الحب الآثم
من فوق جفونها المغلقة سمعت الصوت. يُشبه صوت ابنها الميت واقفًا بجوار السرير في الظلمة. شعر رأسه أسود غزير. عيناه سوداوان تطفو فوقهما دمعةٌ لا تجف ولا تسقط، أنفه مستقيم، لا يُشبه أنف أبيه.
تمدُّ يدها وتُمسك يدَه. أصابعه طويلة تُشبه أصابعها، أنامله دقيقة، يعزف بها، ويغنِّي مع شقشقة الفجر والعصافير تزقزق. تفتح فمها لتغنِّي معه، لكن صوتها لا يطلع. حزام من الجلد مشدود حول صدرها، وجفونها مغلقة.
– جنَّات!
انتصبت أذناها مرهفتين. أهو اسمها؟ كأنما لم تسمعه أبدًا. فتحت عينيها ورأت السقف الأجرب المشقَّق، سقط عنه الطلاء في أجزاء، وظهرت صورة الإله رع له رأس أبيس. عيناه جاحظتان، كأنما لم ترهما أبدًا، أو رأتهما كل يوم، اليوم وراء اليوم، السنة وراء السنة، ثلاثين سنة، وهو ينظر إليها بهاتين العينين، وهي داخل جدران من الطوب والإسمنت، وسور عالٍ يحجب الأفق، واقفة في النافذة تنتظر. السماء في الليل خندق أسود، في النهار خندق رمادي، يحوطها ويفصلها عن الناس، وخندق آخر داخل جسمها يفصلها عن نفسها، وحديقة كبيرة تحوط القصر. زهور شاحبة كالباقات في الأضرحة، وممرَّات طويلة مظلمة بالليل صامتة بالنهار، إلا صوت عجلات تجري فوق الأسفلت وبوق من بعيد، وهي واقفة في النافذة تترقَّب الغد.
أبوها كان يسمِّيه «الغيب» وأمها تسمِّيه «المستقبل». تراه مفتوحًا كالأفق، ومع إشراقة الشمس تجري بين المساحات الخضر، ثوبها برتقالي مليء بالكرانيش، يطيِّرها الهواء من حولها كالأجنحة، كولة بيضاء مستديرة حول عنقها، في يدها الحقيبة فيها الكراريس والأقلام.
عند ثنية الشارع تتوقف وتستدير. ترى وجه أمها في النافذة يلمع من بعيد كالنجم. ترفع يدها وتلوِّح لها، على باب المدرسة تلتقي بصديقتها. تلعبان في الفناء الحجلة، وفي حصة القراءة الرشيدة تُنشد القصيدة. تسري أبيات الشعر في أذنَيها كالموسيقى، وفي الليل تُمسك القلم وتكتب الحروف. رسالة حب إلى الرب.
– أنت الحب.
– أنت نجمة الصباح.
– نور القلب.
تمشي بسنِّ القلم فوق الورق. تلمحها جدتها وهي راقدة إلى جوارها.
– بتكتبي إيه يا جنات؟
– جواب لربنا.
ترسم الصليب فوق صدرها. أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا! تبلل شفتيها الرماديتين بالماء ثم تضع الكوب فوق الدولاب الصغير. تسمِّيه «الكوميدينو». تقرأ بصوت خافت آية من الإنجيل. تُغلق الكتاب وتدسه تحت الوسادة. تُغمض عينيها وهي تتمتم.
ثم تفتح عينَيها وترمقها بنظرة طويلة.
– صاحية ليه يا جنات؟
– مش جاي لي نوم.
– نامي يا جنات.
– أسمَّعك قصيدة شعر؟
– شعر؟
تنهَّدت جدتها تنهيدة طويلة. مدت عنقها المعروق وجذبت نفَسًا من الهواء، شهيق عميق، طردته بصوت كالصفَّارة أو الزفير الطويل. مصمصت شفتيها وانقلبت الشفة السفلى فوق ذقنها المتهدِّل فوق عنقها.
– قصيدة شعر؟!
أغمضت عينَيها وهمست: أبانا الذي في السماوات. فتحت عينَيها، والتقت عيونهما.
– نامي يا جنات، إخزي عين الشيطان.
– الشيطان؟
– كان جدُّك يقول عليه شيطان الشعر.
وانفرجت شفتاها عن ابتسامة. تقلَّص فمها واعوجَّ، ثم اتكأت بكوعها ونهضت. دسَّت قدميها داخل الشبشب. كانت تسمِّيه «البانتوفلي». سارت بخطواتها البطيئة الزاحفة، وضعت شلتة مربعة فوق الأرض وجلست تلهث. مدَّت ذراعها تحت السرير وأخرجت صندوقًا خشبيًّا طويلًا، يُشبه تابوت الموتى.
كانت تطلُّ عليها من فوق السرير. تراها ترسم الصليب فوق صدرها. تفتح الصندوق بيد مجعَّدة ترتعش. تفوح رائحة النفتالين أو الفورمالين كما تسمِّيه جدَّتُها، تُخفي رأسها تحت اللحاف. تظن أن جسد جدِّها ممدَّدٌ داخل الصندوق، لكنها ترى الفستان الأبيض ذا الكرانيش. الدانتيلا الرقيقة كأجنحة الفراشات. طرحة الزفاف من الشيفون الشفَّاف. ذيل الفستان طويل يجرجر على الأرض، تطويه جدَّتُها طبقة فوق طبقة. فوق عينها طبقة من الماء كالدموع. لا تجفُّ ولا تسقط. في قاع الصندوق كرَّاسة غلافها أصفر باهت. أطرافها متآكلة. تفتحها وترفعها تحت عينَيها حتى تلامس أنفها. تُغمض جفونها. تنام وهي جالسة، ثم تفتح عينَيها. ترصُّ حبَّات النفتالين في قاع الصندوق ومعه الإنجيل.
وفي الليل تسمعها تضحك بصوت كالبكاء المتقطِّع، تردِّد كأنما تغنِّي لنفسها: النفتالين يأكل العتة، والعتة تأكل الإنجيل، والنار تأكل العتة، ومين يدخل الجنة؟ أنا! أنا داخلة الجنة! أنا! أنا!
يتحشرج صوتُها وهي تَعدُّ على أصابعها أنا! أنا! يُصبح صوتها مشروخًا كصوت جدِّها تسمعه في الصباح، أنا داخل الجنة وإنتي داخلة النار! أنا داخل الجنة! أنا … أنا … أنا … الجنة … الجنة … وإنتي النار! النار! … فين الشاي؟ الشاي ده بارد! عاوز الشاي سُخن! سُخن قوي زي النار، زي النار.
ثم يسعل ويبصق في الحوض، يدقُّ الأرض بعصاه. يشفط الشاي من الكوب بصوت عالٍ. يتمخَّط في منديل أبيض. يُلقيه في سبَت الغسيل ثم يخرج.
في قاع سبَت الغسيل يرقد سرواله الأبيض من البوبلين الخفيف، يُشبه سراويل النساء، بلا رِجلين، تسمِّيه جدَّتُها «كات». تقبض عليه بأصابعها. تقرِّبه من أنفها تتشمَّم. تمطُّ شفتَيها إلى الأمام.
– راح لها إمبارح.
– مين يا نينة؟
– واحدة واكلة عقله.
– زي العتة؟
– أيوه تمام!
– جدِّي حيروح الجنة والَّا النار؟
– جدُّك رايح النار حدف!
تُغمض عينَيها وتنام. في الحلم ترى جدَّها يُشوى في النار. يدور حول سيخ من الحديد. له رأس يُشبه رأس خروف العيد. قبل الفجر يهتزُّ جسدها فوق السرير. تصطكُّ الأعمدة النحاسية. ترى جدَّتَها تنهض. تُخرج سروال جدِّها من سبَت الغسيل، تُمسكه بإصبعين اثنتين. الإبهام والسبَّابة، كأنما تُمسك صرصارًا ميتًا. تلقيه في الطشت. تصبُّ عليه الجاز. ترتفع ألسنة اللهيب في الحمَّام، حمراء طويلة تتلوَّى كذيول السحالي، وتسمع صرختها من وراء الباب. طويلة كالصفَّارة، ممدودة بامتداد الليل.
– يا هووووووه …
كأنما كانت تنادي على الإله يهوه. قرأت عنه في الكتاب المقدس. إله البراكين والزلازل. تنادي عليه ليغرق الأرض ويزلزلها. لتقوم القيامة ويأتي يوم الحساب.
من تحتها تحس السرير يهتز. تصطك أعمدته النحاسية. تقول أمُّها إنها روح جدَّتِها عادت لتنتقم من جدِّها. تُخفي رأسها تحت اللحاف. تمدُّ ذراعها عن آخره فوق السرير. ترتطم يدها بالجدار. لا أحد إلى جوارها. تفتح عينيها. ضوء خافت يدخل من شقوق الشيش. الستارة الزرقاء الشفَّافة تهتز مع الهواء. السقف مدهون بالبلاستيك والسرير بغير أعمدة نحاسية. سرير عريض دخل البيت مع جهاز العروس.
فوق الجدار صورة تُشبه صورة أمِّها ليلة الزفاف، لكن الفتاة في الصورة لا تبتسم. من حولها ثوب أبيض بلون الكفن. بين يديها باقة ورد شاحبة. كالباقات فوق الأضرحة. إلى جوارها رجل طويل عريض، كتفاه محشوتان. يرتدي بدلة عسكرية. فوق صدره نيشان. أنفه غضروف كبير.
– زكريا؟
رنَّ الاسم في أذنيها غريبًا كأنما لم تسمعه أبدًا، وكأنما كانت تسمعه كلَّ يوم، يوم وراء يوم، سنة وراء سنة، ثلاثين سنة، واقفة في الليل تنتظره. ينكفئ رأسُها فوق صدرها وهي واقفة. تعدُّ له العشاء وهي واقفة، تنتظره الساعة وراء الساعة وهو لا يأتي، وإذا أتى تعجَّل الأكل. بعد الأكل يتعجَّل النوم، بلا عناق أو مع العناق السريع. كمَن يبلع الطعام دون مضغ. يخلع البدلة العسكرية والوسام. يتحسَّس اسمه الثلاثي المحفور فوق القرص الذهبي. يربتُ عليه كالطفل، ثم يضعه في الصندوق المبطَّن بالقطيفة الخضراء. يخلع البنطلون والفانلة. يُخبِّئ السروال الداخلي في سبَت الغسيل. يرمقها بطرف عينه. تُغمض عينَيها وتغيب في النوم. قبل الفجر تنهض. في القاع ترى السروال مكورًا حول الإثم.
في الصباح تراه في الصورة واقفًا في الصف الأول. عيناه جاحظتان، ويداه معقودتان فوق بطنه. ساقاه مضمومتان كالفتاة العذراء. يتقدم لمصافحة الجنرال. ينحني ثم يتراجع إلى الوراء بظهره، يصطدم ببطن الواقف خلفه. يدوس بكعب حذائه فوق قدمه.
يناديه الجنرال فجأة فيندفع إلى الأمام. ينسى في غمرة الاندفاع أن بينه وبين الجنرال بابًا من الزجاج. يصطدم أنفه بالزجاج وينكسر الغضروف ومعه النظَّارة. يتراجع إلى الوراء بظهره دون أن يستدير. ترتطم إليتاه بباب آخر من الزجاج. يدور داخل علبة زجاجية تسمح بمرور الضوء دون الهواء. عيناه تبرزان في جحوظ أشد. صدره العريض من تحته الدرع الحديدية يعلو ويهبط كالمختنق.
في الصورة ترى وجهه شاحبًا من وراء الزجاج. يدور حول نفسه دورة كاملة داخل الباب الدائري. ثم يجد نفسه وجهًا لوجه أمام الجنرال.
– جود مورنينج معالي الجنرال. كله تمام يا فندم! كله أوكي!
لكن الجنرال صامتٌ كالدب الأبيض. شدقاه منتفخان بالهواء. تنفرج شفتاه الحمراوان عن صوت كالفحيح.
– أوه! نو! ذا ديفيل!
إبليس في لغة الجنرال كان اسمه «ذا ديفيل» يُخرج طرف لسانه وهو ينطق حرف الذال: أيوه «زا ديفيل» يا فندم؟
يقلب حرف الذال إلى حرف الزاء، لكن مترجم الجنرال يطلب منه أن يُخرج طرف لسانه من فمه، ويعلن أن الشيطان هو أصل الشرِّ في العالم، وهو الوحيد الذي ركب رأسه وقال «لا» والجميع يسجدون، لا ترتفع لأحدهم عينٌ.
– ذا ديفيل!
ويفتح الجنرال كتاب الإنجيل بأصابع بيضاء مملوءة باللحم. يغطيها شعر أحمر اللون. يرسم الصليب فوق صدره العريض من تحت الدرع الحديدية، ثم يفتح فمه عن آخره معطيًا الأمر.
– كيل ذا ديفيل!
هتف الجنود من ورائه في نفَس واحد وهم يطلقون النار: كيل زا ديفيل!
لم يُخرجوا ألسنتهم بحرف الذال. التصقت الألسنة بسقف الفم وجفَّت الحلوق. من فوق العيون طبقة من الماء كالدموع. الوجوه سمراء شاحبة، والجفون أكلها الذباب فوق الجسر. عظام الظهر بارزة عند لوحتَي الكتف. تحت البدلة العسكرية علامات حمراء تتلوَّى فوق اللحم كذيول السحالي. صوت الكرابيج تلسع الهواء. الأنفاس تتلاحق في لهاث سريع. آلاف الأنفاس تلهث بصوت كالهتاف: يسقط! يسقط!
الهتاف يدوِّي في أذنَيها كهدير الشلَّالات، وهي تجري في الظلمة فوق أربع عجلات. فمُها مفتوح وأنفاسها تلهث: يسقط! يسقط!
الصوت يهزُّ السرير من تحتها، والأعمدة النحاسية تصطك. الهتاف يذوب في صوت واحد كالصفارة الطويلة. تشد جفونها لتفتح عينيها لكنها نائمة نومًا عميقًا. تمدُّ ذراعها عن آخرها حتى الجدار، كان مكانه فوق السرير خاليًا، كان هنا منذ لحظة. كان هنا منذ ثلاثين عامًا وكان يمكن أن يبقى لحظة أخرى، لكنها لم تستبقه. تركته يمضي خارج حياتها. لم تفتح عينَيها لتستبقيَه. لم تفتح فمها وتناديه. ثلاثون عامًا وهي تقول زكريا. كان يمكن أن ينتظرها لتفتح فمها وتقول: يسقط النظام!
سمعت صوتها بأذنها ففتحت عينَيها عن شقٍّ صغير، تخشى أن تفتحهما أكثر فينقلب الحلم حقيقة. فوق رأسها السقف الأجرب، سقط الطلاء عن أجزاء منه. صورة الإله «رع» له جسد إنسان ورأس عجل. لمبة كهربية تتدلَّى من سلك يلتصق به ذباب ميت. باب الغرفة مفتوح. ضوء خافت يتسرب من الممر. تراه يدخل بقامته الطويلة ورأسه المرفوع. شعر رأسه غزير أسود. خُصلة واحدة تسقط فوق جبهته. يرفعها بأصابع نحيلة. تلتقي عيناه بعينَيها.
– جنَّات؟
يحوطها بذراعَيه كأنما هي أمُّه الميتة. بشرتُها سمراء بغير تجاعيد. تلمع تحت الشمس كالنحاس الأحمر، شعرها طويل أسود. يتطاير حولها مع الهواء. تقذفه وراء ظهرها بحركة واحدة. كالفرس الحرة لا يملكها أحد.
نهضت من السرير بحركة خفيفة. جرت فوق قدمَيها الحافيتين إلى المطبخ. عادت بزجاجة من البيرة المثلجة، وخيار أخضر قطَّعتْه على شكل أصابع رفيعة وضعته في كوب طويل به ماء، وصحن من الجبنة البيضاء، قطَّعتهما بالسكين على شكل مكعبات مستطيلة، وضعت السكين فوق المنضدة إلى جوار الزهرية. زهرة واحدة تتدلَّى من فوق الحافَّة. أوراقها منكمشة شاحبة البياض خالية من الدم.
عادت إلى المطبخ على أطراف أصابعها. جاءت بوعاء من الماء. روت الزهرة قطرة قطرة. فوق النافذة تهتزُّ الستارة الشفَّافة. نسمة هواء طرية قبل الفجر. نجمة الصباح تتألَّق في الأفق، كعين الأمِّ تلمع من بعيد. تطلُّ من النافذة عليها وهي تمشي إلى المدرسة. تستدير وتلوِّح لها بيدها. بريق يطفو فوق العين كالدموع. معلَّقة في السماء لا تجفُّ ولا تسقط، وتمتلئ الزهرية بالماء. الأوراق الميتة تتحرَّك مع لمسات الهواء. تتفتَّح الزهرة مع ضوء الفجر. يسري الشفق الأحمر في البياض الشاحب.
– جنَّات؟
وسمعها تضحك، ضحكتها ترنُّ في سكون الليل برنين الفضة. تُلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. تحلِّق الضحكة فوق رأسها كدوائر من الضوء، ثم تصمت فجأة. تطفو فوق عينَيها سحابة، في قمة الفرح يتسلَّل الحزن الراسب في القاع.
تشدُّ عينيها من الأفق وتنظر إليه. عيناه مملوءتان بالضوء. تحوطه بذراعَيها كابنها الميت، يرتدي قميصًا أبيض من القطن مفتوحًا حتى الصدر. تحت إبطه شعرٌ أسود له رائحة الأطفال، وجرحٌ قديم في الظهر، تحت لوحة الكتف.
– أحبك.
تسري كلمة «أحبك» في أذنيها غريبة، كأنما تسمعها لأول مرة، وهو جالس أمامها في الشرفة البحرية. يرشف من الكوب بلا صوت. يمضغ الطعام بلا صوت. ملامحه مألوفة كأنما رأتها منذ وُلدت. عيناه حين يراها تمتلئ بالبريق كعيني أمِّها، وصوته يمشي فوق جفونها كالشعاع الدافئ.
– أحبك.
تتَّسع عيناها وتملؤها الدهشة. تسمع الدقَّات تحت ضلوعها تتراقص. سنابل القمح تهتزُّ بالإيقاع ذاته، وأجنحة الفراشات تصفِّق باللحن القديم. أذناها مرهفتان تتسمَّعان الصوت. آلاف الأجنحة تصفِّق. آلاف الأيدي مرفوعة في الهواء، والهتاف يسري في الكون كهدير الشلَّالات.
– أحبك! أحبك!
الأرض من تحتها تهتزُّ، والسرير من فوق الأرض يهتزُّ. تصطكُّ الأعمدة النحاسية. الجدران الأربعة تتمايل بحركة مرئية، الصورة فوق الجدار تهتز وتسقط. ينكسر الزجاج ويتناثر في الجوِّ كرذاذ المطر. طرحة الزفاف تتطاير ومعها الكرانيش، والدانتلَّا تُحلِّق في الجو مثل نتفٍ من القطن. زبد أبيض يتراكم فوق السحب.
من وسط المطر والزجاج المكسور تراه يخرج من الصورة — داخل بدلته العسكرية والوسام فوق صدره. يرتدي وجه جدها الميت. له رأس مربع كالدبِّ الأبيض. ثابت في الهواء كأبي الهول. له قمة مدبَّبة كهرم خوفو، وأنفه غضروف مقوَّس كمنقار النسر.
رأته يمشي نحوها في الظلمة. كان الليل أسود بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة تغطِّيها السحب، والهواء ثقيل مشبع بالدخان وذرَّات الرمل. رءوس الأشجار تُلقي ظلالًا سوداء فوق الأرض، كالأشباح. عيناه تفِّتشان عنه بين الأشباح. نظر وراء الشمَّاعة، داخل الدولاب، فوق السندرة. انحنى بجسده كما كان جدُّها ينحني، وأطلَّ برأسه تحت السرير، وجهُه إلى أسفل وإليتاه إلى أعلى كأنما يصلي.
– فين إبليس؟
كانت واقفة وراء النافذة كما كانت أمُّها تقف. عيناها شاخصتان نحو السماء، تتعلَّقان بالنجمة الوحيدة في الأفق. تغنِّي لها بصوت خافت كالنشيج: يا زهرة يا أم الكون.
– يا عالمة بأسرار الكل.
من خلفها ترى صورته منعكسة في زجاج النافذة. بشرتُه رمادية بلون جبل المقطم. شعر رأسه تساقط. لم يبقَ إلا ذؤابة طويلة كالريشة يحرِّكها الهواء. عيناه ثابتتان فوق السكين إلى جوار الزهرية. كوبان من الزجاج ينتصبان فوق المنضدة الرخامية. الأرض تهتزُّ ومن فوقها المنضدة، والكوبان يتلامسان بصوت مسموع، له رنين البلَّور.
أذناها تنتصبان وهي واقفة. ظهرها ناحيته ووجهها ناحية النافذة. الدقَّات تحت ضلوعها تتصاعد، الكوب يلامس الكوب الآخر بالإيقاع ذاته، كاللحن القديم، وهي تجري بين الزرع الأخضر تسابق الفراشات.
من خلال الزجاج رأت يدَه تمتدُّ نحو المنضدة. لمع النصل الحاد كالبرق تحت ضوء القمر، سقط الضوء على وجهها مثل الفلاش في الصورة. شاحب بلون الموت داخل فستانها الأبيض.
واستدارت قبل أن تتحرك يده. لم تُصبْها الحركة إلا بجرح تحت عظمة الكتف. كادت تنفذ إلى القلب، لولا أنها استدارت، وأصبحت أمامه وجهًا لوجه.
كانت الأضواء مسلَّطة على وجهه ومن حوله الجنود والأتباع والخدم، والعبيد، ولم يكن لأحد أن يرفع إليه عينَيه دون أن تصطكَّ أسنانه، ويسقط صريعًا من وهج الضوء.
رفعت عينَيها إليه دون أن تصطكَّ أسنانها، دون أن تُغمض عينَيها. نظرتُها ثابتة فوق يده. وجهها في الزجاج كوجه جدَّتها الميتة، والدم شريط طويل كدم أمِّها، وهو واقف أمامها طويل عريض. داخل جسد أبيها الميت.
– العار لا يغسله إلا الدم.
تقدَّم نحوها رافعًا يده قابضة على السكين. لم تتراجع إلى الوراء. ظلَّت في مكانها تحملق في وجهه بعينَين مفتوحتين، عيناها واسعتان تلمعان. صورته منعكسة في عينَيها. لم يكن يرى إلا صورته حين ينظر في عينيها. توقف لحظة يتأمل وجهه، كأنما يراه لأول مرة. الأنف مكسور أفطس، كأنف أبي الهول، والعينان صغيرتان مستديرتان، لونهما أصفر، كعينَي السحلية، وبشرتُه سوداء كوجه إبليس.
تجمَّد في مكانه لحظة ثم أفاق. أدرك أنه يرى وجهَ الرجل الآخر في عينَيها لا وجهه هو.
ساقطة كأمِّها وجدَّتِها. كلُّ النساء ساقطات. ناقصات عقل ودين. هكذا قال أبوه. حليفات الشيطان والباب الذي يفتح على الجحيم. هكذا قال جدُّه. أصل البلاء وسبب الخطيئة كما جاء في الإنجيل. كيدهنَّ عظيم كما قال الله في كتابه الكريم.
كان واقفًا أمامها كالتمثال. أصابُعه حول السكين متقلصة، عيناه مفتوحتان تحملقان في الفراغ. البياض جاحظ كبير، تشوبه صفرة، وشعيرات حمراء متعرِّجة. «النني» أسود صغير يدور حول نفسه كالبلية.
في دورته حول نفسه لم يرها. كانت واقفة عينها على السكين في يده. مدَّت يدها في لحظة خاطفة. لمع النصل بوميض البرق، وأصبح السكين في يدها.
تراجع إلى الوراء خطوة. يدُها أصغر من يده. عظامها أقل وزنًا من عظامه، لكن السلاح في يدها، والأقوى مَن يمتلك السلاح.
– يا ساقط!
انفرجت شفتاه ليردَّ عليها لكن صوته لم يخرج. أراد أن يقول كأبيه وجده إن الرجل لا يسقط وإن ذهب لامرأة أخرى، لكن المرأة ساقطة بالطبيعة، وإن ارتدت الحجاب وتلفَّعت بالفضيلة. كان يظنُّ أنها غير كل النساء، وأنه الرجل الوحيد في حياتها، الوحيد بلا شريك، وأنه يفقدها إلى الأبد. لكنه يفقدها الآن. حبُّه لها يتضاعف لحظة الفقدان. يكاد يلثم يدَيها يطلب الغفران. أنفاسه تلهث وهو واقف. صدره يعلو ويهبط. فوق صدره يهتزُّ القرص الذهبي ويلمع تحت الضوء. اسمه الثلاثي محفور كالنقش. حروف متعرِّجة مشرشرة وسوداء، أ. ﻟ. ﺴ. ﻴ. ﺪ. ز. ﻛ. ﺮ. ﻳ. ﺎ. ا. ﻟ. ﻌ. ﺒ. ﺪ.
– السيد زكريا العبد؟
اسمه الثلاثي يتمدَّد أمام عينيها غريبًا، كأرجل الخنافس الميتة، كأنما تراه لأول مرة. السيد؟ والعبد؟ في آن واحد؟ يرنُّ في أذنَيها صوتُ جدِّها الميت.
– أنا سيدك وعبد المأمور.
تُخفي رأسها تحت الغطاء. جدَّتُها إلى جوارها تلهث. أعمدة السرير النحاسي تهتزُّ. تلفُّ حول رأسها منديلًا أسود. تضع الإنجيل تحت الوسادة. تُغلق عينَيها وشفتاها تتحرَّكان. تُتمتم بلا صوت: تزحفين على بطنك إلى الأبد وهو يسود عليك.
تطلُّ بنصف عين من تحت اللحاف. تلتقي عيناها بعينَي جدَّتِها المفتوحتين: المأمور مين يا نينة؟
– رئيس جدَّكِ في الشغل.
– ليه اسمه المأمور؟
– له رئيس فوقه يأمره.
– ومين الرئيس فوقه يا نينة؟
– المحافظ.
– ومين فوق المحافظ يا نينة؟
– الوزير.
– ومين فوق الوزير يا نينة؟
– الملك.
– ومين فوق الملك يا نينة؟
– الخواجة الجنرال.
– ومين فوق الجنرال يا نينة؟
– ربنا.
ترسم جدتها الصليب فوق صدرها. أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا.
ومن وراء الباب الزجاجي ترى ألسنة النار تتصاعد حتى السقف. جدتها راقدة فوق بلاط الحمَّام. عيناها مفتوحتان وشفتاها مطبقتان في صمت. الصمت يدوي في أذنيها كهدير الشلالات. آلاف الأصوات تهتف: يسقط! يسقط!
مع حركة شفتَيها وهي تهتف ارتفعت يدها في الهواء، ثم سقطت السكين فوق القرص الذهبي. انشق القرص نصفين، وتناثرت حروف الاسم الثلاثي كذرَّات الرمل. انشقَّت الدرع الحديدية من تحت القرص. ودخل النصل في قطعة كالحجر لها شكل القلب. خرج منها يلمع تحت ضوء القمر. نظيفًا أبيض، بلا قطرة واحدة من الدم.
أخفت رأسها تحت اللحاف. كانت تظنُّه من بني آدم، له جسد من لحم ودم، لكنه كان تمثال الإله رع أو الملك رمسيس، اشتراه أبوها بجهاز العروس، وقبض منه المهر.
– جنَّات.
سمعت صوت الرئيسة يناديها. أخرجت رأسهما من تحت الغطاء. رأتها واقفة داخل ثوبها الأبيض. رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء. فوق صدرها قرص ذهبي يلمع، وحروف محفورة، مشرشرة سوداء كأرجل الخنافس الميتة. ر. ﺋ. ﻴ. ﺴ. ﺔ. ا. ﻟ. ﺤ. ﻜ. ﻴ. ﻤ. ﺎ. ت.
أخفت رأسها تحت اللحاف.
– عارفة أنا مين يا جنَّات؟
– إنت الرئيسة.
– لا أنا نرجس.
– نرجس مين؟
– مش فاكراني!
– لأ.
– بأمارة ما كنا بنلعب الحجلة.
– الحجلة مين؟
– مش فاكرة المدرسة؟
– مدرسة مين؟
والشيخ بسيوني؟
– شيخ مين؟
– مش فاكرة حاجة خالص؟
– لأ.
كان المدير جالسًا إلى مكتبه من وراء الزجاج. داخل معطفه الأبيض، شعرُ رأسه تساقط إلا ذؤابة بيضاء. انفرجت شفتاه عن ابتسامة. كشفت عن أسنان مشرشرة صفراء. أخرج قلمه من جيبه العلوي. كتب فوق ورقة طويلة متآكلة الأطراف.
– فقدت الذاكرة واكتمل الشفاء. تخرج غدًا قبل صلاة الفجر.
طوى الورقة بين أصابعه أربع طيَّات، ثم تذكَّر الختم. لا يمكن لأي ورقة أن تُصبح أمرًا واجب الطاعة إلا بالختم. قطعة مستديرة من الحديد أو الزنك لها يد كالمطرقة. يخرطها الحدَّاد، يرسم عليها صورة الإله «رع»، له كالنسر منقار مقوَّس.
أمسك المطرقة بإصبعين اثنتين، الإبهام والسبابة. مطَّ شفتَيه مغمضًا عينيه. تمتم بصوت هامس في نفَس واحد: الله الملك الوطن، ثم دقَّ بالمطرقة فوق الورقة. ناولها للرئيسة داخل مظروف مغلق بالشمع الأحمر.
لكن الرئيسة لم تمدَّ يدها لتأخذ الأمر. ثلاثون عامًا وهي تمدُّ يدَها وتأخذ الأمر. ثلاثون عامًا وهي تقف أمامه محنيَّة الرأس، لا تقوى على أن ترفع عينَيها إليه.
رفعت رأسها وحملقت في عينيه. كانتَا جاحظتين كعينَي جدِّها الميت.
– مالك يا بت واقفة زي الصنم؟
– اسمي نرجس مش بت؟
– من إمته؟
رفع يده ولسعها بالعصا فوق نهدها.
– من إمته يا بت؟
– من النهاردة!
– جهزي البيرة والمزة. جايلك الليلة!
– أنا ماشية وسيبالك الدنيا.
– حتروحي فين؟ عندك راجل تاني؟
– كرهتك وكرهت كل الرجالة.
– بقيت تحبِّي الستَّات؟
– أيوه.
– حتروحي النار مع قوم لوط.
– لأ يا سعادة البيه.
– السحاق حرام يا ست الريسة!
– لأ يا بيه! لم يرد ذكره في كتاب الله.
– يا ساقطة!
ارتفعت يده عاليًا حتى لامست السقف ثم هبطت فوق وجهها. دارت بها الأرض دورة كاملة. الجدران الأربعة دارت. جسد المدير دار مع الأرض. رأته واقفًا على رأسه، قدماه ناحية السقف. انقلب مكتبه وارتفعت أرجله الأربع في الهواء. الأشجار من خلال النافذة أصبحت رءوسها إلى أسفل، والسماء سقطت فوق الأرض. سيارات البوليس تجري فوق الأسفلت وعجلاتها إلى الأعلى. والترام، والقطارات خرجت عن القضبان وانقلبت، وهرم خوفو أصبح رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى. الصفَّارات تدوِّي، والأجراس تدقُّ. أجراس كنائس ومدارس، وأصوات كالأجراس من فوق المآذن. ومارشات عسكرية. صراخ النساء وزغاريد كالصراخ. ابتهالات الشحَّاتين ونداءات باعة الصحف. الأبواق والميكروفونات فوق الجدران والأعمدة. مارشات عسكرية وانفجارات الصواريخ. رذاذ أحمر كالمطر يملأ الجو. رائحة بارود ونفط يحترق. الهواء ثقيل مشبع بالدخان، شبورة كالضباب الأسود تُغلِّف الكون.
– يا ساقطة!
الصوت من خلفها يدوِّي وهي تجري. قدماها تتأرجحان فوق الكعب العالي. رفيع مدبَّب يطرقع فوق البلاط. جسدها يهتز. تكاد تسقط. تخلع الحذاء وتُلقي به خلف ظهرها. تجري حافية فوق الممر. من خلفها الصوت يطاردها كالصفَّارة الطويلة الممدودة آلاف الصفافير، وهي تجري بلا توقُّف. الطرحة حول رأسها تتطاير في الهواء. أطرافها تلتفُّ حول عنقها تكاد تخنقها. أنفاسها تلهث، تفكُّ الطرحة عن عنقها، تخلعها عن رأسها، تقذف بها في الهواء. تخلع المشدَّ المطَّاط من حول ردفَيها. تتركه يسقط عن ساقَيها ثم تقذفه بقدمها.
– يا ساقطة!
الصفَّارات من خلفها تدوِّي وهي تجري. فوق صدرها قرص ذهبي ثقيل. يعلو ويهبط مع أنفاسها. يحتكُّ بنهدها. تشدُّه بأصابعها. تخلعه من الدبوس، وتطرحه بعيدًا. تقذف بكل ما في جيوبها في الهواء. الإبرة، الصفَّارة، القروش، التقارير، قصاصات من الورق تتطاير حولها وهي تجري. جسمها يخفُّ ويخفُّ. فوق عينَيها طبقة من الدموع الجافة. ثلاثون عامًا من الحزن. من تحت السطح ترى البريق. كعينَي امرأة أخرى تفرح بالخلاص. تفتح ذراعَيها وتعانق الهواء. قدماهما لا تلمسان الأرض. الطريق مفتوح أمامها حتى الأفق. مساحات من الزرع الأخضر ممدودة بلا نهاية وهي تجري كالفراشة البيضاء. تصفِّق بجناحَيها وتطير. إلى جوارها فراشة أخرى بيضاء. تحلِّقان معًا في الجو. تضحكان بصوت الأطفال وتتعانقان.
وفجأة يدوي الصوت كطلقة الرصاصة. تتهاوى الفراشتان إلى الأرض. يدبُّ الصمت في الكون. يتوقف الهواء عن الحركة. رءوس الأشجار ثابتة. شعاع الشمس مائل عند الغروب. يهبط من وراء السحب بحركة كسولة. ورقة شجرة خضراء تلمع تحت الضوء وتنتفض. من فوقها تتساقط قطرات بطيئة. قطرة وراء قطرة. حمراء بلون الدم. مسموعة بالأذن. دقَّة وراء دقَّة. في إيقاع منتظم كنبض القلب.