الفصل الثاني

السود

إلى آنخل ريو

نمط السود وفردوسهم

إنهم يبغضون ظل الطائر،
على مد الوجنة البيضاء،
وصراع النور والرياح،
في غرفة الثلوج الباردة.

•••

إنهم يبغضون السهم الذي لا جسم له،
منديل الوداع الذي لا يخلف موعدًا،
الإبرة التي تواصل ضخ الحمرة،
في خفر الابتسامة الندية كالحشائش.

•••

ولكنهم يحبون الزرقة المهجورة،
والتعبيرات المترددة الثيرانية،
وقمر القطبين الكاذب،
ورقصة المياه المتثنية على الشاطئ.

•••

إنهم يستخدمون علم جذع الشجرة والأثر،
لملء الصلصال بالأعصاب الوضاءة،
ويتزلقون في سلاسة على المياه والرمال،
وهم يتذوقون نضارة رضابهم الألفي المريرة.

•••

إنما هو في الزرقة التي ترتفع بالصرير،
زرقة لا دودة فيها ولا من أثر نائم،
فيها بيض النعام يتمتع بالأبدية،
حيث الأمطار ترقص وتجول في سلام،

•••

إنما هو في الزرقة التي لا تعرف تاريخًا،
زرقة ليلة لا تخاف طلوع النهار،
زرقة يكسر فيها عرى الرياح،
جمالٌ من السحب الفارغة التي تهيم في نومها.
هناك تحلم الجذوع من تحت الأعشاب الشرهة،
هناك تشرب الشعب المرجانية يأس المداد،
والنائمون يمحون بروفيلهم تحت عنقود القواقع،
ولا يبقى غير فراغ الرقصات فوق آخر ذرات الرماد.

أنشودة إلى ملك هارلم

بملعقة خشبية،
كان يقتلع عيون التماسيح،
ويلهب مؤخرة القردة،
بملعقة خشبية،
نيران دائمة،
ترقد غافية على أحجار الصوان،
والخنفسات السكرى من شراب الأنيس،
تتناسى طحالب الضيعات.
هذا العجوز الذي يغطيه عش الغراب،
يتجه إلى الموضع الذي ينتحب عنده السود،
بينما ارتفعت ملعقة الملك الضرير،
ووصلت خزانات المياه العفنة.
فرت الورود على طرف منحدرات الهواء الأخيرة،
وعلى أكوام الزعفران،
سحق الأطفال السناجب الصغيرة،
متوردي الوجوه في خبلهم الموصوم.
يتعين علينا أن نعبر الجسور،
ونصل إلى الزنوج الهامسين،
حتى نشعر بعطر رئاتهم يطرق أصداغنا،
بثوبه الأناناسي الدافئ.
يتعين علينا أن نقتل بائع الخمور الأشقر،
وكل أصدقاء التفاح والرمال.
يجب أن نضرب بقبضات مقفلة،
حبات اللوبياء الصغيرة التي ترجف بالفقاعات،
وذلك حتى يغني ملك هارلم مع جمهرته،
حتى تنام التماسيح في صفوف طويلة،
تحت معدن القمر الذي لا يحترق،
وحتى لا يشك أحد في الجمال المطلق،
لمنفضات الريش والمبشرات،
ونحاس المطبخ وآنياته.
أواه يا هارلم! أواه يا هارلم! أواه يا هارلم!
ليس هناك من أسى يعادل عينيك المسحوقتين،
تعادل دماءك ترجف غاضبة داخل الخسوف المظلم،
يعادل عنفك القاني الأصم الأبكم تحت ظلال الأضواء،
يعادل مليكك العظيم الذي يرتدي ثياب البوابين.
وكان الليل ينصدع عن سحالي ساكنة من العاج،
والفتيات الأمريكيات،
يحملن أطفالًا ونقودًا في بطونهن،
بينما الشبان يغشى عليهم على الصليب،
وقد استطالت أطرافهم.
هؤلاء هم.
هؤلاء هم من يشربون الويسكي الفضي إلى جوار البراكين،
ويبتلعون شذرات القلوب على جبال الدببة المثلوجة.
تلك الليلة،
كان ملك هارلم يقتلع عيون التماسيح،
بملعقة جامدة صلبة،
ويلهب مؤخرة القردة،
بملعقة جامدة صلبة.
وبكى السود حیاری،
وسط مظلات وشموس ذهبية.
وشد الخلاسيون المطاط،
يجتاحهم الشوق إلى بلوغ الجذع الأبيض،
والرياح قد طمست المرايا،
وحطمت عروق الراقصين.
سود! سود! سود! سود!
ليس للدماء من منافذ في ليلك المدلهم،
وليس هناك من حياء في وجهك.
الدم يهدر غاضبًا من تحت الجلد،
يعيش في شوكة الخنجر،
وفي صدر المناظر الطبيعية،
تحت الكماشات ونبات الوزال،
لقمر السرطان السماوي.
الدم الذي يبحث في آلاف الدروب،
عن الموت الذي يغطيه الدقيق ورماد الياسمين.
سماوات يابسة مائلة،
حيث تنحدر مجاميع الكواكب على الشطآن،
مع الفضلات المهملة.
الدم الذي يتطلع في بطء بذيل عينيه،
مصوغًا من حشائش الحلفاء المعتصرة ورحيق الأنفاق؛
الدم الذي يغطي الرياح الغافلة بالصدأ،
ويحيلها إلى مجرد أثر،
ويذيب الفراشات على زجاج النوافذ.
إنه الدم الذي يأتي،
الدم الذي سيأتي،
من قمم السقوف والأسطح،
من كل جانب،
ليحرق بلهبه كلوروفيل النسوة الشقراوات،
ويئن تحت أرجل الفراش،
وجهًا لوجه مع أرق الأحواض،
ثم ينصدع إلى فجر من التبغ وصفرة خفيضة.
لا بد من الهرب!
الهرب من حول الأركان،
والانغلاق في الأدوار العليا؛
لأن لباب الغابة سيخترق الشقوق،
ليترك على جسدك آثار خسوف واهية،
وأسًى زائفًا للقفاز الماحل والوردة الكيميائية.

•••

وفي فترة الصمت العليم،
يبحث الجرسونات والطباخون،
ومن يلعقون بألسنتهم جراح المليونيرات،
عن الملك في الطرقات أو في زوايا الملح.
ريح خشبية من الجنوب،
مائلة فوق الحمأة الزنجية،
تبصق على القوارب المحطومة،
وتدفع المسامير في أكتافها.
ريح جنوبية تحمل أنيابًا وعباد شمس وحروف الأبجدية،
وبطارية فولتية فيها زنابير غارقة.
وكشف النسيان عن نفسه،
بثلاث نقاط من الحبر على المونوكل.
وكشف الحب عن نفسه،
بوجه متفرد خفي على صفحة الحجر،
واجتمع اللبلاب والنوار على السحاب،
في صورة صحراء من الجذوع،
خالية من وردة واحدة.
ذات اليمين وذات اليسار،
في الجنوب وفي الشمال،
يرتفع جدار لا تنفذ منه الشامة ولا إبرة الماء.
لا تبحثوا أيها السود،
عن شق تجدون وراءه القناع المطلق.
بل ابحثوا عن شمس المركز العظمى،
وقد تحولتم إلى أناناسة تطن وتئز.
الشمس التي تنساب خلال الغابات،
على يقين بأنها لن تجد حورية واحدة.
الشمس التي تدمر أرقامًا،
ولم تلتقِ حلمًا أبدًا،
الشمس ذات الوشم تنساب عبر النهر،
وتخور إذ تتبعها التماسيح الأمريكية.
سود! سود! سود! سود!
لا الثعبان ولا حمار الوحش ولا البغل،
يشحب لونه عند الموت أبدًا،
ولا الحطاب يدري متى تموت الأشجار المصطخبة التي يقطعها،
انتظروا تحت ظل أحراش مليككم،
حتى يهاجم الشوكران والعوسج والقريض الأسطح الخلفية.
حينئذٍ أيها السود، حينئذٍ،
تستطيعون أن تقبِّلوا عجلات الدراجة في جنون،
وتضعوا أزواجًا من الميكروسكوبات في كهوف السناجب،
وترقصوا أخيرًا دونما شكوك،
بينما الأزهار الشوكية،
تقتل موسانا على مقربة من أحراش السماء.
آه يا هارلم المتنكرة!
آه يا هارلم التي تهددها جمهرة بذلات دونما رءوس!
همهماتك تصلني،
همهماتك تصلني عبر جذوع الأشجار والمصاعد الكهربية،
عبر لوحات مضيئة رمادية،
حيث تطفو سياراتك المغطاة بالأسنان،
عبر الجياد الميتة والجرائم المنمنمة،
عبر مليكك اليائس الذي تصل لحيته إلى البحر.

كنيسة مهجورة

(موال الحرب العظمى)
كان لي ابن يدعى خوان،
كان لي ابن.
ضل الطريق ما بين الأقواس،
يوم جمعة في ذكرى الأموات.
لقد شاهدته يلعب في الدرجات الأخيرة من القداس،
ويدفع دلوًا صغيرًا من الصفيح في قلب الكاهن.
ورحت أضرب التوابيت،
صائحًا: ابني، ابني، ابني.
واستخلصت ساق دجاجة من وراء القمر،
ثم أدركت أن ابنتي ما كانت سوى سمكة،
تنطلق من عندها المركبات مبتعدة.
كانت لي ابنة،
كانت لي سمكة ميتة تحت رماد المباخر،
كان لي بحر. ممَّ؟ آه يا إلهي، بحر!
وصعدت لأقرع النواقيس،
ولكن الفاكهة كانت تعمر بالديدان.
وأعواد الكبريت المنطفئة،
تلتهم سنبلات القمح في الربيع.
ورأيت طائر اللقلق الكحولي الشفاف،
ينقر رءوس الجنود المحتضرة السوداء.
ورأيت أكواخًا من المطاط،
تدور فيها الأكواب المترعة بالدموع.
لسوف ألقاك في أزاهير القربان،
يا بني العزيز حين يرفع الكاهن البغلة والثور بذراعيه القويتين،
لكي يطرد ضفادع البر التي تحيط بأراضي الكأس المثلوجة.
كان لي ابن عملاق،
ولكن الموتى أشد قوة،
ويعرفون كيف يلتهمون شذرات السماء.
لو كان ابني دبًّا،
لما كنت أخاف التماسيح المستورة،
ولا كنت قد رأيت البحر معقودًا إلى الأشجار،
لكي تضاجعه الكتائب المصطحبة وتثخنه بالجراح.
آه لو كان ابني دبًّا!
سوف ألتف بذلك الدثار الثقيل حتى لا أشعر ببرودة الفطر.
أعلم تمامًا أنهم سيعطونني ردن قميص أو ربطة عنق،
بيد أني سوف أحطم الدفة في وسط القداس،
وعندها يسقط على الحجر،
جنون طيور البنجوين والنورس،
التي سوف تقول للنائمين وللمنشدين في الأركان:
لقد كان لي ابن،
ابن! ابن! ابن!
وكان له، لأنه كان ابنه.
ابنه! ابنه! ابنه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤