التربية بواسطة الجيش
(١) أثر الخدمة العسكرية في التربية
فكرة احتقار الجيش التي انتشرت الآن في هذه الطبقة المفكرة خطرة كل الخطر، يكفي أن تنتشر في الشعب لتفقد الأمة الفرنسية وجودها السياسي.
(٢) النتائج الاجتماعية للقوانين العسكرية القديمة
كانت قوانيننا العسكرية تسرف في إعفاء بعض الأفراد والجماعات من الخدمة العسكرية فأنتج هذا الإعفاء نتائجه السيئة المختلفة، وأهم هذه النتائج انصراف الشباب عن الحياة العاملة المثمرة إلى ضروب الحياة الفكرية العقيمة. ويكفي أن تنظر إلى هذه الأعداد الضخمة التي استفادت بمبدأ الإعفاء من الخدمة العسكرية كلها أو بعضها، فتحولت عن الجيش إلى المدارس المختلفة كمدرسة اللغات الشرقية ومدارس الزراعة والتجارة والصناعة والمدارس النظرية الخالصة، لا لشيء إلا لأن هؤلاء الطلبة يفرون من الخدمة العسكرية ويلجئون إلى هذه المدارس فيحصلون منها على شهادات لا تنفعهم ولا تفيدهم؛ لأنهم أكثر من حاجة البلد ولأنهم قد أساءوا التعليم وهم أضعف من أن ينتفعوا بما تعلموا، ومع هذا فلو أنهم ذهبوا إلى الجيش وأدوا خدمتهم العسكرية لانتفعوا كثيرًا ونفعوا كثيرًا وضمنوا لأنفسهم العمل في الحياة، ذلك أنهم في الجيش يجدون ما هم في حاجةٍ إليه من النظام وحبه والخضوع له، ومن التضامن والتعاون ومن ضبط النفس وأخذها باحتمال المكروه ومن حسن التصرف في الحياة والتغلب على المصاعب، ويكفي أن تنظر إلى الأمم التي تحسن استخدام الجيش لتعرف ما للخدمة العسكرية الصالحة من النتائج الحسنة.
(٣) أثر الضباط في التربية
شعر الناس منذ زمن طويل بنفع الخدمة العسكرية الإجبارية في الإصلاح العام وإزالة ما تركت الهزيمة الأخيرة من الآثار السيئة، واعتقدوا أن هذه الخدمة العسكرية ستزيل الاختلاف الحزبي وتكوِّن الوحدة القومية، وتوجِد في نفوس الشعب كل هذه الفضائل القيمة التي تستظل بظل اللواء.
ولكن التجربة أظهرت أن ما كان الناس ينتظرون شيء، وما انتهت إليه الخدمة العسكرية شيء آخر، فلم تؤت هذه الخدمة ثمراتها. ومصدر ذلك فيما أعتقد أن الضباط الذين هم المكلفون تربية الجيش لا يفهمون واجبهم ولا يحسنون أداءه، فالضباط كل شيء في الجيش فإذا صلحوا صلح الجيش، ويجب ليصلح الضباط أن يفهموا أنهم مربون من جهة وأن يحسنوا الأمر من جهةٍ أخرى. أما فَهْم أنهم مربون فموقوف على المدرسة الحربية، يجب أن يتعلموا فيها من مناهج التربية ما يمكنهم من أن يحسنوا التأثير في نفوس رجالهم، وأما إجادة الأمر فموقوفة على إجادة الطاعة. وإذن فيجب أن يعمل الضباط عمل الجندي سنة مثلًا ليعرف كيف يطيع، فهو إذا أحسن الطاعة أحسن الأمر.
إذا وصل الفساد والاضطراب وعدم الاكتراث إلى الجيش من أمة من الأمم فقد دنت ساعة الانحطاط. على أن الجيل الجديد من ضباطنا يشعر بواجبه حقًّا، فلا ينبغي وإن تكاثفت السحب أن نيأس منه. التربية خليقة أن تمنح الشعب الذي يريد الحياة ما هو في حاجةٍ إليه من الخلال، وقد عرف الجيش والجامعة في ألمانيا كيف يتعاونان على إصلاح التربية ووفقا إلى ذلك ولم يوفقا في فرنسا. ولكن هذه المسألة لا تزال موضوعة موضع البحث أمام الأجيال إلى حلها، فنحيا أم تخطئ هذه الأجيال حلها فيكون هذا آخر عهدنا بالتاريخ.
•••
أما بعد فقد انتهى هذا الكتاب الذي قد يكون أقل ما كتبت نفعًا، فإن شكوى القضاء عمل عقيم لا يكاد يحسن بالفيلسوف … ومع ذلك فإن أكن قد نشرت هذا الكتاب دون أن أخدع نفسي بنفعه فإنما أقدمت على ذلك؛ لأن الآراء التي يبذرها القلم تنتهي دائمًا إلى الإنبات مهما تكن الأرض التي بذرت فيها صخرية مجدبة. ومع أن الظواهر تُخيل إلى الناس أن الآراء التي تدير حياة الأمم والشعوب لا تتغير بتغير الأجيال والعصور، فالحق أن هذه الآراء تستميل بطبعها قليلًا قليلًا، وكأننا قد وصلنا إلى لحظةٍ من هذه اللحظات النادرة في التاريخ تستعد فيها آراؤنا لقليلٍ من التغير. إن اختيار مناهج التعليم أشد أثرًا وأجل خطرًا بالقياس إلى الشعوب من تغيير نظمها السياسية والاجتماعية، وإذا كان التحقيق البرلماني قد أظهر أن جمهور الناس لا يفهم مسألة التربية على وجهها فهو قد أظهر في الوقت نفسه أن هذه المسألة قد أخذت تشغل هذا الجمهور بنوعٍ ما، فعسى أن يزيد اشتغاله بها وأن ينتهي ذلك إلى تغيير وجهة الرأي العام فيها، فإن مستقبل فرنسا رهين بالحل الذي ستنتهي إليه مسألة التربية.
إن تطور العالم سريع وإذا لم نلائم بين حياتنا وبين هذه التطور فنحن هالِكون. كانت البلاغة والدقة النحوية والذوق الأدبي والفني كافية في وقتٍ من الأوقات، تتيح لبعض الشعوب أن يتقدم غيره في الحضارة حين كان هذا الشعب يلقي بأموره إلى أيدي الآلهة أو الملوك. أما اليوم فقد ماتت الآلهة ولا تكاد تجد شعبًا يسلم نفسه حقًّا لسيد من السادة. فليس للحكومات في الحوادث إلا أثر قليل. وقد خضعت إرادات المستبدين لقوانين اقتصادية واجتماعية ليس لهم فيها تأثير، وأصبح الإنسان الذي كانت تحكمه الآلهة أو يحكمه الملوك خاضعًا لطائفةٍ من الضرورات ليس له منها مفر ولا مخلص. وأصبحت نظم الحياة العامة لشعبٍ من الشعوب رهينة بقوانين مصدرها العلاقات التجارية والصناعية والاقتصادية بوجهٍ عام. وإذ قد فقد الإنسان الحديث معونة هذه القدرة الإلهية الخيرة التي كانت تدبِّر الحياة على أحسن وجهة، فقد أصبح مضطرًا إلى ألا يعتمد على نفسه ليجد مكانه في الحياة، وهذا المكان لا يصل الإنسان إليه بما يعلم، وإنما يصل إليه بما يستطيع أن يعمل. وقد وصلنا إلى طورٍ من الحياة تجعل خطر الأخلاق أجل من خطر الذكاء، فليس للذكاء قيمة إذا لم يعتمد على القوة والإرادة وضبط النفس. والتربية وحدها خليقة أن توجد هذه الأخلاق إذا لم تكلفها الوراثة. وقد رأينا فساد التعليم والتربية في بلادنا، وأظهرنا أن كل إصلاح لا خير فيه إذا لم تتغير نفسية المعلمين، وأظهر ما نقلناه أن الناس إذا استيقنوا بسوء نتائج التعليم فهم يجهلون أسباب هذا السوء، فكل بناء التعليم عندنا في حاجةٍ إلى أن يعاد، وقد أثبت هذا الكتاب أن مثل هذا العمل لا سبيل إليه الآن وبيَّن أسباب ذلك، فكل ما يمكن أن نأمله هو أن ننتفع بهذه الأدوات السيئة التي في يدنا، وأن نجني منها أكثر ما يمكن من الثمرات … قليل من حسن القصد يكفي لذلك، ولكن إلى مَن نطلب حسن القصد ونحن نرى ازدراء الجامعة وإهمال الرأي العام؟ ومهما يكن من شيء فقد أتممت عملي، ولم أكن أريد إلا أن أضيء السبيل لقومٍ مترددين مضطربين، فعلى رسل الإصلاح الآن أن يهزوا الجماعات حتى يخلقوا هذا التيار الذي تعجز عن مقاومته الأبنية المتزعزعة، ولنثق بأن هذا العمل لن يجد مقاومة من الأحزاب، بل لا بد من أن تؤيده الأحزاب كلها في يومٍ من الأيام، ومستقبل فرنسا رهين بالفوز في هذا العمل. هذا البلد العظيم الذي كان منار الحضارة قديمًا يتأخر كل يوم عن منزلته الأولى، فإذا لم تتغير الجامعة فيسخط هذا البلد إلى حيث تفنى الأمم والشعوب.