تعليم الأخلاق
هناك مسألة من بعد الأثر في التربية بحيث لا نستطيع أن نهملها حين نبحث عن التربية أصولها ومناهجها، بل بحيث نضطر إلى أن نعقد لها فصلًا خاصًّا وهي مسألة تعليم الأخلاق. ذلك أن المنزلة الخلقية هي مقياس ما تصل إليه الشعوب من الحضارة والقوة. وليس من شكٍ في أن الأخلاق تتغير بتغير الأزمنة والشعوب، ولكن ليس من شك أيضًا في أن الأخلاق ثابتة بالقياس إلى شعبٍ بعينه في زمنٍ بعينه. وإذا كانت الأخلاق مقياس الحضارة والقوة فليس من نزاعٍ في أنها إذا تزعزعت أو انهار بناؤها فقد فسدت الحضارة وانحلت القوة وتعرض وجود الشعب للخطر.
يجب أن تكون التربية الخلقية ككل نوعٍ من أنواع التربية معتمدةً على التجربة وحدها، لا على المواعظ والحِكم التي امتلأت بها الكتب والتي يستظهرها الأطفال في غير جدوى. وليس في التعليم الخلقي خيرٌ إذا لم يستطع الأستاذ أن ينبه تلميذه إلى الخير والشر بواسطة التجربة؛ ذلك أن التجربة هي التي تُعلم الرجال وهي التي تعلم الأطفال أيضًا. والذين يريدون أن تقوم الحِكم والمواعظ مقام التجربة يجهلون نفسية الأطفال جهلًا تامًّا. فيجب إذن أن يُعتمد على التجربة وحدها، وأن يكون هذا الإنكار العام الذي يتبع عملًا من الأعمال مرشدًا للطفل إلى أن هذا العمل شرٌ، وهذا الإقرار العام الذي يتبع عملًا من الأعمال مرشدًا له إلى أن هذا العمل خير.
يجب أن تعلِّمه النتائج الحسنة أو السيئة ما للأعمال من نفعٍ أو ضر، ولا سيما إذا أخذ دائمًا باحتمال نتائج الأعمال التي يأتيها وإصلاح ما يجر على غيره من ضرر. يجب أن تعلِّمه التجربة أن العمل والاقتصاد والوفاء وحب الدرس كلها خلال نافعة قيمة؛ لأنها تصلح من أمره وترضي ضميره. ثم لن يصل المعلم إلى إقناع الطفل بهذه الحقائق كلها إلا إذا اعتمد على التجربة أولًا، ثم صاغ نتائج هذه التجربة في صيغٍ مجملة سهلة.
ولن تتم التربية الخلقية إلا إذا أصبح عمل الخير واجتناب الشر عادة لاشعورية يأتيها الطفل دون أن يشعر بشيء. فمن الخير أن تقاوم الميل إلى منكر، ولكن خيرًا من ذلك ألا تشعر بهذا الميل. يجب أن يكون ضبط النفس أساس التربية الخلقية؛ فإن لهذه الملَكة الأثر العظيم في الحياة الصالحة؛ ولهذا عُني بها الإنجليز عناية خاصة فوفِّقوا إلى الشيء الكثير. فهم يأخذون الطفل بألا يعتمد إلا على نفسه في كل شيء، بينما نعوده نحن ألا يعتمد على نفسه في شيء. ويكفي أن تضع الطفل الإنجليزي والطفل الفرنسي أمام أمرٍ ذي بال، فسترى من الإنجليزي عزمًا ومضيًّا، وسترى من الفرنسي ترددًا واضطرابًا، وسينبئك هذا بالفرق بين التربيتين.
ومن أعظم المؤثرات في التربية شيء تعودنا ألا نقدره كما ينبغي وهو البيئة. ذلك أن الطفل مفطور على التقليد، يأتيه دون أن يشعر به، وهو يقلد بطبيعة الحال من يحيط به مَن أهله وذويه، وهذا التقليد اللاشعوري هو الذي يكوِّن في نفس الطفل مع سهولة ويسر غرائزَ وعادات لم تكن التربية لتصل إلى تكوينها إلا بعد عسرٍ وجهد. فإذا حسنت البيئة حسنت آثارها في تكوين الطفل، وإذا ساءت البيئة ساءت نتائجها في هذا التكوين، وصادقٌ جدًّا هذا المثل الفرنسي القائل: «نبئني مَن عشيرتك أنبئك من أنت»، ولكن البيئة الفرنسية سيئة الأثر في التربية؛ لأن الأسرة الفرنسية شديدة الضعف في الإشراف على أبنائها تحبهم وتعطف عليهم، ويمنعها ذلك الحب وهذا العطف من أن تسيطر عليهم كما ينبغي، فهي لا تقاوم رذائلهم ولا تشجعهم على الخير، وهي تشعر بهذا الضعف وتحس هذا النقص وتعترف بهما وتحاول أن تتقي شرهما، فتسرع بإرسال الأطفال إلى المدرسة معتمدة على أن سلطان الأساتذة سيمضي ما عجز سلطان الأسرة عن إمضائه، ولكن المدرسة بيئة شديدة السوء قبيحة الأثر، يخضع الأطفال للمراقبين، ولكنهم يكرهون المراقبين ويكرههم المراقبون. فليس من سبيلٍ إلى التقليد وإنما السبيل إلى الغش والحيل وإلى المكر والمواربة.
قلت إن تعليم الأخلاق يستلزم الاجتهاد في تعويد الطفل أن يعمل الخير ويجتنب الشر، لا في أن تلقى إليه الحِكم والمواعظ في دروسٍ لا خير فيها، ومع ذلك فإذا لم يجد الأستاذ بدًّا من إلقاء الدروس فليسلك في ذلك سبيلًا سهلة تلائم قوة الطفل، فيبتدئ بدرس الأخلاق في عالم الحيوان، مبينًا للطفل أن الجماعة لا تكاد تأتلف حتى تكون لها أخلاق وعادات، ومبينًا له كيف يستطيع الإنسان أن يروض الحيوان من الأخلاق والعادات على من لم يألف.
ليس مصدر السيادة الإنجليزية مذهبهم في التربية ولا أساطيلهم التي لا تحصى ولا ثروتهم الضخمة، وإنما هو المثل الأعلى الذي اتخذه الإنجليز لأنفسهم في الحياة، فهم أمة شديدة الحرص على عاداتها، شديدة الإكبار والطاعة لرؤسائها، ولها إله وطني قد أكبرته وأذعنت له واحتكرته لنفسها احتكارًا، أصبح إله التوراة إلهًا إنجليزيًّا لا يعمل إلا للإنجليز ولا يرضى إلا عن الإنجليز. وقد وضع هذا الإله لشعبه أخلاقًا وقوانين تقرر أن المنفعة الإنجليزية وحدها هي مقياس الخير والشر، وأن الإنجليز وحدهم هم الناس، فأما مَن عداهم مِن الأمم والشعوب فقطعان لا قيمة لها.
ليس للعقل أثر في تكوين السنن والمثل العليا، فإذ تعرض العقل لهذه السنن والمثل العليا فلن يتعرض لها إلا بالنقد، وإذا وضعت هذه الأشياء موضع النقد فذلك الدليل على أنها قد أخذت تنهار، ولم توضع سنن الإنجليز ومثلهم موضع النقد فهم لا ينتقدونها ولا يشكون فيها. وللإنجليز إحساس خاص بالحقائق الواقعة؛ فهم يوفِّقون دائمًا بين آمالهم وأطوارهم الواقعة، ومن هنا كانوا أقل الأمم اضطرابًا لما ينالهم من الأحداث.
أما الفرنسيون فقد هدموا بناءهم القديم وقوَّضوا على مثلهم العليا في عنفٍ وضوضاء، ثم حاولوا أن يستبدلوا من هذه المثل مثلًا أخرى طلبوها إلى العقل، ولكن العقل الإنساني ضعيف، أضعف من أن يخلق مقومات الشعوب. والفرنسيون لا يشعرون بالحقائق الواقعة؛ فهم مضطربون ينقصهم الصبر والثبات ومضي العزم.
على أن مثلًا واحدًا قد استطاع أن يبقى لنا؛ وهو فكرة الوطن، فحول هذه الفكرة نلتف وبهذه الفكرة نوجد ويجب أن نقويها ونبسط سلطانها على النفوس. ليس الإنجليز في حاجةٍ إلى تقوية فكرة الوطن؛ لأنها ثابتة في نفوسهم، وفكرة الوطن هي التي أوجدت ألمانيا القوية الضخمة. أما الأمريكيون فحظهم من هذه الفكرة ضعيف؛ لأنهم أمة ناشئة تتجدد كل يوم بحكم المهاجرة؛ ولذلك يحرصون على فكرة الوطن فيقوونها وينمونها. بينما رجال الجامعة عندنا يسخرون منها ويزدرونها؛ لأنهم يشكون فيها؛ ولأن المذاهب الفلسفية والسياسية المختلفة قد استأثرت بعقولهم وصرفتهم عن كل فكرة لا تذعن للعقل. ومع ذلك فإذا حرمنا الفلسفة التي تفسر لنا ضرورة هذه المثل العليا فخليق بنا ألا ننسى على أقل تقدير أن الأمم لا توجد بدونها. وإذن فنقد الفكرة الوطنية والشك فيها ليس أقل من أنه تعريض للوطن لخطر الحروب والغارات والثورات وانتظار قيصر ليخلصه. كل هذه النكبات التي خُتم بها تاريخ الأمم الميتة.
يظهر أن ريحًا خبيثة هبت منذ حين على بعض النفوس الفرنسية فمحت منها ذكريات كنا نظن أنها خالدة. فقد ظهرت حتى في الجامعة عقول أفسدها نوع من التصوف في حب الإنسانية، وظهر قومٌ لا يرون في العلم ذي الألوان الثلاثة شعار وحدتنا الوطنية والرمز المقدس لآلامنا وآمالنا، وينطقون بألفاظٍ آثمة ينالون بها الجيش. لعن الله هذه الفلسفة الكاذبة التي تستعيرها هذه الآثام والجرائم تقترف على الوطن، فهي تتخذ الإنسانية وسيلة إلى ازدراء الشعور الذي هو أشد الأشياء تأثيرًا في تطهير القلوب وتقوية الأخلاق ورفع القدر.
مصدر هذا الميل إلى ازدراء الوطنية واضح ولكنه غير شريف، والظمأ إلى انقطاع المساواة وأن يمتاز بعض الناس من بعض، فإن أكثر أساتذة الجامعة قد خرجوا من أدنى الطبقات فلما وصلوا إلى مكانتهم ونالوا شهاداتهم ظنوا أنهم ممتازون وأرادوا أن يحتفظوا بهذا الامتياز، وألا تكون بينهم وبين طبقاتهم التي خرجوا منها مخالطة أو امتزاج، وقد بيَّن ذلك «جورج جولو» في مقال نشره في مجلة العالمين وأثبت فيه أن من أهم الأسباب التي تحمل الأساتذة والمفكرين على حب الإنسانية وبغض الوطن وازدراء الجيش أن الخدمة العسكرية العامة تضطرهم إلى حياة الثكنات فيعاشرون فيها ناسًا من العمال، وأهل الريف ليس لهم حظ من التفكير ولا الحياة العقلية الراقية فيؤلمهم ذلك ويجرحهم. وإذ كان الآثم يجتهد دائمًا في أن يجد فعلة لإثمه فهم يتخذون الديمقراطية وسيلة إلى حرب الديمقراطية، يزعمون أنهم يريدون تحرير العمال والطبقات الدنيا بإلغاء الجيش، مع أنهم لا يريدون بذلك إلا أن يمتازوا وأن يسودوا، ومع أن آراءهم لو انتصرت لذل هؤلاء الناس الذين يريد المفكرون أن يجعلوهم أعزاء. إن تاريخ الأمم التي فقدت أوطانها لينبئونا بخطر الوطنية وعظم شأنها واشتداد الحاجة إليها، فلننظر إلى البولونيين والإرلنديين وأهل إيناس وما يصيبهم كل يوم من ظلم الأجنبي وعبثه، وما ينالهم من تعذيب ونفي وتشريد، فقد هؤلاء الناس أوطانهم ففقدوا الحق في كل شيء حتى في أن يكون لهم تاريخ، وكيف تُكبِر الوطن وتعترف به إذا لم تُكبِر الجيش الذي يدفع عنه ويحميه؟ نعم، إن التجنيد ثقيل يكلف كثيرًا من الأموال والمشاق في أوروبا، ولكنه شيء ضروري وليس من سبيلٍ إلى الاستغناء عنه إلا إذا أَمِنا كل عدو. ما بالنا لا نطلب إلغاء الشرطة؟ لأننا نعلم أنها إن ألغيت تعرضنا للسرقة والقتل وعبث العابثين فذلك نفسه شأن الجيش، ولن نستطيع أن نستغني عن جيشٍ ما دام لنا أعداء لن ينزعوا سلاحهم ولن يكفوا عن ترقبنا وتربص الدوائر بنا.