نفيسة تكفُّ عن النداء
في عنبر الحريم كانت راقدة، ومن فوق جفونها المغلقة مشى الصوت ناعمًا كاللحن، والسرير يهتزُّ من تحتها بالرقص. الدقَّات تحت ضلوعها لها الإيقاع ذاته، وهي ترقص في المساحات الخضراء الممدودة حتى الأفق. سنابل القمح تهتزُّ مع النغم. العصافير ترفرف فوق الشجرة وتغرِّد. الفرس تدقُّ الأرض بإيقاع المارش العسكري. الماعزة تمأمئ بصوت كالضحك، والبقرة توقَّفت عن الدوران في الساقية، وقهقهت. رفعت الحمارة رأسها بنهيق كالشهيق العميق. أخرجت السحلية رأسها من الشقِّ ولمعت عيناها بالضحك. شعاعات الشمس تتراقص مع موجات النيل. زعانف النخل وأوراق الشجر تنتفض مع حركة الهواء. نوارات القطن تتفتَّح كالزبد الأبيض يغرق الأرض. صوتُها وهي تغنِّي يحلِّق حول رأسها كدوائر من الفضة. قدماها الحافيتان تدبَّان فوق الأرض. ساقاها طويلتان مسحوبتان إلى أعلى تحت بدلة الرقص. نهداها وكتفاها يتحركان مع ذراعَيها وساقيها، والصاجات تطرقع بين أصابعها.
– حبك نار يا حبيبي نار! نار يا حبيبي! نار!
صوتها يرنُّ في أذنَيها يُشبه صوت خالتها زنوبة. كانوا يسمُّونها في الكَفر الغازية أو العالمة. كلمة «العالمة» من الفعل الماضي «علم» والمضارع يعلم، فهو عالم أو عليم، وفي الليل تسمع جدَّها يهمس لنفسه: يا عليم، وفي النهار ترى خالتها زنوبة جالسة وسط الرجال، تدخِّن الشيشة وتنفث الدخان في وجه العمدة. يضحك العمدة ملقيًا رأسه إلى الوراء والرجال ينادونها: يا عالمة. بيتها من الطوب الأحمر يرتفع عن بيت العمدة بمترين، ويعلو فوق بيت الله بثلاثة أمتار. تحرِّك ذراعَيها وساقَيها أمام العمدة وتضرب الهواء. لا تخاف أحدًا. لا الملك ولا الرئيس ولا الجنرال. تدق الأرض وترفع صوتها بالغناء، والكل يهتف باسمها، زنوبة العالمة. تلمع عيونهم «والنني» يتذبذب وسط البياض. قلوبهم تدق تحت الضلوع. رهبة تمتزج بالشَّبق، فهي العالمة بإسرارهم، وعالمة بالغيب أيضًا. كشف الله عنها الحجاب. تقرأ الفنجان والطالع. تفكُّ خطوط الكف. تعرف لغة القواقع والودع. تعاشر أرواح الجان وجنيَّات البحر، وفي ليلة الزفاف تجعل البشكير يغرق في الدم، وإن كانت العروس أرملة منذ قرن أو قرنين.
نار يا حبيبي! نار!
في الليل وهي نائمة تحلم أنها أصبحت مثل خالتها زنوبة. تمشي في الطريق ممشوقة الجسم مرفوعة الرأس، تنظر إلى الناس بكل عينَيها. لا يطرف لها جفنٌ. لا ينحني لها ظهرٌ. صوتها كالزغرودة يجعل النسوة يزغردن، والرجال يضحكون والشمس تطلُّ من وراء السحب، والكون يمتلئ بالضوء، وصوتُها ناعم كصوت أمِّها حين تناديها.
– نفيسا.
رنَّ الاسم في أذنَيها غريبًا. كاسم امرأة أخرى وهي راقدة في بطن الجسر. تُخفي رأسها بيدها والصوت يخترق أذنَيها. ليس صوت أمِّها ولا خالتها زنوبة. فيه حشرجة كصوت شيخ الحفر.
– نفيسا.
فتحت نصف عين وأطلَّت برأسها، رأت العمدة يتمشَّى فوق الجسر. داخل قفطان من القطيفة. فوق رأسه طرحة بيضاء. مربوطة بحزام أسود. من حوله الخفر والجنود يحملون البنادق. ينادونه صاحب الجلالة. يمشي على مهل برأس مرفوع والطبول تدقُّ. تحت إبطه كتاب الله. يتقدَّم بخطوات بطيئة نحو المنصَّة. ينثني بجذعه ويصافح الجنرال. كانوا يسمُّونه في الكفر الخواجة. يرتدي بِذلة عسكرية وحزامًا من الجلد حول وسطه. وجهُه أبيض مربَّع كوجه الدبِّ. شدقاه منتفخان بالهواء. تحت إبطه الإنجيل.
تعزف الموسيقى السلام الوطني. تسلِّط كشَّافات الضوء على الوجهين فوق المنصَّة. يحترق الماغنسيوم بضوء الفلاش الأبيض. ترتعش عضلة تحت عين صاحب الجلالة اليمنى. وجه الجنرال ثابت في الهواء كرأس أبي الهول. ينظر بطرف عين إلى جلالته. يُخرج كتاب الله من تحت إبطه. يفتحه بإصبعَي الإبهام والسبابة. يقرأ آية إبليس ثم يُغلقه. يقبِّله ظَهرًا لبطن ثم يضعه تحت إبطه. ينظر بطرف عينه إلى الجنرال. يُخرج الجنرال الإنجيل من تحت إبطه. يفتحه بإصبعَي الإبهام والسبابة. يقرأ آية الشيطان ثم يُغلقه. يضعه تحت إبطه دون تقبيل.
تعزف الموسيقى المارش العسكري. يُعلن الجنرال الحرب. يُلقي خطبة طويلة بلغة أجنبية. يترجمها صاحبُ الجلالة إلى العربية فتُصبح أكثر غموضًا. يردِّد كلمة لم يسمعها الناس من قبلُ، كالحروف المتقطِّعة.
– زا دي فيل.
ينظر أهل الكفر بعضهم إلى بعض. يهمس أحدُهم في أذن الآخر: يقصد «فيل» جنينة الحيوانات؟
لكن الجنرال يصحِّح الكلمة. يُخرج طرف لسانه الأبيض بين شفتَيه الحمراوين: ذا ديفيل!
لكن صاحب الجلالة لا يستطع أن يُخرج طرف لسانه من فمه. يُطبق شفتَيه ويحملق بعينين خاشعتين نحو السماء. يُعلن الخواجة الحرب. يُلقي خطبة عن السلام بلغة أجنبية. يترجمها صاحبُ الجلالة إلى العربية فتزداد غموضًا.
ينظر أهل الكفر بعضهم إلى بعض. عيونهم نصف مغلقة. ينامون وهم يسمعون الخطب. ترتفع أنفاسُهم بالشخير وتعلو على الأصوات الأخرى. يفتحون عيونهم حين يبدأ الطرب. تطرقع الصاجات مع رقصة الحب.
– حبك نار يا حبيبي! نار! نار!
يهزون رءوسهم ويتمايلون مع جسد زنوبة، هاتفين في نفَس واحد: نار يا حبيبي نار!
الكل يهتف، والكل صامت، والصمت يدوِّي في أذنَيها كهدير الشلَّالات، والهدير يذوب في صفَّارة واحدة خافتة كالنشيج، وهي تجري في الظلمة تُخفي ردفَيها بيديها الاثنتين. العصا الخيزران تلسع الهواء. لسعة وراء لسعة. علامات حمراء فوق لحمها العاري، تتلوَّى كذيول السحالي. صوت الشيخ مسعود ينفخ: سمِّعي يا بت آية إبليس.
تجري، ظهرُها ناحيته ووجهها للريح. تتخفى من العيون في عبارة الليل. تركب قطار الفجر من الكَفر إلى البندر. جسدُها يهتزُّ مع اهتزاز القطار. العجلات تطرقع فوق القضبان. الشبابيك مكسورة تُطقطق بالإيقاع ذاته. جالسة فوق مقعدٍ خشبي فوق ركبتَيها حقيبة من الدمُّور، شعرها الأسود يطيِّره الهواء. القطار يصفِّر والدخان يملأ أنفها وفمها. موجات من الضوء الأصفر تمرُّ فوق الوجوه الشاحبة. عيون صفراء تحملق في نهدَيها. ترفع الحقيبة وتُخفي صدرها. أمامها طفلة كانت معها في المدرسة. ترتدي مريلة برتقالية فيها مربَّعات صغيرة. كولة بيضاء حول العنق. ترمقها بعينين تلمعان بالبريق. لأول مرة تركب قطارًا، ولأول مرة ترى الأشجار والبيوت تجري إلى الخلف. النبض تحت ضلوعها يدقُّ مع دبيب العجلات. صوتها يعلو فوق صفَّارة القطار.
– اسمك إيه؟
– جنَّات.
نطقت كلمة «جنَّات» بصوت كالغناء. ناعم كشعاع الشمس في الشتاء، تحسُّه فوق جسدها دون أن تلمسَه. يُبدِّد الغربة. يملأ الكون بالدفء. تُلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. ضحكتها تعلو فوق رأسها كدوائر من الفضَّة فوق ركبتيها كرَّاسة غلافها أخضر. ورقُها أبيض شفَّاف. فوق السطر حروف بالقلم. السطر وراء السطر وهي تُنشد بصوت كحفيف الهواء: أنا جنَّات.
– وأصلها جِنان.
– جمع جَنَّة.
– أنا وردة.
– ونادرًا ما تخرج من الصحراء وردة.
– أنا جوهرة.
– ونادرًا ما تنشق الأرض عن جوهرة.
عيناها مرفوعتان وصوتها يسري في عروقها كتيَّارٍ من الدم. كبرياء واحدة من بنات جنسها تكفي، تملأ صدرها بالهواء. تُلقي رأسها إلى الوراء وتضحك. تُحلِّق في السماء كاليمامة. تُرفرف بجناحَيها وترقص.
– بتحلمي بإيه يا نفيسة؟
– عاوزة أكون عالمة.
فوق حجر الهرم تراها تكتب اسمها جنَّات الشاعرة، وإلى جوارها تكتب نفيسة العالمة. تضع قدمها فوق الهرم، والقدم الأخرى في الهواء، ثم تطير فوق المدينة. لا تريد شيئًا من الدنيا سوى أن ترقص. تحرِّك ذراعَيها وساقَيها في الهواء. تصنع رقصتها هي لا رقصة خالتها زنوبة. جسمها تحفر عليه اسمها نفيسة. لا تريد اسمًا آخر وإن كان اسم الملك. لا تريد أن تكون زوجة العمدة ولا حرم الرئيس أو صاحب الجلالة. تريد أن تكون نفيسة، عالمة العوالم. تتألق في السماء كنجمة الصباح، تطبع بصمتهما فوق وجه الكون. تعزف الموسيقى وترقص: أنا كوكب الزهرة.
– ثابتة في الأفق.
– لا أسقط ولا أنطفئ.
– أنا نفيسة ابنة أمي حزينة.
تمتلئ عيناها بالدموع من تحت بريق الفرح. ترى أمَّها واقفة في الظلمة. ظهرها لها ووجهها ناحية النافذة واقفة طوال الليل منتصبة القامة. رأسها لا يسقط فوق صدرها. تنام وهي واقفة. صوتها ممدود في الليل كالنشيج.
– فين ولدي يا زهرة يا أم العدل والرحمة.
يسري الصوت فوق جفونها المغلقة وهي راقدة فوق البرش. تمدُّ ذراعها عن آخرها حتى تلامس الجدار. مكانه إلى جوارها خال. الخواء يمتدُّ ويشمل الكون، كان يرقد وذراعه تحت رأسه كالوسادة. شعره أسود غزير. أنفاسه لها رائحة الأطفال. شارب خفيف نبت فوق شفته العليا. بشرتُه سمراء بلون بشرتها. أصابعه طويلة رفيعة كأصابعها، شفتاه منفرجتان قليلًا وعيناه مغلقتان. ينقلب على الجانب الآخر فينزلق الغطاء عن ظهره. تمتدُّ يدُ أمها في الظلمة وتغطِّيه. الريح تصفِّر من بعيد بصوت كعواء الذئب. أوراق الشجر تتساقط. ذرَّات تراب ورمل ودخان يملأ الجو كالشبورة. رذاذ المطر يدقُّ النوافذ. تشرئبُّ بعنقها من تحت الغطاء. الريح تصمت والمطر يتوقَّف. سكون يسبق العاصفة. شيء مخيف في الغيب. الدقَّات تحت ضلوعها تتصاعد. صدرها يعلو ويهبط. أنفاسها تلهث. أذناها منتصبتان تترقَّبان.
ثم تسمع الدقَّات فوق الباب. كعب حديدية تدقُّ الأرض. صوت شيخ الخفر يمزِّق الصمت. متحشرج كصوت الشيخ مسعود: فين إبليس؟
يلكزها في كتفها وهي متكوِّرة فوق البرش: فين أخوكي يا بت؟
يركلها في بطنها ببوز الحذاء. تُمسك طوبة وتقذفها في عينه. يهجمون عليها كالجراد. يحملونها داخل سيارة مصفَّحة. في المِرآة الأمامية ترى وجهها طويلًا شاحبًا كوجه أمِّها، حول عنق المِرآة تتدلَّى سبحة صفراء. فوق الرفِّ أمام عجلة القيادة مصحف مذهَّب داخل صندوق من القطيفة الخضراء، وصندوق من مناديل ورق وردية (كلينكس). تشدُّ منها ورقة تمسح العرَق. يرمقها السائق بطرف عينه. رأسه محلوق من فوقه طاسة نحاسية. يدوس بإصبعه على زرٍّ أسود. يَخرج صوتٌ خشِن يرتِّل القرآن.
– وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ … يدوس بإصبعه على زرٍّ آخر. ينقطع القرآن وينطلق صوت مطربة تغنِّي: نار يا حبيبي نار!
يهزُّ رأسه ويغنِّي معها: نار يا حبيبي نار، يمدُّ ذراعه نحوها. جالسة ملتصقة بباب السيارة. متكوِّرة حول نفسها داخل جلباب أبيض من القطن. شعرها مربوط بشريط أبيض.
تحسُّ إصبعه يمشي فوق ساقها اليسرى. ناعمًا كذيل السحلية. يزحف صاعدًا فوق الركبة. قبل أن يصعد أكثر تمتدُّ يدُها وتقبض عليه. يدها الأخرى تخلع فردة الحذاء. من الجلد القديم والكعب مربَّع سميك. تخلعه دون أن تفكَّ الرباط. واسع أكبر من قدمها. كان أخوها ينتعله ويذهب إلى الكتَّاب، وهي تمشي بجواره حافية. تلسع الأرض بطن قدمَيها. يخلع فردة ويعطيها لها. تقفز فوق قدم واحدة داخل الحذاء. القدم الأخرى عارية في الهواء. يلعب معها الحجلة، قدمه عارية مثل قدمها، والقدم الأخرى داخل الحذاء. يقفزان معًا ومن حولهما الأطفال يضحكون.
ترنُّ ضحكتها في أذنها وهي تدبُّ فوق الأرض بقدم واحدة. ترفع القدم الأخرى في الهواء، ثم تدقُّ بها الأرض. دقَّة وراء دقَّة مع إيقاع الطبلة، والدقَّات تحت ضلوعها تتصاعد باللحن ذاته.
– لب دب لب دب لب دب …
– أنا نفيسة بنت أمي حزينة …
– وخالتي زنوبة كوكب الكَفر …
ثم ينقطع الصوت ويدبُّ الصمت. يهرب الدم من وجهها. تختفي الشمس وراء شبورة كالدخان. يطلُّ وجه الشيخ مسعود من الضباب. تسمع صوت العصا الخيزران تلسع الهواء، والهواء يلسع ردفَيها العاريتين. علامات حمراء ترتسم فوق جسدها، تتلوَّى كذيول السحالي.
واقفة وجهها للجدار وظهرها ناحيته. لم تكن تستطيع أن تستدير وتنظر إليه وجهًا لوجه، لكنها هذه المرَّة استدارت. من تحت الطاسة النحاسية رأت الوجه. مربَّع أبيض بلون الموت. شدقاه منتفخان باللحم. كتفاه محشوتان داخل بدلة عسكرية. قرص من الصفيح يلمع فوق صدره.
قذفته بفردة الحذاء وفتحت باب السيارة. خرجت تجري حافية في الظلمة. تتخفَّى بين ظلال الشجر. تلمُّ ثوبها حول نهدَيها. تكتم أنفاسها بيدها. تسند جسمها إلى جذع شجرة.
من فوق جفونها المغلقة تسمع الدقَّات تحت ضلوعها. تدوس بيدها على قلبها. ضوء القمر يسقط عليه وهو يمشي نحوها. ظلُّه طويل أسود يرتسم فوق الأرض. رأسه مربَّع تحت القبعة النحاسية. قدماه حديديَّتان يدوس بهما على الزرع الأخضر. تسمع صوت ورق الشجر يتكسَّر تحت حذائه. رياح الخماسين من بعيد تعوي بصوت الذئاب. ذرَّات تراب تملأ الجوَّ كالشبورة. ترفع وجهها إلى السماء.
– يا رب!
لا أحد يردُّ في السماء، وهي تجري وحدها في الليل. الهواء يطيِّر الشريط الأبيض من حول شعرها — يخلع عنها ثوبها حتى الوسط. تشدُّه بيدَيها وتُخفي بطنها وفخذَيها. ترمق نجمة الصباح وتنادي أمَّها، لكنَّ أمَّها ماتت في الكَفر، وأخوها أخذوه في الفجر، وهي تمشي بجوار شطِّ النيل. تمدُّ ذراعَيها أمامها مغمضة العينين. حول عنقها سلسلة يتدلَّى منها مصحف صغير من الذهب. شارع النيل تظلِّله أشجار الكافور. عوَّامة كبيرة ترقد بجوار الشاطئ. لمبات النيون تنعكس فوق المياه. ضحكات تطرقع في الجو ومعها الصاجات.
– نار يا حبيبي نار!
رائحة الشِّواء تملأ أنفها. تجلس على الشطِّ تتشمَّم الأكل أمامها الطريق تنزلق عليه السيارات. كشَّافات الضوء تسقط فوق وجهها. كشَّاف وراء كشَّاف. يظهر وجهها ويختفي يظهر ويختفي. لونه أصفر حين يظهر، وأسود حين يختفي. عيناها واسعتان تحملقان في الضوء. مقلتان سوداوان بلون الليل. مشتعلتان بالجوع.
فوق الرصيف فتاة راقدة داخل جلباب أسود، متكوِّرة كالجنين داخل الرحم. بين ذراعَيها طفل مولود يرضع ثديها. قطة مولودة ترضع الثدي الآخر. صفيحة قمامة راقدة فوق جنبها. كلب صغير يقضم قطعة عظم. يجري فوق ثلاثة أرجل ويعرج. يرفع رجله الخلفية ويبول فوق الجدار.
تنهض وتمشي نحو الصفيحة. خطوتها بطيئة عرجاء. يرمقها الجرو بعينين منكسرتين. تطفو فوقهما طبقة من الماء. «النني» الأسود يهتزُّ، لكن الدمعة ثابتة. لا تجفُّ ولا تسقط، يقترب منها ويترك أمامها قطعة العظم. تربتُ على رأسه وتتركها له. تقرِّب فمها من أذنه وتهمس. يتشمَّم عنقها، يداعب السلسلة الذهبية برجله الأمامية. صدرها تحت الجلباب يصعد ويهبط. من فوقه المصحف الذهبي يهتزُّ. تشدُّه من السلسلة وتضعه بين أسنانها.
تمشي نحو باب العوَّامة. من وراء الزجاج ترى أسياخ اللحم تشوى على النار. يهشها الرجل بيده كما يهش الذباب. تمدُّ له يدها بالمصحف الذهبي. يُمسكه بإصبعي الإبهام والسبابة. يفحصه من الظهر والبطن. يرنَّه فوق الرخام. يضعه في كفة الميزان، وفي الكفة الأخرى قطعة من اللحم المشوي.
تمشي بجوار الجدار تأكل. من خلفها الجرو يعرج، تناوله قطعة صغيرة. يلتقطها بفمه ويهزُّ ذيله. يرفع رجله الخلفية. يبول فوق الجدار. الجدار عالٍ تعلوه الزينات والأعلام، وصورة زنوبة عارية داخل بدلة الرقص. تدقُّ بقدمها الحافية الأرض. تهتزُّ الأرض ومن فوقها المقاعد، والأجساد داخل المقاعد تهتزُّ، والرءوس الحليقة تهتزُّ، تسقط عليها القبَّعات والعمائم والطواقي والعقالات والطرابيش، والطراطير التي توضع فوق الرءوس في الأعياد، والوجوه الملونة من الكرتون في الحفلات التنكرية، في الوسط مقعد مذهَّب له مسند عالٍ. الوجه مربَّع أبيض. فوق الرأس طرطور يُشبه القمع تعلوه ريشة. من خلفه خادم أسود طويل يرتدي نظَّارة سوداء. ترفع زنوبة قدمًا في الهواء ثم تدبُّ بقدمها الثانية فوق الأرض. تهتزُّ الريشة ومن تحتها القمع. يمدُّ الخادم يدَيه الاثنتين ويثبِّت القمع فوق الرأس.
دائرة من الضوء تتحرَّك مع زنوبة. نهداها عاريان تحت بدلة الرقص. فوق كل نهد دائرة من الخرز الأسود. ساقاها طويلتان مشدودتان مسحوبتان إلى أعلى حتى البطن. حول السرَّة دائرة من الخرز الأزرق. فوق جبهتها قرص ذهبي أحمر. عيناها مقلتان مشتعلتان. تدبُّ بقدمها فوق الأرض كالأسدة (مؤنث كلمة أسد).
– نار يا حبيبي! نار!
يهتز المقعد ذو المسند العالي. يسقط الطرطور قبل أن تمتدَّ يدُ الخادم. يطيِّره الهواء كالبالونة. يحلِّق فوق الحديقة الكبيرة. يجتاز السور العالي، ثم ينفجر كالبالونة ويسقط فوق الشطِّ.
يجري إليه الجرو يمسكه بين أسنانه. تتجمَّع حوله الكلاب الضالة، والأطفال يتجمَّعون ينظرون بعيون واسعة يغطيها الذباب. أردافهم عارية. تلسعها العصا الخيزران.
– امشي يا وله إنت وهو من هنا!
صوته يُشبه صوت رئيس الخفر، والشطُّ يُشبه الجسر في الكَفر، لكن الشارع مرصوف بالأسفلت، ولمبات النيون معلَّقة فوق الأعمدة، وفوق كل عمود صورة، واحدة متكرِّرة والوجه واحد. يطلُّ من الإطار المذهَّب. مربع الرأس يُشبه الملك رمسيس. له قرنان يلتويان إلى الأمام كالإله رع.
– نفيسا.
من فوق جفونها المغلقة رنَّ الاسم. غريبًا ومألوفًا. يُشبه اسمها. تُخفي رأسها تحت اللحاف من القطن. له غطاء أحمر من الساتان. الوسادة غطاؤها أبيض. تعلوه بقعٌ سوداء بلون الكحل. حول عينَيها دوائر مرسومة بالقلم. تذوب في الليل مع قطرات العرَق، وخيط من الماء الشفَّاف ينساب من زاوية العين. نهداها مضغوطان داخل مشد من المطاط، «الأستيك». حول كل نهد سلسلة من الخرز، شفتاها مصبوغتان بالبوبة الحمراء، وفوق كل خدٍّ بقعة مستديرة بلون الدم.
– نفيسا يا نفيسا.
– يا بنت الإبليسا.
– يا مشعللة النار
– في قلوب الكل.
متخفية تحت الغطاء لا تطلُّ عليهم. تعرف وجوههم دون أن تفتح عينَيها. رءوسهم صلعاء تفوح منها رائحة كولونيا. ذقونهم ناعمة محلوقة بالموسى. أنفاسهم لها رائحة النفط المحروق. يُخفون عيونهم وراء زجاج أسود. يجلسون في غرفة الانتظار يتلمَّظون. أنوفهم منتصبة الشعيرات، تهتزُّ مع الهواء، كشوارب القطط تتشمَّم الشواء. يموءون تحت يدَيها بالوجع. يغرز أحدُهم أسنانه في عنقها من الخلف، يقضم قطعة لحم. يملأ أذنها بكلمات نابية.
– يا ساقطة!
تسدُّ أذنَيها بقطع من القطن. تحمل عنهم عبء الإثم. يتراكم الإثم تحت ضلوعها كالورم. يدفعون لها ثمن الدواء، ووجبة عشاء لطفلها. ترفع وجهها نحو السماء تخاطب الله: يا رب. تبدو لمن يراها أنها تكلِّم نفسها. تلكزها العصا في كتفها.
– مخاطبة الرب ممنوعة يا نفيسا.
– والرب لا يخاطب الأنثى يا نفيسا.
– يا خارجة من التقفيصا يا نفيسا.
في ظلمة الليل تهرب. لا تعرف أين تذهب. حتى الرب أصبح ملكًا لهم. يبنون له البيوت بالطوب والإسمنت المسلح. يحبسونه داخل جدران عالية ونقوش فوق الحجر. داخل أغلفة من الجلد وورق المطبعة، وحروف مصبوبة من الرصاص، وهي لا تفك الحرف، ولا تملك ثمن الكتاب، ويتراكم الإثم وراء الإثم تحت ضلوعها. تحسُّه بيدها ينهض كقطعة من القلب. تحمله فوق صدرها كالطفل وتمشي. تمشي في النهار والليل. تنام وهي تمشي. عيناها فوق الطريق حتى نهاية الشط، بيت أمها في الكَفر. رائحة الخبيز والحليب. ذرَّات التراب والروث. جلباب أمِّها مكوَّم فوق الفرن. تفوح منه رائحة الدم. فوق الأرض أوراق شجرة ميتة، وكرَّاسة باهتة أكلت أوراقها العتة. روح جدِّها الميت واقفة بجوار بيت الأدب. مشنة خبز مقدَّد يغطِّيها الذباب. فردة حذاء كانت تذهب بها إلى المدرسة. جلباب أخيها معلَّق في الحائط فوق مسمار صدِئ يمتلئ بالهواء ويهتزُّ بصوت هامس كصوت أخيها: نفيسا.
عيناها ترتفعان نحو السقف. تطلُّ السحلية برأسها من الشقِّ. عيناها تدمعان. تتوقف البقرة في الساقية وتنشج بصوت خافت. ترفع الحمارة رأسها وتمسح عرقها بكفها. قطرات دمع تتساقط من أوراق الشجر كالمطر.
وهي تمشي عيناها مفتوحتان جافَّتان. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. رائحة بارود ونفط يحترق. الناس يسيرون فوق الأرصفة بعيون مغلقة. أفواههم مفتوحة يلهثون. الزحام شديد والأجساد تتكدَّس بعضها فوق بعض. طوابير طويلة ممدودة بامتداد الأفق. يتدافعون بالأذرع والأرجل. يتناطحون بالرءوس. كفوفهم مرفوعة مفتوحة نحو السماء. يتساقط الرغيف مثل قرص الشمس. ساحن وأحمر يطقطق بنار الفرن. يتطاير فوق رءوسهم كالكرة. يخرجون من الصفوف والطوابير تتعرَّج. يسود الهرج والمرج. تلسعهم العصا الخيزران.
– النظام! النظام!
يسري الصوت في أذنَيها كالريح تصفِّر، والصفير يدوي في الكون كآلاف الصفافير. آلاف الأصوات تهتف: النظام! النظام! وآلاف الأنفاس تلهث: يسقط! يسقط! الكل يهتف، والكل صامت، وهي تفتح فمها عن آخره لتصرخ، لكنَّ صوتَها محبوس لا يخرج. صدرها مربوط بمِشَدٍّ من الجلد كالحزام. قدماها داخل حذاء مفتوح له كعبٌ عالٍ. يكشف عن أصابعها الخمس مدهونة بلون أحمر. تطرقع فوق الأسفلت بصوت عالٍ: طق طق طق طق طق.
يأتيها الصوت من خلفها. امرأة أخرى تتبعها. وقْع قدمَيها فوق الأرض له الإيقاع ذاته. ظلُّها مرسوم إلى جوارها. يمشي معها خطوة بخطوة. ثوبها أسود بلون ثوبها. نهداها عاريان تحت ضوء القمر.
تستدير وتنظر وراءها. تختفي المرأة وراء جدار أو وراء عمود النور. تتركها وتمشي. تسمع وقْع قدمَيها من جديد. في منتصف الكوبري تتوقَّف. تتوقف المرأة خلفها. تحسُّ أنفاسها فوق عنقها. تلهث بصوت مسموع كالنهنهة.
تفتح حقيبتها الصغيرة. سوداء من الخرز اللامع. تُخرج منديل ورق «كلينكس» تمسح قطرة عرَق فوق أنفها.
وتمشي في طريقها لا تستدير. تكاد تمشي حتى نهاية الكوبري، لكن النهنهة تأتيها من الخلف يتوقَّف جسدها عن السير. تسند صدرها فوق السور الحديدي. تُحملق في سطح النيل. يلمع تحت ضوء القمر كالمِرآة. تسمع صوت جسم يسقط في الماء. تتعرَّج المِرآة على شكل دوائر، ثم يعود الماء ساكنًا كما كان. لامعًا في الضوء الأبيض. تتعاقب الموجات بحركة كسولة مع الهواء البطيء.
فوق الموجات تراها طافية. يحوطها عشبٌ أخضر يسمونه ورد الليل. ثوبها أسود ونهداها عاريان. وجهُها ناحية السماء وعيناها مفتوحتان. شفتاها تتحركان كأنما تخاطب الرب.
يدب الصمت في الكون، والهواء يتوقف عن الحركة. رءوس الأشجار تُلقي ظلالها فوق الأرض ثابتة. يختفي القمر وراء شبورة سوداء، ذرَّات رماد ودخان. وجوه الناس رمادية بلون التراب. عيونهم مغمضة. يتنفَّسون من أفواههم المفتوحة، ينهنهون.
ملايين النهنهات تتصاعد في الجو مع ذرَّات الغبار. مياه النيل تنكمش في القاع. يطفو فوقها عشبٌ أسود كالجثث الميتة. آلاف الجثث. يرفعون الأعلام وأقواس النصر، ولمبات النيون تنعكس فوق سطح الماء، والكتل الطافية تسبح كالأجسام النائمة. لها رءوس سوداء مفتوحة في صمتٍ. ينظرون نحو السماء بلا صوت، بلا صوت على الإطلاق، بلا أمل ولا يأس ولا أي شيء. مجرد ضوء أبيض بلون الثلج يغطِّي سطح القمر. ضوء حزين صامت كعينَي أمِّها. تُحملقان في الفراغ، بلا عتاب، بلا رجاء، بلا دعاء ولا أي شيء. نظرة طويلة ممدودة في اللاشيء إلى اللاشيء.