينًا، أن يقوم مقام المراقب، وأعطى كلمة شرف بأن رفاقه لن ينالهم شيء، فكان جواب المدير أنه لا يستطيع أن يعتمد على كلمة شرف تصدر عن تلميذ. أليس مثل هذه الحادثة خليقًا بإفساد حياة الشبان؟ ولقد ينشأ عن هذه المراقبة الشديدة السيئة اجتهاد التلاميذ في الإفلات منها بالخداع والغش، كما ينشأ عنها ثورة التلاميذ ورغبتهم في العصيان. وآثار هذا كله ظاهرة في كل مكان وفي البيت بنوعٍ خاص؛ حيث ضعُفت سلطة الآباء على أبنائهم ضعفًا شديدًا ظاهرًا، بينما هي في إنجلترا قوية لا تقبل المناقشة.
هذه المراقبة الشديدة السيئة التي تنتج الخداع والعصيان هي مصدر الشر في حياة الأمم اللاتينية، هي التي تنتج الأثرة الفردية، هذه الأثرة الخطرة على حياة الشعوب، بينما الحرية مصدر الصراحة والطاعة في إنجلترا، وبينما هذه الحرية تنتج عند الإنجليز الأثرة الاجتماعية التي قد تُبغِّض الإنجليز إلى غيرهم ولكنها قِوام حياتهم ومصدر سيادتهم العامة.