الشِّعر
سَل من شئت من أوساط الناس: ما الشعر؟ يُجِبك: إنه الكلام المنظوم. لكني في هذا الكتاب سأستخدم لفظ الشعر في معنًى لم تألفه الآذان. سأستخدمه لأدلَّ به على كلامٍ صدَر عن فن، ولم يقصد به كاتبه أو قائله أن يُضيف بمَعانيه إلى ذخيرة العرفان قطرة أو قطرات. سأستخدمه لأدلَّ به على كلامٍ يُراد به قبل كل شيء أن يكون لقارئه لذة ومَتاعًا، وسواء بعد ذلك أكان هذا الكلام نثرًا، كما ترى في القصص والمقالات والروايات المسرحية، أم كان الكلام نظمًا، كما ترى في القصائد الغنائية وشعر الملاحم. وما دمتُ قد أطلقت لفظ الشعر ليشمل هذا النطاق الواسع الفسيح، فلا بد لي أن أُخرِج منه القصائد المنظومة التي قُصِد بها إلى النفع لا إلى المتعة، كهذه التي تُصادِفها في كتب النحو تصوغ لك القواعد في منظومٍ لتحتفظ به الذاكرة في غير عسر ولا عناء. فالذي أردتُ أن أستهلَّ به الحديث — إذن — هو أن سِمة الشعر على اختلاف ضروبه أنه لا يرمي إلى نفعٍ، ولا يبتغي مَعرفة وعلمًا؛ إنما هو شيءٌ يُذاق فيُستساغ، ولكن ماذا أُريد؟ إن كان الشعر لا يرمي إلى النفع، أفيكون معنى هذا أنه لا ينفع ولا يُفيد؟ أيكون الشعر حقيقًا منا بالجهد والعناء؟ أخَليقون نحن أن نُنفِق فيه من دهرنا شطرًا يقصُر أو يطول؟ أيجوز في هذا العالم الذي يُحيط بنا اليوم، والذي ارتجَّ لزعازع السياسة الهُوج ارتجاجًا عنيفًا، أيجوز لنا إذ نعيش في عالمٍ اعوجَّت فيه قوائم المجتمع وأعوَزه الإصلاح، أن نُزجِّي من فراغنا وقتًا وأن نبذل من مجهودنا قسطًا في دراسة الشعر؛ وإن فراغنا لَقليل، وإن جهدنا لَضئيل؟ فإن قال قائل: ولمَ لا؟ إن الشعر بعد العناء مَتاع بريء لا يضرُّ ولا يُؤذي، أستمتع به لاهيًا كما يستمتع اللاعبون بالنرد والورق في أوقات الفراغ. فلنا أن نُجيبه: أواثقٌ أنت أن الشعر ليس بذي ضرٍّ ولا أذًى؟ ألا يجوز أن يكون الغاوُون وحدَهم هم الذين يقرءون الشعر ويلهون به؟ إن الرجل من أوساط الناس إذا ازدرى الشعر فسيجد إلى جانبه إمام الشعراء يُؤيِّده في قضيته ويشدُّ أَزره، سيجد «شيكسبير» يُجري على لسان «هتسبير» هذه الأبيات:
ولا تقُل إن ذلك «هتسبير» يتحدث في سياق روايته، وليس هو بالرأي يُدلي به الشاعر، فما لاح لأحدٍ خطرُ الشعر كما لاح لشيكسبير؛ انظر إلى «هاملت» كيف تردَّى — أو قُل أرداه الشاعر — في المَهالك؛ لأنه يحمل بين جنبَيه نفسًا شاعرة، وينظر إلى الأمور بعين الشاعر، وفي «حُلم ليلة في منتصف الصيف» يسوق الشاعر رأيه في الشعراء على لسان الحاكم في أثينا، فيحشرهم في زمرة أشباههم، المَجانين ومَخبولي العاشقِين، وعجيبٌ أن يتفق شيخ الشعراء في رأيه مع شيخ الفلاسفة، أفلاطون! فهل جاءك أن هذا الفيلسوف في «جمهوريته» التي يُصوِّر فيها دولة مُثلى، قد انتهى إلى ضرورة إخراج هذه الطائفة الخطيرة من حظيرة المجتمع، طائفة الشعراء؛ فهم عنده خطر على الدولة من أي ناحيةٍ أتيتَهم، هم خطر على الناشئة إن قُصِد بشعرهم إلى تربية الناشئة، وهم خطرٌ على الأخلاق إن اتُّخِذت أوضاعهم مَثلًا أعلى للأخلاق، وهم فوق ذلك خطر على التفكير إن وُضِعت أقوالهم أمام العقول نماذجَ تُحتذى؛ وإن كان ذلك كذلك فما بقاؤهم في جماعة تنشُد لنفسها الكمال؟
فإن كان هذا رأي أئمة الفكر في الشعر، فلا ينبغي أن تنال منا سَورة الغضب إذ نُصادِف بين أوساط الناس من يزدري الشعر، ولا يراه جديرًا بما يُنفِق فيه من وقتٍ ومجهود، وحريٌّ بنا ألا نُطالِبه بما يُؤيِّد زرايته؛ فعلينا نحن — أنصارَ الشعراء — أن نُقيم الدليل على قيمته، فالبَيِّنة على من ادَّعى.
ولما كان الحكم على الشيء فرعًا عن تصوُّره — إذ لا نستطيع أن نجزم بشيء عن الشعر، دون أن نعرف حقيقته وطبيعته — كان لا بد لنا أن نُعاوِد السؤال من جديد: ما الشعر؟ ههنا تجد إجابات عِدة، منها ما يقِف بك عند السطح، ومنها ما يعمُق حتى يضعك في مُشكِلاتٍ ميتافيزيقية قد لا يكون لك بها قِبَل. فلَئن أقنَعتْ هذه الإجابات العميقة الفلاسفة والعلماء، فلسنا نُريد اليوم أن نكون من هؤلاء ولا أولئك. ويُقنِعنا أن نقِف مع أوساط الناس حتى نستطيع الفهم والإفهام، فنكتفي من الحلول بأيسرها، ومن الأمور بظواهرها ذات المَأخذ القريب؛ فالشعر عندنا هو كلامٌ يصنعه ويُؤلِّف بينه الشعراء. وإن كان صناعةً وتأليفًا فممَّ يُصنَع، ومن أي مادةٍ يتألَّف؟ ههنا أيضًا تصدمك إجاباتٌ تضرب من الأمور في أعماقها، فتزعم لك أن الشعر مُؤلَّف من أحلام سرمدية خالدة، أو أنه نفثاتٌ تزفر بها القلوب، لكننا سنقِف مع أوساط الناس مرةً أخرى، فلا نرضى عن مثل هذا القول المُبهَم؛ وعندنا أن الشعر مُؤلَّف من ألفاظ، ومن ألفاظ فقط، كما تتألَّف سائر ضروب الكلام، فكل ما للشعر من سِحرٍ يفتن القلوب، إنما هو سحر صادر عن الألفاظ، والألفاظ وحدَها.
إذن فما هي الألفاظ؟ فما سمعتُ قبل اليوم أن السِّحر والفتنة من خصائصها. وأفتح المُعجَم لأعلم ما «اللفظ» فإذا هو «صوتٌ أو مجموعة أصوات تواضَع الناس على أن تكون جزءًا من الحديث؛ لتنقل بينهم فكرة من الأفكار.» كلا، لا تُحدِّد نفسك بأوضاع المعاجم، فلِلألفاظ مَهمَّة أخرى غير هذه التي يُعرِّفها لنا المعجم، بل ليس ما يُعرِّف به المعجم «اللفظ» إلا أقل جوانب اللفظ شأنًا؛ فمن ألفاظ اللغة طائفة قليلة جدًّا مَهمتها أن تنقل الأفكار بين الناس، ثم تقِف عند هذا الحد لا تعدُوه، فالكثرة الغالبة من الألفاظ مُثقَلة بأشياء غير الفكرة التي تحملها، مُثقَلة إلى جانب الأفكار بما لا يقع تحت حصر من المَشاعر والصور. خُذ لذلك مثلًا لفظة «أم»، فهي عند المعجم دالة على فكرة مُجرَّدة لوالدة مُجرَّدة، لا تستطيع أن تُصوِّرها لنفسك في «أم» من لحم ودم، فتقِف إزاء المعنى المعجمي جامد العاطفة بارد الشعور؛ لأنه لا يُعطيك إلا شبحًا خافتًا لأُم تصلح لكل إنسان، وهي لهذا نفسه لا تصلح أمًّا لإنسان، لكنك إذ تستخدم في حياتك الخاصة لفظ «الأم» تجده في ذهنك كائنًا حيًّا، وترى هذا الهيكل الجامد البارد الذي قدَّمه إليك المعجم منذ حين قد انتفض في قلبك نابضًا يتدفق عاطفةً ويفيض شعورًا، «ففكرة» الأم لم تعُد فكرة وكفى، بل نُفِثت فيها الحياة، فخُلِقت بذلك خلقًا جديدًا من العدم أو ما يُشبِه العدم. ندعُ المعجم وشأنه في تعريف الأم بالوالدة. أما أنت وأما أنا في حياتنا اليومية فالأم تعني عندنا إنسانة بعينها، تُحيط بها هالة وضَّاءة من ذكريات الطفولة، وترمز إلى ما شهدناه في أيامنا الأولى من أماكن وأحداث، وتُفيض على وجودنا وكياننا سيَّالًا دافقًا من المَشاعر الحية. هذا مثال واحد من ألفاظ اللغة بأَسرها، فهي في المعجم جُثَث هوامد وهياكل جامدة ليس بها حَراك؛ لأنها خاوية من اللحم والدم، هي رموز لأفكار. أما إن سلكنا اللفظ في الحديث فقط أضحى جزءًا حيًّا من مَجرى الحياة، أو إن شئت فقُل إنه بات قطعة من الحياة نفسها، يكسوها اللحم وتجري فيها الدماء، وما لحمها ودماؤها إلا الصور والمَشاعر التي تُحرِّكها في الأذهان وتُثيرها في حبَّات القلوب، وهذه المَشاعر وتلك الصور جزء من مَعانيها؛ لأن ذلك هو ما تعنيه بالقياس إلينا.
ولا تحسبَنَّ أننا وحدَنا قد احتكرنا لأنفسنا الحق في نفخ الحياة السارية في ألفاظ اللغة بما ندسُّه فيها من تجارب حياتنا؛ فقد تداول أسلافنا هذه الألفاظ، وكان كل إنسان في كل مرة يستخدم فيها لفظًا من الألفاظ، يبثُّ في ثناياها شيئًا من المعنى، فكلما أمعنَت الكلمة في القِدَم، أو كلما ازدادت الكلمة تداوُلًا، كانت أثقل شحنةً بتجارب الناس في حيواتهم، أو بعبارة أخرى كانت أملًا بحياة الذين اتخذوها أداة للتعبير عما في نفوسهم. هكذا تُفعَم اللفظة بالحياة كما عاشها الناس، تتداولها الأجيال المُتعاقِبة، فيُقطِّر فيها كل جيل تجاربه الخاصة من حياته الخاصة، وكأنما يتخذ من الفكرة الكامنة في حنايا اللفظة مِشجَبًا يُعلِّق عليه هذه التجارب التي بثَّها إياها. أتظن —مثلًا — أن «الناقة» تعني لساكن البادية ما تعنيه لساكن الحضر؟ أكانت تُثير كلمة «الحرية» عند المصريين القدماء ما تُثيره فينا اليوم؟ أم ترى أن الألفاظ تختلف خلاءً وامتلاءً باختلاف الظروف؟ لقد كانت «الجبال» عند أهل القرن الثامن عشر من الإنجليز تعني هضبة ناهضة على صدر الأرض، يضطرب لها خط الأفق، فيضطرب في إثره قلب المُسافِر المسكين، فلا يظل على بِشره ورجائه، إذ ربما اعترضَته في طريقه فألزمته أن يُجاهِد لاهثًا في صعودها وهبوطها، لكن «الجبال» تبدَّلت عند أهل القرن التاسع عشر، فأصبحت مَحاريب الطبيعة الشامخة بأنفها إلى السماء، وباتت مَهبِط الوحي ومَلاذَ المكروب بجمالها الفتَّان، وكان «الدكتور جونسن» هو الذي طبع الكلمة في القرن الثامن عشر بطابعه، ووسَمها بمِيسم تجاربه؛ فجاءت من البشاعة بما رأيت، وكان «وردزورث» هو الذي نفث في الجبال سحرها في القرن التاسع عشر، فأصبحت بفضله مُجتلًى للفن والجمال.
فليست الفظة إذن رمزًا يُشير إلى فكرة ومعنًى فحسْب، بل هي نسيج مُتشعِّب من صور ومَشاعر أنتجَتها التجربة الإنسانية، وبُثَّت في اللفظة فزادت معناها خصبًا وحياة؛ فإن رأيت رجلًا غنيًّا بألفاظه فاعلم أنه لذلك أوسع حياةً من سواه، وإن رأيت رجلًا قديرًا على استخراج المَعاني من ألفاظها فاعلم أنه أيضًا أعمق حياةً من سواه. وأول طابعٍ يُميِّز الشاعر من سائر الناس قدرته على أن يستخرج من اللفظة المُعيَّنة عددًا من المعاني يعجز عن استخراجه سائر الناس. للألفاظ تأثير عجيب في الشاعر؛ فهي تتفجر في نفسه كأنها القنبلة المشحونة، فتُخرِج كل ما تحتويه في جوفها من صور ومَشاعر وتجارب؛ أعني أنها تنحلُّ في نفس الشاعر، فتُخرِج مكنونها الذي اختزنته على مر الدهور؛ فكل لفظة عند الشاعر مُستقِلة بوجودها مُتميِّزة بشخصيتها، تختلف عن كل لفظة أخرى في خصائصها وسماتها. ولنضرب لذلك مثالًا يُوضِّح ما نُريد: لقد روَوا أن الخنساء سمعت في عكاظ حسان بن ثابت يقول:
فقالت الخنساء في نقده: ضعَّفتَ افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟
قالت: قلتَ «لنا الجفنات» والجفنات ما دون العشر فقلَّلت العَدد، ولو قلتَ «الجفان» لكان أكثر. وقلت «الغر» والغُرة البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعًا. وقلتَ «يلمعن» واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت «يُشرِقن» لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت «بالضحى» ولو قلت «بالعشية» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا. وقلت «أسيافنا» والأسياف دون العشر، ولو قلت «سيوفنا» كان أكثر. وقلت «يقطرن» فدللت على قِلة القتال، ولو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدم. وقلت «دمًا» و«الدماء» أكثر من الدم. وفخرتَ بمن ولدتَ ولم تفتخر بمن ولدك. وهذا يدلك على الفروق الدقيقة بين الألفاظ عند الشعراء.
الشعر مُفعَم بالمعاني على نحو لا يدنو منه ضرب آخر من ضروب الانشاء؛ لأن الشاعر يُريد بالألفاظ حين يستخدمها أكبر قسط من معانيها الدفينة ومَشاعرها المخزونة. وإذا وزنتَ الألفاظ بكل محصولها من معنًى وشعور، وجدتها مُتبايِنة لا يتشابه بينها اثنان؛ لأن لكلٍّ منهما تاريخًا مرَّت به، وظروفًا نشأت فيها، وتجارب اندسَّت في حناياها، فاللفظتان المُترادِفتان تتقاربان كما يتقارب الشقيقان، ولكنهما لا تتماثلان تماثُل الأصل وصورته، والشاعر المُجيد حين يتناول المُترادِفات لا يغضُّ عن هذه الفروق مهما دقَّت؛ ومن ثَم استحال عليك أن تستبدل في القصيدة الجيِّدة لفظة بأخرى، دون أن يتغيَّر معنى القصيدة كلها. والقصيدة العصماء يُصيبها الفساد إن تغيَّرت فيها لفظة واحدة؛ لأنها نتاج شاعر عبقري عظيم، ولا يستحق الشاعر أن يرقى إلى صف العباقرة الأفذاذ إلا إن علِم عِلم الإحاطة واليقين ماذا يُريد أن يقول، وكيف يستطيع، وبأي الأدوات يستطيع أن يُعبِّر عن هذا الذي يُريد تعبيرًا دقيقًا لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن الشاعر قد يُريد أحيانًا أن يقول ما يستحيل قوله في ألفاظ، فثَم ضروب من الخيال الجامح تُحطِّم حدود الألفاظ ثم تلوذ بالفرار؛ لأن طبيعتها تأبى عليها السكينة والقرار، وهنالك من الشعراء من يشطحون بخيالهم إلى تلك الضروب الشَّموس الشَّرود، فلا يرَون من الحياة إلا جوانبها الغوامض الدِّقاق دون ألوانها المُحدَّدة الواضحة، وهم من يُطلَق عليهم في الآداب الأوروبية اسم الشعراء «الابتداعيِّين» تمييزًا لهم من فريق «الاتباعيِّين» الذين يُذعِنون بخيالهم وتفكيرهم للقيود والحدود، فهؤلاء الشعراء الابتداعيون يُريدون أن يُعبِّروا عن تجاربَ مرَّت بهم، وخواطرَ طافَت بأذهانهم، مما يستعصي على التعبير؛ لأنهم إن ساقوها في أدوات التعبير المألوفة باتَت كالتجارب والخواطر المألوفة، وهي ليست كذلك، وبديهي أنك لو جسَّمت الظل لم يعُد ظلًّا؛ لهذا ترى هؤلاء الشعر ينتقون للتعبير عما في نفوسهم ألفاظًا تُوحي بالمعاني ولا تُحدِّدها، وذلك باستخدام كلمات لم يكثر دورانها على الألسنة ولم تألفها الأسماع، فتكون غرابتها وندرتها سببًا في إبهامها وعدم تحديدها؛ لأنها عندئذٍ تكون كالوعاء المَليء بمادة مجهولة، فلا ندري — على وجه التحديد والدقة — على أي شيء يحتوي. في مثل هذه الحالات يكون للإبهام قوة أكثر مما يكون للوضوح.
وتحضرنا في هذا الصدد أمثلة من القرآن الكريم؛ ففي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسُنت في كلام قط إلا في مَوقعها منه، وهي كلمة «ضيزى» من قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى فغرابة اللفظ أشد الأشياء مُلاءمةً لهذه القسمة التي أنكرها الله تعالى على العرب. وكقوله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فههنا ليس حتمًا عليك أن تعلم المعنى الدقيق للكلمة، حتى يكون لها الوقع المنشود، بل إن قوة وقعها في النفس صادرة عن غرابتها وندرتها في الأسماع. أو انظر إلى هذه الآية الكريمة التي يُوصيك الله فيها بوالدَيك: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ تلمس قوة عجيبة في التعبير قبل أن تُمعِن النظر في حقيقة المعنى على نحو دقيق؛ فقد لا تستطيع أن تُصوِّر لنفسك جناحًا للذل تخفضه لوالدَيك، ومع ذلك فهذا الإبهام القليل في العبارة هو سرُّ إعجازها.
وهكذا أيضًا يلجأ الشعراء أحيانًا إلى اللفظ الغريب للزيادة من قوة التأثير، ولا سيما إن كانت الصورة المرسومة مما لا يألفه الناس في الحياة الجارية؛ فإذا رأيتهم يُطلِقون على الأشياء غير أسمائها فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك عبثًا، ولو أرادوا الأسماء المعروفة للأشياء لأطلقوها. على أننا يجب أن نكون في هذا على حذر؛ ففي العهود التي يضعف فيها الشعر ويقلُّ النوابغ الفحول ترى الشعراء يقصدون إلى أشياء معروفة مألوفة، لكنهم يلفُّونها في لفظ غريب فيُبهِموا الصورة ويطمسوها، وعندئذٍ تكون غرابة اللفظ ضعفًا لا قوة. يجب أن يكون الشاعر صادقًا في التعبير عن شعوره، فإن أراد شيئًا مألوفًا فليُطلِق عليه اسمه المألوف. أما إن أراد صورة فيها شيء من الغرابة لأنه أحسَّها في نفسه غريبة، فيجوز له أن يلجأ إلى اللفظ الغريب المُبهَم.
انظر مثلًا إلى هذا الذي يصف السحاب بقوله:
تُدرِك من فورك أن هذا الشاعر كاذب في شعوره، يبحث عن اللفظ أولًا ثم يترك المعنى تابعًا. والأصل أن يضطرب المعنى في ذهنه فيُخرِجه في ألفاظ، فلمْ يتسربل السحاب وشيًا من حرير مُطرَّز، وليس البرق تطريزًا، ولا الرعد ضحكًا. وكيف يكون وهو الذي ما سمعتُه يُدوِّي مرة إلا ورأيت قلوب الناس تنخلع لدَويِّه المُخيف؟ لو كان الشاعر يصف أصيلًا جميلًا هادئًا، لَجاز له أن يرى السحاب الخفيف المُنتثِر على صفحة السماء وشيًا من الحرير المُطرَّز، ولكنه يصف السماء وقد زعزعتها العاصفة القاصفة برعدها وبرقها؛ فمن كذب الشعور أن تُوحي إليه تلك الطبيعة الخشنة الغليظة بنعومة الحرير وزركشة التطريز، أو أن يُوحي له الرعد بالضحك مع أنه أدنى إلى الزمجرة الغاضبة.
وسنسوق لك من الشعر الإنجليزي أمثلة لثلاثة من الشعراء، وصفوا الكارثة التي تحل بالأُسرة حين تُعاجِل المنية عائلها في شرخ شبابه، لترى كيف يضعُف الشعر إن كذب الشعور وكيف يقوى إن صدق. يقول «تومسن» في قصيدته «الشتاء» في وصفِ راعٍ أتَت عليه العاصفة، وهو يرعى ماشيته على سفوح التلال:
فهنا يزلُّ الشاعر حين يقول عن الصغار إنهم «ينشدون مولاهم»، ولو قال «يُنادون أباهم» لكان أقرب إلى الأطفال في شعورهم؛ لأن الوالد عند الطفل «أب» وليس بمولًى. وإنك لتستدرُّ عطف القارئ على الطفل الذي حُرِم أباه إذا تكلمت بلغة الطفل وشعرت بشعوره، أكثرَ مما تستدرُّه إذا فخَّمت اللفظ وجئت بكلام لا يعرفه الأطفال. وكذلك يُخطئ الشاعر مرة ثانية حين يُطلِق على الثياب التي تعدُّها الزوجة الوفية لزوجها لفظ «الدثار»؛ لأن الزوج هنا راعٍ، والراعي يلبس الثياب المُجرَّدة، ولا تُعَد له الدُّثُر الدفيئة التي تُعَد للأغنياء المُترَفين. وعلى الجملة فإن أبيات «تومسن» لا تُشعِرك بالجو الصحيح في منزل الراعي؛ ولهذا أعوزتها الجودة حين أعوزها الصدق.
ويقول «جراي» في قصيدته المشهورة «مرثية في فناء كنيسة ريفية» التي نظمها بين عامَي ١٧٤٢–١٧٥٠م، في معنًى كهذا ما يلي، والضمير في الأبيات عائد على الراقدِين في أجداثهم في فناء الكنيسة التي وقف فيها الشاعر راثيًا:
وفي هذه الأبيات ترى صورة الزوجة مُنكبَّةً تُتِم أعمالها قبل عودة زوجها، أصدقَ وأكثر تحديدًا من صورة الزوجة عند «تومسن» تعدُّ «الدثار دفيئًا»، وكذلك صورة الأطفال يُسرِعون نحو أبيهم وهم يلثغون في الترحيب به، أقربُ إلى الوضوح من الأطفال عند «تومسن»، ولكن «جراي» يُضخِّم اللفظ في غير موضع للتضخيم حين يُسمِّي الأب مولًى، فيُخطئ هنا كما أخطأ تومسن.
ويُصوِّر «كولنز» صورة شبيهة بهذه أيضًا في قصيدة له عنوانها «نشيد في الخرافات الشائعة»، إذ يرسم لنا حالة الأُسرة وقد أُغرِق في اليم عائلها:
فهنا تُحِس كأنما امتزج الشاعر بهذه الأُسرة الحزينة وأُشرِب شعورها؛ فهو لا يُصوِّر مأساتها وهو واقف على مَبعدة منها يرقب ويصف، بل يحيا في هذه المأساة نفسها مع أفراد الأسرة المنكوبة. انظر كيف أقلقه قلق الزوجة، وراح يُصوِّر من المنظر ما يُعين على أداء غرضه الذي يهدف إليه، ولا ينحرف إلى سواه، فكل سطرٍ يُضيف إلى صورة المأساة خطوة حتى تتكامل، ويضيع الرجاء حين يُقبِل المساء، ويجتمع الأطفال خلف باب الدار ينتظرون أبًا لن يعود؛ فالباب الذي لن ينفتح لأبيهم الغائب أبعثُ على الحزن من القُبلة التي يرجونها من أبيهم في وصف «جراي». كل سطر في هذه القصة دالٌّ على خيبة الرجاء، وباعث على مُشارِكة الزوجة وبَنيها وجدانهم وأحزانهم.
كيف استفاد في أداء معناه من هذه الحقيقة الرياضية التي تُوفِّي المعنى كاملًا، ولا تعتمد على عواطف الإنسان ومشاعره في قليل ولا كثير؛ إذ يتخيل الشاعر نفسه غلامًا صغيرًا وقف في السوق يتطلع في شوق شديد إلى أشياء لا يستطيع شراءها، فلما أن شبَّ رجلًا وامتلأ كيسه بالنقود والأشياء ما زالت في السوق معروضة كما كانت أيام طفولته، فقدَ الشهية التي كانت له وهو غلام. ويختم القصيدة بهذه الرباعية التي يُقابِل فيها نقص الإنسان وانعدام الرضا في نفسه بما يُشاهِد في الطبيعة الخارجية من ثبات في الحقائق لا يتغير:
فما رأيك في هذه الحقيقة العارية الباردة وقد وُضِعت هذا الموضع؟ أليست تُحرِّك فيك الإشفاق على هذا الإنسان الذي يتقلب ويتغير وسط عالم ثابت؟
القصيدة الجيدة من الشعر — إذن — هي ما يستخدم فيها الشاعر الألفاظ بحيث تُؤدِّي معانيها كاملة، والشاعر الحق هو من تميَّز عن سائر الناس بإدراكه لما للألفاظ من قوة؛ أي بإدراكه لما في ثناياها من معانٍ تجمَّعت فيها خلال العصور؛ فالكلمة عند الشاعر لا تُفسَّر بالعقل وحده، لكنها تُفسَّر كذلك بالقلب والخيال؛ فإذا ما تردَّدت لفظة في ذهنه كان لها أصداء مُدوِّية في دخيلة نفسه؛ لأنها تسكب مكنونها كله فيسري في كيانه، ويكشف لخياله في سريانه هذا مَناظر الماضي وذكرياته، فيستعيد المشاعر التي كانت هذه الألفاظ قد أثارتها في أنفُس الناس في شتَّى تجارب الحياة؛ فاللفظة الواحدة على هذا النحو قد تسكب في نفس الشاعر من الصور المُتلاحِقة ما يملأ قصيدة كاملة. خُذ هذه القصيدة التي أنشأها أمير الشعراء في إنجلترا اليوم (مستر ميسفيلد) وعنوانها «حمولة السفن»، وما أظن هاتَين اللفظتَين تُثيران في نفسك أو في نفسي إلا أتفه الصور وأبرد المعاني؛ فهما قد تستدعيان إلى ذهنك وذهني صورة السفينة وقد حملت الأثقال فوق ظهرها، وقد نُمعِن في التقصي فنشمُّ خلال الكلمتَين رائحة البحر، ونتعقَّب البضائع المُحمَّلة إلى قواعدها عَبر البحار، لكن انظر كم سكبت اللفظة في نفس الشاعر من صور ومعانٍ! لقد أخرج من «الحمولة» قصيدة بأَسرها من أجود الشعر، لا يعتمد أن يسوق فيها فكرة أو يُضمِّنها رأيًا، بل يكتفي بالنظر إلى السفينة المُحمَّلة ثم يترك لشعوره العنان. هو في هذه القصيدة لا يفعل شيئًا سوى أن يترك لفظ «الحمولة» يُفرِغ شحنته في رأسه، وما عليه بعد ذلك إلا أن يُخرِج الصور التي كانت كامنة في اللفظ وانسكبت في نفسه، وتستطيع وأنت تقرأ القصيدة أن ترى الصور تتداعى واحدةً في إثر واحدة، كأن اللفظة شريط ملفوف ينحلُّ وينبسط أمام عينَيك شيئًا فشيئًا؛ حمولة، سفينة، أنواع السفن واحدة بعد أخرى، السفينة الثقيلة القديمة ذات المجاديف الخمسة، السفينة الخفيفة التي استُعملت في معارك البحر، السفينة التي تحمل اليوم تجارة العالم وصناعته وهكذا. وفي كل مرحلة من هذه الحلقات المُتتابِعة تنشأ في ذهن الشاعر صور فيُعمِل فيها فنَّه؛ هذه يُثبِتها وتلك يمحوها. فلما وردت على ذهنه السفينة القديمة ذات المجاديف الخمسة، تلاحقت الصور كما يلي: نينوى، أوفير، ميناء، فلسطين، عاج … إلخ. حتى إذا ما أتم القصيدة كانت «الحمولة» قد أفرغت ثلاثة عصور مُتبايِنة من عصور التاريخ، فأعادت له عصر سليمان بكل مَجده وجلاله، وعصر اليصابات بما فيه من مُغامَرات وحروب في البحر، والعصر الحديث بسفنه التي تجوب البحار بتجارتها وصناعتها، كل هذه الصور وغيرها كانت مُندَسة في لفائف اللفظة الواحدة «حمولة»، وما إن أدارها الشاعر في ذهنه حتى تفجَّرت مكنوناتها وازدحمت صورها في نفسه، فأحسَّ ما أحسَّه العالم في عهوده الماضية. وإذن فهو مُؤرِّخ بمعنى الكلمة الصحيح؛ لأنه يستثير كوامن الماضي في نفسه، أو إن شئت فقُل إن الماضي يُبعَث إلى الحياة من جديد في نفس الشاعر، بعثًا على سبيل الحقيقة لا المجاز؛ لأنه سيعود حيًّا في وعيه وقلبه وشعوره، ولا يظل معروضًا — كما يُعرَض في كتب التاريخ — في جمود القواقع الجافة التي تُشير إلى ما كان فيها من حياة، دون أن تكون هي الحياة نفسها. على هذا النحو تُفرِغ الألفاظ ما أودَعه الماضي في جوفها، كأنها تفعل ذلك بفعل السحر. ولعلك قد رأيت في المثال السابق كيف أتم الشاعر قصيدته على غير وعي منه؛ فهو وإن يكُن مُتيقِّظًا يُوجِّه عملية «التفريغ» — تفريغ الصور من اللفظة — إلى حيث يُريد، فيُقرِّر أي الأضابير يُحَل ويُفرَغ، وأيها يُنحَّى ولا يُؤذَن له بموضع في السياق، إلا أنه يقِف من اللفظة موقفًا قابلًا لا فاعلًا، فيدعها تتمخض عما شاءت من المعاني والذكريات حتى تكمل القصيدة كلها. وهو إذ يستعرض في القصيدة أنواع السفن الثلاثة، ويدع كل نوع منها يستدعي إلى ذهنه سلسلة من الخواطر والذكريات، وينتهي به الأمر إلى تصوير ثلاثة عصور من التاريخ؛ لا يُوازِن بين الحياة في هذه العصور المختلفة، ولا يزن كلًّا منها بما يراه له من قيمة وقدر، بل يكتفي بأن يبسط تجربة حيَّة من كل عصر، وللقارئ أن يتخذ من هذه التجربة التي يبسطها له الشاعر تجربة كسائر ما تمدُّه به الحياة من تجارب، ثم له أن يجعلها موضعًا لتفكيره وتأمله، فتكون له مادة يُكوِّن منها في النهاية فلسفته الخاصة به. أما الشاعر فلا يُقدِّم له رأيًا ولا فلسفة، ويكتفي باسترجاع العناصر الحيوية التي طبعت «حمولة السفن» في الأعصر السوالف بطابعها. فأول ما يُطلَب من الشاعر أن يحيا في تجارب الماضي حياة جديدة، باستخراج ما تُكِنه الألفاظ من تلك التجارب.
يُقدِّم الشاعر بهذه الأبيات الأربعة لما يُريد أن يسوقه في قصيدته، وهي غاية في بساطة المعنى، لا تعقيد فيها ولا التواء، ولا يُريد بها الشاعر غير أن يُثبِت حادثةً رآها، ولكنك رغم بساطتها تُلاحِظ أن الشاعر مسحور بشيءٍ رآه، وهو يخشى بهذه الفتنة البادية أن يُفسِدها عليه سائرٌ ينهب الأرض بسرعته، فيهمس في إشفاق: «قِف ها هنا، أو امضِ هادئًا»؛ ليدوم له هذا السحر الذي أخذ يستغرق فيه. فما مبعث الفتنة في نفس الشاعر المأخوذ؟ أهو منظر الفتاة تجمع الحصاد أم صوتها تُغنِّي؟ قد تكون الفتنة منهما معًا، لكنها فتنة الصوت قبل كل شيء، ذلك ما يُبيِّنه البيت التالي؛ فهي تُغنِّي «نغمًا حزينًا»، هي تغني «نغمًا» لا «أغنية»؛ فألفاظ غنائها قد انبهمت مع البعد فلمْ يبلغ أُذُن السامع إلا طلاوة الموسيقى وحلاوة «النغم»، ولكن هذا النغم قد مثَّل الأعاجيب المعجزة.
وفي هذا القول أول إشارة تدل على الفتنة الغامضة المُلغِزة التي احتوت الشاعر في موقفه، ولم يصِف «وردزورث» واديه — الذي يفصل بينه وبين الفتاة في حقلها — بالعمق لهوًا وعبثًا، لكنه يُريدك على أن تتصور هذا العمق وقد امتلأت جنباته بسحر الغناء. إن الوادي وقد ملأه المصوت الشجي، قد تبدَّى في عين الشاعر واديًا جديدًا غير الوادي المعهود، فصوت النغم قد سما بطبيعة المُنصِت حتى أرهف حسَّه وشعوره، وهو ينظر بهذا الحس الذي أرهفه الصوت وبدَّل من طبيعته، فإذا هو بالمنظر الطبيعي أمامه قد أصابه التحوُّل، فبات في عينه واديًا غير الوادي.
لكن «وردزورث» يشعر أنه لم يُوفِّ تأثُّره تعبيرًا وإفصاحًا، فلا يزال في نفسه أكثر مما أعرب عنه. إنه لم يُعطِ السامع صورة كاملة للرهبة المُفاجِئة التي فعلت في نفسه فعلها، فسمَت بها عن طبيعتها. إنه لم يفعل بعد سوى أن أشار إلى ما أحسَّه تلميحًا، وهو الآن في سبيله إلى التعبير الوافي عما أحسَّ إذ أنصَت إلى صوت هذه الحاصدة، ولكن أثر النغم في نفسه — كما كان في حقيقته — من الإلغاز والغموض بحيث يستحيل عليه أن يصفه وصفًا مباشرًا، وكل ما يستطيعه إزاءه أن يذكُر لك أشباهًا له قد تُوحي إليك بطبيعته؛ ولهذا تراه يستحضر في ذهنه أصواتًا أخرى في ظروف أخرى يجوز لها أن تُحدِث في نفس السامع أثرًا كالذي أحدثه صوت الحاصدة وهي تُغنِّي؛ فيذكُر لك صوت البلبل وهو يُهدهِد آذان المُسافِرين في القفر الفسيح وقد هدَّهم النصَب، فناموا بفعل النغم، وعمُق بهم النعاس، حتى فقدَت مَسامعهم إحساسها. هذا صوت قد يكون له من الأثر مثل ما أحسه «وردزورث» حين طرقَت مِسمعَيه نغمة الحاصدة، ومع ذلك فالصوتان لا يتشابهان إلا في تسلُّلهما إلى حبَّات القلوب، ثم يبقى بعد ذلك لنغمة الفتاة هِزَّتها؛ لذلك تراه بعد أن يقول:
يُعقِّب بهذه الأبيات:
ففي الصورة الثانية توسعة للصورة الأولى؛ إذ تُضيف إليها اهتزاز النفس حين يُدوِّي صوت الوقواق بغتةً، فيشقُّ سكونًا رهيبًا يملأ الفضاء، والصورتان معًا تتعاونان على بيان ما أحسَّه الشاعر من فتنة لصوت الحاصدة المُغنِّية في عزلتها وهي تجمع الحصاد، لكن هاتَين الصورتَين لم تقِفا عند حد التعبير عن إحساس الشاعر، بل أحدثتا أثرًا وراء الغاية التي من أجلها سِيقتا في القصيدة؛ فالشاعر إذ رأى هذه المناظر أمام عينَيه قوية ناصعة ناضبة بالحياة، وترجم إحساسه بها في كلمات؛ دفعته قوة الكلمات دفعًا حتى جاوزت به الغاية التي قصد إليها من قصيدته؛ فاقرأ الأبيات السالفة مرة أخرى، والحظْ فيها، فضلًا عن مَواضع التشابه بين هذه المناظر التي ساقها الشاعر وبين ما أحاط بالفتاة الحاصدة من ظروف، مواضعَ شَبه أخرى أدَق وألطف، تسلَّلت في سياق القصيدة فأكسبتها جوًّا جديدًا مُشبَعًا بالعزلة وروح الكآبة الحزينة؛ فهو إذ يذكر — عامدًا أو غير عامد — صحراء العرب المُوحِشة وبحار الهبريد القصية المُنعزِلة، قد أطلقَنا معه نسبح في طول البلاد وعرضها، ونجمع في تحوامنا لمحاتٍ دقيقة عما تحمله الأرض فوق سطحها من ألوان العناء والهم، وكأن الهم والعناء من لوازم الحياة الدنيا، وبغيرهما لا تكون حياة؛ فها أنت ذا مع الشاعر وسط الفيافي القفر التي تمتد ما امتد البصر، حيث المسافرون قد هدَّهم الإعياء فرقدوا عند الفيء يُهدهِدهم تغريد البلبل، حتى أطبق عليهم نعاس عميق لا يزول عنهم إلا مع الصبح، فينهضوا من نومهم وقد ازدادوا إحساسًا بعزلتهم في تلك الفلاة، ثم ينتقل بك الشاعر من ذلك اليَباب البَلقَع إلى حيث بطاح البحر قد امتدَّت آفاقها، وهنالك يغشاك إحساس رهيب بسكون الأغوار العميقة الدكناء، وإن المنظر ليزداد في نفسك رهبةً حين يُدوِّي في جنباته بغتةً صوتٌ تُوحي نغمته بالطرب وإشراق الربيع وبهجة الحياة، لكن أصداء الصوت تمَّحي فوق سطح الماء، ويظل كل شيء كما كان، بل إن صرخة الوقواق نفسها تُصبِح في الأُذن صوتًا يُؤذِن بعبث الحياة، ونبرةً حزينة تنمُّ عما تنطوي عليه الدنيا من هموم مُضنِية، ويثقل في عينك منظر الطبيعة بما تستشفُّه في صميم الكون من بؤس وشقاء، ثم يعود العقل بعد سبحاته الطويلة مع الشاعر في أنحاء الأرض، يعود إلى صوت الحاصدة وهي تُغنِّي في عزلتها، فيستمع إليها وقد تملَّكه هذا الإحساس الحزين الكئيب من رحلته فوق الصحراء وأمواه المحيط، هو يستمع الآن إلى نغمتها الحزينة وكأنها احتوت في نبراتها كل ما في الكون من وحشة وانفراد، وتجيء المقطوعة التالية في القصيدة، فتُتمِّم المعنى الذي أحسَّه الشاعر:
ها هنا يعود الشاعر فيُثير فيك الرهبة برحلة طويلة أخرى، لكنه هذه المرة لا يرتحل معك في أنحاء المكان، بل يذهب بك قافلًا على مَدى الزمان؛ فالماضي السحيق الشقي القديم قد ترك نغمته المُرة الحزينة، وإذا ما عدتَ تُنصِت إلى نغمة الحاصدة وهي تُغنِّي، فلا يسعك إلا أن تُثقِلها بهذا الحزن الجديد الذي اجتلبته معك بعد رحلتك مع الشاعر في الزمان. إن أغنية الحاصدة المُنعزِلة في حقلها لم تعُد أغنية فتاة ريفية تجمع حصادها، بل باتت لحنًا يُعبِّر عما في الكون من همٍّ وأسًى. إنه يُعبِّر عما تنطوي عليه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وبهذا كله لم يصنع «وردزورث» أكثر مما يصنعه كل شاعر عظيم، لكنه يعود بهذه المقطوعة الآتية، فيتفرَّد دون سائر الشعراء:
فبعد أن صنع «وردزورث» ما يصنعه كبار الشعراء، بأن سما بأغنية الفتاة حتى جعله لحنًا كونيًّا يُعبِّر عن صوت العالم بأَسره، ويجري بأعمق ما هدَّ قلوب البشر من أحزان، يعود بطريقةٍ نعهدها فيه وحده دون سائر الشعراء، فيردُّ الأغنية من جديد إلى قلب الفتاة النكرة التي لا نعرف منها حتى اسمها، والتي لم تكُن منذ عهد قريب سوى حاصدة مُنفرِدة في حقلها، مُنهمِكة في عملها اليومي المألوف، لكن الفتاة يستحيل أن تعود إلى ما كانت عليه بساطةً وقِلةَ شأن، فقد تجسَّدت فيها أخطر جوانب الحياة؛ وإذن فهذه القصيدة في صميمها تقويم جديد لقِيَم الإنسان، وأسلوب جديد في النظر إلى الإنسان والطبيعة، وإحساس جديد بقيمة الحياة البشرية. إنها كشف لعالم جديد تسوده القِيَم الروحية، فيُصبِح فيه الحقير التافه وقد اكتسب قيمة عالمية كبرى. إنها نبوءة بروح الديمقراطية، وسبقٌ للحوادث التي ستتمخض عنها الأيام. فوردزورث في قصيدته هذه يكشف عن تجربة جديدة؛ فلمْ يرَ أحد قبله ما رآه، ولم يسمع أحد قبله ما سمعه، ولم يُحِس أحد قبله ما أحسَّه، حين طرقت مِسمعَيه أغنية «الحاصدة المنفردة».
كل قصيدة كبرى هي كشفٌ جديد وتنبُّؤ وتسلُّف لحوادث المستقبل وروحه. القصيدة الجيدة تكشف عن آفاق من التجربة الروحية لم يُسبَق إليها الشاعر، فالشاعر كشَّاف رائد في دولة الروح. وإذا ما قرأت القصيدة العصماء كنت بمثابة من يُمارِس تجارب جديدة في عالم الروح، تهتز لها نفسك اهتزازًا لا يقلُّ في قوته عن اهتزازها إذا ما أقبل رحالة على إقليم جديد، ووقع بصره فيه على عالم لا عهد له به. تقرأ للشاعر العظيم فكأنك تُتابِعه في ذلك العالم الروحي الذي كشف عنه الغطاء، وتحيا في التجارب التي أحسَّها في رحلته التي كشف فيها عن ذلك العالم. والعجيب أن الشاعر لا يكشف لنا الغطاء عن عوالم الروح وكفى، بل يزيد على ذلك أنه يُجهِّزنا بملكاتٍ نستطيع بها أن نفهم ونتشرب تلك العوالم، بحيث يُصبِح جزءًا منا يجري في دمائنا. فما جهِل الإنسان قطُّ وجود زهرة الأقحوان، يراها في الحقول في غُدُوه ورَواحه، ولكن عينه لم ترَ فيها قط ما أصبحت تراه فيها بعد أن هداها وردزورث بشعره في الأقحوان. فلئن عجز الإنسان أن يُضيف إلى عالم المادة ذرة واحدة، فقد عوَّضه الله عن هذا العجز خير العِوَض، إذ أتاح له أن يُوسِّع لنفسه من عالم الروح كيف شاء.
وتلك هي المَهمَّة الكبرى التي على الشعر أن يُؤدِّيها؛ فكل واجبه أن يُوسِّع من قدرة الإنسان على أن يُمارِس في عالم الروح ما لم يُمارِسه في عالم المادة، فكل قصيدة تُجسِّد تجربة مُعيَّنةً صادفت شاعرًا مُعيَّنًا، فلما تبلورت التجربة في وعي الشاعر واستقرَّت في ألفاظ، كان في مقدور القارئ أن يُعيد في نفسه تلك التجربة بذاتها التي صادفت الشاعر في حياته، ومعنى ذلك أن القارئ يستطيع أن يمرُّ خلال الحالة النفسية والشعورية التي مرَّ بها الشاعر، فيحياها من جديد بفضل ما تمتاز به الألفاظ من خصائص، وما الألفاظ هنا إلا بَلوَرات صغيرة تجسَّدت فيها تلك الحالة النفسية الشعورية، وخصائصها العجيبة التي امتازت بها قدرتها على أن تتحلل من تلقاء نفسها في عقل القارئ، فتُخرِج ما دُس فيها من عناصر الفكر والشعور. وفن قراءة الشعر هو الفن الذي يُعين الألفاظ على أداء هذه العملية في ذهن قارئها، عملية التحلُّل إلى عناصرها المكونة لها. فن قراءة الشعر هو فن تنفُذ به إلى معاني الألفاظ كاملة، فلا تكتفي بمعانيها السطحية العامة، بل تستخرج من أجوافها كل الصور والمشاعر التي ترتبط بمعانيها. لو أخرجت من ألفاظ القصيدة محصولها المكنون، ونقشتها في ذهنك نقشًا يُفرِز عناصرها ومُقوِّماتها، ويُحلِّل كيانها؛ فقد قرأت القصيدة قراءة صحيحة. وطبيعيٌّ أن يختلف الناس اختلافًا بيِّنًا في القدرة على استخراج مكنون الألفاظ من معانٍ ومشاعر وصور؛ فكلما ازددتَ معرفةً بالحياة والعالم ازددت قدرةً على تعمق الألفاظ واستخراج ما في أحشائها من معنًى مُدخَّر. تقرأ — مثلًا — هذه الأبيات لأبي نواس يصف الخمر وهي تُدار في كئوس من الذهب عليها تصاوير:
فلا تفهم كل ما في الأبيات من معنًى إذا لم تكُن قد علمت من تجارب حياتك ومن دراساتك ما الراح، وكيف تكون في كأس عسجدية، وما التصاوير الفارسية، ومن كسرى الذي رُسِمت صورته في قرارة الكأس، وكيف يدَّرئ الفوارس المَها بأقواسهم لتتخيل الصورة التي رُسِمت في جنبات الكأس، ثم لا بد لك أن تعلم من صور فارسية رأيتها أو وُصِفت لك في شكل الثياب الفارسية والقلانس؛ لتتكوَّن في ذهنك صورة حيَّة عن مَزيج الخمر بالماء في الكأس، إذ يقول الشاعر إن الخمر في الكأس بلغت جيوب الثياب التي في التصاوير، وكمية الماء تبدأ من الجيوب وتنتهي عند القلانس؛ فكلما ازددت بهذه الأشياء علمًا ازددت قدرةً على استكناه الألفاظ واستخراج الصور المُرادة حية ناصعة. وكذلك وردت في الشعر ألفاظٌ تردَّدت على ألسنة الشعراء، فاكتسبت طعمًا خاصًّا لا يتذوَّقه إلا من أدمَن قراءة الشعر، كلفظة «المها» التي وردت في الأبيات السالفة — مثلًا — فليس يكفيك لفهمها أن تفتح المعجم لتعلم أنها الظباء، بل لا بد أن تُحاط في ذهنك بكل ما أحاطها به الشعراء من هالةٍ تفيض غزلًا واستحسانًا، لكن هذه وأمثالها صعاب قليلة لا تحول دون قراءتك للشعر واستمتاعك به؛ فمُعظَم الفحول من شعراء العالم أجمع يبثُّون في ألفاظهم وقصائدهم من المعاني ما يكفي رجلًا مارَس الحياة وحدَها وعرف حلوها ومرها، ولو لم يكُن له من الثقافة المُستمَدة من الدراسة وقراءة الكتب إلا قليل؛ فقصيدة «الحاصدة المنفردة» التي أسلفنا لك تحليلها لا تحتاج في فهمها وتذوُّقها إلى علم وقراءة واسعة، فحسْبُ قارئها إلمامٌ ضئيل بحقائق الجغرافيا، فيعرف صحراء العرب وجزائر الهبريد ومحيطها، ليُتابِع الشاعر في قصيدته، وكل ما تحتاج من عُدة لتستمرئ شعرًا كهذا هو القدرة على الشعور؛ لأن القوة الشعرية في ألفاظ هذه القصيدة مُستمَدة في الأعم الأغلب من عناصرها الشعورية والعاطفية، لا من معانيها المكسوبة بالتعلُّم وقراءة الكتب، والكلمات الشائعة البسيطة أملأُ — في كثير من الأحيان — بهذه العناصر الشعورية والعاطفية، من الكلمات الغريبة التي تحتاج في تحصيلها إلى دراسة ومُطالَعة. وقد رأيت فيما أسلفناه من مقطوعات شعريةٍ تناوَلناها بالتحليل والمُقارَنة أن كلمة «أب» فيها من الشعور والعاطفة أضعاف ما في كلمة «مولًى» على ألسنة الصغار.
اقرأ هذه المقطوعة مُسرِعًا، يتبادر إلى ذهنك أن بيتَيها الأخيرَين ضربٌ من القياس المنطقي، وكأن الشاعر يُريد بهما أن يقول إنه ما دام الله في سمائه فالنتيجة أن كل ما في الدنيا بخير، والدليل هو هذه الأمثلة المطروحة: ريعان الربيع وإشراق الصبح ولآلئ الندى … إلخ، ولو كان الأمر كذلك لكان الشاعر فيلسوفًا يُدبِّر عقله في الأمور، ويضع المُقدِّمات وينتزع النتائج، وهنا يتعرض الشاعر لنقدك إن كنت من أصحاب الجدل المنطقي، فستقول إن في هذا القياس مُغالَطةً لأن النتيجة لا تلزم عن مُقدِّماتها؛ فقد يكون الله في سمائه ولا يكون كل ما في الدنيا بخير. لكن «براوننج» في قوله هذا شاعر وليس بالفيلسوف الذي يقرع بالحجة والدليل، ولو أجرى فلسفة على لسان هذه الفتاة الصغيرة العاملة المنهوكة المُتعَبة لما استحقَّ أن يكون شاعرًا؛ فهي في يوم عطلتها أسرعت إلى التل عند شروق الشمس، وراحت في مرحها وجذلها تنقل عينها هنا وهناك؛ لتنهب بهما مجالِي الجمال نهبًا، فما وسِعها إلا أن تُغنِّي من فرط السرور: «العام من الربيع في ريعانه، واليوم من الإشراق في إصباحه، والصبح في ساعته السابعة، وسفح التلال مرصع بلآلئ الندى، والقبرة في طيرانها سابحة، والدودة البزاقة على الأرض زاحفة. الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير.» وكل هذه أشياء أدركتها بعينَيها إدراكًا مُباشِرًا، ولم تستدلَّ على وجودها بقياس العقل والمنطق. هي لا تقول: «إنه الربيع»، لكنها تقول: «العام من الربيع في ريعانه»، كأنما هي في اللحظة الواحدة التي يتمُّ فيها ازدهار الربيع ويكمل، وكل ما في الأرض والسماء والماء والهواء ناطق بأن الربيع في ريعانه. وما البيتان الأخيران «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا من قبيل هذه المُشاهَدات المُباشِرة التي تراها بعينَيها فيما حولها. إنها ترى الله في سمائه كما ترى لآلئ الندى على سفح التل، والقُبَّرة في طيرانها سابحة؛ فإن أردت أن تقرأ أغنية هذه الفتاة، كان لزامًا عليك أن تشعر بشعورها، وتنظر إلى الأشياء بعينَيها لا بعينَيك، فتتأثر بكل القوة التي تأثَّرت بها حين استجابت لازدهار الربيع وطيران القُبَّرة. وإن لم تُحِس ما أحسَّته «ببا» في نشوتها وهي تُجيل بصرها في جوانب الطبيعة حولها، فليس لقراءة الشعر عندك من غَناء، وليس من الخطر في شيء أن تعود — وقد فرغت من قراءة القصيدة — إلى أفكارك العالية التي لا تُدرِكها فتاة ريفية مثل «ببا»، فلك أن تستعيد كل آرائك ونظراتك السابقة بعد فراغك من القصيدة، فلِتلك الآراء والنظرات كل الحق في أن تقِف في ذهنك إلى جانب هذه النظرة الجديدة الساذجة التي أحسَستَها حين شاركتَ «ببا» وجدانها، لك أن تستعرض تلك النظرات السابقة وهذه النظرة الجديدة قبل أن تُكوِّن عن الحياة فلسفتك الخاصة بك، وقد تصل في تلك الفلسفة إلى نتيجةٍ تختلف عما شعرَت به ببا، ورغم ذلك كله فأغنية الفتاة لا تقلُّ في صدقها قِيدَ أنملة. هي صادقة بالنسبة إلى الفتاة وبالنسبة إلى اللحظة الزمنية التي قِيلت فيها. هي تعبير صادق أمين عما دار في نفسها، ويستحيل على قارئ الأغنية أن يُوقِن بصدقها إلا إذا قرأها باذلًا كل ما يستطيع من جهد وعناية في الوقوف عند ألفاظها لفظةً لفظة، يستخرج كل ما فيها من مخزون الشعور، ولا تُغرينَّه سهولتها، وإلا أفلت منه لبُّها وجوهرها.
سرُّ الفن في قراءة الأدب واستساغته مُتوقِّف على شيء واحد، هو فن استخراج المعاني من ألفاظها، بحيث تُخرِج منها كل مخزونها. وقراءة القصيدة من الشعر ليست عملية نقدية عقلية، فلك أن تُعمِل فيها عقلك ونقدك على أن يكون لذلك المحل الثاني. ولئن جاز لك أن تقرأ القصيدة لتنقدها بعقلك بعد أن تقرأها لتُحِس ما فيها من مشاعر، فلا يجوز لك قطعًا أن تقرأ قصيدة لتحكم على آراء الشاعر بالصواب أو بالخطأ. إن أردت القصيدة لفنها فليس الشاعر فيلسوفًا يبسط رأيًا يحتمل الصدق والكذب، لكنه شاعر يُحِس، وله كل الحق في أن يُحِس كما يشاء. قراءة الشعر عمل فيه شيء من الخلق والإبداع، فيه هضم لما تقرأ، فلمْ تقرأ شعرًا إذا لم تتثمل ما فيه من مشاعر وتجارب؛ إذ القصيدة من الشعر تعبير عن تجربةٍ مارَسها الشاعر، هي سلسلة من المشاعر والمناظر والأفكار، تتولَّد في ذهن الشاعر عن موقف بعينه، ثم تُودَع في قوارير الألفاظ لتبقى أبدَ الدهر مُتعةً لمن شاء أن يفتح هذه القوارير، ويستخرج منها ما استُودِعَته؛ فلِكَي تقرأ القصيدة من الشعر لا بد لك أن تتناول هذه القوارير اللفظية واحدةً بعد واحدة، فتُفرِغها في شعورك وتتثمل ما أفرغته في دمائك، وليس من اليسير أن تبعث إلى الحياة تجربة الشاعر التي مارَسها ومرَّ خلالها وعاشها وهو يُنشئ قصيدته، بأن تُعيد في نفسك كل ما تولَّاه من حالات نفسية ومشاعر، وكل ما طاف بذهنه من مَناظر وخواطر، هو لا شك مجهود عظيم أن تفعل ذلك، لكنه مجهود لا يقوم به العقل، وإنما يُؤدِّيه الخيال. قراءة القصيدة صورة من صور العيش، ولون من ألوان الحياة. أليست حياتنا الحقيقية سلسلة من ردود الأفعال نستجيب بها لطائفة من مُؤثِّراتٍ نُصادِفها في ظروفنا المحيطة وبيئتنا التي نعيش فيها؟ ثُم أليست هذه البيئة مُقيَّدة بما يضبط الكون من قوانين المادة؟ فإذا جاء الشاعر وخلق لنا بخياله بيئةً تحلَّلت من قيود المادة وقوانينها، أفلا يُوسِّع من نطاق بيئتنا التي نعيش فيها، ويُهيِّئ لنا بذلك الفرصة أن نستجيب لمُؤثِّرات جديدة؟ إنه يُمِدنا في شعره بتجربة لا تقف عند حد، أو بعبارة أخرى يمدُّ لنا من مجال الحياة ونطاق العيش أضعافًا مُضاعَفة، لكنك لن تظفر منه بذلك إلا إذا تناوَلت القصيدة على أنها حياةٌ ستحياها حينًا من زمانك، لا فكرةٌ ستُناقِشها بعقلك لتُميِّز فيها بين الخطأ والصواب، والجيد والرديء. اقرأها بخيالك لتتمرَّس بتجربتها أولًا، ثم اقرأها بعد ذلك — إن شئت — قراءة النقد والتمحيص. وقراءة النقد نوعان؛ نقد أدبي يسأل: إلى أي حدٍّ أجاد الشاعر في قصيدته؟ ومعنى السؤال: هل عبَّرت ألفاظ القصيدة عن تجربة الشاعر تعبيرًا حيًّا ناصعًا مكَّننا أن نُعيد الصور إلى أذهاننا حيَّةً ناصعة كما مرَّت به؟ وفي هذا النقد الأدبي لا يجوز أن تبحث أصَدق الشاعر في حكم العقل أم كذب، ولا يجوز كذلك أن تسأل أحَافظ الشاعر على قوانين الأخلاق وأوضاع العُرف أم خرج عليها؛ فالبحث في صدق التجربة أو كذبها، وفي المُحافَظة على قواعد الأخلاق أو الخروج عليها، ليس من النقد الأدبي في شيء. وإن شئت بحثًا كهذا فذلك هو الضرب الثاني من ضروب النقد؛ فليس ما يمنع أن تعود فتقرأ القصيدة للمرة الثالثة لتحكم على ما ورد فيها — كما تحكم على ما يُصادِفنا من تجارب الحياة — بالخطأ أو بالصواب، بالفضيلة أو بالرذيلة، بل لك أن تحكم عليها من أية ناحيةٍ شئت؛ اجتماعية أو سياسية أو خُلقية أو دينية، غير أن ذلك شيء والنقد الأدبي شيء آخر، ولا ينبغي أن تخلط بينهما كما يخلط لسوء الحظ مُعظَم النقاد. فلِلقصيدة إذن ثلاث قراءات؛ قراءة أُولى تُعمِل فيها الخيال لتحيا في التجربة التي مرَّت بالشاعر، وقراءة ثانية لتنقدها نقدًا أدبيًّا، والنقد الأدبي مقصور على قدرة الألفاظ التي استخدمها الشاعر على التعبير عما أراد، وقراءة ثالثة لتنقدها في معانيها وآرائها ومذاهبها إن خطأً أو صوابًا. على أننا نشترط لهذا النوع الثاني من النقد ألا يكون إلا بعد قراءة القصيدة قراءةً من النوع الأول، ليس لك أن تحكم على تجربة الشاعر بالصواب أو بالخطأ إلا إذا عشتها كما عاشها، وتمرَّست أحاسيسها كما تمرَّسها؛ ففي قصيدة «ببا ماضية» التي أسلفناها وحلَّلناها لا تستطيع أن تُقدِّر القيمة العقلية لقولها: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا إن تقمَّصت شعورها بخيالك أولًا؛ لترى بعينَيها في موقفها هل ثَمة ما يُبرِّر لها أن تحكم بذلك أو ليس هناك ما يُبرِّره. ونُحِب أن نُلاحِظ لك في هذا الموضع أن القصائد التي أضافت إلى الفكر الإنساني قسطًا أوفر إنما أضافت قسطها ذاك لا بما فيها من فكر خالص، بل بما لها من قوة الشعر. قد يقول الشاعر قصيدة دينية، فيزيد بها من ذخيرة العقيدة الدينية، مع أنها لا تسوق في تأييد تلك العقيدة حُجة عقلية واحدة، وكل ما يصنعه هو أن يُصوِّر شعوره الديني — كما يُحِسه — تصويرًا يُتيح للقارئ أن يستعيد في نفسه ذلك الشعور بعينه إذا ما قرأ القصيدة؛ وإذن فالحكم على القصيدة من الناحية العقلية مُتوقِّف على قيمتها الشعرية الخالصة. وهكذا ترى أن ألزمَ ما يلزمك في الشعر هو فن قراءته باعتباره شعرًا لا كلامًا يُساق لبسط رأي أو عقيدة. ونعود فنُكرِّر أن ذلك الفن مرهون بقدرتك على فهم الألفاظ فهمًا يستخلص لك كل ما تحتويه في جوفها من تجارب ومشاعر وخواطر ومعانٍ، كأنما هي — كما ذكرنا — قوارير مُفعَمة مُترَعة، عليك أن تُفرِغها وتتمثل ما بها. تلك هي السبيل الوحيدة إن أردت أن تتذوق الشعر بكل ضروبه؛ قصيدةً كان أو قصة أو مسرحية. ولنتناول الآن بعض الشعر بالتحليل؛ لنرى كيف يُفهَم إن فُتِّحت مَغاليق ألفاظه وانسكب ما فيها.
قال شاعر عربي في هجاء قوم هذا البيت، الذي قيل عنه إنه أهجى بيت قالته العرب:
فتكاد كل لفظة في هذا البيت تدل على الذم والهجاء؛ فكلمة «إذا» تُفيد الشرط المُؤقَّت المُعيَّن، وتدل على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا في الأوقات القليلة. وسين الاستفعال في «استنبح» تُؤذِن أن كلبهم ليس من عادته النباح، وإنما يقع منه ذلك نادرًا لقِلة الضيف. و«الأضياف» جمع قلة يُفيد عددًا أقل من العشرة؛ إذ لا يقصد هؤلاء القومَ إلا نفرٌ قليل. وتعريف الشاعر «للأضياف» بأداة التعريف إشارة إلى أنهم أضياف معهودون؛ إذ لا يقصد أولئك القومَ كلُّ ضيف لبُخلهم. واستنباح الأضياف للكلب فيه دلالة على أن الكلب لا ينبح إلا بالاستنباح؛ لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف. وقد أفرد الشاعر الكلب ولم يجعل لهم كلابًا كثيرة؛ احتقارًا لهم وتقليلًا من شأنهم. وإضافة الكلب إليهم يزيدهم احتقارًا وزِراية. وفي كلمة «قالوا» دليل على أنهم قوم بغير خادمٍ يقوم على شئونهم، وأنهم يُباشِرون حوائجهم بأنفسهم. وجعل الشاعر القول يتجه منهم مُباشَرةً لأُمهم؛ ليدل على أنه لم يكُن هناك من يخلُفها من خادمة في إطفاء النار، فأقام الأم مُقام الأَمة والخادمة في قضاء الحوائج لهم، وهم من الذلة والضعة بحيث رضوا لأُمهم هذا المَقام. وأنطقهم الشاعر بلفظ البول وهو ممجوج يدل على أنهم جفاة لا يألفون شيئًا من مكارم الأخلاق، خصوصًا وأن ذلك اللفظ مُوجَّه إلى أُمهم. وقوله «على النار» دليل على ضعف نارهم لقلة زادهم، فحسبك أن بولة واحدة من امرأة عجوز تُطفئها. واستخدم الشاعر حرف الجر «على» النار، وفي ذلك إشارة إلى أن حرف الاستعلاء مقصود؛ ليتخيل القارئ صورة بشعة مُنفِّرة، صورة الأم وقد استعلت النار، تصب عليها بولها لا تُبالي تستُّرًا. وقد لخَّص الأصمعي مَواضع الذم في هذا البيت بعبارة أوجَز، فقال: هذا البيت أهجى بيت قالته العرب؛ لأنه جمع ضروبًا من الهجاء؛ نسبهم إلى البخل لكونهم يُطفئون نارهم مَخافة الضيفان، وكونهم يبخلون بالماء فيُعوِّضون عنه البول، وكونهم يبخلون بالحطب فنارهم ضعيفة تُطفئها بولة، وكون البولة بولة عجوز وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أُمهم وذلك للؤمهم.
هذا بيت واحد يُريك في جِلاء كم تُفيد إذا أطلت الوقوف عند الألفاظ تُحلِّلها وتستخرج مضمونها ومكنونها، وبغير ذلك لا تظفر من الشعر بغير الوزن الأجوف والنغمة الخاوية. ولننتقل إلى مثال آخر، فنسير مع الدكتور طه حسين بك في سيره «مع المتنبي» وهو يقرأ له لاميته:
فعنده أن الشاعر قد أجرى في القصيدة روحًا عذبًا غريبًا ليس من اليسير وصفه ولا تصويره، ولكنك تُحِسه إحساسًا قويًّا، بل أنت تقرأ القصيدة فإذا هذا الروح يسبق ألفاظها ومعانيها إلى قلبك، ويُشيع في نفسك خفةً وطرَبًا، لا تجدهما حين تقرأ أي قصيدة أخرى من قصائد المتنبي.
«والغريب أن هذا الروح العذب الخفيف يحتفظ بعذوبته وخفته في القصيدة كلها، ولكنه مع ذلك يتخذ أشكالًا، وإن شئت فقُل يتخذ ألوانًا، وإن شئت فقُل يتخذ ألوانًا مختلفة، تتباين بتبايُن المعاني والموضوعات التي يطرُقها الشاعر في هذه القصيدة، فهو على عذوبته وخفته حزين شاحب كئيبٌ، يُثير في نفسك الحنان والرحمة والألم الهادئ، حين يتغنى الشاعر في هذا الغزل الذي بدأ به القصيدة، فإذا انتهى الشاعر إلى المدح ووصف الموقعة خلع عن هذا الروح العذب الخفيف دائمًا حزنه وشحوبه وكآبته، واتخذ ثوبًا زاهي الألوان إلى أبعد حد، يمسُّه ضوء الشمس فتضطرب ألوانه، وتتموج تموُّجًا ساحرًا، وإذا هو يغلبك على نفسك، وإذا نفسك تتموج معه كما يتموج. والشاعر يصف الحرب وصفًا دقيقًا، وكانت الحركة النشيطة السريعة أخص ما تمتاز به هذه الحرب، وهي الجرأة التي لا تسمح بمَهَل ولا أناة ولا تُبيح رويَّة ولا تفكيرًا، وإنما هي اندفاع مُتصِل إلى أمام، يزداد عنفه من وقت إلى وقت، ولا يحفِل بالمصاعب ولا يقِف عند العقاب، وإنما يقتحم كل ما يعترضه ويكتسح كل ما يلقاه، يصعد حين تعترضه الجبال، وينحدر حين ينتهي من القمة إلى السفح، ويعدو حين ينتهي إلى السهل، حركةً وجرأة هما أشبه شيء بنشوة النشوان الذي يأتي ما يأتيه عن فرح ونشاط، لا سعة فيهما لتعقُّل أو تدبُّر.»
«وكذلك فعل سيف الدولة في هذه الحرب، وقد خطرت له فجأة فاندفع إليها من «حران»، لا يلوي على شيء حتى أمعن في بلاد الروم واقتحم ملطية، فلما أراد العودة من درب أرمينية وجد الدرب قد أُخِذ عليه، وكان خليقًا أن يتدبَّر وأن يُقدِّر أنه قد أُخِذ من ورائه أيضًا، وأن يحتال في اقتحام الدرب، ولكنه أبى أن يُضيِّع الوقت، فكرَّ راجعًا في سرعة الطير، واقتحم ملطية مرة أخرى، غير مُبالٍ بما كان العدوُّ قد أعدَّ له من أمامه، وبما كان خليقًا أن يلحقه من ورائه، ثم انتهى بهذه السرعة الجريئة الغريبة إلى مخرج من بلاد الروم فسلكه، وظن الروم أنه قد انصرف عنهم، ولكنه لم يلبث أن عاد إليهم مرة أخرى، فدمَّر وخرَّب وسلب الغنائم والنفوس، ومضى حتى أدرك الفرات واقتحمه اقتحامًا على ظهور الخيل، ولم يكد ينتهي إلى آمد ويعلم بعبث الروم حول أنطاكية، حتى خفَّ وأغذَّ وأخذ الروم عند مرعش وهم قافلون فمزَّقهم تمزيقًا، وأضاف إلى ما كان عنده من الغنائم والأسرى، وأخذ ابن القائد نفسه وعاد مُظفَّرًا.»
«كان سيف الدولة نشوان قد أسكرته الحرب، فمضى فيها لا يقِف ولا يتدبر، وأُتيحَ له النصر، فإذا هذا النصر نفسه يُسكِر شاعره المتنبي، وإذا هو يُنشئ هذه القصيدة صورة دقيقة مُطابِقة كلَّ المُطابَقة للأصل الذي أراد وصفه وتصويره؛ فأنت ستُحِس حين تقرأ هذا الوصف نفس الحركة والنشاط اللذَين أحسَّهما المتنبي حين تبِع سيف الدولة في غارته الجريئة السريعة تلك، لا يكاد يطمئن ولا يستقر ولا يستريح.»
«وستمضي أنت في قراءة القصيدة كما مضى المتنبي في اتباع سيف الدولة مُندفِعًا من بيت إلى بيت، مُتنقِّلًا من مُقام إلى مُقام، صاعدًا مع الجيش حين يصعد، ومُنحدِرًا مع الجيش حين ينحدر، ودائرًا مع الجيش حين يدور حول العدُو، ثم هاجمًا على الجيش حين يهجم على العدُو. ثم إن هذا الروح العذب الخفيف — على احتفاظه بعذوبته وخفته — يخلع هذا الثوب ذا الألوان المُشرِقة المُتألِّقة إذا فرغ من هذا الوصف، ليتخذ ثوبًا آخر ليس شديد التأنُّق والإشراق، ولكنه حالكٌ بعضَ الشيء، أو قُل قاتمٌ يكاد يُمعِن في القتوم، لولا أن شيئًا من البهجة يترقرق فيه بين حين وحين، وذلك حين يلتفت الشاعر إلى ما وراء سيف الدولة من بلاد المسلمين، وإلى ما حول سيف الدولة من ملوك المسلمين، فلا يرى إلا ذلًّا وضعة، وإلا خمولًا وخمودًا، وإلا إقبالًا على اللهو وعكوفًا على اللذات، وضجيجًا وعجيجًا لا غَناء فيهما ولا طائل منهما في هذا الوقت الذي يجدُّ فيه الجِد بين سيف الدولة وعدوِّه من الروم، فإذا الظفر الذي ينتهي إلى البطولة حينًا، وإذا الهزيمة التي تنتهي إلى البطولة حينًا آخر، وإذا الثقة بالنفس، والنهوض بالواجب، والاطمئنان إلى الله على كل حال. وإذا فرغ الشاعر من هذا التعريض الحزين الفرح، خلع عن روحه العذب الخفيف ثوبه هذا، فأفاض عليه ثوبًا آخر، هو ثوب الفخر بالنفس والاعتزاز بالكفاية الشخصية والبراعة الفنية، وكأنه رضي عن قصيدته وعن فنه بعد أن سمع قصائد الشعراء الآخرين، ورأى فنونهم، وهو ساخط على هؤلاء الشعراء الذين يعجزون عن مُجاراته، ويقصُرون عن بلوغ غايته، فلا يسعهم إلا أن يسعوا به، ويكيدوا له، ويتألَّبوا عليه، وهو قد أشرف عليهم وأخذ يرمُقهم مُزدريًا لهم مُحتقِرًا لما يقولون ويفعلون. فالمتنبي يبدأ القصيدة بنفسه حزينًا مُفتخِرًا، ويختم القصيدة بنفسه مُبتهِجًا مُنتصِرًا، ويمنح أكثر القصيدة وخير ما فيها لا لسيف الدولة وحده، بل له ولجماعة المُجاهِدين معه في سبيل الله، الذائدين عن حوزة الإسلام، وحسب العرب، ولجماعات أخرى من المسلمين، لاهية عن الجِد، ساهية عن المَجد، مُنصرِفة إلى المخازي والآثام؛ فالشاعر مُغنٍّ، والشاعر مادح، والشاعر قاصٌّ، والشاعر هاجٍ، والشاعر مُفاخِر مُتحمِّس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر في هذه القصيدة التي لم تُسرِف في الطول.»
قلتُ لك إن هذه القصيدة عندي أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة من الشعر، واقرأ معي بعض أبياتها، فسترى أني لست مُسرِفًا فيما أقول:
«لماذا بدأ المتنبي قصيدته بهذا الغناء الحزين، وقد عرفناه إذا امتلأت نفسه إعجابًا ورضًا، يُعرِض عن النسيب وينصرف عن الغناء ويهجم على موضوعه هجومًا لا يبتغي إليه الوسائل، ولا يبسط بين يدَيه المُقدِّمات؟ ستقول لأنه شاعر يُريد أن يتأنَّق في فنه، وأن يُبهِر سامعِيه، وأن يُهيِّئهم لاستماع ما يقصُّ عليهم من أنباء الحرب، وما سيعرض عليهم من أوصافها، وقد يكون هذا حقًّا وما أكثر ما يفعل الشعراء هذا! وما أكثر ما يكون أحدهم مُمتلئًا بموضوعه، شاعرًا بأن الناس من حوله مُمتلئون بهذا الموضوع، ولكنه مع ذلك لا يُسرِع إليه ولا يبلغه حتى يدور إليه في أنحاء من الغناء. نعم، ولكني أرى في نفس المتنبي شيئًا آخر غير هذا التأنُّق الفني والترفُّق الذي يعمد إليه الشعراء، فيها حزنٌ دفينٌ يصدر أحيانًا عن نفس الشاعر التي لم تُدرِك من آمالها شيئًا، أو لم تكَد تُدرِك منها شيئًا، ويصدر أحيانًا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تُبلي فتُحسِن البلاء، وتُجاهِد فتُحسِن الجهاد، ولكنها حيث هي لا تتقدم خطوة، ولعلها تتأخر خطوات. هذه الحرب التي أبلى فيها سيف الدولة كأحسن ما يُبلي الأمراء المُجاهِدون، ماذا أفاد منها المسلمون؟ وماذا أفاد منها سيف الدولة؟ وماذا أفاد منها المتنبي إذا تعمَّقت الأمر ونفذت إلى حقائق الأشياء؟ المسلمون حيث هم، لم يمدُّوا حدودهم ولم يُؤمِّنوها من غارة الروم، والمسلمون حيث هم لم تصلح أحوالهم الخاصة، ولم تبرأ سياستهم الداخلية من الإغراق في الفساد، وسيف الدولة حيث هو يظفر اليوم ليستأنف الحرب غدًا، وقد ينتصر غدًا، وقد تدور عليه الدائرة، لم يأمن بأس الروم ولم يأمن مكر المُنافِسِين، والمتنبي نفسه حيث هو يمدح الأمير اليوم مُهنِّئًا كما مدحه أمس مُعزِّيًا، وقد يُهنِّئه غدًا، وقد يُعزِّيه، ولكنه سيظل شاعرًا مادحًا على كل حال، وهو مع ذلك مُحسَّد يُكادُ له ويُؤتمر به، ويُدبَّر له السوء، حياته مُتشابِهة كحياة المسلمين، وكحياة الأمير؛ وإذن فهذه الليالي المُتشابِهة في الطول، المُتشابِهة في أنها تُبدي له البدر الذي لا يُريده، وتُخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى، ويطمح إليه كل الطموح، ولا يجد إليه مع ذلك سبيلًا؛ هذه الليالي المُتشابِهة التي أمضَّته، وتثاقلت عليه لتشابُهها، لمَ لا تكون رمزًا لهذه الحياة المُتشابِهة، التي تُمِض وتُثقِل بتشابُهها؟ لماذا ننظر إلى الشعراء دائمًا كما ننظر إلى الأطفال وهم يلعبون؟ لماذا نبخل عليهم بأن نظن بهم الرجولة والبطولة أحيانًا؟ وأي صفات الناس أدنى إلى الرجولة والبطولة، وأقرب إلى حالة الفن الرفيع من هذا السأم وهذا الضيق بالتشابُه حين يتصل ويطول؟ أحقٌّ أن هذا البدر الذي تُخفيه الليالي على المتنبي هو صاحبته هذه التي يزعم أنها ظعنت عنه، وأن الأسباب قد تقطَّعت به من دونها؟»
«لِمَ لا يكون هذا البدر شيئًا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسِنة والرماح؟ لِمَ لا يكون هذا البدر رمزًا لهذه الآمال النائية وهذه الهموم البعيدة التي تاقَت إليها نفس الشاعر منذ أحسَّ الحياة، وقدر على النشاط، والتي أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها؟»
«لو أنك سالت المتنبي نفسه عن هذه الليالي المُتشابِهة في الطول والعقم، وعن هذا البدر الخفي العزيز، لما أجابك بغير ما يقول الناس؛ فهو شاعر يتغنى، وهو إنما يُجيد الغناء ويبرع فيه؛ لأنه يتغنى بما لا يُحقِّقه، ولا يُحيط به علمًا.»
«فجائزٌ بل مُرجَّحٌ أن يكون المتنبي بعيدًا كل البعد عن أن يُفكِّر في هذه المعاني التي أشَرت إليها وأفَضت فيها، ولكنه مع ذلك يتغنى هذه المعاني نفسها؛ لأنه شاعر، وأبرع الشعراء من عرض لما يفوته من مَطالب الفن، فتعلَّق بأذياله وطار في أثره، دون أن يبلغه أو ينتهي إليه.»
هكذا يجب أن تقرأ الشعر في تدبُّر وأناة، فتُتابِع الشاعر في كل ما دار بنفسه أو جال في خاطره بحيث تُمارِس تجربة نفسية مارَسها الشاعر، وتحيا حياةً عاشها الشاعر، أيًّا كانت تلك التجربة وأيًّا كانت تلك الحياة. فليس شرطًا لازمًا أن يُصوِّر لك الشاعر في قصيدته تجربة فيها المشاعر سامية، والخواطر عالية، والحياة فاضلة، والآمال كبار، بل ربما صوَّر لك الشاعر في تجربته خواطر سفَّاك للدماء، ومشاعر شرِّير خبيث، يكيد للناس ويتربص بهم الدوائر. فسواءٌ لدينا نحن قُراء الشعر أصَوَّرت القصيدة ملكًا رحيمًا أو شيطانًا رجيمًا، ما دامت الصورة ناصعة مُعبِّرة تُتيح للقارئ أن يتقمص مشاعرها كأنه انقلب ساعة القراءة ذلك الملك الرحيم بعينه أو هذا الشيطان الرجيم. نعم يصحُّ لنا أن نُؤثِر القصيدة التي تعلو بالنفس على زميلتها التي تُصوِّر الشر إن تساوَت القصيدتان في جودة التصوير، ولكننا لا نُبيح هذا التفضيل بحال من الأحوال لو أجادت الثانية أكثر مما أجادت الأولى؛ إذ القصيدة الجيدة من الوجهة الفنية — حتى وإن عالجت موضوعًا تأباه الأخلاق — خير ألف مرة من القصيدة الرديئة من الوجهة الفنية وإن عالجت الفضيلة والأخلاق الكريمة. وإنك لتجدُ من قادة النقد الأوروبي من يزعم — وربما صدقوا فيما يزعمون — أن الجودة الفنية في القصيدة أعظم شأنًا وأكثر خطرًا — حتى من الناحية الخُلقية نفسها — من موضوع القصيدة أفضيلةٌ هو أم رذيلة. فهذا رأيٌ أخذ به «شلي» الشاعر الناقد الإنجليزي الذي تُوشِك ألا تجد في تاريخ العظماء أصفى منه عقلًا، أخذ به في مقالة طويلةٍ كتبها دفاعًا عن الشعر، هي من أعظم ما جادت به قريحة، وجرت به يراعة، في الدفاع عن الشعر. وهو في هذه المقالة الرائعة يحتجُّ بأن كافة الشرور، وما يُصيب المجتمع منها بوجه أخص، إنما نشأت عن سبب رئيسي واحد، وليس ذلك السبب في أخلاقنا، ولا هو في عقولنا، ولا في نظامنا الاقتصادي. إن مَنازل الفقراء الوبيئة قائمة بيننا، لا لأن الكثرة الغالبة من الناس يجهلون قيامها، ولا لأن تلك الكثرة تودُّ أن تُبقِي المنازل الوبيئة ساعةً واحدة، إنما قامت تلك المنازل بيننا وستظل قائمة؛ لأن من لا يسكنها لا يُشارِك ساكنِيها الشعور مُشارَكةً وجدانية كاملة. من هم خارج بيوت الفقراء القذرة الوبيئة لا «يشعرون» بما يشعر به من هم داخل تلك البيوت من فقراء؛ ولذلك استحال عليهم أن يُحِسوا مثل آلامهم إحساسًا حقيقيًّا. فلأن تُشارِك غيرك وجدانه مُشارَكةً كاملة، وتشعر بشعوره شعورًا حيًّا قويًّا، يقتضيك لا أن تقِف مثل موقفه فحسْب، بل أن تصبُّ نفسك صبًّا في إهابه لتجري فيك دماؤه، وتسري فيك مشاعره وآلامه. ولئن استحال ذلك بالصورة المادية، فهو مُمكِن بقوة الخيال؛ فكلما ازداد الإنسان قدرةً على أن يضع نفسه بخياله في جِلد غيره ليشعر مثل شعوره، كان أقرب إلى المُشارَكة الوجدانية الكاملة. وإذن فالمشاركة الوجدانية — التي هي مِلاط المجتمع وبغيرها لا يكون إصلاح — تعتمد قبل كل شيء على قوة الخيال، ومهمة الشعر الأولى — بل الوحيدة — هي أن يُخاطِب في الإنسان خياله. الشعر لا يُخاطِب القوة العاقلة، بل يتجه فينا إلى المَلَكة التي تتقبل الفكر والشعور في آن معًا، ملكة الخيال. الشعر يُقوِّي فينا تلك المَلَكة التي تُمكِّننا أن نصير — ولو مَدى لحظة قصيرة — أشخاصًا غير أنفسنا. وسواءٌ أصِرنا بفعل الشعر وقوة الخيال ملائكةً أو شياطين، فحسْبنا أن تكون لنا بفضل الشعر هذه القدرة التي ننقلب بها هذا الشخص أو ذاك، ساعةً من زمان لنشعر بشعوره، فنألم لألمه أو نُسَر لسروره. لو أكسبك الشعر هذه القدرة العجيبة فقد أدى مهمته الكبرى، ولا عِبرة بعد ذلك أكانت وسيلته إلى هذه الغاية أن يُلبِسك ثوب «إياجو» القاتل أو «دزدمونا» الملائكية الرقيقة. فليضعك الشعر في إهاب من شاء من صنوف البشر، إن كانت النهاية أن تظفر بالقدرة على مُشارَكة غيرك في وجدانه. إن ما يهمُّنا من الشعر أن يكون شعرًا، ولا نزنُ بجناح بعوضة موضوع الشعر الذي يُعالِجه، وإنما يهمُّنا الشعر لذاته؛ لأننا لا نرى وسيلة للإصلاح الخُلقي والاجتماعي سوى أن يشعر الفرد بشعور غيره، ولا تتحقق تلك الوسيلة إلا بقراءة الشعر قراءة صحيحة.