تعليم الرياضة
إذا أردت ترتيب العلوم من حيث أثرها في التربية أمكنك أن ترتبها على هذا النحو، فأولها علم المواليد الثلاثة؛ لأنه ينمي الملاحظة، ثم يليه علم الطبيعة وعلم الكيمياء؛ لأنهما ينميان الملاحظة والحكم معًا، ثم تلي هذا كله علوم الرياضة على اختلافها؛ لأن الناس اعتادوا أن ينظروا إلى هذه العلوم كأنها علوم عقلية خالصة، وإن كنا سنثبت أنها علوم تجريبية أيضًا، وأن من اليسير الاستعانة بالتجربة في تعليمها.
وقد ألفت الأمم اللاتينية درس الرياضة وأبلت فيه بلاءً حسنًا وتفوقت فيه على غيرها من الأمم، وهي تعتقد أن إتقان هذه العلوم دليل الرقي والتفوق؛ ولهذا تتخذ هذه العلوم والامتحان فيها وسيلة إلى دخول المدارس الراقية جدًّا، ويُخيل إلى هذه الشعوب أن من امتاز بالملَكة الرياضية فقد امتاز بشيءٍ عظيم، وليس من شك في أن هذا غلو وإسراف، فإن هذه الملكة كغيرها من الملكات، والامتياز بها لا يثبت لصاحبه فضلًا على غيره من الناس.
وانظر ماذا يرى في ذلك مسيو «بوكسي» ناظر مدرسة السنترال، فهو يرى أن علوم الرياضة الأولية كالهندسة تعوِّد الطلبة حسن الحكم، ولكنهم متى تعمقوا في علوم الرياضة الخاصة أصبحت مهارتهم الرياضية نوعًا من اللعب بالأرقام والحروف والصيغ، لا فائدة له إذا لم يُفسر تفسيرًا كافيًّا وهو في رأيي لا يفسر هذا التفسير.
من الممكن أن تقوي العلوم الرياضية ملكة التفكير الدقيق ولكنها لا تقوي ملكة الحكم الصحيح، وأمهر الرياضيين عاجز عن أن يحسن التصرف في الحياة، وقد عرف ذلك نابليون حينما كلَّف «لابلاس» أمهر الرياضيين في عصره أن يعمل في أمورٍ إدارية، وانظر كيف يقص نابليون قصص ذلك:
«كان «لابلاس» أمهر الرياضيين، ولكنه ما لبث أن ظهر قليل الحظ جدًّا من الكفاية الإدارية، ولم نكد نرى أول عمل من أعماله حتى ثبت لنا أننا أخطأنا الاختيار، فلم يكن ينظر إلى مسألةٍ ما من وجهتها الصحيحة وإنما كان يبحث عن الدقائق في كل شيء، ويضع كل شيء موضع الشك ويدخل الدقة الرياضية حتى في أمور الإدارة.»
ولقد استطاع ماهر في المكر والحيلة أن يخدع ماهرًا في العلوم الرياضية، فظل سنين يبيعه خطوطًا متكلفة مصطنعة على أنها خطوط كبار العلماء وعظماء الناس، وكان من بينها خط كليوباترا وخط المسيح وأعجب من هذا أن هذه الخطوط المزورة كانت تقدم إلى المجمع العلمي.
ليست علوم الرياضة في حقيقة الأمر إلا لغة من اللغات فليس من شأن درسها أن يقوي الذكاء أو ينميه، فما عرفنا أن درس لهجة من اللهجات ينمي الذكاء، هي لغة من اللغات فيجب أن تدرس كما تدرس اليابانية أو الإنجليزية وأن يبدأ بدرسها منذ الطفولة، ولكن يجب أن تدرس على نحوٍ يخالف كل المخالفة النحو الذي تدرس عليه الآن، فلو أن اللاتينيين يقدرون نفسية الأطفال لعرفوا منذ زمنٍ طويل أنه لا ينبغي أن يؤخذ الطفل بالتفكير المجرد والمقارنة بين المجردات قبل أن يعرف الأشياء المركبة، ولانتفعوا بهذه النظرية في تعليم الحساب وفي تعليم النحو معًا. فالطفل أقصر من أن يفهم المجردات ويقارن بينها، وإذن فليس لك أن تأخذه بالحدود الرياضية والنحوية، وإنما ينبغي أن تشعره أولًا بالأشياء المركبة بالكميات التي يراها ويمسها، حتى إذا أتقن هذه المركبات إتقانًا استطاعت قوته اللاشعورية أن تستخلص منها الحدود والقوانين المجردة.
وإذن فيجب أن تدرس الرياضة على أنها علوم تجريبية، ولقد وضع مسيو «دوكلو» العضو بالمجمع العلمي رسالة عن تعليم الرياضة انتهى فيها إلى مثل ما انتهيت إليه، فهو يرى أن تعليم الرياضة والهندسة بنوعٍ خاص يجب أن يبدأ مع الطفولة، وهو يرى رأي «شوبنهور» في مقت كتاب «إقليدس» والسخط عليه؛ لأنه وإن كان قِدَم العهد قد منحه شيئًا كثيرًا من الجلال لا يحبب الهندسة إلى الناس، وإنما يبغِّضها إليهم تبغيضًا شديدًا. ولقد يصف مسيو «دوكلو» هذا الكتاب بأنه شديد الإملال وبأنه غير نافع، ولا سيما حين يحاول أن يثبت حقائق يصل إليها الإنسان بالحدس. فأي فائدة مثلًا من إثبات أن ضلعًا ما من أضلاع المثلث أصغر من مجموع الضلعين الآخرين، ثم يقول مسيو «دوكلو» إنه قد أنفق ثلاثين سنة يمتحن طلاب الشهادة الثانوية فلم ير بين الطلبة واحدًا من عشرين يتخيل طريقة «إقليدس». وإذن فلا فائدة من اتخاذ هذه الطريقة، ويحسُن بالتعليم الثانوي أن يطرحها إطراحًا.