تعليم التاريخ والآداب
(١) تعليم التاريخ
أساتذة الجامعة أنفسهم هم الذين أثقلوا برنامج التاريخ، وهم الذين أحسوا فساد هذا البرنامج، وهم أشد الناس عداءً له أمام لجنة التحقيق. ويكفي أن ننظر فيما قالوا لنعلم مقدار شعورهم بالخطأ الذي تورطوا فيه حين حمَّلوا برنامج التاريخ ما لا تحتمل عقول الأطفال، فقد يرى أحدهم وهو المسيو «جريار» أن التاريخ إما أن يكون فنًّا من فنون الذاكرة وإما أن يكون ضربًا من ضروب الفلسفة. فهو إذا كان فنًّا من فنون الذاكرة كما هي الحال في الجامعة لم ينفع ولم يفد وربما ضر وأساء، وهو لن يكون ضربًا من ضروب الفلسفة إلا مع تقدم السن ونمو العقل والقدرة على التفكير. وقد اختصر مسيو «جريار» وصف تعليم التاريخ بأنه تعب ضائع، واختصره المسيو «لافيس» بأنه درس لما لا يفهم. وربما كان الوجه في تعليم التاريخ أن يعدل عن الطريقة المألوفة التي تكلف التلاميذ استظهار الأسماء والأنساب والحوادث والسنين في غير فائدة ولا جدوى وبدون فهم ولا تعقل، إلى طريقةٍ أخرى يُكتفى فيها بإظهار التلاميذ على صور مجلة واضحة لتاريخ الشعوب القديمة والحديثة وبتاريخ حضارتهم بنوعٍ خاص.
وربما كان الوجه أيضًا أن يسلك في هذا النحو من التعليم السبيل العملي فتُعرض على التلاميذ صور فوتوغرافية لآثار الحضارة ويطوف بهم الأساتذة في المتاحف، فهم إذا رأوا آثار الحضارة استطاعوا أن يفهموها ويفكروا فيها بنوعٍ ما، بينما الاستظهار والحفظ عن ظهر قلب لا يفيدان إلا التعب والكد.
أضف إلى ذلك أن درس التاريخ كما هو الآن لا يخلو من مضرةٍ أخرى، وهي أن حوادث التاريخ الكبرى إنما تمثل انتصار الرذيلة وفوز الغش والمكر والخديعة والظلم، وليس من شأن هذه الأشياء أن تكوِّن العقول وتهذِّب الأخلاق. ومضرة أخرى ليست أقل خطرًا وهي أن المؤرخين لا يتفقون في قدر الحوادث ولا في فهمها وتأويلها مهما يكن نصيبهم من الذكاء والتعمق، والطفل عاجزٌ عن أن يقارن بين آرائهم المختلفة ويحكم فيها. فدرس التاريخ في الكتب إذن بعيد كل البعد عن أن يستقيم منه للتلميذ رأي صحيح.
(٢) تعليم الآداب
ينحصر تعليم الجامعة للآداب في تحليل بعض الكتاب المعروفين وتغيير شيء من آثارهم تفسيرًا نحويًّا، وفي هذه الدقائق الكثيرة العقيمة التي يتقنها الأساتذة ولا ينتفع منها التلاميذ. وقد شعر أساتذة الجامعة أنفسهم بعقم هذا التعليم ووصفه المسيو «فوييه» وصفًا دقيقًا، فقال إنه مفسد للأخلاق مثبط للهمم؛ لأنه لا يصل بالتلميذ إلى جوهر الآداب ولا يتعدى بها قشورها، ولا يتجاوز به ألفاظًا واصطلاحات يختلف فيها الشراح والمفسرون.
ولو أننا أردنا أن ندرس الآداب درسًا نافعًا لبدأنا بكتب النحو وبالمختارات فحرقناها ترفُّعًا، ولاستبدلنا منها طائفة من آيات الأدب فأخذنا التلاميذ بقراءتها وتفهمها آية آية وكتابًا كتابًا، وللاءمنا بين ما يقرءون وما نكلفهم أن يكتبوا من موضوعات الإنشاء، ولقارنا بين ما يكتبون وما يقرءون، فما هي إلا أن يظهر للتلميذ ضعفه ونقصه، وموضع الخطأ فيما كتب وما بينه وبين ما قرأ من فرق فيصلح التلميذ بنفسه هذا كله ويصل إلى ما عجزت الجامعة عن أن تصل به إليه من إتقان الفرنسية كلامًا وكتابة وفهمًا، ومن إتقان الآداب والإحاطة بآياتها وبدائعها.
غريب أن تكون الآداب الشيء الوحيد الذي يدرس بالقراءة والشيء الوحيد الذي تحظر الجامعة القراءة فيه، ولولا أن التلاميذ يختلسون الوقت وينتهزون الفرص فيقرءون خفيةً لكان حظهم من لغتهم أقل وأضعف منه الآن.
هذه الطريقة التي أشرت إليها نافعة منتجة بالقياس إلى الآداب الفرنسية وإلى الآداب الأجنبية قديمة وحديثة، فخيرٌ للتلميذ أن يقرأ «هوميروس» كله في ترجمة صحيحة متقنة من أن يمضي السنين ليفسر منه صحفًا قليلة بواسطة المعجمات، وقل مثل هذا في غير «هوميروس»، وقل مثل هذا في غير الأدب القديم.