تعليم اللغات
نعلم أن الناس يختلفون اختلافًا شديدًا في الاستعداد للدرس والتحصيل، فهذا مستعد لإتقان الميكانيكا عاجز عن إتقان التصوير، وهذا مستعد للنبوغ في الطبيعة عاجز عن تصور الموسيقى. والناس جميعًا يعلمون هذا ويقدرونه، وكان يجب على الأساتذة أن يتقنوه وأن يقدروا استعداد تلاميذهم ويوجهوا كلًّا منهم إلى الفن الذي يظهر ميله إليه، ولكن هناك شيئًا يشترك الناس جميعًا في الاستعداد لإتقانه مهما تختلف ميولهم وحظوظهم من الذكاء وهو اللغة، فالأطفال جميعًا يتعلمون لغة البيئة التي يعيشون فيها ويتكلمونها دون درس ظاهر أو عناء بيِّن، ولا يقصر في ذلك منهم إلا من أصابه مرض يضطر أهله إلى أن يذهبوا به إلى المستشفى. وليس الأمر في ذلك مقصورًا على اللغة التي يتعلمها الطفل في أسرته وإنما يتناول اللغات الأجنبية أيضًا، فيكفي أن ينقل الطفل من وطنه إلى بلدٍ أجنية ليتعلم لغة هذا البلد ويتكلمها في أشهرٍ قليلة. ولكن الجامعة عاجزة كل العجز عن تعليم هذه اللغات التي يتفق الناس في حسن الاستعداد لها، وامتحانات الجامعة شاهدة بعجزها هذا، فلا تكاد ترى في هذه الامتحانات طالبًا يحسن قراءة لغة من اللغات أو تكلمها أو فهمها دون الاستعانة بالمعجم، ومع هذا فالجامعة ليست جزعة ولا وجلة وهي تعتقد أن تعليمها نافع على كل حال.
ولن تتغير هذه النتيجة ما دام الأساتذة على ما هم عليه من ازدراء تعليم اللغات وسوء فهم هذا التعليم، فقد أثبت البحث أمام لجنة التحقيق وشهد بذلك مسيو «بوانكاريه» ومسيو «برتيلو» أن الأساتذة يزدرون تعليم التلاميذ أن يتكلموا أو يكتبوا لغة من اللغات، وهم يعنيهم أن يدرسوا مع تلاميذهم كبار الكتاب والشعراء كما يفعل أساتذة الأقسام العليا في الجامعة، أما تعليم الكلام والكتابة فليس من شأنهم.
ولقد شاع في الناس اعتقاد غريب هو أن الفرنسيين يفقدون ملكة تعلم اللغات، والحق أن الناس جميعًا يملكون هذه القوة، ولكن الأساتذة في فرنسا يفقدون ملكة تعليم اللغات، ولو أننا أردنا أن نبين خطأ هذا الاعتقاد الشائع ونثبت أن الفرنسيين قادرون على تعلم اللغات الحية الآن كما كانوا يتعلمون اللغات الميتة قديمًا، لوجب علينا أن ننهج منهج بعض المدارس التي يقيمها رجال الدين، ففي هذه المدارس قسيسون ورهبان من الإنجليز والألمان وهم يتكلمون لغاتهم أثناء الدرس وأوقات الراحة، فلا يجد التلاميذ مندوحة عن تكلم هذه اللغات ثم لا يلبثون أن يتقنوها. ولو أننا أردنا أن نتعلم اللغات حقًّا لنهجنا منهج الأمم الأخرى التي تجاورنا، منهج الألمان والسويسريين والهولانديين الذين يتقنون تعلم اللغات الحديثة ويزاحموننا بها في الأسواق التجارية الكبرى مزاحمةً خطرة. ولقد تذهب إلى «جاوى» فترى شبانًّا من الهولانديين لم يزوروا أوروبا ولكنهم مع ذلك يتكلمون الإنجليزية والألمانية والفرنسية مع إتقان عظيم. وفي سويسرا مدارس تمكِّن التلميذ من أن يتكلم لغات حية ثلاثًا في ستة أشهر، وللألمان براعة في إتقان اللغات الحديثة، ذلك أن هذه الأمم كلها لا تأخذ التلاميذ بكتب النحو وتفسير الشعراء والكتاب وإنما تأخذهم بالكلام العادي المألوف. ولقد جربت بنفسي طريقة أنصح بها لكل من أراد أن يتعلم لغةً حية، ذلك أني أردت أن أتعلم الإنجليزية فعمدت إلى الكتب الفرنسية التي ترجمت إلى هذه اللغة والتي قرأتها، وأخذت أقرأ ترجمتها الإنجليزية مستعينًا بالأصل قليلًا قليلًا، فما هي إلا أن استغنيت عن الأصل ومضيت في قراءة الترجمة، ثم أخذت أقرأ بعد ذلك كتبًا إنجليزية خالصة، فوجدت شيئًا من الصعوبة شديدًا ولكني لم ألبث أن ذللته، ومثل هذا يقال إذا أردت أن تتعلم الألمانية ولكن يجب أن تقرأ تراجم ألمانية لكتب إنجليزية لك بها عهد، فذلك يعينك على إتقان اللغتين دون حاجة إلى الأستاذ، ولكن على أن تتخير الكتب السهلة العادية لا آثار الكتاب والشعراء المعروفين.
لن ينصح الأساتذة بهذه الطريقة؛ لأنها تغني الناس عنهم، ولكني أقدمها إلى القراء، فقد يكون من بينهم من يؤذيه ضياع وقت ابنه في المدرسة فيتخذ هذه الطريقة لتعويض ما ضاع على ابنه من وقت.