بين يدَي الديوان

يضم هذا الديوان القصائد التي كتبها الشاعر غرسيه لوركا إبان زيارته الأمريكية التي قام بها في يونيو ۱۹۲۹ واستمرت حتى مارس ۱۹۳۰، وكان غرض الرحلة هو دراسة اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا بنيويورك. ولكنه عاش في نيويورك، وزار ولاية فيرمونت، ثم قام برحلة إلى جزيرة كوبا، وعاد إلى بلاده دون أن يتعلم شيئًا من اللغة الإنجليزية!

ولقد قال لورکا ملخِّصًا تجربته الأمريكية: «لقد كانت من أشد التجارب فائدة في حياتي». ولا غرو؛ فإن إقامته في نيويورك، بإجماع النقاد، قد غيرت رؤيته تجاه الحياة وتجاه الإنسان وتجاه الفن. ويستبين أثر زيارة نيويورك أكثر ما يستبين في القصائد التي أمام القارئ الآن، بما فيها من ابتعاد عما درج عليه الشاعر من استلهام الموروث الأدبي الإسباني — خاصة الأندلسي منه — إلى الغوص في التجربة السيريالية التي كانت تطرق أبواب أوروبا آنذاك بقوة، والتي كان من أقطابها عددٌ من أصدقاء الشاعر المقربين، وعلى رأسهم الرسام سلفادور دالي والسينمائي لويس يونيو بيل. وإن ما ساعد على تفجر الصورة السيريالية في أعمال الشاعر في هذا الديوان هو ذلك التناقص الحاد الذي وجده لوركا بين مدينته الأندلسية الهادئة غرناطة، وبين ما وجده في العالم الجديد، متمثلًا في حاضرة المادة والمال وناطحات السحاب وكل ما هو جديد ومثير.

ومن المثير للأسى أن لوركا لم يعِش ليرى ديوانه منشورًا؛ إذ إنه قُتل عام ١٩٣٦م غداة الحرب الأهلية الإسبانية في ظل ظروف فاجعة أوردت وصفًا لها في كتابي المعنون «لورکا شاعر الأندلس» الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب عام ۱۹۹۳. وقد ترك الشاعر مخطوطة الديوان لدى أحد أصدقائه — يدعى خوسيه برجامين — في ربيع عام ١٩٣٦م. وعند اقتراب هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية، غادر برجامین إسبانيا إلى باريس ومنها إلى المكسيك حيث أسس دار «سينيكا» للنشر. وقد أصدر الديوان عن دار النشر هذه في يونيو ١٩٤٠م. ومنذ ذلك الحين، صدرت طبعات كثيرة للديوان، فيها اختلافات كثيرة من حيث عدد القصائد وإهداءاتها، وهذا راجع إلى عدم وجود طبعة نهائية صادرة في حياة الشاعر. وقد قمت بترجمة المجموعة التي يتضمنها الديوان في الأعمال الكاملة للوركا الصادر عن دار النشر الإسبانية أجيلار عام ۱۹۷۲.

وبالإضافة إلى التأثيرات السيريالية التي تستبين في القصائد، فإن المعلومات التي أوردها الشاعر عند إلقائه بعض هذه القصائد شفويًّا — والتي نترجم جانبًا منها في الفصل التالي — تعرض الكثير من انطباعات الشاعر في تجربته الأمريكية، والمشاعر التي ساهمت في تشكيل الصور الغريبة التي تزخر بها هذه القصائد. ومن ناحية أخرى، من المهم الإشارة إلى أسماء بعض أدباء اللغة الإنجليزية الذين اهتم لوركا بالتعرف على إنتاجهم الشعري — ولو عن طريق اللغة الإسبانية أو شرح الأصدقاء — وعلى رأسهم «وولت ويتمان» و«إدجار آلان بو» و… «ت. س. إليوت» الذي ورد ذكره في تقديم القصائد والذي أشار النقاد إلى أُلفة لوركا بقصائده الرئيسية حتى ذلك الوقت، وبخاصة «الأرض الخراب» التي صدرت عام ۱۹۲۲، وسيجد القارئ شبهًا كبيرًا بصور عقم الحياة المادية الحديثة ووحدة الإنسان وعزلته المريرة في الصور اللوركية الفيويوركية وبين مثيلاتها في «الأرض الخراب» و«الرجال الجوف» وغيرهما من قصائد إليوت.

ويأمل المترجم، بصدور هذا الديوان باللغة العربية، أن يسهم نشره في ميدان النقد المقارن، من ناحية التأثير الذي مارسه شعر لورکا وصوره الفنية — حتى في ترجماته الإنجليزية والفرنسية، وفي أصله الإسباني — في الشعر العربي الحديث وخاصة شعر المهجر العربي.

وثمة ملاحظة لا بد من الإشارة إليها في خاتمة المطاف؛ ذلك أنني قد صحبت لوركا أعوامًا طوالًا بدأت في القاهرة في الستينيات حينما كنت أبحث عن أخباره وأتلمس أشعاره وسيرته في النادر من الكتب الإنجليزية التي كنت أجدها آنذاك. ثم أتيحت لي فرصة فريدة حين عملت زهاء خمس سنوات في مدريد، فطالعت كل ما وقعت عليه يداي من أدبه وفنه وما كُتب عنه من شروح ونقد؛ وشددت الرحال إلى مدينته وإلى الأماكن التي ارتبطت بحياته وإنتاجه الفني. وفي تلك الفترة، طالعت لأول مرة قصائد شاعر في نيويورك، بلغتها الأصلية، وفهمت منها ما فهمته، واستوعبت معظمها عن طريق الحدس الشعري. ثم حملتني الحياة بعد ذلك في ۱۹۷۸ إلى العمل في نيويورك، تلك المدينة الهائلة الرهيبة التي مثلت في ذهني مسبقًا كل ما عناه الكتاب والشعراء عن الحياة المادية وسيطرتها على النفس الإنسانية. وإني لأشهد أن حياتي في نيويورك — حيث أقيم حتى الآن — قد جعلتني أغوص في قصائد لوركا وأفهمها فيما يزيد كثيرًا عن فهمي السابق لها. ولا عجب أن عدت إلى الديوان، وكنت قد أعددت ترجمة مبدئية له خلال ثلاثة شهور أسطورية في برشلونة عام ۱۹۷٦، وأجريت فيها من التغيير والتبديل الشيء الكثير، بما يعكس فهمي الأصدق لما خامر فؤاد لوركا من مشاعر أنتجت الصور الفنية الغريبة والفريدة التي يحتويها الديوان.

وأملي أن أكون قد نجحت في نقل أثارةٍ من الرؤيا التي حاول لوركا أن ينقلها إلى القارئ عن طريق هذه القصائد.

نيويورك في ١ فبراير ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤