تعليم العلوم الطبيعية وعلوم المواليد الثلاثة
العلوم التي قدمنا البحث عنها ولا سيما اللغات خليقة أن تدرس منذ الطفولة؛ لأنها شديدة الحاجة إلى الذاكرة قليلة الأثر في تربية الملاحظة، قليلة الأثر في تربية الملكات بوجهٍ عام. أما علوم الطبيعة والمواليد فلها الأثر القوي في الملاحظة والحكم معًا.
(١) تعليم علم المواليد
ليس هناك طريقة أنجح إلى تكوين العقل وتنمية الملاحظة والحكم من درس علوم المواليد الثلاثة؛ لأن هذا الدرس يظهر للطفل وللشاب وللرجل أن في الشيء الضئيل الذي نزدريه، في العشب في الحشرة في الحجر، عالمًا ملؤه العجب. فهو إذن ينمي ملاحظته وينمي حكمه ويحسن رأيه فيما حوله. ولكن الجامعة استطاعت أن تجعل هذا الدرس اللذيذ المنتج ثقيلًا عقيمًا، فهي لا تحفل بالأشياء وإنما تضع مكان الأشياء وصف الأشياء. فالتلميذ لا يعرف شيئًا مما حوله وإنما يحفظ كتبًا ويستظهر دروسًا يتلوها وقت الامتحان عن ظهر غيب، وانظر كيف يحكم عالم فيلسوف أستاذ في السربون هو المسيو «وستر» على المنهج الذي يُتخذ في هذا الدرس، فهو يرى أن هذه العلوم لا ينبغي أن تدرس بين جدران أربعة ولا أمام لوحة سوداء ولا بواسطة قطعة من الطباشير، وإنما ينبغي أن تدرس في الحدائق والغابات ومتاحف التاريخ الطبيعي، وما يشبه ذلك مما يجد فيه التلميذ موضوع الدرس لا وصف هذا الموضوع. ولكنك لن تجد بين أساتذة الجامعة من يحسن الاستفادة لمثل هذه النصيحة الرشيدة، فخير للمدارس الثانوية أن تعدل عن درس هذه العلوم فإن درسها على هذا المنهج المألوف لا خير فيه، وحسبك أن الطالب لا يقضي أشهرًا بعد الامتحان حتى يكون قد نسي ما حفظ.
(٢) درس الجامعة للعلوم التجريبية
إذا كان لك منهج من المناهج كُلفت بتطبيقه على شيء، وللجامعة منهج من المناهج هو الاعتماد على الذاكرة فهي تصطنعه في كل شيء، تصطنعه في اللغات والآداب، تصطنعه في الرياضة، تصطنعه في علم المواليد الثلاثة وتصطنعه في الطبيعة والكيمياء، فهي إذن تدرس هذين العلمين درسًا قوامه الحفظ والاستظهار ومصدره الكتاب لا العمل، ويجب على التلميذ أن يستظهر الصيغ والقوانين وأوصاف الأدوات وطرق اصطناعها. أما أن يلجأ الأستاذ إلى المعمل أو إلى أداة من أدوات المعمل، أما أن يصطنع الأستاذ لشرح نظرية من النظريات تجربة أو أداة، فذلك شيء نادر شديد الندرة. لا يمس التلميذ أداة من أدوات المعمل فذلك محظور عليه، ولا يكاد الأستاذ يمس أداة من أدوات المعمل؛ لأنه لا يحسن استعمالها من جهة؛ ولأنه يخشى أن يكدر صفو النحاس والمعدن إذا تناولته الأيدي، فيجب أن يظل هذا النحاس والمعدن جميلًا خلابًا من دون الزجاج. ولقد شعر بذلك علماء الجامعة أنفسهم فوصف هذا المنهج المسيو «لشاتلييه» في رسالة وضعها عن درس العلوم، وبيَّن أن الأساتذة لا يعتمدون في درس الطبيعة على أدوات المعمل بل على وصف هذه الأدوات، وهم يسرفون في هذا الوصف كما يسرفون في هذه الأدوات، فربما حفظ الطالب ثلاث عشرة طريقة لقياس الحرارة حين لا يوجد في الواقع إلا اثنتان. وليس حظ الكيميا بأحسن من حظ الطبيعة، فدرس هذا العلم لا يعتمد على المعمل ولا على العقل، وإنما يعتمد على الذاكرة التي تستظهر الصيغ والقوانين والحروف دون أن تنفع أو تنتفع. ولقد يرى مسيو «لشاتلييه» — وهو في ذلك محق — أن مصدر الشر في درس العلوم التجريبية إنما هو الامتحان والمسابقات التي لا يفكر الأساتذة والمؤلفون إلا فيها، فيلهيهم هذا التفكير عن العلم وعن التلميذ. وغريب أن عنايتهم بالامتحان لا تكفل للتلميذ النجاح في الامتحان، ومهما نقل ومهما نُلح فلن تتغير مناهج التعليم في الجامعة. وإذن فنحن نذهب بما سنقوله في هذا الموضوع مذهبًا فلسفيًّا خالصًا.
(٣) نفع العلوم التجريبية في التعليم الأولي
أثر التعليم التجريبي في التربية عظيم، فيجب أن يتعجل المعلم في أخذ الطفل بهذا النوع من التعليم منذ طفولته الأولى. وإذن فقبل أن نبحث عن طريقة هذا التعليم في المدارس الثانوية يجب أن نبيِّن طريقته في المدارس الأولية. على أن العناية بالتعليم التجريبي في هذه المدارس ليس حديث العهد، فالناس جميعًا يعلمون ما أفاد الألمان من تجارب «فروبل» و«بستالوتزي». أما الجامعات اللاتينية فقد ازدرت هذا التعليم دائمًا، وشاركها الألمان في ذلك حينًا، ولكنهم عدلوا عن هذا الخطأ فانتفعت بذلك صناعاتهم انتفاعًا عظيمًا. أما الإنجليز فلم يحتاجوا إلى تكلف الجهد في ذلك؛ لأنهم لم يفهموا التعليم في يومٍ من الأيام إلا على النحو التجريبي، فليست لهم مدرسة تخلو من العمل اليدوي مهما تختلف منزلة هذه المدرسة ومهما تتفاوت طبقات الأطفال الذين يختلفون إليها، حتى إن المدارس التي لا يدخلها إلا الأغنياء الذين لا يحتاجون إلى أن يكسبوا حياتهم تعنى بهذا التعليم عناية خاصة، فيختلف التلاميذ إلى المعامل كما يختلفون إلى قاعات الدروس، وقد يكون أستاذ البيان معلمًا نجارًا أو كهربائيًّا.
والناس جميعًا يعلمون أن المهندسين الإنجليز إنما يتربون في المعامل، ولقد ازدرينا نحن هذا النوع من التعليم ازدراءً شديدًا حتى استطاع أحد المفتشين في وزارة المعارف أن ينكر أمام لجنة التحقيق نفع دروس الأشياء؛ لأن التلاميذ في رأيه لا يفهمون وإنما يحفظون، فهم يستظهرون ألفاظًا يخلطون بعضها ببعض خلطًا شديدًا. ولو أن هذا المفتش فكر قليلًا لعرف أن خطأه شديد، فلسنا نريد أن يستظهر الأطفال ألفاظًا وإنما نريد أن تكون الأشياء موضوع دروس الأشياء، نريد أن يدرس التلاميذ حقائق لا ألفاظًا، وقد تختلط عليهم الألفاظ ولكن الحقائق لن تختلط عليهم أبدًا، فإذا رأى الطفل أو لمس معدنين مختلفين فلن يخلط بينهما وإن خلط بين اسميهما.
ومن اليسير جدًّا أن تُستخدم طرق كثيرة مختلفة لتعليم الأطفال بواسطة التجربة ضروبًا من قوانين الطبيعة والكيمياء، وقد أُلفت في ذلك كتب مختلفة نافعة ولكن الأساتذة يمرون بها معرضين عنها؛ لأنهم يعتقدون أن ليس فيها خير وأن الطفل سريع الملل إذا أخذته بالدرس الصحيح. نظرية خاطئة من كل وجه فيكفي أن تعرف كيف تأخذ الطفل بالدرس لترى كيف يرغب الطفل في الدرس، وكيف يمكن أن يتعلم بواسطة التجربة ضروبًا من العلم، بل كيف يمكن أن تفسر له بواسطة التجربة قوانين الثقل والجاذبية والصوت والضوء وطائفة من أعمال الكيمياء.
(٤) درس العلوم التجريبية في المدارس الثانوية
فإذا أُعد الطفل على هذا النحو سُهل عليه في المدارس الثانوية أن يتقدم لدرس هذه العلوم بطريقة نافعة، فإن أثر هذه العلوم في التربية عظيم جدًّا إذا عرف الأستاذ كيف ينتفع بها، وإذا لم يصطنع في درسها إلا التجربة، وأدوات هذه التجربة في المدارس الأولى ليست كثيرة ولا غالية وإنما هي قليلة سهلة، وليس فيها شيء من الخطر إذا أحسن استعمالها، فطائفة الأنابيب والآنية وموقد من مواقد الكحول تنفع في تجارب الكيمياء، وطائفة من الأدوات اليسيرة تنفع في تجارب الطبيعة، ولقد اشتريت مجموعة من الأدوات التي يستخدمها الإنجليز لتجارب الطبيعة أمام الأطفال، فإذا هي مجموعة ينتفع بها في جميع نظريات الضوء وإذا هي لا تتكلف أكثر من خمسة وثلاثين فرنكًا، بينما مثل هذه المجموعة في فرنسا لا تنقص قيمته عن ألف فرنك؛ لأنا نؤثر الشرف دائمًا في كل ما نصنع، وبمثل هذا الثمن تستطيع أن تشتري مجموعة الأدوات اللازمة لتجارب الكهرباء، والقاعدة أن التلميذ يصنع بنفسه هذه الأدوات من المواد التي تُقدم إليه، ويُقدم إليه مع هذه الأدوات رسالة صغيرة ترشده إلى طرق استعمالها، وتلقي عليه طائفة من المسائل تكلفه حلها، وهي لا تنقص عن ٥٠٠ مسألة وربما أعجزت الذين بلغوا شهادة الليسانس من طلابنا. على أن شيئًا مما تقدم ليس جديدًا، فكل هذه الآراء كانت معروفة منذ زمن طويل، ولم يزد الإنجليز والألمان على أن انتفعوا بهذه الآراء التي كانت شائعة فينا منذ أكثر من نصف قرن، وانظر كيف يعرض هذه الآراء عالمنا المعروف «دوماس» وإن كنا لم ننتفع بما عرض:
«يجب أن تستوحي الطبيعة لا أن تستوحي الكتب، فلم يخترع الإنسان علم الطبيعة وإنما انتهز ملاحظات قدمتها إليه المصادفة فكررها وغير ظروفها واستخلص نتائجها، فإذا خيلت إلى الطلبة أن الإنسان يستطيع أن يستغني عن الحقيقة الواقعة التي هي مصدر العلم، وأن يضع العلم بالتفكير المنطقي وحده، فقد أعددت للبلاد شبيبة مغرورة عقيمة، ولن نبلغ الكفاية من الإلحاح على الأستاذ إذا أراد أن يدرس استكشافًا من الاستكشافات في أن يقدم بين يدي هذا الدرس خلاصة تاريخية يبيِّن فيها أصل الاستكشاف، وربما كان من الحق عليه أن يعيد أمام التلاميذ الواقعة التي دعت إلى هذا الاستكشاف، وهو إن فعل ذلك لم ينس تلاميذه أن الطبيعة علم تجريبي يستعين بالتجربة، ولن يبلغ الأستاذ الكفاية من سوء الظن بشيء له الأثر السيئ في التعليم وهو هذه الأدوات المعقدة، تصرف التلاميذَ بدقتها وتعقيدها عن موضوع البحث فيعنون بالأداة أكثر مما يعنون بالتجربة نفسها. وغلاء هذه الأدوات يحول بين كثير من الطلبة وبين التفكير في الاختصاص؛ لأنهم يفترضون أن ملك هذه الأدوات لن يتاح إلا لأصحاب الثروة الضخمة. وأي شيء أيسر من هذه الطرق التي اصطنعها «فلتا» و«دلتون» و«جي لوساك» و«بيو» و«مالوس» و«فرينل» لتأسيس علم الطبيعة الحديث. ولقد كان هذا الجيل من العلماء يصطنع في تأسيس هذا العلم أدوات مألوفة ليست بالغالية ولا بالمعقدة، حتى ليصح أن نتساءل الآن ألم يصبح علم الطبيعة رهينًا بأهواء أولئك الذين يصنعون أدوات المعامل.»
وليس بنا حاجة إلى تأييد ما قال هذا العالم فكل شيء يؤيده، وحسبك أن تنظر في تاريخ العلماء المخترعين وفي اختراعاتهم ولا سيما العظيمة منها لتعلم أنها نتيجة استخدام الأدوات السهلة. وليس معنى ذلك أن الأدوات الدقيقة ليست لازمة، وإنما معناه أن هذه الأدوات ضرورية لمن يريد التحقيق والتثبت لا لمن يريد تفسير الظواهر المختلفة.
هناك نوع من أنواع العلم له أحسن الأثر في التربية وتكوين العقل وتنمية الملكة العلمية لو عُنيت به الجامعة، ولكن الجامعة تزدريه ولعلها تجهله، هذا النوع هو تاريخ الاستكشافات العلمية. فإذا كان للتجربة أثرها في إثقال فهم العلم، فإن لهذا التاريخ أثره في إتقان الفهم أيضًا بل في إيجاد العقل العلمي عند التلميذ، أرأيتك إذا بينت للتلميذ كيف وصل العلماء والمستكشفون إلى علومهم واستكشافاتهم وما سلكوا إليها من سبيل، وما لقوا في سبيلها من مصاعب وما اتخذوا من حيلة لتذليل هذه المصاعب كيف تفتح عقله وتنظم ملكاته وتغنيه بهذا الدرس النافع اللذيذ عن مجلدات عقيمة من النطق.
قليل جدًّا من العلماء من ينصح بدرس هذا التاريخ ولكنهم موجودون على كل حال، موجودون في فرنسا وموجودون في إنجلترا، فقد ذكرنا «دوماس» ونستطيع أن نذكر من الإنجليز «ميكايل فورستر»، ومن الفرنسيين مسيو «لشاتلييه» الذي يلح في درس هذا التاريخ، بل لا يقف عند درس التاريخ وإنما يريد أن تدرس المذكرات التي كتبها العلماء والمستكشفون، وأن تُنقد وأن يُقارن بين مناهج العلماء والمستكشفين على اختلافها وألا يستغني عن هذا كله بالمختصرات، فالمختصرات نافعة حين تستعد للامتحان ولكنها عقيمة حين تحاول تكوين العقل، والأمر في العلم كالأمر في الأدب … فكما أن اختصار الشعراء والكتاب النابهين لا يظهرك على الجمال الأدبي، فاختصار العلماء والمستكشفين لا يظهرك على الحقيقة العلمية، ولكنك لن تستطيع أن تحسن مع التلاميذ درس تاريخ العلم والاستكشاف إلا إذا عنيت بدرسه درسًا خاصًّا، إلا إذا كلفت به واشتقت إليه، تريد أن يفكر تلميذك ويريد فيجب أن تفكر أنت وتريد، فإما أن تكون مقلدًا وتأخذ تلميذك بالاجتهاد فذلك شيء لا غناء فيه، وقليل جدًّا من الأساتذة من يعملون في العلم عمل المجتهد لا عمل المقلد؛ ولهذا قلَّ أثر الأساتذة في تكوين الذكاء وإن كثر عدد الناجحين من تلاميذهم في الامتحان. ولقد أشار مسيو «ريبو» رئيس لجنة التحقيق في خطبة ألقاها أمام مجلس النواب إلى نفع تاريخ الاستكشاف العلمي فبين له وجهًا جديدًا، ذلك أن الذين يدرسون تاريخ الاستكشاف يشعرون حقًّا بهذا الجهد العنيف الخصب الذي تبذله الجماعات الحديثة في سبيل الوصول إلى العلم والحق، وإذا شعر التلميذ بهذا الجهد امتلأ قلبه حبًّا للجماعة التي هو منها، وحسبك بهذا أثرًا حسنًا في تكوين الوطنية الحديثة.
ولقد نجحت الجامعات الألمانية نجاحًا باهرًا كانت نتيجته هذا الرقي الصناعي العظيم، وليس هذا الرقي أثرًا من آثار المعامل العلمية وحدها فهذه المعامل ليست خيرًا من معاملنا لأننا نحاكيها، وإنما هو أثر من آثار مناهج التعليم التي تمكن الطالب من أن يعلم أكثر ما يمكن ويتقن هذا العلم، يجب أن تذهب إلى ألمانيا لترى معامل الكهرباء تستخدم ١٧٠٠٠ من العمال، ولترى معامل المعادن تستخدم ٤٠٠٠٠ من العمال، ولترى معامل المستخرجات الكيميائية تنتج ما لا تنقص قيمته عن مليار في السنة.
عظم أمر الصناعة في ألمانيا وأشفق الصناع من الجمارك وضرائبها، فتفرقوا في أقطار الأرض ينشئون المعامل في البلاد الأجنبية ويزاحمون أهل هذه البلاد فيزحمونهم. لهم في باريس معمل للأدوات الفوتوغرافية والمناظير المعظمة يستخدم ٣٠٠ ويخرج مصنوعات أجود وأقل ثمنًا من مصنوعاتنا. وبينما يتقدم الألمان في هذه الطريق الخصبة المنتجة يمضي تلاميذنا وأساتذتنا في التعليم العقيم. نعد أبناءنا للامتحان والمسابقة ويعدون أبناءهم لحقائق الحياة.