جنَّات تخرج
تلك الليلة والسحب السوداء متراكمة. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة، انفتحت البوابة الضخمة، مفاصلها الحديدية طقطقت بصرير الساقية العتيقة. صوتٌ لم يكن مألوفًا في ذلك السكون المطبق. اهتزَّت جدران السراي بحركة مرئية. رءوس الأشجار ألقت ظلاها السوداء فوق الأرض. مالَ فرعُ شجرة وانكسر. سقطت عصفورة راقدة فوق البيض. طارت في الأفق المظلم وذابت في الليل. تناثر قشر البيض فوق الأرض. كتاكيت صغيرة أطلَّت برأسها تنتفض من البرد.
دبَّت حركة في الأجساد الراقدة في العنابر. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حوَّاء. اتسعت عيونهم وعيونهن نصف المغلقة فيما يُشبه النوم. فوق العيون دمعة حبيسة لا تجفُّ ولا تسقط، الجلاليب بيضاء بلون الكفن، و«النني» أسود داكن بلون الليل. حملقة في الفراغ تُشبه الذهول.
كانت راقدة داخل صندوق من الخشب يسمُّونه التابوت يحملونه فوق الأعناق. ترتدي ثوبًا بلون فستان الزفاف. الكرانيش تتطاير من حولها كالأجنحة. الصندوق يهتزُّ فوق الأجساد بإيقاع راقص، كالسرير الهَّزاز أو المرجيحة. عيناها مفتوحتان شاخصتان إلى أعلى. شفتاها منفرجتان عن ابتسامة. تنشد بصوت خافت كاللحن القديم.
– انا جنَّات وأصلها جِنان جمع جنَّة …
– أنا زهرة …
– ونادرًا ما تخرج من الصحراء زهرة …
– انا لست مريم العذراء ولا حواء الآثمة.
– أنا لست ساقطة ولا أنا طاهرة.
– أنا إنسانة قلبي هو ربي.
– وجريمتي قصيدة شعر.
من تحت الملاءة البيضاء داخل الصندوق صدرها يعلو ويهبط. ورقة مشبوكة فوق الكفن بدبوس. مختومة بقرني أبيس ومنقار النسر. شهادة وفاتها الرسمية. اسمها الثلاثي مكتوب بالحبر الأسود. حروف متعرجة مشرشرة، بخط المدير، كأرجل الخنافس تتحرك تحت عينيها من وراء الزجاج.
– جنات عبد الله عبد اللاه.
عيناها تنفتحان و«النني» الأسود يتسع ويتسع.
كأنما ترى اسمها الثلاثي لأول مرة. عبد الله؟! من هو عبد الله؟! أهو اسم أبيها؟ وعبد اللاه أهو جدها؟ ذاكرتها تصحو بالتدريج. صوت جدتها يسري في أذنيها كالصفير. تنادي جدها يا عبد اللاة. تقلب الهاء إلى تاء. ينتفض جدُّها في الكرسي ذي المسند العالي. يصحح لها النطق.
– عبد اللاه مش عبد اللاة!
تفتح جدَّتُها فمها عن آخره. تجذب الهواء في شهيق عميق ثم تطرده في زفير طويل، تُخرج طرف لسانها لتنطق الحرف الصحيح، لكنَّ لسانها يلتوي ويقلب الهاء إلى التاء: عبد اللاة.
يشوح جدُّها بيده المعروقة في الهواء: اللاه! مش اللاة!
ثم يُمسك يدها المعروقة، يجعلها تكتب حرف الهاء على شكل الكحكة، دائرة مستديرة، وحرف التاء لها شكل الهاء بالضبط، وفوقها نقطتان.
– الأنثى فوقها نقطتان!
من تحت اللحاف وهي نائمة تسمع جدتها تكرِّر الخطأ. تنسى أن تضع النقطتين فوق الكحكة، وصوت جدِّها يدوي في الليل.
– النقطتين يا حمارة!
تلسع كلمة «حمارة» أذنَيها كالعصا الخيزران. منذ حرمها أبوها من الميراث وهو يناديها يا حمارة. قبل ذلك كان يناديها، الست الهانم. أعمدة السرير النحاسية تصطك. صدرها يعلو ويهبط، أنفاسها تلهث، صوتها يزمجر كالهواء المكتوم.
– الحكاية كلها نقطتين!
– قالب الدنيا على نقطتين!
– إلهي ياخدك من الدنيا!
ترسم الصليب على صدرها وتتمتم: أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا، وتُغمض عينَيها، ثم تفتح نصف عين. تراها راقدة إلى جوارها شاخصة في السقف.
– نامي يا جنَّات. صاحية ليه؟
– هو بابا اسمه عبد الله يا نينة؟
– أيوه.
– وجدِّي اسمه عبد اللاه؟
– نامي يا جنَّات واخزي عين الشيطان.
– هو الله غير اللاه يا نينة؟
– معرفش اسألي أبوكي وجدك.
في الصباح يخرج أبوها قبل أن تسأله، وجدها يقول إن الله هو اللاه. يخرج طرف لسانه، ويفتح فكَّيه عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد اللام في كلمة اللاه، ثم يملأ شدقَيه بالهواء ويلتصق لسانه بسقف حلقه في كلمة الله.
– واللاه هو اللاة يا بابا؟
يرمقها جدُّها بنظرة حادة وعيناه متسعتان، لأول مرة ترى لون «النني» في عيني جدها. أسود داكن السواد وفي الوسط ثقب كعين البئر. وجهه مربع أبيض اللون. له شارب أبيض مربع فوق الشفة العليا. أسنانه كبيرة صفراء مشرشرة الأطراف. صوته متحشرج في نهايته بحَّة.
– أعوذ باللاه من الشيطان الرجيم.
يُمسك أصابعها الصغيرة في يده الكبيرة، يجعلها تكتبها ثلاث مرات في كراسة الواجب. يمشي سن القلم فوق الورقة البيضاء. أعوذ باللاه. أعوذ باللاه. أعوذ باﻟ … ويفرغ القلم من الحبر في منتصف الكلمة. تملأه من الدواية. تكمل الكلمة. ترسم الهاء على شكل الكحكة كما علَّمتها أمُّها. ترفع القلم عن الورقة حين تُغلق الدائرة. سن القلم رفيع كالإبرة. تسقط منه نقطة من الحبر فوق الكحكة، ثم تسقط النقطة الثانية قبل أن تبعده. تنقلب الهاء إلى تاء.
وكأنما تنقلب الدنيا. يحملق الشيخ بسيوني في كرَّاستها، ثم ينتفض وأسنانه تصطكُّ.
– أعوذ باللاه! أعوذ باللاه!
يلسعها على أصابعها بالعصا الخيزران. فوق كل إصبع ثلاث لسعات، ثم يقبض على الأستيكة بأصابعه الخمس. يمسح النقطتين من فوق التاء. بكل جسده يضغط على الأستيكة، حتى يخرق الورقة. تتلاشى النقطتان من الوجود، ومن تحتها تتلاشى أيضًا التاء المربوطة.
يمشي بين الصفوف يحملق في كراريس البنات، كلما سقطت عيناه فوق النقطتين ينتفض، وأسنانه تصطك، كأنما يرى إبليس وجهًا لوجه لا نقطة حبر. يرتفع صوت العصا في الهواء، وصوت الأستيكة يمسح الورقة، كأنما يزيل وجه الشيطان من الكون.
يتربع فوق الكرسي وأمامه الكتاب. يبلِّل طرف إصبعه بلعابه، ويفرز الأوراق. يتوقف عند صفحة يقرأ فيها بصوت عالٍ، ومن ورائه البنات يردِّدن في نفَس واحد: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى.
ثم يبتلع ريقه بصوت مسموع. تصعد تفاحة آدم في عنقه وتهبط. يحملق في وجوه البنات من تحت النظَّارة. جالسات وراء التخوت الخشبية. شاحبات الوجوه. رءوسهن ملفوفة بقماش أبيض من الشاش. مطرقات إلى الأرض. عيونهن مغلقة. أفواههن مفتوحة. يضرب بقبضة يده على المنضدة الخشبية.
انتباه!
ثم يواصل القراءة: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى …
ترنُّ كلمة «الأنثى» في أذنيها كأنما تسمعها لأول مرة. يضمُّ فمه وهو ينطق الضمة فوق الألف. تتكوَّر شفتاه كأنما يبصق. يمسح فمه بكمِّ ثوبه.
يدبُّ الصمت في الفصل. تنكمش كلُّ بنت داخل التخت. يُغلق الكتاب وينهض. يمشي بين الصفوف عيناه تبربشان. يمدُّ أنفه بين الرءوس يتشمَّم، كالقط. تنتصب الشعيرات في فتحتَي أنفه. شفتاه منفرجتان، يتمتم بصوت خافت كحفيف الهواء.
– الأنثى … الأنثى …
يُخرج طرف لسانه مع حرف الثاء. ينفتح فكَّاه عن أخرهما وهو يمد الألف بعد الثاء. يتثاءب وعيناه مغلقتان، ثم يفتح عينًا واحدة يطلُّ منها «النني» مستديرًا صغيرًا يدور حول نفسه ويتذبذب كالبلية السوداء. يرمق النهدين الصغيرين الصاعدين الهابطين تحت مريلة المدرسة.
تلفُّ كل بنت ذراعيها حول صدرها. تُحكم إغلاق ركبتها. تنكمش داخل جسمها. تُخفي رأسها تحت الدرج. تلهث بصوت مكتوم كالنشيج.
يتوقَّف عندها وهي جالسة، مشدودة الظهر. يداها فوق التخت. عيناها مفتوحتان رموشها ثابتة لا يطرف لها جفن.
يلسعها على يدها بالعصا: غضِّي الطرف يا بنت!
– اطرقي برأسك!
– لا ترفعي عينَيك في عيني!
عيناها مفتوحتان مرفوعتان. صوت أمها في أذنيها منذ وُلدت. كاللحن القديم يسري في عروقها مع الدم. حروفها منقوشة فوق الورق تحت ضوء القمر.
– أنا لا أخاف.
– يا مَن تحارب المعرفة وتُغلق العيون.
– أنا لا أخاف.
تنهال العصا الخيزران فوق يدَيها وذراعَيها. تسمع اللسعات في الهواء. لا تشعر بالألم. ترى العلامات الحمراء فوق اللحم تتلوَّى كذيول السحالي. قطرة دم تسقط فوق البلاط. تلمع تحت الضوء كالقرص الذهبي. تمسحها بكعب حذائها وترفع رأسها. تمشي بين صفوف التلميذات والتلاميذ. طويلة القامة ممشوقة الجسم. يحملونها فوق الأعناق. رأسها يلامس السماء. تضع قدمها فوق قمة هرم خوفو وتهتف: يسقط الشيخ بسيوني.
– يسقط الملك والإنجليز.
– يسقط! يسقط! يسقط!
تمتلئ الشوارع بالناس. تخرج النساء من البيوت والأزقَّة. تنفتح أبواب المدارس. تتدفَّق منها الأجسام. أطفال بالمرايل، وشباب، وبنات وأولاد، والعجائز أيضًا جاءوا يدقُّون الأرض بالعصِيِّ الخشبية. رجال ونساء. وجوههم مكرمشة. عيونهم رمادية تترجرج من وراء الزجاج، والقطة تركت صفيحة القمامة وأقبلت تجري، ومن خلفها الجرو الصغير الأعرج، والكلاب الضالَّة، والأطفال الراقدون فوق الرصيف في حضن الأم، والشحاتون، وباعة الصحف، والعساكر الواقفون كالأعمدة الخشبية وجوههم للحائط، وبنات الليل السارحات في الليل بوجوه كالطباشير، والطوابير الواقفة أمام الفرن في أجساد متلاصقة ممدودة حتى الأفق، والهتاف يسري في أذنَيها كهدير الشلَّالات.
– يسقط! يسقط! يسقط!
وهي راقدة داخل الصندوق أحسَّت الاهتزازة. رفعت الغطاء وأطلَّت برأسها. رأت الصندوق محمولًا فوق الأعناق كالزورق في البحر. يتهادى فوق الأمواج بإيقاع اللحن، والأصوات تنشد بصوت كحفيف الهواء. خيوط الفجر تنتشر في الأفق بلون الشفق.
– يسقط! يسقط! يسقط!
وضعت رأسها فوق الوسادة، أغمضت عينَيها. فوق شفتَيها ابتسامة. الصوت يمشي فوق جفونها المغلقة كشعاع الشمس. كصوت أمِّها قبل أن تُولد، ينفذ من جدار الرحم دافئًا بحرارة الدم.
ثم توقَّف الصوت. دبَّ السكون. الريح من بعيد تصفِّر. صفَّارة طويلة مثل البوق. مزَّقت الصمت كطلقة الرصاص. تبعتْها الطلقات، طلقة وراء طلقة في تتابُع سريع، وصفَّارات البوليس، والأجراس في الكنائس بدأت تدقُّ بصوتٍ عالٍ، والميكروفونات فوق المنارات والجوامع، والدبابات خرجت تزحف فوق الأرض والكعوب الحديدية تدقُّ الأسفلت، والجنود بالرءوس النحاسية الصف وراء الصف، آلاف الصفوف.
من الصف الأول رأته يخرج. عرفتْه على الفور. يرتدي معطف المدير الأبيض، وجسد جدِّها الميت. وأنف زكريا المقوَّس، الوجه المربَّع وبشرة الملك البيضاء، وعمامة الشيخ بسيوني، من فوقها الريشة منتصبة في الهواء.
وقفتْ أمامه داخل مريلة المدرسة. كولة بيضاء حول عنقها. تحت إبطها كرَّاسة وقلم.
جلس فوق المقعد ذي المسند العالي، كالعرش من الذهب. من حوله الأتباع والخدم. زوجته جالسة ضمن الخدم يسمُّونها الحرم. فوق صدره وسام يلمع. أمامه منضدة خشبية يدقُّ عليها بمطرقة حديدية، في فمه صفَّارة ينفخ فيها.
– بدأت الجلسة.
دوَّى صوته في الساحة الواسعة حول السراي. انفتحت أبواب العنابر. خرج الرجال داخل الجلاليب البيضاء الواسعة. حول الوسط حزام رفيع مربوط على شكل فيونكة. أقدامهم داخل شباشب من البلاستيك يسمُّونها زنوبة. وجوههم شاحبة بلون السحب. عيونهم واسعة تبحلق في الفراغ. ساروا بخطوتهم البطيئة الزاحفة. ملئوا الحديقة الجرداء التي يحوطها السور العالي. تلاصقت أجساد النساء في ركن الحريم. رءوسهن ملفوفة بالطُّرَح الرمادية. وجوههن طويلة بلون التراب. جالسات متربِّعات فوق الأرض، وعيونهن مغلقة.
– بدأت الجلسة.
تطلَّعت إليه العيون من وراء طبقة الماء كالزجاج الشفَّاف. فكَّاه ينفتحان وينغلقان مثل فكَّي المقص. رذاذ يتناثر من فمه. يتطاير حوله كذرَّات الرمل، ذرَّة واحدة طارت وانفجرت في الجو، امتلأ الهواء برائحة نفط ومعجون الحلاقة. ارتدى النظَّارة وفتح الكتاب. حملق في عيون الناس من تحت الزجاج ثم نفخ في الصفَّارة.
باسم اللاه (فتح فكَّيه مع الألف الممدودة).
وباسم صاحب السيادة (ارتفع صوته أكثر وانفتح فكَّاه عن آخرهما حتى طقطقت مفاصلُهما).
وباسم الوطن (ضاعف الشدَّة فوق الواو).
وباسم العدالة والشرف والشرع والشرعية الدولية (نطقها كلها في نفَس واحد دون فواصل).
أيها السادة (حملق من تحت العدسة إلى الرجال).
والسيدات (خفض صوته وخفض رأسه ورمق زوجته في ركن الحريم بطرف عينه).
باسم اللاه الرحمان الرحيم (أغمض عينَيه وتثاءب).
نفتتح هذه الجلسة.
أمسك من فوق المنضدة مظروفًا مغلقًا بالشمع الأحمر. فتحه بمطواة طويلة كالسكين. ظهرت ورقة طويلة بيضاء، قرَّبها من وجهه حتى لاصقت أنفه، ثم ناداها باسمها الثلاثي المكتوب في شهادة الوفاة.
– جنَّات عبد الله عبد اللاه.
رنَّ الاسم في أذنَيها غريبًا، كاسم امرأة أخرى. أطبقت شفتَيها في صمتٍ.
أشار إليها بإصبعه والصفَّارة بين شفتَيه.
- أولًا: انفتاح العينين منذ الولادة.
- ثانيًا: انكشاف الوجه رغم بلوغ سن الرشد.
- ثالثًا: التحالف مع الشيطان لقلب نظام الكون.
- رابعًا: الخروج عن الشرع والشرعية الدولية.
صمت طويلًا وهو يحملق في الوجوه من تحت النظَّارة. العيون مغلقة والشفاه نصف مفتوحة يغطُّون في النوم وهم جلوس فوق الأرض. داخل جلاليبهم البيضاء حزام رفيع مربوط حول الوسط. أنفاسهم عالية كالشخير.
دقَّ بالمطرقة فوق المنضدة. اهتزَّت الأرض ومن فوقها الأجساد. فتحوا جفونهم. حملقوا في الفراغ بعيون متَّسعة، ثم سقطت رءوسهم فوق صدورهم وغابوا في النوم.
دقَّ بالمطرقة مرة أخرى. اهتزَّت الأرض والأجساد، ولم يستيقظ أحد. رمق رئيس الجلسة بطرف عينه، ثم استدار نحوه بكل جسمه.
– يا صاحب السيادة … أخطر الأعراض هو عدم فقدان الذاكرة، رغم جلسات الكهرباء، المتكررة بغير انقطاع، والحقن القاتلة لخلايا التذكر في المخ، والتهديد بالنار، والتلويح بالجنة، كل ذلك فعلناه يا صاحب السيادة بدون أي فائدة، فهي تذكر كل ما حدث في الماضي منذ خمسة آلاف سنة، بل قبل ذلك بكثير، حين وسوست السحلية لإبليس، وحين كان إبليس ملاكًا طاهرًا لا يعرف شيئًا عن الفساد والشر.
صمت طويلًا، ثم حملق في وجه صاحب السيادة. رآه مغمض العينين مفتوح الفم، يغطُّ في النوم. خيط رفيع من اللعاب الأبيض ينساب من زاوية فمه، ويهبط فوق ذقنه. نفخ في الصفارة وأعلن انتهاء الجلسة. ظهر التمورجية بالمرايل البيضاء، ربطوا يدَيها وقدمَيها بالحبال. أرقدوها في الصندوق داخل ثوب الزفاف. وضعوا بين يدَيها باقة ورد، حملوها فوق الأعناق وساروا بها في الطريق.
من فوق جفونها وهي نائمة سمعت الصوت يهمس كحفيف الهواء. كصوت أمِّها تُهدهدها في السرير الهزَّاز. كالشعاع الدافئ يمشي الصوت فوق جفونها المغلقة.
الصندوق الخشبي كالسرير يهتزُّ مع اللحن. كالزورق فوق بحر من الأجساد. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء. الصف وراء الصف يسيرون. الرجال منهم رءوسهم غير محلوقة. الشعر أسود غزير يغطِّي العنق، والنساء شعورهن سوداء طويلة، والعيون واسعة مرفوعة. الأقدام تدب فوق الأرض في إيقاع واحد، والأنفاس تذوب في نفَس واحد، كحفيف الهواء، كصوت أمِّها وهي في السرير الهزَّاز.
– هوه، نامي نينا … هوووه …
رءوس الأشجار ترتفع في السماء، تهتزُّ فروعها بالإيقاع ذاته، الأطفال فوق الجسر يهشُّون الذباب من فوق وجوههم. يرفعون عيونهم. يدورون. كلٌّ منهم يُمسك ذيل الآخر، ويغنُّون: هوه، نامي نينا … هوووه …
تتوقَّف البقرة في الساقية، تشرئبُّ بعنقها في الفضاء وتُطلق صوتًا بالإيقاع ذاته، والماعزة والحمارة والجرو الصغير يرفع رأسه من صفيحة القمامة، والطفل الذي يرضع ثدي أمِّه فوق الرصيف، والقطط، والكلاب الضالة، والحشائش الصفراء فوق الأرض الجرداء، كلُّها تغني مع أمِّها …
– هوه، نامي نينا … هوووه …
تفتح عينيها داخل الصندوق وترى وجه أمِّها يلمع في الظلمة. عيناها تغطيهما طبقةٌ من الماء كالدموع. لا تجفُّ ولا تسقط. تلمع من بعيد في السماء السوداء كنجمة الصباح، وأصوات كثيرة تهدهدها. ملايين الأصوات الناعمة كحفيف الهواء يداعب أوراق الشجر.