النقد الأدبي
عالَجنا في الفصل الأول كيف نقرأ الشعر لا كيف ننقده، ونعود فنُذكِّرك أننا نقصد بالشعر في هذا الكتاب كل ضروب الأدب؛ قصائد الغناء والملاحم والقصص والمسرحيات، ولعلك تذكُر أننا فرَّقنا بين قراءات ثلاث؛ قراءة الشعر قراءة فيها خَلق وإبداع، نعيش فيها بخيالنا مع الشاعر في تجاربه وخوالج نفسه، وقراءة نقدية نتبيَّن فيها مَدى نجاح الشاعر وتوفيقه في رسم الصور، لنرى هل ساقها ناصعة حيَّةً ترتسم في ذهن القارئ، بمثل ما ارتسمت في ذهنه وهو يُنشئ، أو كان دون هذه الغاية مُقصِّرًا عاجزًا، ثم قراءة ثالثة ليست بذات خطر، نناقش فيها آراء الشاعر من حيث هي خطأ أم صواب. فأنت إذا ما فرغت من قراءة مجموعة من القصائد قراءةً فنية أجرَتها في دمائك وأشاعتها في نفسك، أحسَست رغبةً في مُقارَنة تلك القصائد إحداها بالأخرى لتعلم أيها أقوَم، وهذه ما نُسمِّيها بالقراءة «النقدية»، وهي ما تزال — كالقراءة الفنية الأولى — تنظر إلى الشعر شعرًا خالصًا، وليست تُعنى في كثير أو قليل بالبحث في قيمة القصيدة الخُلقية والفلسفية. فسواءٌ لديها أجاءت القصيدة حافزة على الفضيلة أو داعية إلى الرذيلة، وسواءٌ أكانت مُصيبة الرأي أم كانت في رأيها على ضلال؛ فالنقد الأدبي مَعني بصورة الشعر دون موضوعه. النقد الأدبي كما نفهمه — وكما نُريد لقُرائنا أن يفهموه — من شأنه أن يُحلِّل وقْع القصيدة في نفس قارئها، ثم يتعقب عناصر القصيدة ومُقوِّماتها ليرى بأي هذه المُقوِّمات والعناصر أحدثت القصيدة ما أحدثته من أثر. ولهذا النقد الأدبي — أو إن شئت فقُل لهذه القراءة النقدية للشعر — قيمةٌ كبرى؛ لأنها — وقد كشفت لنا عن عوامل التأثير في القصيدة — تزيد من تقديرنا للقصيدة بنقل خصائصها من اللاشعور إلى الشعور؛ فقد تأثَّرنا بها في القراءة الأولى بغير عقولنا، وأُعجِبنا بها ونحن في ذهول عن وعينا، وها نحن أولاء نُسلِّط عليها العقل والقوة الواعية حين نقرؤها للمرة الثانية قراءة النقد والتحليل، في هذه القراءة النقدية نستكشف عن وعي وشعور قوة هذا اللفظ وأثر تلك الصورة، وسنجد بعد الكشف ظلالًا لطيفة دقيقة في الصور والألفاظ كانت قد غابت عنا في القراءة الأولى؛ لأننا كنا بسِحر الوقع في شغل عن الأجزاء، ولكن لا يغيبنَّ عن ذهنك أن القراءة «النقدية»، لا بد أن تسبقها قراءة «إبداعية» تتمُّ بقوة الخيال وحده، تُتابِع فيها الشاعر بخيالك أنَّى سار؛ فيخفق قلبك إذا خفق، وتحزن إن حزن وتنتشي إذا انتشى، ولا تتلكأ من دونه لحظة لتنظر إلى هذه اللفظة أو هذه الصورة ما أثرُها وما خبرها؛ فتلك مهمة القراءة الثانية، قراءة النقد، ثم لا يغيبنَّ عن ذهنك أيضًا أن القراءة النقدية قيمتها في نسبتها إلى القراءة «الإبداعية»، فليست بذات شأن في ذاتها، إنما كل القيمة وكل الشأن للقراءة التي نعيش فيها مع الشاعر، فهي المبدأ والمُنتهى، وما قراءة النقد إلا وسيلةً تزيد من تلك القراءة الإبداعية الأولى قوةً وأثرًا.
وإذا ما أخذ رجال النقد في مهمتهم، وطفقوا يقرءون الشعر ليُحلِّلوه، ويردُّوا كل أثر له إلى عناصره، تحتَّم عليهم أن يتواضعوا على أسماءٍ يُطلِقونها على فنون الشعر وصوره؛ فهذه «ملحمة» وتلك «قصيدة غنائية» وثالثة «نشيد»، وهذه الخاصة في الشعر نُسمِّيها «بحرًا»، وتلك الطريقة في التعبير نُطلِق عليها «استعارة» أو «تشبيهًا»، ولنُسمِّ هذا الاتفاق في أواخر الأبيات «قافية»، وهكذا وهكذا حتى بلغت هذه المصطلحات وأشباهها ألوفًا. ولما كانت غايتنا في هذا الفصل أن نشير في اختصار إلى أهم المسائل التي اجتمعت عليها آراء الناقدِين، كان لزامًا علينا أن نتكلم بلغتهم، وأن نُقدِّم للقارئ أشيع المصطلحات التي يستخدمها رجال النقد في كلامهم.
لو كان غايتك أن تُوضِّح فكرة توضيحًا محدودًا جليًّا، لَكان الأسلوب المثالي في التعبير هو صيغ الجبر وما إليها من رموز الرياضيين والعلماء، وإن أردت بالقول أن تُقيم برهانًا وتقرع حُجة ثم لا شيء بعد ذاك، كانت طريقة إقليدس في التدليل على مسائل الهندسة خير نموذج يُحتذى، تُريد بكل لفظة غرضًا معلومًا ومعنى محدودًا، ولا تُجيز لنفسك أن تضع كلمة تزيد عن حاجتك، وتأخذ نفسك أخذًا لا هوادة فيه في بناء الجمل والفقرات بناءً منطقيًّا، تُتابِع فيه المُقدِّمات والنتائج، لكن ذلك الأسلوب أدخلُ في باب العلم منه في باب الأدب؛ فلئن طالبنا الأديب — كائنًا ما كان فنه الذي يكتب فيه — أن يُعنى في تعبيره بمثل هذا الوضوح النافع، فلا بد أن نُجيز له إلى جانب ذلك أن يُخاطِب بأسلوبه شيئًا غير العقل، وأن يصطنع في سبيل ذلك شيئًا غير الترتيب المنطقي الصارم للجمل والفقرات.
وهكذا تستطيع أن تمضي في التفرقة بين الأساليب، وبيان ما يُجوِّد كلًّا منهما؛ فلِلصحافة أسلوب، وللتاريخ أسلوب، وللرسائل أسلوب وهكذا، وفي كل نوع من هذه الأساليب فروع وضروب تُميِّز بينها فواصل وفروق. خُذ أعلام القصة تجد لكلٍّ أسلوبه الذي يُلائم غايته. وهل يسع قصصيًّا مثل «مردث» يُصوِّر طائفة من الرجال والنساء امتازوا بالثقافة العالية والحياة المتحضرة، إلا أن يستخدم الصنعة في أسلوبه، فيكون تناسبٌ بين صنعة الأسلوب وتلك الحياة التي أخرجتها الحضارة والثقافة عن طبيعتها؟ أم يسع قصصيًّا مثل «هاردي» اختار من الحياة لونًا جادًّا مُستقِرًّا ثابتًا، إلا أن يُقيم أسلوبه من لبِنات راسخة راكزة، كأنما هي عُمدٌ يبني بها بناءً أشم يُطاوِل في ثبوته رواسخ الجبال؟ فجاءت عباراته رصينة دسمة واضحة مُحدَّدة، تقع من موضعها في أنسب مكان يُلائم البناء. وكما يختلف القصصيون يختلف كتاب المقالة وسائر فنون الأدب.
فبين كُتاب المقالة فروقٌ شاسعة، حتى ليعجب الإنسان كيف تجتمع كلها تحت صورة واحدة من صور الأدب. فهل تجمع هذه الصنوفَ المُتفاوِتة من المقالة الأدبية صفاتٌ مشتركة إلى جانب اشتراكها في القِصر؟ هذا سؤال تقتضي الإجابة عنه عودة إلى الأساليب الأدبية وخصائصها، فيجمل بنا أن نُعرِّج حديثنا على أدب المقالة؛ ليكون حديثنا عن الأسلوب مُتصِلًا، ولو أن ذلك سبقٌ لترتيب الكتاب؛ إذ الكلام في الصورة الأدبية له في الكتاب موضع آخر.
لقد تواضَع رجال النقد على أن يُطلِقوا كلمة «مقالة» على كل ضروب الكتابة النثرية، إن قصُر طولها وعالَجت موضوعًا واحدًا (وقد تكون المقالة نظمًا، ولذلك أمثلة قليلة)؛ ولهذا كان مدى التفاوت بعيدًا جدًّا بين مختلف صنوف الإنشاء التي تقع تحت هذا الاسم؛ فالبحث العلمي القصير مقالة، كالرسالة العلمية التي كتبها «لوك» عن طريقة اكتساب الإنسان للمعرفة، وأطلق عليها «مقالة في العقل البشري». والقطعة الأدبية الفنية مقالة، ومثال ذلك مقالات «لام»، وهذا النوع من المقالة لا يُضيف إلى العلم الإنساني علمًا جديدًا، ولا يُقدِّم للقارئ معرفة، إنما يقصد إلى إمتاعه ولذته بما فيه من فن جميل. وبين هذَين الطرفَين — المقالة العلمية من ناحية، والمقالة الأدبية من ناحية أخرى — تتفاوت المقالات درجاتٍ في دُنُوها من هذا الطرف أو ذاك؛ فمنها ما هو إلى العلم الخالص أقرب، ومنها ما هو إلى الفن الخالص أدنى، ومنها ما يجمع الغايتَين في آن معًا. فإن كان «لوك» مثالًا للفريق الأول، و«لام» مثالًا للفريق الثاني، فخير مثال نسوقه للفريق الثالث «ماكولي» الذي يُحاوِل في مقالاته أن يكون مُؤرِّخًا علميًّا يتوخَّى الحق وصدق الرواية، وأن يكون فنَّانًا في ألفاظه وعباراته في وقت واحد، يُحاوِل ماكولي بأسلوبه ما يُحاوِله الخطيب، يظهَر للناس كأنما هو يُدير القول في موضوع عقلي منطقي، لكنه رغم ذلك لا يرجو أن يُؤثِّر عليهم بحجته ودليله بقدر ما ينفذ إلى قلوبهم بقوة العبارة وحسن البيان؛ وبهذا المقياس نفسه نستطيع أن نقدُر الكثرة الغالبة من المقالات الأدبية، لولا أننا نجد المقالة عند «لام» لا تخضع لهذا المقياس؛ فبأي معيارٍ نقيس أسلوبًا كالذي نراه في مقالات «لام»؟ لن نجد معيارنا إلا إذا استعرضنا تاريخ المقالة الأدبية؛ فقد يُعيننا هذا العرض التاريخي على فهم طبيعة هذا الفن الأدبي، فكثيرًا ما يكون الكشف عن مراحل التطوُّر وسيلة تُلقي ضوءًا على طبيعة المُتطوَّر وقوامه. فما «المقالة» التي نسلُكها في عِداد الفنون الجميلة، والتي ليست من قبيل البحوث العلمية؟ «المقالة» التي تُكتَب لذاتها ولا يُقصَد بها أداء معنًى وراءها؟
يقول مُؤرِّخو الآداب إن الكاتب الفرنسي «مونتيني» هو رب المقالة ومُنشِئها في القرن السادس عشر، بعد أن لم تكُن، وقد كان «مونتيني» وهو يكتب مقالاته عالمًا بأنه يُنشئ شيئًا جديدًا لم يسبقه إليه أديب آخر، فقد أحسَّ في نفسه الرغبة أن يكتب شيئًا يختلف في جوهره عما ألِف السابقون أن يكتبوه، أراد صورةً أدبية، أو قُل أراد قالبًا أدبيًّا يصبُّ فيه خليطًا من الصفات التي وإن تكُن سطحية مُتناقِضة في ذاتها إلا أنها مع ذلك تُصوِّره لأنها قوامه وجوهر كيانه، فليس من شك في أن هذا الفرد «ميشيل مونتيني» يختلف في خليط صفاته، من ذوق وشهوة وعادة وأسلوب في التفكير، عن سائر الناس، وأراد أن يُخرِج من نفسه عناصره التي تُكوِّن فرديته هذه التي لا يُشارِكه فيها إنسان آخر، لكن عناصر الشخصية الفردية مُتبايِنة لا حد لتبايُنها، فلا بد له — إذن — من قالب أدبي مرِن شديد المرونة، بحيث يسع ما ينطبع على النفس من آثار عارضة، لا بد له من قالبٍ تحتمل حدوده أن يُطلِق فيها مكنون نفسه الجياشة إطلاقًا لا ينقطع ولا تضبطه الضوابط، في ظاهره على الأقل. ستقول: ولماذا لم يُعبِّر عن مشاعره وخواطره في قصيدة غنائية أو قصائد؟ أليست القصيدة الغنائية عند الأدباء وسيلة التعبير عن الذات وما يضطرم فيها من عواطف تُميِّزها وتطبعها بطابع خاص؟ وفاتك أمر خطير، هو أن القصيدة الغنائية تُعبِّر عن الذات تعبيرًا يعلو بالذات ويسمو بها، القصيدة الغنائية لا تُصوِّر الذات بكل ما فيها من أوجه النقص وأوجه الكمال؛ لأن طبيعة الشعر المنظوم تدعو إلى التسامي، لكن «مونتيني» أراد أن يسكب نفسه بكل ما فيها على القرطاس. إذن فقد أراد للقصيدة الغنائية أن تُنثَر، أراد قصيدة غنائية تتراخى أوتارها، فكانت له بهذا التحوير «المقالة» الأدبية، المقالة الأدبية في صميمها قصيدة غنائية وجدانية سِيقت نثرًا لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم من بعض عناصر الذات. فإن شئت قانونًا يضبط لك «المقالة» من حيث الصورة، فاعلم أنه قدرتها على التعبير عن خوالج النفس في سيرها الذي لا يجري على نظام واطراد. قد تكتنف الأديبَ حالةٌ نفسية خاصة، فتجري في ذهنه سلسلة من الخواطر المُتناثِرة التي تتصل بتلك الحالة النفسية السائدة، فتُؤثِّر فيها وتتأثر بها، فإن استطاع أن يصبُّ هذا السيل من الخواطر كما يجري في ذهنه، فقد أنشأ «مقالة أدبية». الخواطر في المقالة الأدبية تتصل بصِلات من العاطفة أو الخيال؛ أعني أن خاطرًا يلحق خاطرًا ويتبعه، لا لأن بينهما علاقة منطقية كالتي تأتي بالنتيجة وراء سببها، بل لأن هذَين الخاطرَين مُرتبِطان في خيال الأديب أو مُتصِلان بعاطفته. كاتب المقالة الأدبية يكتب وكأنه يتحدث في سَمَر حديثًا مُطلقًا من كل قيد، فيدع الخواطر يسوق بعضها بعضًا بما بينها من روابط تستدعي تتابُعها وتداعيها دون أن يُعمِل في ذلك عقله ومنطقه ليُنظِّم الترتيب والسياق. هكذا بدأ مونتيني أدب المقالة على وجه الصحيح، فجاء من بعده وأخطئوا خصائصها على قُرب الزمن بينهم وبينه؛ فها هو ذا «بيكن» — وتكاد شهرته في عالم الأدب ترتكز على مقالاته — يتناول الفن الأدبي الوليد، فيُحطِّم أركانه تحطيمًا، ويكتب لنفسه مقالة من نوع آخر، فمقالته بحث بغير نظام في موضوع مُنظَّم، يسوق الآراء في موضوعٍ مقالته مُتلاحِقة، كأنه يرصُّ خرزات ليُنشئ منها عقدًا، فالخرزات مُنفصِلة ولكنها مُتعاوِنة على إنشاء العقد في نهاية الأمر. فليس التعبير عن خصائص الذات وعناصرها ومشاعرها هو كل شيء في مقالة «بيكن» كما كان كل شيء في مقالة «مونتيني»، لكن أعلام «المقالة» في الأدب الإنجليزي «كاولي» و«أدسن» و«جولد سمث» أخذوا بعدئذٍ يتعهَّدون هذه الصورة الأدبية الناشئة، ويُبرِزون خصائصها وصفاتها، حتى جاء «لام» فبلغت به المقالة ذروة الكمال، وعندئذٍ عادت المقالة الأدبية كما بدأت عند مُنشِئها وخالقها، تُعالِج الجوانب التي تجعل من الفرد فردًا مُتميِّزًا، وتُخرِج من نفس الأديب ما يجعلها ذاتًا قائمة بنفسها، مختلفة عن سواها. ولم تكُن مُصادَفةً أن تنشأ المقالة الأدبية على يدَي مونتيني في القرن السادس عشر، حين تحكَّمت النزعة الفردية في عقول الناس وسادت تفكيرهم، فطبيعي لهذه الفردية الطاغية أن تبحث لها في الأدب عن مخرجٍ تتنفَّس منه، والمقالة الأدبية خير مخرج لها. ولم تكُن كذلك مُصادَفةً أن ينشأ إذ ذاك أيضًا أدب التراجم في صورة جديدة، فلِأول مرة في تاريخ الأدب كُتِبت سِيَر الرجال بدقائقها الشخصية وتفصيلاتها الذاتية. فإن كانت الغاية من المقالة الأدبية أن تُعبِّر عن خليطٍ يُكوِّن في مجموعه ذاتية الفرد تعبيرًا يبعد عن جفاف الحقائق الموضوعية العلمية، ولا يسير وفق تسلسل المنطق، فالأسلوب الجيد في المقالة يجب أن يكون ذاتيًّا لا ينبني على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية. فعُد إلى قراءة طائفة من المقالات الأدبية، وكلما وجدت الكاتب أدنى إلى من يُحدِّثك عن تاريخ نفسه فيما يكتب، إن رأيته يُرسِل الخوطر إرسالًا هيِّنًا، فتستشفُّ منها ما وراءها من حالته النفسية، فاعلم أنه قد أجاد. أما إن وجدته يُعالِج موضوعًا لا يتصل بمكنون نفسه، ويُعنى بتنظيمه وتبويبه كما يُنظِّم البحث العلمي، فاعلم أنه عن الجودة بعيد.
إن ما ذكرناه عن الأسلوب يصدُق على النثر والنظم؛ فالذي يُحدِّد أسلوب الكاتب أو الناظم عناصر ثلاثة؛ استخدامه لألفاظ مُعيَّنة تُميِّزه عن سواه، ثم اتباعه لطريقة مُعيَّنة خاصة به في ترتيب هذه الألفاظ، ثم مُعالَجة موضوعاته على نحوٍ يتفرَّد به. وهذا العنصر الثالث من العناصر المُكوِّنة للأسلوب هو في الحقيقة نتيجة تتفرع عن العنصرَين الأولَين؛ فيستطيع الكاتب — مثلًا — أن يُعالِج موضوعه بطريقةٍ تُقنِع العقل بمنطقها إذا هو استخدم ألفاظه ورتَّبها في الجمل على النحو الذي يُحدِث صداه في العقل لا في القلب، كما يستطيع الكاتب أن يزيد في إنشائه من الألفاظ المشحونة بالعاطفة، ويُرتِّبها ترتيبًا من شأنه أن يُحرِّك الشعور، فيتغير أسلوبه جملةً واحدة ويُصبِح أسلوبًا عاطفيًّا. فكل الفرق بين أسلوب وأسلوب هو في الألفاظ المُختارة، وفي الطريقة التي تُساق بها هذه الألفاظ، وهذا صحيح في النثر والنظم على السواء. والفرق بين الناظم والناثر هو أن الأول يستخدم الصوت وسيلة للتعبير؛ أي أنه يُرتِّب الألفاظ ترتيبًا يُحدِث رنينًا خاصًّا يكون جزءًا من أداة التعبير.
ولا شك أن صوت اللفظ جزء من معناه لو أردت المعنى كاملًا؛ فلفظة جميلة الوقع في المسامع تخلع على مُسمَّاها لونًا من الجمال لمُجرِّد حسن وقعها وجمال رنينها. فلو أسمعت رجلًا هذه الألفاظ: ورد وسوسن، وقلقاس وبطيخ، لَأدرك من فوره أن اللفظتَين الأوليَين تدلان على شيئَين أجمل مما تدل عليهما اللفظتان الأخريان، وهو لا يحتاج في هذا الحكم إلى رؤية هذه الأشياء؛ لأن في رنين الألفاظ ما يهديه. وما نظن أحدًا يقرأ هذَين البيتَين دون أن يلمس أثر رنين الألفاظ في تكوين المعنى:
إذن فمن أدوات الشاعر في التعبير أن يستخدم جرس اللفظ، فيُحاوِل أن يُحاكي صوت الفعل الذي يُصوِّره في صوت الألفاظ التي ينظمها؛ فقد يُكثِر مثلًا من حروف «الضاد» و«الطاء»، كما في البيت الأول؛ ليدل على الضرب والطعن، وقد يُكثِر من حروف «السين» و«الصاد»؛ ليدل على الحرير وهكذا، ثم هو يُحاوِل أن يُحاكي صوت الفعل الذي يُصوِّره أيضًا بنوع البحر الذي يختاره؛ فبحرٌ يصلح للحركة السريعة لسرعة تفعيلاته، وآخر يصلح للحركة البطيئة لكثرة حروف المد في تفعيلاته وهكذا. غير أننا يجب أن نُشير إلى ما في هذه المُحاولة من خطر؛ لأنها كثيرًا ما تُعرِّض الشاعر إلى صناعةٍ تخرج به عن جمال الطبع وحسن السليقة، نقول ذلك دون أن نغضَّ من شأن الجرس في قوة التعبير، ولا ينشأ هذا الأثر من كل لفظة على حِدة بوجود تناسُب بين صوتها ومعناها، بل من تتابُع الأصوات في سلسلة من الألفاظ، وذلك ما نُسمِّيه بالوزن، والوزن هو أعظم ما يُميِّز النظم من النثر.
وللنثر وزن كما للنظم، والفرق في درجته واطراده؛ فقد تجيء في النثر عبارة موزونة على بحر مُعيَّنٍ تَليها عبارة من بحر آخر، تليها ثالثة لا وزن لها. أما في القصيدة فالوزن مُطرِد مُنتظِم في الأبيات كلها، وليس من شك في أن لهذا الوزن أثره في قوة التعبير، وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد. وحسبنا الآن أن نُشير إلى حسن وقعه في الأذن، مما يُحدِث في السامع لذة كالتي تُحدِثها الأنغام المُتسِقة أيًّا كان نوعها ومصدرها؛ فالإنسان مفطور بطبعه على إيثار الصوت الموسيقي المنغوم. والوزن في النظم أنواع تُسمَّى «بُحورًا»، والعلم الذي يضبط قواعدها يُسمَّى «عَروضًا». وتُجيز قواعد العروض في الشعر الإنجليزي أن يختلف الوزن في أبيات القصيدة الواحدة؛ فقد وجد الناظمون بفطرتهم الموسيقية الموهوبة أنه لو تتابَعت مجموعة من الأبيات على أوزان مُعيَّنة، كوَّنت مجموعة موسيقية جميلة النغم جميلة التوقيع؛ ومن ثَم تواضَع الشعراء على نظام مُعيَّن في بناء المقطوعات الشعرية، فهنالك المقطوعة الرباعية التي يتألف بيتاها الأول والثالث من أربع تفعيلات، والثاني والرابع من ثلاث، ويجدون أن هذه المقطوعة تُلائم الترانيم، وهنالك المقطوعات السباعية التي أُغرِم بها «تشوسر»، والتُّساعية التي آثَرها «سبنسر» ونسبت إليه، وهكذا.
وأبيات المقطوعة الواحدة لا تختلف في أوزانها فحسب، بل كذلك في قوافيها؛ ففي الرباعية مثلًا تتحد القافية في البيتَين الأول والثالث، وفي الثاني والرابع، وفي سباعية «تشوسر» تسير القوافي هكذا (ا – ب – ا – ب – ب – ج – ج) أي أن الأول والثالث قافية واحدة، والثاني والرابع والخامس قافية واحدة، والسادس والسابع قافية ثالثة. وفي تساعية «سبنسر» تسير هكذا (ا – ب – ا – ب – ب – ج – ب – ج وكلها وزن واحد، ثم يجيء البيت التاسع بقافية «ج» ومن وزن آخر) لكن القافية ليست شرطًا لازمًا في هذه المقطوعات؛ فالشعر القديم كله خالٍ من القافية خلوًّا تامًّا، وكذلك تخلَّص من قيد القافية كثير من الشعراء المُحدَثين. ومن أشهر المقطوعات الشعرية التي تُعرَف وتتميز بنظام القوافي في أبياتها، المقطوعة الأربع عشرية، وهي تقوم بذاتها وحدة مُستقِلة — وليست كسائر المقطوعات السالفة تكون أجزاءً من قصيدة كبرى — والمقطوعة الأربع عشرية أنواع تختلف باختلاف قوافيها. ولكل من الشعراء الفحول في الأدب الإنجليزي طريقة في تقفية مقطوعة، نخصُّ منهم بالذكر «سبنسر» و«شيكسبير» و«ملتن».
فالشعر في الأدب الإنجليزي يقع من حيث الوزن والقافية في ثلاثة أنواع: (١) الشعر المُرسَل الذي يجري بغير قافية. (٢) وشعرٌ تزدوج فيه القافية، فيكون لكل بيتَين مُتعاقِبَين قافية واحدة، وتُسمَّى الوحدة فيه بالدوبيت. (٣) وشعرٌ تتألف القصيدة فيه من مقطوعاتٍ تسير فيها القافية على وجه من الوحدة التي ذكرناها لك منذ قليل.
ولقد آن أن نُحدِّثك عن مهمة النظم بصفة عامة، مُوضِّحين القول بالإشارة إلى أنواعه الشائعة، ونُحِب أن نُذكِّرك بما أسلفناه وهو أن اطراد الأنغام والأوزان في النظم جزء من وسيلة التعبير كالألفاظ نفسها سواءً بسواء؛ وما دامت أبحُر الشعر وأوزانه أداة يستخدمها الشاعر في التعبير، فلا بد أن نبحثها من حيث علاقتها بالمعنى الذي يُراد التعبير عنه.
نستطيع القول بصفة عامة إن الشعر ضربان؛ فالقصيدة إما أن تحكي عن حوادث وأشخاص وأقطار وبلاد، وإما أن تُعرِب عن الحالة النفسية الداخلية التي تسود الشاعر وهو يُنشئها. أو بعبارة أخرى، إما أن تحكي القصيدة عن العالم الخارجي، وإما أن تُعبِّر عن العالم الداخلي عند الشاعر نفسه؛ فأما النوع الأول فنُسمِّيه شعرًا قصصيًّا، أما الآخر فهو الشعر الغنائي أو الوجداني. وطبيعيٌّ أن يتداخل النوعان؛ فالقصيدة القصصية التي تأخذ نفسها قبل كل شيء بالرواية عما وقع من أفعال وحوادث، قد تُفسِح المجال آنًا بعد آن لهذا الشخص أو ذاك من أشخاصها أن يُفصِح عن مشاعره على نحو ما تفعل القصيدة الغنائية. وقد تجد قصيدة قصصية مُثقَلة بعاطفة راويها وعواطف سامعِيها والأشخاص والواردة فيها، حتى لتكاد تُخرِجها العاطفة السارية فيها من نوع الشعر القصصي إلى النوع الغنائي الوجداني، والأغاني الشعبية التي شاعت في العصور الوسطى مُعظَمها من هذا القبيل؛ فالأغنية الشعبية حكاية منظومة مُثقَلة بالعاطفة. وهنالك نوع ثالث من الشعر لا هو قصصي بالمعنى الدقيق ولا هو غنائي بالمعنى الدقيق، ولكنه يجمع طرفًا من هنا وطرفًا من هناك، وأعني به المسرحية الشعرية؛ فالمسرحية تقصُّ قصة على غير ما تقصُّها القصيدة القصصية، فهي ليست قصة في ذاتها تُروى لذاتها، إنما هي قصة يُنظَر إلى حوادثها من حيث هي مُؤثِّراتٌ تفعل فعلها في عواطف أشخاصها ومشاعرهم وحالاتهم النفسية بصفة عامة.
وهنا نسأل: أي لون من النظم يُلائم هذا وأي لون يلائم ذاك، بحيث يجيء التعبير أتمَّ ما يكون كمالًا وقوة؟ إن كانت القصة في الشعر القصصي تروي أعمال البطولة السامقة لجبابرة الرجال، أعمالًا كان لها شأنها في تاريخ الأمة أو في تاريخ العالم بأَسره، فبديهيٌّ أن أنسب الشعر لوصفها ما جرى في بحر فخم رصين؛ ليناسب جلاله جلالها، وقد كانت أمثال هذه الأفعال المجيدة أول ما وقعت عليه أعين الشعراء في أقدم العصور، فاختاروها وأجروها فيما نُسمِّيه بالملاحم، بأوزان وبحور فيها هذه الرصانة وهذا الجلال؛ فالإلياذة تُنبئ عن بطولة «أخيل» و«هكطور» في الحرب الطروادية التي دامت عشر سنوات، وتحكي عن تلك البطولة في شعرٍ يسوده الوقار والجلال ورصانة النغم، وهو مُرسَل لا قافية فيه، شأنه في ذلك شأن الشعر اليوناني والروماني كله. ولقد حاول شعراء العصور الحديثة أن يجدوا لهذا الشعر القصصي القديم الذي خلفته لنا آداب اليونان والرومان بديلًا في لغاتهم الحديثة، فأوشكوا جميعًا أن يبوءوا بالفشل فيما حاولوا؛ إذ لم يجدوا قصة فيها كل هذا الجلال الذي رأوه في ملاحم هومر؛ فهذا هو «سبنسر» أراد أن يتخذ الملكة اليصابات، ملكة إنجلترا في عهده، موضوعًا لملحمة، لكنه أخرج الموضوع في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» فجاءت خلوًا من خصائص الملحمة؛ إذ قطَّع الحكاية أجزاءً مُنفصِلًا بعضها عن بعض، في كل جزء يعرض بطولة فارس من فرسانه، وحصر اهتمامه وهو يعرض بطولة الفارس في الحوادث الجزئية الباهرة اللامعة التي صادفها الفارس في سيرته، وهو في نظمه لا يتدفق بحيث يُخرِج القصة كتلة واحدة منظومة، بل قسَّم قصيدته مقطوعاتٍ تجري القوافي على نظام مُعيَّن عُرِف باسمه، وأصبحت المقطوعة الاسبنسرية لونًا من ألوان النظم في الأدب الإنجليزي؛ في كل مقطوعة ثمانية أبيات مُطرِدة الوزن تنتهي بتاسع طويل يجيء لها كالخاتمة في القطعة الموسيقية، فلا يسع القارئ إلا أن يقِف، وهكذا تفكَّكت أجزاء القصة وانتثرت خرزاتها، ولو أن ذلك لم يُقلِّل من جمال الأجزاء. ولقد شُبِّهت قصيدة «ملكة الجن» بقطعة من الحرير الجميل المُطرَّز؛ فهي رقيقة رائعة ناعمة الملمس، لكنها لا تصلح لتخليد العظماء. وهل نُخلِّد أبطالنا الأمجاد وبطولتهم العالية على لوحة من الحرير المُوشَّى؟ إن هذه القطعة إنما تُلائمها التماثيل المرمرية الرزينة الرصينة الجليلة الثابتة. وانقضى قرن بعد سبنسر، فجاء «ملتن» وطاف بخياله موضوع عظيم لملحمة عظيمة، قد يكون للناس عامةً أجلَّ شأنًا من موضوع الملحمة الهومرية نفسها، وهو عصيان الإنسان الأول وطرده من الجنة، واختار له الشعر المُرسَل أداة فأحسن الاختيار، إذ لا يصلح للملحمة من أوزان الشعر الإنجليزي إلا هذا؛ لأنه يسكب على الموضوع وقارًا وجلالًا، ويُكسِبه عظمة ورهبة. أما الشعر المُقفَّى فيكسو الموضوع نوعًا من السحر والفتنة دون العظمة والجلال. الشعر المُرسَل جليل والشعر المُقفَّى جميل، ذلك رزين وقور وهذا فاتن جذاب. إذن قد وُفِّق «ملتن» في اختيار الموضوع والأسلوب معًا، ثم زاد على ذلك أنه أجاد في شعره المُرسَل إجادةً لا زيادة بعدها لمُستزيد؛ فهو في يده مُطرِد البناء ثابته، ولا يجعل الكلمة الأخيرة في البيت تُوحي للقارئ بالوقوف، فيمضي القارئ من سطر إلى سطر كما يمضي في حديثه الموصول، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يجعل توقيع الكلام على نحوٍ يُبايِن نغمة الحديث المُعتاد، بحيث يُشعِر القارئ بأنه يستمع إلى نغمات موسيقية فخمة تنبعث عن «أُرغُن» يملأ الجو بألحانه العريضة، وذلك ليُوائم بين جلال النغم وجلال الموضوع؛ فوُفِّق «ملتن» توفيقًا عظيمًا، لكنه جُوزي بما وُفِّق ثمنًا باهظًا. فلئن جاء شعره هذا الفخم الجليل الرصين مُنقطِع النظير في التعبير عن مواقف الفخامة والعظمة والجلال، فقد كان ثقيلًا وهو يروي أجزاء القصة التي لا تتطلب كل هذه الرزانة والرصانة؛ فمن أجزاء القصة ما يُروى عن أفعال دنيوية لا يلزمها جو التفخيم والتعظيم الذي يكون حول حوادث السماء الجسام، فهو مثلًا حين يتحدث عن آدم وحواء وهما يُنظِّمان شئونهما العائلية الخاصة، يستخدم أسلوبه العالي نفسه، فيكون أقرب إلى مُمثِّل المهزلة الذي يُقطِّب الجبين ويُفخِّم العبارة في غير موضع للتقطيب والتفخيم. وليس الذنب في هذه السقطات ذنب الشعر المُرسَل في ذاته، لكنه ذنب «ملتن» الذي لم يُغيِّر في أوتاره شدةً وارتخاءً بحيث يُسايِر موضوعه ويُطابِق معانيه. ومهما يكُن من أمر فما يزال الشعر المُرسَل أنسب أداة للشعر القصصي لقابليَّته العجيبة لمُسايَرة جوانب الموضوع توتُّرًا وارتخاءً؛ ذلك أن خلوه من القافية يُقرِّب مسافة الخُلف بينه وبين النثر، فيستطيع أن يهبط من سماء الشعر إلى شئون العيش الجارية، ثم يستطيع أن يعود فيعلو إلى ذروة الشعور العالي والتأمل الرفيع؛ ففيه وحده هذه القدرة على الصعود والهبوط وفقَ ما تقتضيه مراحل الموضوع ومواقفه. وهذه الصفة الرئيسية في الشعر المُرسَل هي التي جعلته الأداة التي لا أداة سواها بين ألوان الشعر في كتابة المسرحيات؛ فالمُمثِّلون في المسرحية لا ينبغي لهم أن يتحدثوا على نحوٍ يختلف عن طريقة الحديث في الحياة اليومية اختلافًا بيِّنًا، على أن تظل لهم القدرة — في الوقت نفسه — على أن يُعبِّروا عن العواطف السامية والأفكار العالية إذا ما اقتضى الأمر، فها هو ذا «هاملت» في مسرحية شيكسبير، يتحدث آونةً عن توافه شئونه، ويتأمل آونةً أخرى في الحياة، أفيجوز له أن يتكلم بنفس الأسلوب في الموقفين؟ يجب أن يهبط حين يتحدث عن شئون حياته اليومية، ثم يعلو حين يُغرِق في تأمُّلاته العميقة. والشعر المُرسَل وحده هو الذي يستطيع أن يحتمل هذا الصعود والهبوط؛ ومن ثَم كان السر في عظمته ومُلاءمته للأدب المسرحي هو هذه المرونة الشديدة التي يتصف بها دون سائر البحور والأوزان. ولقد برع شيكسبير في هذا الشعر المُرسَل براعةً ممتازة أخذت تزداد معه كلما أمعن في إنتاجه وسيطر على فنه، وحسْبك أن تقرأ له — مثلًا — «رتشرد الثالث» من نتاج المرحلة الأولى، ثم «يوليوس قيصر» من نتاج المرحلة الوسطى، ثم «الملك لير» من نتاج المراحل الأخيرة؛ لتعلم كيف كان هذا العبقري يسير في فن الشعر المُرسَل بخطوات الجبابرة حتى بلغ به أوج الكمال.
لكن ليس الشعر القصصي الإنجليزي كله شعرًا مُرسَلًا، فهنالك بحر آخر يأتي بعد المُرسَل في صلاحيته للقصص، وذلك هو بحر «الدوبيت»، والدوبيت بيتان على قافية واحدة، يغلب فيهما أن يتألف الواحد منهما من خمس تفعيلات أيامبية، والتفعيلة الأيامبية هي التي تتألف من جزأين يقع الضغط الصوتي على ثانيهما ولا يقع على الأول. وكان تشوسر أول من استخدم هذا البحر في حكاياته المشهورة في القرن الرابع عشر، وهو خير من المقطوعة التساعية الاسبنسرية في سياق القصة؛ لأن الدوبيت الواحد أقل من أن يكون وحدة معنوية مُستقِلة، فلا تتفتت القصة أجزاءً وتتناثر، كما هي الحال في قصة تُروى بالمقطوعات الاسبنسرية، التي فيها يقف الذهن وقفة في ختام كل مقطوعة، فلا يتصل حبل القصة. الدوبيت بحر يصلح للقصة؛ لأن وحداته تبدو كأنها الخطوات السريعة التي تخطو بالقارئ إلى الأمام، وكل خطوة فيها من القِصر بحيث يتقدم بها القارئ في القصة ولا يتحدد بها اتجاه مُعيَّن، فيظل الكاتب مُمسِكًا بزمام السير والسياق يُوجِّهه كيفما شاء؛ وإذن فالزوج يتلو الزوج من هذا البحر، يُهيِّئ الحركة التي هي أهم عناصر القصة، وفضلًا عن ذلك فإن الدوبيت يميل بطبيعته إلى أن يكون مُطرِدًا في انتظام لا يعرف الشذوذ، كأن وحداته قِطع مُتساوية أخرجتها آلة على صورة واحدة؛ فكل وحدة بيتان مقسومان بالقافية إلى نصفَين مُتساوِيَين، وكل بيت تتوازن فيه التفعيلتان الأُولَيان مع التفعيلتَين الأخريَين، يتوسطها تفعيلة وسطى كأنها للطرفَين بمثابة المحور.
وهنالك من الشعر الغنائي أيضًا «الترانيم» و«الأناشيد» و«المراثي» و«الأغاني الشعبية» وغيرها، لكل منها خصائص تُميِّزها، وقد تتمسك إحداها ببحر تقليدي لا تخرج على أوضاعه. ولسنا نستطيع أن نُفيض القول في هذه الأنواع، فحسْبنا في بعضها كلمة مُوجَزة. ونُريد أن نُؤكِّد قبل المُضِي في الحديث أن الصورة العروضية التي اختص بها كل من هذه الضروب الغنائية، إنما شاعت بين الشعراء لأنها أنسب القوالب لصياغة المعنى وأدائه في كل مجال على حِدَة؛ فالنشيد يُنظَم ليتغنَّى به حشد من الناس، ليحمدوا به الله ويبتهلوا إليه في ظروف تتطلب من النفوس خشوعًا ووقارًا. أما الأرجوزة الغزلية أو القصيدة الغرامية فتُنظَم مُعطَّرة لتصلح للغناء بين يدَي المعشوقة في مَخدَعها. لهذا يميل شاعر النشيد إلى صياغة قصيدته في بناء مُتسِق مُنسجِم، وكثيرًا ما يكون في مقطوعاته بساطة وقوة وجلال، وبخاصة إن قُصِد بها إلى تمجيد الوطن في أعياده القومية وذكرياته الخالدة. ومثل هذا النشيد ذي البناء الفخم الجليل يُنسَب إلى الشاعر اللاتيني «هوراس» فيُقال «نشيد هوراسي»؛ لأنه مُنشئه وواضع أساسه. لكن من الأناشيد ما لا يأخذ بالبساطة الهوراسية، ويتأنق ويُكثِر من التفعيلات والأجزاء، ويُنسَب هذا النوع إلى الشاعر اليوناني «بندار» فيقال «نشيد بنداري»، وأبرز خصائصه أنه يتألف من وحدة ثلاثية، وذلك أن النشيد البنداري كانت تُغنِّيه جوقة في نوع من الرقص الحلقي؛ فمقطوعة من القصيدة تُلازِمها حركة الراقصِين من اليمين إلى اليسار، والمقطوعة التي تليها تُلازِمها حركة من اليسار إلى اليمين، وفي المقطوعة الثالثة يقف الراقصون في سكون، وهذه الوحدة الثلاثية يُكرِّرها الشاعر في قصيدته عددًا من المرات كما يشاء. ومن أمثلة هذه الأناشيد في الشعر الإنجليزي قصيدة «شلي» وعنوانها «نشيد الرياح الغربية»، وقصيدة «كيتس» وعنوانها «نشيد العندليب»، وقصيدة «سونبيرن» «نشيد عيد الميلاد»، وقصيدة «تنسن» «الدوق ولنجتن». وليست هذه الأناشيد في موضوعها شبيهة بأناشيد بندار إلا في وقار الموضوع وجد العاطفة. وكان الأصل في النشيد أن يكون جماعيًّا تُنشِده طائفة من الناس في صوت واحد في مناسبات قومية، كالانتصار في الحروب أو الظفر في حلبة السباق، ولكنك إذ تُلقي نظرة عَجلى على الأناشيد عند «شلي» و«كيتس» — مثلًا — تُدرِك للوهلة الأولى أنها ليست من الأناشيد الجماعية في شيء. وهذا التحوُّل نتيجة طبيعية للحضارة الحديثة التي أزالت — فيما أزالته من أوضاع المجتمع القديم — الشعائر القبَلية والجماعية والقومية التي كانت أول ما أوحى بهذه الأناشيد للشعراء القدامى، لكنك إن تعمَّقت الأمر بنظرة فاحصة، أدركت في الأناشيد الحديثة روح الجماعة رغم تغيُّر الموضوع. خُذ — مثلًا — لذلك نشيد «شلي» «في القُبَّرة»، فهو على الرغم من تعبيره عن وجدانه الذاتي الفردي يُدير هذا الوجدان حول موضوع ليس قبليًّا أو قوميًّا فحسب، بل موضوع عالمي يشتمل العالم كله. وكذلك في نشيده «الرياح الغربية» تستطيع أن تتبَع الشاعر مقطوعةً بعد مقطوعة وقد تحلَّلت فرديته حتى اندمجت في الرياح التي يُوجِّه إليها النشيد، بل في العالم كله الذي لم تكُن الرياح إلا أنفاسه. النشيد — إذن — لون من الشعر الغنائي يُعبِّر عن وجدان الشاعر في علاقته بمجموعة الناس أو ظواهر الطبيعة.
ولن نقول في الترانيم والمراثي والأغاني الشعبية شيئًا، فكلها ضروب من الغناء تختلف موضوعًا ونظمًا، لكننا لا نُحِب أن نطوي الحديث عن الشعر الغنائي قبل أن نعود إلى المقطوعة الأربعة عشرية نُطنِب فيها القول ونتتبع مراحلها في تطورها؛ لنتخذها مثالًا يُوضِّح كيف تنمو صور الأدب، كما تنمو الكائنات الحية جميعًا، فتبدأ ناقصة التكوين وتأخذ في الرُّقي والكمال كلما تقدَّم بها الزمن على أيدي الشعراء، فلن تجد صورة أدبية خلقها وسوَّاها شاعر واحد.
تتألف المقطوعة الأربع عشرية من أربعة عشر بيتًا، وكان أول من أكثر الغناء بها شاعر اللاتين «بترارك» في بث حبه لمُهجَة قلبه «لورا»، وقد عاش بترارك في عصرٍ جاشَت فيه الصدور بجديد الدوافع والحوافز، عصرٍ كان فاتحة عهد جديد في تاريخ البشر يُطلِق عليه المُؤرِّخون اسم «النهضة»؛ ليدلُّوا به على أن كل شيء قد هبَّ بعد رقاد طويلٍ همدت فيه العقول وخمدت القلوب قرونًا مُتتابِعة. فرأى «بترارك» وجه الحياة على غير ما رآه مُعاصِروه، وأحسَّ الحب على نحوٍ يختلف عما تعوَّد الناس أن يُحِسوه؛ فأراد أداة جديدة يُعبِّر بها عن تجربة جديدة، وسرعان ما وجد في المقطوعة الأربع عشرية خير أداة تُعبِّر له عما يُريد. لقد كانت في حبه للورا لفتةٌ غريبة وجو غير معهود، كانت فيه مثاليةٌ يشوبها شيء من شهوة الحس العَفة الطاهرة، ثم كان فيه ما جرى به العُرف بين العاشقِين من تقديس المحبوبة وعبادتها، كان حبًّا عذريًّا وشهويًّا في آن معًا، فكانت هذه العاطفة الجديدة في نفس الشاعر بمثابة التجربة الجديدة التي تطلَّبت منه أسلوبًا جديدًا، وكان أسلوبه الجديد في التعبير عن حبه هذا الجديد هذه المقطوعة القصيرة المُركَّبة رغم قِصرها، التي تلمع وتسطع بأجزائها المصقولة كأنها أحجار الماس في دِقة صنعها، والنجوم الخالدة في لألائها وبريقها. ولم يكَد «بترارك» يصوغ لعاطفته هذا القالب الجديد حتى سار الشعراء في إثره جماعات، وباتت المقطوعة الوليدة عُرفًا سائدًا بين عشية وضحاها؛ ذلك لأن المشاعر الجديدة التي كان «بترارك» أول من وعاها وأحسَّها إحساسًا حادًّا واضح المعالم، كانت هي بعينها المشاعر التي بذر العصر بذورها في قلوب الناس جميعًا، فلما ألقى عليها الشاعر ضوءًا وضَّح حدودها ومعالمها مُستعينًا بالصورة الأدبية الجديدة التي ابتكرها لها، تبيَّن الناس في أنفسهم ما كان كامنًا غامضًا، وأرادوا بإخراجه، فلمْ يكُن لذلك الإخراج من سبيل سوى المقطوعة البتراركية ذات الأبيات الأربعة عشر، وأخذت إيطاليا كلها تكتب هذه المقطوعات الغزلية؛ لأن إيطاليا كلها كانت تضطرب بمشاعر كالتي أحسَّها «بترارك».
ومضَت سِنون، وشرع الناس في إنجلترا يُدرِكون في غموض وإبهام مثل هذا الشعور الذي سبقهم «بترارك» إلى تبيُّنه في نفسه، فأحسُّوا رغبة التعبير، فما أسعفتهم إلا أداة جديدة، هي هذه المقطوعة الأربع عشرية نفسها، فجرَوا فيها على غِرار مُنشئها، لكنهم سرعان ما وجدوا أنهم إذ ينقلون المقطوعة البتراركية وزنًا بوزن وقافية بقافية لا يُعبِّرون عن مثل ما عبَّر عنه صاحب المقطوعة في لغته الإيطالية، فما وجدوا فيها عندئذٍ كبير نفع؛ لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى قالب أجوف، إنما أرادوا صورة حية تُعبِّر لهم عن هذا الإحساس الجديد الذي أحسوا فعله في نفوسهم، والذي سبقهم الشاعر الإيطالي إلى إحساس فعله في نفسه؛ فجاهَد شعراء العصر الأليصاباتي في إنجلترا — ما وسِعهم الجهاد — أن يجدوا في الإنجليزية أداة تُساوي الأداة الإيطالية في قدرتها على التعبير، حتى انتهت بهم المحاولة إلى ضرب من المقطوعة الأربع عشرية، يختلف اختلافًا بيِّنًّا عن مقطوعة «بترارك» في الشكل والملامح، لكنه يُؤدِّي بالضبط ما أدَّته مقطوعة «بترارك» من عاطفة وشعور.
لقد زعمنا في بداية حديثنا عن الأسلوب أنه يتألف من ثلاثة عناصر أساسية؛ الألفاظ التي يستخدمها الشاعر أو الكاتب، وتركيب هذه الألفاظ في جمل، ثم طريقة السير في موضوع الحديث. وقد فرغنا فيما سلف من البحث في الألفاظ وقيمتها في أداء المعنى، وفرغنا كذلك من البحث في وجه واحد من وجوه تركيب الألفاظ، وأعني به تنسيقها بحيث يكون لوقع أنغامها في الأذن أثر وتعبير. وكان لا بد لنا أن نتناول سائر وجوه التأليف بين الألفاظ في ضروب العبارة المختلفة، ولكن ذلك سيدخل بنا في دقائق البيان والبديع، فلنا أن نتجاوز عنها لنُفسِح لأنفسنا بعض المجال لبحث العنصر الشعري الثالث في إيجاز، وأعني به طريقة السير في موضوع الحديث. فكيف يُعالِج الأديب مادته؟
لقد أسلفنا لك فيما مضى كيف يستغل الأديب — والشاعر بصفة خاصة — ما للألفاظ من قوة تعبيرية، بحيث يُؤدِّي بها فضلًا عن معانيها العقلية كلَّ ما تحمل في أحشائها من صور مُدخَرة ومشاعر كامنةٍ لفَّت نفسها لفًّا حول ذلك المعنى العقلي. وقلنا إن الألفاظ كالقماقم أُغلِقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها، اختزنها فيها الإنسان على كر العصور، والشاعر البارع هو الذي يعلم كيف يُزيل عن تلك القماقم سداداتها ليُفرِغ المكنون المُدخَر فيها. وهذا بعينه هو طريقته في مُعالَجة موضوعه؛ فهو لا يعنيه أن يعرض موضوعه عرضًا عقليًّا، بل يُحاوِل أن يُبرِز كل ما يحتويه الموضوع من سائر العناصر التي هي قوامه وجوهره. خُذ هذَين البيتَين لمردث:
ويُريد بهما الشاعر أن المُلحِد — الذي يكفُر بخلود الروح بعد موت الجسد — لا ينبغي له أن ييأس ما دام مصيره هذه الأرض التي تحمل الورد فوق صدرها، لكن الشاعر لا يُقنِعه أن يسوق معناه هذا مُستقيمًا واضحًا كما عبَّرنا عنه في النثر؛ لأن المعنى العقلي وحده لا يكفيه، إنما يُريد أن يُضيف إليه ألوان المشاعر والعواطف التي ليست من المعنى العقلي في شيء وإن تكُن مُرتبِطة به. «فالصدر الذي يحمل الوردة» هو الأرض، ولكن هل هو الأرض التي تتألف من الكربون والنتروجين وما إلى ذلك من عناصر التربة والصخور؟ كلا، بل إنه ليرى في هذه الأرض أمًّا رَءومًا تنسل من جوفها الورد الجميل، ويخلع على الأرض عاطفة الأمومة نحو نسلها هذا الجميل، فكل هذه الخواطر تتداعى إلى الذهن حين يقرأ عن الأرض أنها «الصدر الذي يحمل الوردة»، وهو وصف بعيد عن الدقة العقلية كل البعد، فليس الورد أطفالًا، وليست الأرض صدرًا حنونًا يضمُّ إليه هؤلاء الأطفال، ولكن هذا الانحراف نفسه عن الدقة العقلية هو قيمة الصورة التي رسمها الشاعر باستعارته؛ فالمُماثَلة بين الأرض والورد من ناحية، والأم وأطفالها من ناحية أخرى تشبيه حقيقي صادق، لكنه يخفى عن العين حتى يكشف عنه الشاعر بمثل هذه الصورة التي يرسمها، فكلنا يستطيع أن يرى الوردة نباتًا تُنتِجه الأرض، والشاعر وحده هو الذي يرى الوردة طفلًا تلده الأرض. فالشعراء بما يرسمون من صور كهذه يخلعون على الأشياء صفاتٍ ليست لها في حكم العقل، لكنها في حقيقة الأمر ترمز لروحها الحق وجوهرها الصحيح. هذه الصور هي إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يُريدون.
وبديهيٌّ أن تحكم للشاعر بالجودة في صوره هذه التي يُكوِّنها ليُعبِّر بها عن معانيه بما لها من قوة التأثير والتعبير، فقد تكون الصورة مُمتِعة في ذاتها مُزخرَفة مُزركَشة، لكنها لا تُضيف جديدًا إلى معاني القصيدة، بل قد تُضعِف تلك المعاني. ونعود مرة أخرى إلى هذَين البيتَين اللذين يصف بهما الشاعر السحاب في يوم عاصف، فنتخذهما مثالًا مُوضِّحًا:
فلا شك أن هذه كلها صور جميلة؛ فالسحاب الذي لبس رداءً من حرير، والرداء الذي طرَّزه لمع البرق، والدمع الذي ينسكب من غير المحاجر، ثم الضحك الذي تتحدر قهقهته من غير الأفواه، كل هذه صور جميلة ولكنها تُفسِد المعنى؛ لأنها لا تترك في القارئ أثر السماء العاصفة ببرقها ورعدها.
وظاهرٌ أن تصوير الجزاء الذي يلقاه ذو الحياة العظيمة — والذي يُراد به أن يكون إغراءً للناس أن يحيوا حياة عظيمة — بخلود لا يزيد على آثار أقدام فوق الرمال لن تلبث أن تُسفيها الرياح، لا يُؤدِّي المعنى المراد إلا أضعف الأداء؛ فالصور الكلامية التي يستخدمها الشاعر إن أُجيدَ استخدامها كانت أداة مُفيدة في أيديهم، فبفضلها تُشخَّص المعاني المُجرَّدة، وتصبُّ في صور مرئية محسوسة، وبذلك تكتسب قوة ونصوعًا. ويجمل بنا في هذا الصدد أن نُشير إلى حيلة شائعة في الآداب الأوروبية، وكانت أكثر شيوعًا في العصور الوسطى منها في العصر الحديث، وهي أن يكتب الشاعر اسم المعنى المُجرَّد الذي يُريد تشخيصه وتجسيده مبدوءًا بحرف التاج، وإنها لَحيلة قمينة أن تبلغ غايتها في الشاعر المُجيد، لكنها أقرب إلى الإخفاق؛ لأنها في أكثر حالاتها لا تحمل إلى الذهن صورة مُجسَّدة كما أُريدَ لها أن تفعل. ومن خير الأمثلة التي تُساق لنجاح الشاعر في تشخيص المعاني المُجرَّدة مع جعلها حية في الذهن، ما صنعه «ملتن» في «الفردوس المفقود» إذ شخَّص «الخطيئة» و«الموت» فأبرزهما في أبشع صورة لهما، وما صنعه هو نفسه كذلك في إحدى قصائده الأخرى، إذ شخَّص «الضحك» فجعله كأنما هو شخص ينبض بالحياة مُمسِكًا جانبَيه بكلتا يدَيه من فرط القهقهة.
وما هذا التشخيص إلا واحد من مئات من طرائق التعبير وأساليبه عند الشعراء، يُريدون بها ألا يقتصروا في أداء المعنى على مُجرَّد سرده وبسطه بطريقة مُستقيمة مُباشِرة؛ لأنهم إن فعلوا كانوا يُخاطِبون العقل، ومهمتهم أن يُثيروا بألفاظهم وصورهم الجيدة كل ما يُمكِنهم أن يُثيروه في أنفُس القُراء من مشاعر وذكريات. ومن أهم هذه الطرائق التي يصطنعها الشعراء في أداء المعاني التشبيه والاستعارة. وللاستعارة في الشعر قيمة بالغة، بحيث يكاد يستحيل أن يكون الشعر شعرًا بغيرها؛ وذلك لأن الشاعر يرى بين الأشياء التي تبدو مُنفصِلة لا علاقة لإحداها بالأخرى روابط وصلات، فإذا ما ربط بعضها ببعض كانت له استعارة أو تشبيه، وأمثلة الاستعارة والتشبيه في الأدب كثيرة لا تقع تحت الحصر، يقول الشاعر:
فليست العين نرجسًا، ولا قطرات الدمع لؤلؤًا، ولا حمرة الخدود وردًا، ولا أطراف أناملها المُخضَّبة عنابًا، ولا أسنانها بردًا، لكن هكذا ربط الشاعر الصلة بين هذه المُتفرِّقات ليوحي إلى القارئ بمعنًى وصورةٍ لا يُوحي بهما التعبير المُستقيم «سالَت عَبراتها على خدها وعضَّت على أناملها بأسنانها»، فلن يمضي القارئ على اللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبرد، دون أن يتصوَّر لألاءها وعبَقها وفتنة جمالها.
ويقول امرؤ القيس في وصف الليل:
فانظر إلى هذا البيت الثاني، يُريد الشاعر أن يقول إن ليله طويل بطيء ثقيل، فلما رأى للَّيل وسطًا مُمتدًا استعار له من البعير صلبه وهو يتمطى به، ولما رآه بطيئًا ثقيلًا مضى في استعارته لأجزاء البعير فجعل له أعجازًا، ثم أمعن في تصوير الثقل والبطء فجعل بعيره ينوء بكلكله. وهكذا صوَّر الليل على صورة البعير، حيث جعل له صلبًا يتمطى به أولًا، ثم عقَّب على ذلك بذِكر العجُز، ثم بالكلكل، وهو ما يعتمد عليه البعير إذا برك.
وانظر إلى هذا الشاعر الذي يصف لك كاتبًا يحلُّ المُشكِلات بقلمه، فيجعل الأقلام نبالًا، ويجعل الأنامل ريشًا لتلك النبال، ثم يجعل من سواد الليل نصولًا لها، ويجعل القرطاس أمامه حَلبة، وكأنما الأقلام جياد في هذه الحلبة، وما صريرها وهي تكتب إلا صهيل تلك الجياد.
ثم اقرأ هذه الاستعارة التي تُثير فيك التأمُّل والتفكير:
وهذه الاستعارة التي يرثي بها والد ولده:
فلو قال لك إن ولدي مات صغيرًا، لما وفَّى ما أراد أن يقوله، إنما أراد هذا الأمل الذي يتعلق به ويرقُبه يومًا بعد يوم لعله أن يكتمل، وإذا به يقضى قبل أوانه بقدَر مُباغِت لم يكُن يتوقعه، كهذا الكسوف الذي ينقضُّ على الهلال فيقضي عليه قبل أن يكتمل إبداره، ولا تقُل إن في هذا التصوير خطأً يبعد به عن الواقع، إذ الكسوف لا يُصيب القمر إلا وهو بدر مُكتمِل؛ لأن الشاعر يُريد التأثير بألفاظه وصوره، فلو أثَّرت ألفاظه وصوره الأثر الذي يُريد لم يعُد له بعد ذلك مَطلب.
والفرق بين التشبيه والاستعارة هو أن الأول يحتفظ للمُشبَّه والمُشبَّه به بذاتَيهما، وكل ما يفعله أن يربط الصلة بينهما. وأما الاستعارة فتدمج الواحد في الآخر وتجعلهما شيئًا واحدًا؛ ففرقٌ بين أن يقول الشاعر: «فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت وردًا وعضت على العناب بالبرد» وبين أن يقول: «فأمطرت دمعًا كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدًّا كالورد وعضت على أنامل كالعناب بأسنان كالبرد» فالتشبيه — كما ترى — أقرب إلى تصوير الواقع. أما الاستعارة فأمعنُ في الخيال؛ لأنها تطمس الأشياء طمسًا وتستبدل بها أشباهها؛ فالفتاة الباكية في هذا البيت لم تسفح من عينها دمعًا كاللؤلؤ، إنما سفحته لؤلؤًا؛ لهذا كان التشبيه أكثر شيوعًا من الاستعارة في العصور «الاتباعية» التي يكون فيها الشعراء أقل حِدَّة في الخيال، وأكثر انصياعًا لأحكام العقل والمنطق، وكانت الاستعارة أكثر شيوعًا من التشبيه في العصور «الابتداعية» التي يشطح فيها الخيال ويجمح، فلا يكون للعقل عليه ضابط.
واضحٌ من هذا التساؤل أنه رجل ينطوي على نفسه، ويستبطن مَشاعره ليتعقَّبها، وهي تجري في دخيلته؛ كي يعلم حقيقتها وكنهها، أم نرى الضربة قد أطارت شيئًا من صوابه، أو على التقدير القليل قد فلَّت من حِدَّة انفعاله بعض الشيء. فلِمَ تترك له من القوة المُدرِكة ومن تماسُك النفس إلا قدرًا يستطيع به أن يعلم من نفسه هذا الذي يُلاحِظه ويعجَب لحقيقته؟ إننا بعدُ لا نعرف طبيعة الرجل، فلا بد لنا أن نأخذ تساؤله هذا «أترى الحق مرًّا كما يظن به لأول وهلة؟» على أنه بحث يُلقيه فيلسوف من طبيعته أن يغوص إلى حقائق الأشياء، ولعله أراد الآن أن يطرح أمام نفسه هذه المشكلة النفسية لدراستها في نفسه هو، وقد وقع به مُصاب كان يظنُّ به المرارة أول الأمر، وبغير أن يقول الرجل عن نفسه ما يكشف لنا عن طبيعته تراه ينتقل فجأةً فيقول:
بهذَين البيتَين قُضي الأمر وانزاح الشك وتبيَّنت حقيقة الرجل. لقد شككنا في أن يكون فيلسوفًا بلغ من حبه للتفكير المُجرَّد أنه في اللحظة التي علم فيها أن أمله في الحب قد ضاع، أخذ يُحلِّل وقع الأمر في نفسه باحثًا مُدقِّقًا ليجزم إن كان «الحق مرًّا كما يظن به لأول وهلة». لكن الفيلسوف الذي يغرق في تفكيره المُجرَّد والذي يستطيع أن يُمسِك بزمام نفسه، فينظر إلى الأمور نظرة موضوعية علمية هادئة حتى وهو في محنته، مثل هذا الفيلسوف لا تستوقف سمعَه مُناغاةٌ خافتة من عصفورٍ يُعشِّش على رفرف البيت. فلمْ يعُد من سبيل إلى الشك في أن صاحبنا عاطفيٌّ تسوقه مَشاعره ولا يعهد بزمام نفسه إلى عقله المُجرَّد الخالص، إنه رجلٌ يتلفت إلى الدنيا ومن حوله فلا يفتنه منها إلا الأحاسيس الرقيقة المُمتِعة، إنه لَيسعَد ويغتبط إذا ما استجاب إلى المُؤثِّرات العاطفية التي تنبعث عن الطبيعة من حوله؛ ومن ثَم استوقف سمعَه تغريدُ العصفور. لقد ساق الشاعر مُناغاة العصفور في هذا الموضع من قصيدته؛ لأن العصفور كان يُناغي في عشه على رفرف البيت حين وقف الشاعر عند بابه عقب لقائه بالحبيبة الهاجرة، لكن الشاعر لم يُرِد أن يُثبِت في قصيدته وجود العصفور في ذلك المكان وفي تلك الساعة من ذاك المساء لمُجرَّد أنه حقيقة وقعت، بل أراد فوق ذلك أن يُبيِّن أي نوع من الرجال صاحبنا، فلولا أنه رجل تغلب عليه العاطفة لما أدرك وجود العصفور ولا تحدث عنه. لقد ألِف الرجل في أماسِيه الذاهبة أن يهمس في أذن حبيبته لغوًا، كالذي يهمس به المجنون، لغوًا مُحبَّبًا إلى النفس. ولقد كان الحبيبان يطيران على جناح من الخيال والعاطفة، فإذا ما تناغيا: «عم مساءً» عند الفراق، سمعا العصفور يُناغي كذلك: «عم مساءً» كأن لحبهما صدًى في صدور الطير. فإن علمت هذا استطعت أن تُدرِك وقع ما ناغى به الطير عندما أقبل المساء في تلك الليلة على نفس الحبيب المهجور. إن الحياة الواعية عند صاحبنا تبدأ بأحاسيسه؛ لأنها من حياته أهم ما يستثير عنايته واهتمامه، وقد أراد في مُستهَل القصيدة أن يُسلِّط عقله على هذه الأحاسيس؛ لعله يهديها سواء السبيل. وها هو ذا يرى ويسمع العصفور الصغير الذي يُضرَب بضعفه المثل بين الأحياء جميعًا. ها هو ذا يرى العصفور ويسمعه وقد اتصلت حياته، فكانت الليلة كما كانت الأمس وكما ستكون غدًا وبعد غد. إن العصفور الهزيل الضئيل يحيا حياة موصولة لا مقطوعة؛ وذلك دليل في حكم العقل الذي أسلَمه الرجل زمام عاطفته على أن أساس الحياة في الكون كله هو الاستمرار والاتصال. فكيف يُمكِن في كونٍ هذا أساس الحياة فيه أن يفهم أو يُسيغ فكرة النهاية والانقطاع، أو أن يُصدِّق عن إيمان وعقيدة «أن كل شيء قد انتهى» كما قالت له المعشوقة الصادة، فاستهل بقولها قصيدته! كلا، يستحيل عليه أن يفهم أو يُسيغ فكرة النهاية والانقطاع، ثم يزداد ذلك استحالة عليه؛ لأنه وقد فكَّ عواطفه من عِقالها وأطلق سراحها، تلك العواطف التي اعتاد أن تُثيرها في نفسه ظواهر الطبيعة من حوله، مضَت في طريقها لا تنتظر مُثيرًا يدفعها، فراحت تجري في مُخيِّلته يدعو بعضها بعضًا في صف مُتتابِع الصور. فلئن ذكر العصفور لأن صوته وقع في سمعه، فقد عقَّب عليه بذكر الكروم ولم تكُن هناك، لكن الخواطر تتداعى من تلقاء نفسها:
وفي البيت الثاني دلالة كبرى؛ فهو في ألفاظه وتركيبه كاللغة الدارجة على الألسن في الحديث السائر، وليست فيه مُحسِّنات الشعر وزخارفه. وكان في مقدور شاعر مثل «براوننج» أن يتأنق لك في العبارة كيف شئت، وأن يرسم لك من الصور المُطرَّزة ما يخطف السمع والبصر، لكنه لم يُرِد في هذا الموضع إلا هذا القول البسيط؛ لتشمَّ منه رائحة الحياة الجارية المألوفة بما تعهده فيها من لغو بين المُحِبين. إنه يُريد أن يُعيد إلى ذهنك حياة الحبيب مع حبيبته كل يوم، فلقد لبث العاشقان أمدًا طويلًا يجولان في الطرق المُحيطة بالبيت، يلغو كل منهما للآخر لغوًا مرِحًا طَروبًا بما يراه من ظواهر الطبيعة البهيجة من حوله؛ فلطالما لاحَظا وتحدَّثا عن الحشرة تزحف فوق الأرض، والفراشة تنشر جناحها فتُبدي ألوانه الزاهية، وجذوع الأشجار وقد حُزَّت فيها علامات وإشارات، وأوراق الأشجار وقد بدت إحداها في وضع رشيق … تلك كانت أحاديث اليوم بين الحبيبَين. وفي مثل هذه الحياة يكون اليوم الذي تسقط فيه أول قطرات الثلج في الشتاء يومًا مشهودًا له عند الحبيبَين علامته التي تُميِّزه، وربما ظلَّا يرقُبانه أمدًا بعيدًا وقد ملأهما المرح والفرح والنشاط، فإذا ما قدِم احتفلا به، في إقبال طروب على الحياة. هكذا كانت حياة الحبيبَين معًا؛ دورة مُتجدِّدة تسري فيها عاطفة يخفُّ لها قلباهما. فلما سمع صاحبنا مُناغاة العصفور عند المساء، انطلق خياله إلى مَظهر آخر في الطبيعة لحظةَ ذاك النهار، وربما احتفظ به في واعيته ليكون موضوع السَّمر بينه وبين حبيبته، بل ربما كانت تلك البراعم الزاغبة على أوراق الكَرْم ظاهرةً أخذا يرقبانها معًا ليبتهجا بها عند أول ظهورها، فطبيعيٌّ أن ترِد على خاطر الرجل حلقةٌ أولى في سلسلة الخواطر التي أثارها تغريد العصفور. هكذا ترى الرجل غير مدفوع بتدبير من العقل الواعي، بل يفيض عنه التعبير فيضًا وينبثق انبثاقًا، كما يتفجر الينبوع بالماء والشمس بالضياء، فيُصوِّر لنا نفسه على سجيتها في تعبيره البسيط الذي جاء على نفس الصورة التي كان سيُحدِّث بها حبيبته عن براعم الأوراق في كَرْمة العنب. فأما وقد طفَت براعم أوراق الكَرْم من اللاشعور الدفين إلى الشعور الواعي — فورَدت في القصيدة — فكيف تراه يتأثر بها؟ لقد أحدث تغريد العصفور في نفسه إحساسًا باستمرار الحياة واتصال الوجود، فماذا عسى أن تُحدِث هذه الصورة الجديدة في نفسه؟ لقد أحدثت فيه أثرًا قويًّا ناصعًا، لا بمُجرَّد استمرار الحياة كما فعل العصفور، بل بناموس طبيعي آخر يدفع الكائنات الطبيعية كلها دفعًا نحو حياة أكمل خلقًا وأتم نضجًا. فكيف لرجلٍ تتردد في خاطره هذه الأحاسيس أن يفهم أو يُسيغ ما قالته له الحبيبة وما استهل به القصيدة «إن كل شيء قد انتهى»؟ إنه في هذه اللحظة المُعيَّنة، وفي هذا الموقف المُعيَّن، يستحيل عليه أن يُصدِّق ذلك عن عقيدة وإيمان، فيمضي قائلًا:
لقد حملته مَشاعره إلى عالم آخر لا يعرف اتصاله انقطاعًا، فتراه قد نسي الآن نسيانًا تامًّا أن «كل شيء قد انتهى» بينه وبين حبيبته، وأخذ يتوقع أن يتمَّ اللقاء بينه وبين حبيبته غدًا كما كان يتم كل يوم، ولكنه لم يكَد يُخرِج هذا الأمل الذي يجري به خاطره عن غير وعي، لم يكَد يُخرِجه في ألفاظ فيَعِيه عقله الذاكر اليقظان حتى أيقن من فوره أن اللقاء لن يكون غدًا كما كان، ومع ذلك فهو لا ييأس كل اليأس، ويستخرج من الموقف كل ما في مُستطاعه ليُشبِع عاطفته. فلئن استحال أن يكون اللقاء غدًا كما كان كل يوم، فلا ينفي ذلك أن يتم ذلك اللقاء على أي وجه من الوجوه:
فقد استدرك ها هنا أنهما إذا التقَيا غدًا فلن يكونا حبيبَين، ولكنها لا شك ستأذن له أن يضع يدها في يده. وهل تحرمه لذةً تهبُها أصدقاءها العابرين؟ فبعد أن يُهدهِد عاطفته على هذا النحو، ويبعث فيها الطمأنينة بالآمال الكاذبة، يُفيق من غفوته ويُواجِه الموقف كما هو، فيتبين له في جِلاء فقدُ الحبيبة إلى الأبد، فليس في غد لقاء بين الحبيبَين ولا بين الصديقَين، فتحتدُّ فيه العاطفة وتشتد حتى تنقلب انفعالًا مُضطرِمًا مُحتدِمًا، ويبدأ الجزء التالي من القصيدة بنبرات أقوى:
يئس المحب — إذن — من لقاء حبيبته، فلا أقَل من أن يحفظ أبد الدهر نظراتها وصوتها، ثم يعود الشاعر في الجزء التالي فيُهدِّئ من عاطفته الثائرة ليُخفي عن نفسه مَدى فادحته التي حلَّت به، ثم ليُمنِّي نفسه بحظوة عندها ضئيلة جدًّا، لكنها أصبحت في هذه الحالة اليائسة تكفيه:
وهكذا نترك صاحبنا مغمورًا بعاطفته حتى أطراف أنامله، كل أمله من حبيبته أن يضغط الضاغطون على يدها ثانيتَين اثنتَين، وأن تترك يدها في يده ثانيتَين ونصف ثانية.
لقد حاوَلنا بهذا التحليل أن نُوضِّح ما لعوامل التعبير الثلاثة من قوة؛ الألفاظ، ثم الصور، ثم طريقة السير في الموضوع. وكان ينبغي إتمامًا للتحليل أن نستعرض الأوزان والقوافي؛ لأن الصوت والنغم — كما قدَّمنا — جزء من التعبير، لكن ذلك لا يكون إلا في الأصل الموزون المُقفَّى.