تربية أبناء المستعمرات
تُظهر التجربة أن الشعوب المستعمرة ولا سيما الشعب الفرنسي قد فشلت في تربيتها للمستعمرات، ذلك أن تربية أمة لأمة إنما تنجح وتؤتي ثمرها إذا استطاعت الأمة المربية أن تنسى مثلها الأعلى الخاص، وأن تضع أمام الأمة التلميذة مثلًا أرقى قليلًا من مثلها الأعلى الذي ألفته. وقد أراد تكويننا العقلي أن نعتقد أن جميع الشعوب المنحطة تشبهنا وتعدلنا، فأخذنا أنفسنا بأن نربي هذه الشعوب كما نربي أنفسنا، ونضع أمامها غايتنا الاجتماعية الخاصة فنضطر إلى تغيير عادات هذه الشعوب وأخلاقها ونظمها المختلفة ونفسيتها، نضطر إلى محاولة ما لا سبيل إليه.
نغيِّر النظم ونزعم أننا نغيِّر العقل، نؤثِّر في العقل بالتعليم ونزعم أننا نؤثر في الأخلاق، نبتدئ البناء من أعلاه، نؤثر في النتيجة ونزعم أننا نؤثر في العلة فنغير بهذا منهج الطبيعة، ولا ينتج لنا هذا إلا نتائج سلبية.
تعتقد الشعوب المتحضرة أن التعليم يمكن أن يُتخذ وسيلة إلى التربية، ومع ذلك فالتعليم يعتمد على الذاكرة يملأ الرأس بالمعلومات، وقد يكون لهذا أثره في تنمية ملكة الحكم والفهم، ولكن أثره قليل جدًّا أو غير موجود في تربية الأخلاق، فليس بين الأخلاق والذاكرة صلة وليس بين الأخلاق والمنطق صلة، وإنما المؤثر في تربية الأخلاق هو المثل والبيئة. وهناك شيء آخر يضاعف خطأ هذه الشعوب في تربية الأمم المنحطة، فهي تعتمد في تربية هذه الأمم على التعليم وعلى التعليم بلغاتها الأوروبية، وليس من شك في أن هذه اللغات الأوروبية بعيدة كل البعد عن عقول هؤلاء الناس، ومصدر هذا أن هناك صلة قوية بين اللغة وبين تكوين المخ في الأمم التي تتكلمها، وإذ كان العقل في تطورٍ مستمر يختلف باختلاف العصور والأمكنة فاللغة خاضعة لهذا التطور نفسه، وإذن فلغة الفرنسيين لا تلائم عقل الهنود، بل إن هناك ألفاظًا تدل على معاني يظهر أنها مشتركة بين الناس جميعًا والحق أنها مختلفة كل الاختلاف، فالمثل الأعلى من الجمال عند الفرنسيين يخالف المثل الأعلى من الجمال عند الآسيويين والإفريقيين، وحب الخير عند المسيحيين يخالف حب الخير عند الهنود وعند المسلمين. ولكل لغة مهما اختلفت في الرقي أو الانحطاط آراء ومعانٍ تدل عليها ألفاظ ولا يفهمها إلا أهلها، وهي تخالف آراء اللغات الأخرى ومعانيها كما تختلف ألفاظ اللغتين. فإذا ألقيت العلم إلى الهنود بلغة الفرنسيين فلن يفهموا العالم كما تفهمه أنت وكما تدل عليه لغتك، وإنما يفهمونه كما تعودوا أن يفهموه وكما تدل عليه لغتهم، يستعيرون ألفاظك ويدلون بها على معانيهم.
وكل ما تقدم يدل على النتائج التي يمكن أن ينتهي إليها تعليم الشعوب المنحطة باللغات الأوروبية، وقد رأينا هذه النتائج غير مرة عند أهل «أنام».
عجيبٌ أننا نقبل في غير تردد أن انتقال الآراء والعقائد من موطنٍ إلى موطن يفسدها ويغيرها، دون أن نؤمن بهذا نفسه بالقياس إلى آرائنا وعقائدنا، فنحن نقبل أن انتقال البوذية من الهند إلى أنام قد غيَّر فيها شيئًا كثيرًا، ولكنا لا نريد أن نصدق أن انتقال مبدأ الحرية والمساواة والتضامن إلى هذه البلاد يغيره أو يؤثر فيه، ومع هذا فقد أظهرت التجربة أن الأناميين لا يفهمون هذه المبادئ كما نفهمها ولا يقدرونها كما نقدرها، ولقد أحسسنا ذلك وبلوناه فاضطررنا إلى إلغاء الجامعة الهندية الصينية التي أنشأناها لنشر العلوم والمناهج الأوروبية باللغة الفرنسية في الشرق الأقصى، والتي كانت تتألف من أقسامٍ مختلفة للحقوق والإدارة والعلم والأدب، ألغينا هذه الجامعة؛ لأننا رأينا أنها لم تخرِّج إلا شبانًا متهوسين خطرين علينا وعلى أمتهم.
- المادة الأولى: الفرنسيون جميعًا فضلاء.
- المادة الثانية: الفرنسيون جميعًا سعداء.»