امرأة أخرى
يسري الصوت في أذنيها كحفيف الهواء. يمشي فوق جفونها المغلقة ناعمًا كصوت أمِّها. تهدهدها في السرير الهزَّاز، تغنِّي لها قبل أن تنام: هووه … نامي نينا هوووه … وتسقط في النوم كأنما تغرق في بحر دافئ. تسبح كالسمكة ثم تُفرد جناحيها وتطير فوق الماء. كالفراشة تصفِّق بجناحيها تحت أشعة الشمس، والسماء زرقاء صافية. تجري فوق العشب بغير حذاء. سنابل القمح تتراقص مع الهواء. رائحة زرع أخضر في أنفها، وهي تجري لا تتوقف. من خلفها صوته يطاردها … كلمة واحدة تنطلق في ظهرها كالرصاصة: يا ساقطة!
تنكفئ وهي تجري فوق وجهها. تتحسَّس الأرض من تحتها.
أين السرير العريض؟ والستارة الشفَّافة؟ وزكريا؟
يدها ممدودة نحوه مبلَّلة بالمطر. بشرتها ناعمة تُشبه يدها وهي طفلة. يدها الأخرى جافة مشققة عروقها نافرة تُشبه يد جدتها، والدقَّات تحت ضلوعها لها إيقاع المطر فوق أوراق الشجر. صفير الريح يدوِّي في أذنيها كالهتاف. أصوات كثيرة تهتف: يسقط النظام! يسقط! يسقط!
ترهف أذنيها. تتلهف على سماع الصوت. الناس يصيحون أم هي نائمة؟ يذوب الصوت في الصمت. يدوي الصمت في أذنيها كهدير الملايين. الكل يهتف والكل صامت. الليل يزحف بغير توقف، والهواء راكد مشبع بالهزيمة. وجهها ناحية النافذة وظهرها ناحيته: يا ساقطة!
ترنُّ الكلمة في رأسها مألوفة، كأنما سمعتها طول العمر. في المدرسة كانت تسمع الشيخ بسيوني يقول سقط فعل ماضٍ، والمؤنث سقطت. فهي ساقطة مثل أمها حواء. لها صورة بجوار أمها فوق ركبتيها أخوها الأصغر، وأبوها جالس وفوق ركبته أختها الصغرى، وأخوها الأكبر واقف إلى جوار أبيها، عيناه نصف مغلقتين، وهي واقفة في طرف الصورة عيناها مفتوحتان. تحملق في عين «الكاميرا» بنظرة متسعة شبه مجنونة.
ماذا كانت ترى هناك داخل بؤرة العدسة؟ ربما كانت ترى عين الله أو عين الشيطان. أو ربما هو الفراغ يتجمَّع في تلك البؤرة على شكل الثقب المفتوح، يتسرَّب منه العالم إلى الفراغ، أو ربما هي الشمس تتجمَّع في العين الزجاجية ثم تنعكس في عينيها فلا ترى شيئًا.
منذ وُلدت وعيناها مفتوحتان. كان الناس يولدون بعيون مغمضة. خرجت من بطن أمها تنظر لا يطرِف لها جَفن، وبصقت جدتها في فتحة ثوبها وهي تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنس والَّا جن؟
كانت عيون الرجال تنجذب نحو وجهها. تتوقف عند العينين، وسمعت من يقول إن في عينيها جاذبية الذكاء وبريقه. سرعان ما ينقلب إلى اتهام بخفَّة العقل أو لوثة الجنون. لون «النني» في عينيها يتغيَّر مع حركة الأرض حول الشمس، فيصبح في الليل أسود داكنًا كعيون الشياطين، وفي النهار تنعكس عليه زرقة السماء فيصبح سماوي اللون كعيون الملائكة، وفي ضوء الغسق عند الغروب أو الشفق يكتسب «النني» وهجًا أحمر كعيون الممسوسين بأرواح الجن.
منذ عرفت الحروف والكتابة وهي تدوِّن ما يهمس به الرجال في أذنيها. قال لها الشيخ بسيوني في المدرسة: عيناك فيهما شبق حوَّائي. قالها بلغة عربية فصحى. كان يدرِّسها اللغة والدين، ولم تعرف ما معنى كلمة «شبق حوَّائي». سألت أباها فرمقها بنظرة جعلت جذور الشعر تنتصب في فروة رأسها. وهمس رجل في أذنها وهي تمشي في الطريق: أنت أنثى! خرج لسانه من فمه وهو ينطق كلمة «أنثى». وعيناه فوق نهديها كأنما هي كائن غير عاقل من فصيلة الثدييات.
كلما كانت تكبر يتغيَّر وصف الرجال لعينيها. بعضهم رأى فيهما الحزن الدفين منذ حواء الآثمة، وبعضهم رأى فيهما براءة وفرحًا لا تسعهما الدنيا، أو طهارة العذراء مريم، وبعضهم رأى فيهما قوة تجذب، وآخرون رأوا فيها قوة تطرد، وهناك من رآهما مفتوحتين بلا نهاية على الأفق، وغيرهم رأوهما مسدودتين غير قابلتين للاختراق.
كانت هي الوحيدة العاجزة عن رؤية عينيها إلا من خلال زجاج المِرآة، تحملق فيهما وبينها وبينهما الحاجز المسدود اللامع. ترى النظرة الحجرية من نوع الرخام الأبيض. داخلها دائرة سوداء فارغة، كالثقب العميق في بئر بغير قاع.
– يا ساقطة!
الصوت يدوي في أذنيها من خلفها وهي تقفز فوق السلم. جدتها القبطية (أم أمها) كانت تحذِّرها من القفز فوق السلالم، أو ركوب الدراجة، أو أن تدبَّ بقدمها فوق الأرض، أو أن تفتح ساقَيها عن آخرهما وهي تمشي.
– شرف البنت رقيق مثل ورقة السيجارة.
كلما احترقت سيجارة بين شفتَي جدِّها أو أبيها، وألقيت عقبها في المطفأة تصوَّرت أنها تلك العقب المحترقة داخل الرماد.
– جنَّات اصحي!
يد تلكزها في كتفها لتصحوَ، لكنها نائمة. لا تكفي يدٌ واحدة لإيقاظها. نومها عميق كالموت. وهي تدرك الموت على نحو غريب. تراقب نفسها بنفسها حين تموت، وترى أباها جالسًا وبين يديه المصحف. صوتُه يتحشرج كأنما يتجشَّأ.
– لا يمسح العار إلا الموت.
الهواء ثقيل مملوء بالدخان والهزيمة. حول عنقها حزام مشدود يخنقها. أهي التي خنقت نفسها؟ مهما حدث لها لم تكن تموت، وكيف تموت وعقلها ما زال في رأسها؟ إنها يد أخرى تلك التي تقودها للموت. ربما هي يد الله، أو يد أبيها أو زوجها أو جدها الأكبر الذي مات قبل أن تولد، لكن روحه الطاهرة نهضت من القبر لتغسل العار.
فتحت جفونها نصف فتحة، تختلس نظرة من وراء الكون. رأت جدها الذي لم تره. يشبه الرب الذي لم تره أبدًا. ترتدي روحه قفطان الشيخ بسيوني، عمامته ملفوفة حول رأسه سبع لفات. واقف وراء الشماعة في الظلمة، وصوته غريب مألوف، فيه بحَّة خشنة، يتكلم بلغة فصحى: قفي وجهك للجدار وارفعي ذراعيك إلى أعلى.
كانت هذه هي طريقة العقاب في المدرسة، وتقف ووجهها ملتصق بالجدار وذراعاها مرفوعتان. لا يمكن أن تهبط ذراع وإن أحسَّت أن ثوبها يرتفع من الخلف، يزحف بين ردفيها شيء كالإصبع. ينتفض جسدها، وفي الانتفاضة تسقط ذراع من ذراعيها، فتهبط فوقها العصا الخيزران. ترفع ذراعها بسرعة إلى أعلى، ترفعها عاليًا بيدها الأخرى حتى تلامس السقف.
ويدق الجرس ويخلو الفصل إلا هي. تظل واقفة منتصبة لا تسقط منها ذراع، وتنام وهي واقفة لا تسقط، وفي الحلم تظل واقفة لا تسقط، مهما انهالت فوقها العصا لا تسقط. تموت وهي واقفة لا تسقط، كجدتها الريفية أم أبيها. كانت تراها في الليل واقفة، وتسألها: واقفة ليه يا ستي الحاجة؟
– عشان لما عزرائيل يجي يلاقيني واقفة.
– عزرائيل مين؟
لم تكن تعرف من هو عزرائيل. تقول جدَّتُها إنه يأتي في الليل بعد أن ترقد ليخطف روحها من جسمها، فإذا لم ترقد وظلت واقفة ينصرف عنها، ويذهب إلى امرأة أخرى.
«امرأة أخرى؟!»
دوت الكلمتان في رأسها كطلقتين من الرصاص. طلقة وراء طلقة، ثم دبَّ الصمت. صمت مطبق لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، وبوق سيارة ينطلق مرة واحدة ثم يكف، ولا يبقى فوق الجدار إلا دائرة من الضوء الأبيض تزحف فوقه. تمشي فوق الجدار حتى السقف، ثم تهبط إلى الأرض. تمشي فوق البلاط، وتصعد إلى السرير، تمشي كالشعاع فوق وجهها، ثم تثبت على جفونها المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة ورأت المدير واقفًا وبجواره الرئيسة. خلع القلم من جيبه العلوي وكتب شيئًا فوق الورقة. نظرت الرئيسة في الورقة ثم هزت رأسها المطرق وهمست: حاضر يا فندم. استدار المدير وخرج من الغرفة. خرجت وراءه تمشي بظهر محني. قبل أن تغلق الباب خلفها استدارت. التقت عيونهما في نظرة طويلة صامتة.
– نرجس؟
انفرجت شفتاها عن حروف متقطعة. صوت يشبه مواء القطط، أو نهنهة ذابت في الهواء.
ثم انغلق الباب وغرقت الغرفة في الظلام. سمعت المفتاح يدور حول نفسه ثلاث مرات، وأقدام تسرع فوق الممر البلاط. طرقعة حذاء وأنفاس تلهث.