جنَّات تأتي
ذلك الصباح شقَّت الشمس السحب المتراكمة في الليل، وانفتحت البوابة الضخمة. مفاصلها الحديدية طقطقت بصرير الساقية العتيقة، صوت لم يكن مألوفًا في ذلك السكون المطبق، طارت بعض العصافير من الفزع أو الفرح، أصبح لها صوتٌ يُشبه الزقزقة.
دبَّت حركة في الأجساد الجالسة فوق الأرض. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء، اتسعت عيونهم وعيونهن نصف المغلقة فيما يشبه النوم. كانوا جالسين، الرجال منهم، والنساء جالسات، فوق مساحة من الأرض الجرداء. رمل أصفر وعشب ذابل ونباتات لها أشواك. تنبت وحدها بلا ماء، ولا غذاء، يسمُّونها «شيطانية»، السماء قبل ظهور الشمس رمادية خاوية إلا من ذرَّات تراب، والسكون، الهواء معدوم، الجو ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة.
الرجال منهم في مكانهم المعتاد، جلابيبهم واسعة بيضاء علامة المرض، حزام رفيع مربوط حول الوسط له دلالة معينة في السجلَّات الرسمية، ضمن الأمراض المعدية كالدرن والجذام، وما إن ينظر الواحد في عينَي الآخر حتى تنتقل إليه العدوى، يحملقون في الفراغ بعيون نصف مفتوحة، يملؤها إدراكٌ كامل بالموت، تطفو فوق دمعة حبيسة لا تجفُّ ولا تسقط، رءوسهم حليقة «نمرة واحد» بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعرٌ ذابل يتدلَّى فوق صدورهم. لا أحدَ يعرف أعمارهم بالضبط. إلا رجل واحد يسمُّونه إبليس، يبدو في عمر الشباب، حليق الوجه، بلا شارب ولا لحية، شعر رأسه متمرِّد على القانون، غير محلوق، خُصلة قصيرة أمامية يطيِّرها الهواء، تسقط فوق جبهته السمراء، يرفعها بأصابع رفيعة، تظهر عيناه في الضوء سوداوين، يكسوهما بريقٌ خاطف شبه مجنون، من تحته دمعة مليئة بالحزن.
السور من الحجر عالٍ من فوقه أسلاك، رءوس الأشجار تهتز مع الهواء بحركة ثقيلة، عيناه تدوران مع السور حتى البوابة الحديدية.
النساء كان لهن مكان معين، يسمَّى ركن الحريم، يجلسن القرفصاء فوق الأرض، رءوسهن ملفوفة بالطُّرَح البيضاء كالعائدات من الحجاز، أذرعهن حول صدورهن معقودة، أيديهن تحت خدودهن والشفاه مطبقة، مزَّق السكون صوت البوابة الضخمة، اهتزَّت أعمدتها الحديدية واهتزَّت معها جدران السراي.
السراي؟! كلمة ناقصة لا تدل على شيء، حتى يضاف إليها كلمة أخرى من خمسة حروف فترتعد الأجساد. سراي أو قصر قديم منذ الفراعنة. كان يسكنه ملِكٌ تصوَّر أنه يملك الأرض والسماء، وبني آدم وبنات حواء، ثم مات كما تموت الخيول. دفنوه في حفرة بالأرض إلى جوار حصانه وسيفه. لم يبقَ من الثلاثة إلا قطعة صغيرة من الحديد على شكل نصف دائرة، كانت حدوة في حافر الحصان وأصبحت داخل غرفة زجاجية بمتحف المدينة يتفرَّج عليها السيَّاح.
جدران السراي آيلة للسقوط منذ قرون، لكنها لا تسقط. قصور كثيرة سقطت وراحت في العدم، إلا هذه السراي، وقالوا لأن الشيطان يسكنها وهو مجنون لا يؤمن بالزمن أو الله أو المدير أو رئيسة الحكيمات.
مع انفتاح البوابة ارتفع غبارٌ في الجو، وفرقة من رجال البوليس. كعوبهم حديدية تدقُّ الأرض كحوافر الخيول. قبَّعاتهم النحاسية تلمع بلون أحمر. تبِعتهم فرقةٌ من التمورجية بالمرايل البيضاء. أحذيتهم من المطاط بلا صوت. أنفاسهم عالية مسموعة تتلاحق في لهاث سريع وأفواههم مفتوحة.
ثم توقَّف كلُّ شيء فجأة لحظة دخولها من البوابة. حتى العصافير كفَّت عن الزقزقة. ثبتت في مكانها فوق الأسلاك ترمق القادمة الجديدة بعيون صغيرة تلمع كحبَّات الخرز.
من بين المصراعين المفتوحين اندفع جسمُها الممشوق بحركة غير مألوفة لبنات حواء. حركة مقتحمة كمن تُلقي نفسها في جوف البحر وقامتها مشدودة.
تحرَّكت نحوها عيونُ الرجال والنساء وثبتت فوق عينَيها المفتوحتين على العالم كالنافذتين لا يطرِف لهما جَفن؛ الرموش طويلة مرفوعة مستعدة للمقاومة حتى النهاية، و«النني» داكن السواد ثابت في مكانه. شعرها كثيف أسود يطيِّره الهواء فوق وجهها. تقذفه وراء ظهرها كالفرس الجامحة. حافية القدمين تُمسك حذاءها في يدها. من الجلد الأسود بدون كعب كأحذية الراقصات أو لاعبات السيرك.
اندفعت من البوابة الحديدية السوداء كالسهم الأبيض يشق الكون نصفين. من خلفها عدد من التمورجية يحاولون اللحاق بها. يمدُّ أحدهم يدَه ليُمسك ذراعها فتفلت منه. يُمسك أحدهم بذراعها فتضربه على يده بفردة الحذاء.
مشهد لم يحدث منذ بُنيت هذه السراي. قالوا إنها بنيت في ثلاثين عامًا. حمل العبيد الأحجار من جبل المقطم فوق ظهورهم. صعِدوا السقالات بخطًى ثقيلة والكرابيج تلسع أردافهم. قالوا إنهم هم العبيد الذين بنوا هرم خوفو أو منقرع. بعضهم قال خفرع، ولا أحد منهم يعرف التاريخ قبل نزول الكتاب.
كلمة «الكتاب» مكتملة لا تحتاج إلى كلمة أخرى. إذا رنَّت الكلمة في الجو أدرك الجميع أنه كتاب الله ولا كتاب غيره يدخل السراي بأمر المدير. تمرُّ رئيسة الحكيمات في الليل تفتِّش العنابر. تدسُّ يدها داخل الدواليب والأدراج. تقلِّب أصابعها بين الملابس. في السراويل الداخلية كان الرجال يُخفون الكتب والروايات الغرامية، لكن النساء أكثر حذرًا، ولا يمكن للرئيسة أن تعثر في ملابسهن الداخلية على شيء، اللهم إلا بقعة دم أو رائحة حلم قديم.
من وراء حاجز الحريم اتسعت عيون النساء. لأول مرة في حياتهن يشهدن امرأة تدخل من البوابة مرفوعة القامة. أعناقهن تشرئبُّ بحركة أشبه بالكبرياء. كالعدوى. كبرياء واحدة من جنسهن تكفي لنشر المرض. تفك امرأة ذراعَيها من حول صدرها وتنهض واقفة. تُطلُّ عليها من بعيد بفم مفتوح. تفلت منها ضحكة. تشاركها النساء الضحك المكتوم. تهتز أجسادهن المتربعة فوق الأرض بالهواء المخزون. تنتقل عدوى الضحك إلى الرجال، ينبعث الهواء الراكد في صدورهم بصوت أعلى من صوت النساء. كان الضحك مباحًا للرجال دون قهقهة عالية. الوحيد الذي كان يقهقه دون عقاب هو المدير، ورئيسة الحكيمات حين يغيب المدير، وحين تكون وحدها في غرفتها.
لكن المشهد ذلك الصباح كان فريدًا من نوعه، وإبليس كان يتمشَّى. عيناه تدوران فوق السور العالي. تتوقفان عند البوابة وتثبتان. رفع خصلة الشعر من فوق جبهته ورآها تدخل حافية القدمين وحذاؤها في يدها. عيناها واسعتان والرموش ثابتة، كأنما رآها من قبل. الوجه والملامح والحركة والكبرياء. كلُّ شيء رآه في الحلم أو قبل أن يولد.
وانطلقت من صدره ضحكة عالية تحوَّلت إلى قهقهة نشرت العدوى بين الرجال، والنساء أيضًا. أصبح الضحك يخرج من صدورهنَّ مع الهواء بصوت مرتفع.
انطلقت صفَّارات الإنذار في الجو. أطلَّ المدير برأسه من مكتبه العلوي. ظهرت رئيسة الحكيمات برأسها الملفوف بالطرحة البيضاء من خلفها فرقة من التمورجية يُمسك كلٌّ منهم عصًا من الخيزران. يلسعون النساء على أردافهن.
– كله يدخل العنابر! كله يدخل جوه!
تهرول النساء إلى الداخل، إلا تلك المرأة التي بدأت الضحك. تمشي بحركة بطيئة رافعة عينَيها نحو القادمة الجديدة. ملامحها غريبة ومألوفة. هذه الحركة الجامحة رأتها من قبل، كالفرس الحرَّة غير مملوكة لأحد، يلسعها التمورجي فوق ردفَيها.
– بسرعة! ادخلي يا بت يا نفيسة!
تتلكَّأ في مشيتها. تهزُّ ردفيها. تلسعها العصا مرة أخرى. تستدير نحوه بحركة غاضبة.
– متشطر على النسوان! ما تروح تضرب الرجالة!
– بسرعة ادخلي يا بت! المدير جاي!
لم يكن التمورجية يضربون الرجال فوق أردافهم. يكتفون بشخطة أو لكزة في الكتف ببوز العصا. ويدخل الجميع إلى العنابر إلا إبليس يختفي وراء جذع شجرة، ورجل آخر أكبر سنًّا. لحيته طويلة بيضاء، رأسه ملفوف بعمامة على شكل القمع، مدبَّبة القمة تعلوها ريشة سوداء. تنتصب في الهواء كعرف الديك. يلكزه التمورجي في كتفه بالعصا الخيزران.
– ياللا ادخل بسرعة مش شايف المدير؟
– مدير مين يا حمار؟ مش عارف أنا مين؟
– عارف يا مولانا بس ادخل بسرعة خلي اليوم يفوت على خير.
في مدخل السراي كان المدير واقفًا داخل معطفه الأبيض. أمامه قائد الفرقة البوليسية، يناوله ورقة ملفوفة على شكل قرطاس.
– اتفضل يا فندم، وقِّع لنا باستلام المريضة.
فتح المدير الورقة. تأمَّل الحروف طويلًا. زحفت عيناه من الورقة إلى المرأة الواقفة كالنمرة وحذاؤها في يدها. عيناها تدوران حولها تتأمل المكان الجديد. فوق شفتيها ابتسامة. أخرج قلمه الحبر من جيبه العلوي ووقَّع باسمه فوق الورقة على شكل شخبطة. حملق فيها قائد البوليس بعينَين متسعتين ثم رفع يده بالتحية العسكرية. ضرب كعبَي حذائه أحدهما بالآخر. خبط بهما الأرض عدة خبطات، واستدار معطيًا ظهره للمدير وخرج من البوابة مع فرقته يدبُّون بكعوبهم كحوافر الخيل.
الرئيسة كانت واقفة خلف المدير. حول عنقها خيطٌ أو سلسلة تتدلَّى منها صفارة، راقدة فوق صدرها كالفأر الصغير داخل الخندق بين النهدين الكبيرين. رأسها الملفوف بالطرحة البيضاء مطرق إلى الأرض. عيناها تختلسان النظر إلى قدمَي المرأة الحافيتين. تصعدان إلى ساقَيها المشدودتَي العضلات داخل سروال من الجلد. حول خصرها حزامٌ عريض. قميصها أبيض فضفاض، له فتحة واسعة يطلُّ منه عنقها الطويل، أسمر اللون كجذع شجرة يخرج من بطن الأرض. عيناها واسعتان تملؤهما نظرة ثابتة كالجنون.
– اسمك إيه؟
– جنَّات!
قالتها بملء فمها، وابتسمت. امتلأ وجهها بالضوء. بينها وبين اسمها علاقة حب قديمة، «جنَّات». جمع جنَّة. هكذا كان يقول أبوها.
ودارت عيناها تتأملان المكان حتى التقتَا بعينَي الرئيسة. حملقت فيهما طويلًا كأنما رأتهما من قبل.
– نرجس؟!
هزَّت رأسها الملفوف بحركة عصبية: أنا الريسة!
وارتفعت ذراعها تُمسك الصفارة الراقدة فوق صدرها. أخذت تلفُّها بين أصابعها كحبَّات السبحة. تدور بها حول نفسها. شفتاها تُتمتمان بآية تطرد أرواح الجن.
ويرنُّ صوت المدير في البهو الواسع ذي الأعمدة الحجرية: غرفة منفردة تحت الملاحظة وثلاث جلسات في الأسبوع.
– حاضر يا فندم.
يخرج صوت الرئيسة من بين أسنانها دون أن تحرِّك شفتَيها، ثم اختفى الجميع، إلا أربعة من التمورجية، وجنَّات واقفة كما كانت وحذاؤها في يدها. أرادت أن تصعد إلى غرفتها وحدها، لكن ثماني أذرع امتدت نحوها. أمسكوها. ساقوها عبر ممرات مظلمة طويلة. صعدوا بها دورًا وراء دور. سلالم متآكلة تئنُّ تحت أقدامهم بصوت مكتوم، كمُواء القطط المريضة. داخل غرفتها بجوار عنبر الحريم تركوها فوق السرير. أغلقوا الباب عليها بالمفتاح. سمعت الصرير بأذنَيها وهي مغمضة العينين.
كالحلم القديم يتحول فجأة إلى حقيقة. تفتح عينيها وتُغمضهما. أين هي؟ وهذه النافذة ذات القضبان رأتها من قبل في النوم، أو في حياة أخرى قبل أن تولد.
عيناها تنفذان خلال الأعمدة الحديدية، نظرتها ممدودة بامتداد الصحراء. ترتد إليها وتدور بها على السور الحجري العالي. تهبط إلى المساحة الجرداء حول السراي. كانوا يسمونها الحديقة. عشب ذابل كالبقع الصفراء فوق الأرض. عمود حجري حُفرت عليه نقوش فرعونية. هذا الرسم رأتْه من قبل. يُشبه صورة العجل أبيس أو الإله رع في كتاب المدرسة. كانت في السنة الأولى الابتدائية وكان للآلهة رءوس لها قرون.
وراء جذع شجرة مقطوعة لمحته مختفيًا. جلبابه واسع أبيض مربوط عند الوسط بحزام رفيع. شعر رأسه أسود كثيف يغطِّي عنقه من الخلف. أحد التمورجية يدور حول الشجرة ليُمسكه. يُفلت منه ويصفِّق بيديه كالطفل يلعب «الاستغماية».
– أنا هوه أنا هوه …
ثم رفع وجهه ورآها واقفة خلف النافذة. التقت عيونُهما في نظرة طويلة كأنما التقيَا من قبل. هتفت: أنا جنَّات.
دوَّى صوتها في الفضاء وذاب في الهواء، وهو واقف شاخص نحوها بعينَين متسعتين. اسمها جنَّات، وهو يحلم بجنَّة واحدة.
انقضَّ عليه التمورجي وأمسكه من ذراعه.
– مسكتك يا إبليس.
دوت الكلمة في أذنيها. عيناها تحملقان في عينَيه. أيكون هو؟