معركة في الليل
كان متكورًا وراء جذع الشجرة كالقنفذ. يرقب خيالها يروح ويجيء وراء النافذة. نهداها يظهران ويختفيان تحت الشال. أنفاسها تلهث. ابتهال طويل أو تنهيدة.
– يا رب!
كاد يخرج من مخبئه معلنًا عن نفسه، لكنه يعرف أنها الرئيسة وليست نفيسة أو امرأة أخرى في عنبر الحريم. بينه وبين الرئيسات عداء قديم. منذ ولدته أمُّه وضغطت بعظمتي الحوض على رأسه. كان صغيرًا وهي كبيرة. كفُّها ضخمة تسقط فوق صدغه كالبلطة. يختفي منها داخل الدولاب. يختنق برائحة ملابسها المتدلية فوق رأسه. عرق تحت الإبط ولبن جاف … خلاخيل وأساور تشخشخ. لبان ذكر وحنة حمراء وفوط الحيض. يسمع صوتها تناديه من وراء الضلفة الخشبية: زكريا.
يرنُّ الاسم في أذنيه غريبًا، كأنما لم يسمعه أبدًا، ومألوفًا كأنما سمعه طول العمر، زكريا؟ ما معنى الكلمة؟ يطردها من أذنه ويطرد معها صورة أمه، وزوجته، وكل النساء. في أعماقه نفور من الجنس الآخر، وشيء آخر كالانجذاب. عيناه تنجذبان إلى كل امرأة لا تُشبه أمه. يختارها صغيرة الحجم، ضعيفة العظام، يدها طرية غير قادرة على الصفع، لكن صورة أمه لا تفارقه. ورائحتها في أنفه، حنين جارف يشدُّه إليها. يودُّ الارتماء في حضنها، وحضن كل امرأة تشبهها.
– يا رب!
أذناه تنتصبان من وراء الشجرة. يرهف السمع. صوت أنثوي خاشع يناديه. ليس صوت الرئيسة الآمر. عيناه تتعلقان بنافذتها. ينجذب إليها رغم النفور، وهي الوحيدة بين النسوة لا تؤمن به. ترمقه بنظرة أمه كأنما هي زوجته. تضربه على أطراف أصابعه. تعاقبه بالوقوف وجهه للحائط أو تنام في السرير وتعطيه ظهرها.
– … يا … يا … ر … ب …
انقطع الصوت وانطفأ النور في غرفتها. انتظر قليلًا حتى استغرقت في النوم ثم خرج من مخبئه. انتصب واقفًا راسمًا ظله فوق الأرض، طويلًا شامخًا. رأسه ملفوف بالعمامة الكبيرة تعلوها الريشة، منتصبة في الظلمة تلمع كالسونكي في رأس البندقية. يتقدم خطوة بطيئة. رءوس الأشجار تنحني أمامه مع الهواء، والأرض والسماء تمتدان تحت قدميه في خشوع.
هزَّ رأسه راضيًا عن الكون. خلقه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، هكذا قال له الرجال في العنبر، ثم حذفوا العبارة الأخيرة، قالوا له: أنت لا تتعب مثلنا. إذن أنت لا تستريح.
قدماه كبيرتان داخل شبشب من البلاستيك يسمونه زنوبة. يدوس على الأرض بكل قدميه. يطرد اسم زنوبة من رأسه. يحرك يده أمام وجهه كأنما يهش ذبابة. ينقل القدم وراء القدم. تمحت قدميه سجادة طويلة حمراء، تمتد حتى الأفق. قرص الشمس يتوهج فوق هرم خوفو. صورته تظهر داخل القرص. يتعرف على وجهه رغم المسافة البعيدة. مربع كبير يشبه وجه الضبع. حاجباه كثيفان يلتقيان عند أرنبة أنفه. غضروف كبير مقوس، كمنقار النسر، منذ رآه في المِرآة، لأول مرة أراد الخلاص منه. ثابت له جذر عميق داخل رأسه. أذناه أيضًا ليستا مثل آذان البشر، تلتويان إلى الأمام مثل قرنَي البقرة أو العجل.
يمطُّ شفتيه بامتعاض، ثم يبتسم خلسةً بزاوية فمه. كان العجل مقدسًا. يرسمه في كراسة المدرسة. يحمل بين قرنَيه قرص الشمس وله نهدان كأمه. ينادونه باسم امرأة، هاتور أو ساطور كما كانت جدَّتُه تقول.
– … يا … يا … يا … يا … يا …
توقَّف لحظة يتسمَّع الصوت، كالريح تصفر من بعيد. يتحوَّل الصفير في أذنَيه إلى هدير كالشلَّال، كالهتاف، آلاف الأصوات تدوي: يا … يا … يا … يا … يا … يعيش …
الأصوات تذوب في صوت واحد. الكل يهتف والكل صامت … وهو يمشي بين صفَّين طويلين من الجنود ممدودين حتى الأفق. يؤدُّون له التحية، يردُّ عليها رافعًا ذراعه اليمنى. ساقه اليمنى ترتفع أيضًا في الهواء. كالعصا الخشبية. لها بوزٌ طويل من الجلد الأسود اللامع، وكعب سميك من الحديد على شكل حدوة حصان. يتركها مرفوعة نحو السماء، ثم يهبط بها إلى الأرض بجوار الساق الأخرى. طبول النصر تدق: مارش عسكري. آلاف الجنود يدقُّون الأرض. يرفعون أرجلهم في الهواء، متصلبة كالأرجل الخشبية. وجوههم رمادية بلون حجر المقطم. أنوفهم خطٌّ مستقيم. الأنف وراء الأنف في صفٍّ طويل لا نهائي. الرءوس متلاصقة محلوقة نمرة واحد، تعلوها طاسة نحاسية. تحت كل طاسة عينان غائمتان مقلوبتان إلى الداخل. أفواههم مفتوحة تلهث و«النني» يختفي تحت الجفن.
– يا … يا … يا يعيش إلى الأبد!
يتلقَّى كلمة «الأبد» بكل الفتحات في رأسه. العينان والأنف والفم. الأذنان تنتصبان مفتوحتين. مسام جسده تتفتَّح. يستقبل الخلود والحروف قطرات ماء يلعقها بطرف لسانه ثم يمضغها. يهزُّ رأسه علامة الرضا. ابتسامة خفيفة تحوم حول شفتيه. يميل فمه ناحية اليمين في اعوجاجة، ثم يعتدل.
ينقطع الهتاف ويرنُّ صوت امرأة تغنِّي بصوت ممطوط: وطني حبيبي! حبك أكبر! حبك نار!
تظهر فوق المنصة العالية. جسدها يترجرج داخل بدلة الرقص. تنتفض كالسمكة الفضية أو جنِّية البحر، تتلوَّى وتتأوَّه مغمضة عينيها! اسمها «زوزو»، وفي الأصل كانت «زنوبة».
يردِّد الكورس وراءها: نار يا حبيبي! نار!
يرمقها بطرف عينه دون أن يحرك رأسه. تغمز له بنصف عين. شيفرة لا يفك طلاسمها أحد، فهو حريص كل الحرص. له زوجة لا تغمض لها عين. يغسل جسده بالماء والصابون خمس مرات قبل أن يعود إليها. ترمقه في الظلمة حين يدخل على أطراف أصابعه. يعطيها ظهره ويرقد وجهه للحائط، لكن أنفها يمتدُّ ليشمَّ سرواله الداخلي قبل أن يخلعه. عيناها مقلتان سوداوان. نار سوداء تلسع قفاه وهو نائم. صوتها ريح ساخنة.
– يا ساقط!
اخترقت الكلمة أذنيه كالقذيفة. ساقط؟ كلمة غريبة لا تخرج من فم امرأة للرجل إلا إذا كان طفلًا وهي التي ولدته. صوتها يشبه صوت أمه. تخرج طرف لسانها وهي تنطق حرف السين. تفتح فكَّيها عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد السين. تتثاءب ثم تضغط بأسنانها على الكسرة تحت القاف.
– ساقط!
استقرت الكلمة كالرصاصة في مؤخرة رأسه. تنزلق كالبلية وتدور حول نفسها، ساقط؟ في كتاب النحو «في المدرسة» سقط فعل ماضٍ، والمؤنث ساقطة، والجمع ساقطات. ليس في اللغة جمع مذكر، وليس في التاريخ أو الكتب السماوية. آدم لم يكن ساقطًا. الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات، أو معركة حربية، أو في امتحان المدرسة وهو تلميذ.
– ساقط!
رفع يده عاليًا في الهواء ليناولها الصفعة. كانت أسرع منه. يدها كانت مرفوعة قبله، وجسمها أكثر رشاقة. تحلِّق في الجو كالفراشة. هي شابة وهو كهل. يتحرك ببطء. شعر رأسه تساقط. الرموش تساقطت أيضًا. «النني» باهت لا يرى الكون بوضوح. يحملق في الفراغ باحثًا عنها، ذابت في الظلمة كما تذوب قطرة الماء في البحر. كانت هنا منذ لحظة، كانت هنا منذ ثلاثين عامًا، وكانت تسير إلى جواره والجنود تصطفُّ، والموسيقى تعزف أنشودة النصر. يتركها في المؤخرة مع الحريم، ويتقدم وحده نحو المنصة. ينحني قبل أن يتسلَّم وسام البطولة. يشبكه فوق صدره بدبوس. قرص ذهبي يلمع تحت الضوء. يمشي بخطوة بطيئة شامخًا برأسه إلى فوق! فوق! صوت كالصدى يتردد في الكون: فوق! فوق! فوق! أنا فوق … أنا فوق …
يتلفَّت حوله وهو يمشي. الصوت يسري في أذنيه كصفير الريح. أنا فوق! فوق! عيناه شاخصتان إلى أعلى. عمامته ملفوفة فوق رأسه تعلوها الريشة. ظلُّه أسود طويل فوق الأرض. عنقه مشرئبة وأنفه مدبَّب كالإبرة. يمشي بخطوة بطيئة نحو الباب الخلفي للسراي. يصعد السلَّم درجة درجة. يتوقف عند الدرجة الأخيرة. ضوء خافت يكشف عن عينيه.
عينان صغيرتان مستديرتان. داخل كل عين «النني»، بارز قليلًا فوق البياض. متحجِّر كقطعة من الجرانيت. تعلوه نظرة ثابتة ثاقبة، من تحتها شيء يتحرك: قطرة ماء أو دمعة حبيسة تودُّ الإفلات. تحت كل جفن انتفاخة داكنة اللون، الوجه مربع كوجه أبي الهول.
ضغط على أضراسه كأنما يمضغها. ابتلع لعابًا جافًّا. تحركت في عنقه تفاحة آدم. صعدت ثم هبطت. لها بوز مدبب، كالغصة في حلقه يحاول ابتلاعها دون جدوى. تفاحة آثمة كان من المفروض أن تتوقف في حلق حواء لا آدم. هكذا قال له جدُّه الميت.
عند باب عنبر الرجال توقَّف. عدل العمامة ومن فوقها الريشة. ملأ صدره بالهواء حتى انتفخ. «أنا فوق! فوق الجميع!» ثم فتح الباب ودخل. السكون كامل والعنبر غارق في الظلمة. صفوف منتظمة من الأسرَّة فوقها أجساد مصفوفة غائبة في النوم. أطلَّ عليهم من فوق. مطَّ أنفه إلى أعلى. مخلوقاته هكذا كمان يسميهم. كلهم ينامون إلا هو لا ينام الليل.
سار بين الصفوف يحرك رأسه يمينًا ويسارًا. فمه معوج في ابتسامة. النظام مستتب والطاعة كاملة. لا أحد يخرج عن قاموس الكون. الكل نائم والعيون مغلقة.
تجمَّد في مكانه فجأة. عينان مفتوحتان رآهما تبحلقان في عينيه. الرموش منتصبة و«النني» أسود لامع. شعر رأسه كثيف غير محلوق. خُصلة نافرة فوق جبهته. يرفعها بأصابع مدببة — ينظر إليه دون أن يطرف له جفن. عرَفه على الفور. إنه إبليس لا أحد غيره. اقترب منه بخطوات بطيئة. رمقه طويلًا في صمت ثم لكزه في كتفه بإصبع مدبب.
– صاحي يا ولد؟
– …
لم يردَّ عليه. راقد كما هو محملق في السقف، كأنما لم يكلمه أحد. مستغرق في تفكير عميق. أمام عينيه صورة لا تغيب. البوابة تنفتح وهي تدخل باندفاعة قوية كالريح — تقذف بشعرها وراء ظهرها كالفرس الجامحة، عيناها واسعتان مرفوعتان. فيهما نظرة حادة كالسكين. من تحتها لمعة حانية كعين أمه.
– رد عليَّ يا ولد!
– …
شفتاه مطبقتان لا تنفرجان عن صوت. منذ رآها تدخل من البوابة وهو يتذكر أمه. طويلة ممشوقة الجسم كالسهم. تمشي أمام العمدة لا ينحني لها رأس. رءوس الرجال تنحني وعيونهم تنكسر، وهي تمشي مرفوعة الرموش لا يطرف لها جفن. قدمها كبيرة حافية مثل قدم النبي. تدوس عليها بكل ثقلها. عظامها قوية. تقبض على الفأس وتشق الأرض نصفين. صوتها في أذنيه كصفير الريح: أوعَ يا ابني رأسك تنحني قصاد العمدة زي أبوك! مات أبوه في الدار بالحمَّى. لطمت النسوة خدودهن وانطلق الصراخ، إلا أمه لم تصرخ. لم تلطم خدَّيها. غسلت شعرها وربطت رأسها بمنديل أبيض. أمسكته من يده وسارت به إلى الكتَّاب. اشترت له كراسة وقلم رصاص.
– انطق يا إبليس!
رآه واقفًا أمامه في الظلمة. رأسه ضخم ملفوف بالعمامة. عيناه صغيرتان تلمعان كعينَي الشيخ مسعود. يضربه على أطراف أصابعه بالمسطرة. سمَّع يا ولد سورة الملايكة. لم يكن قد تعلَّم الكتابة بعد. يحفظ الآيات عن ظهر قلب. يرددها بصوت خافت وعيناه مغمضتان: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ.
– الخليفة اسمه إيه يا ولد؟
يحملق في السقف لا يعرف الإجابة. صوت أمه يهمس في أذنه: اسمه العمدة يا ابني. يُغمض عينَيه ويرى الملائكة واقفين صفوفًا. الصف وراء الصف. داخل الجلاليب البيضاء. يهتفون بصوت واحد: أتجعل فيها من يفسد فيها؟
يدوِّي الهتاف في أذنيه كهدير الشلالات.
– يسقط الخليفة الفاسد!
يفتح عينيه ويهمس في أذن زميله: اسمه العمدة مش الخليفة.
– عمدة إيه؟ ده كان أيام زمان.
– أيام الملك؟
– ملك إيه؟
– أنت مش عايش في الدنيا؟
– واسمه إيه دلوقت؟
– اسمه الجنرال.
أطبق شفتيه وأغمض عينيه. أخفى رأسه تحت الغطاء، أحسَّ بإصبعه يلكزه في كتفه: إبليس! رد عليَّ يا ولد! صوت يشبه صوت العمدة.
– مش عارف أنا مين يا ولد؟
فتح عينيه وحملق في وجهه بعينين متسعتين. ملامحه مألوفة. له أنف الشيخ مسعود، وجهه مربع أبيض تشوبه حمرة كوجه الجنرال، لكنه يتكلم بلغة عربية.
– مش عارف أنا مين يا إبليس؟
تنفرج شفتاه عن صوت خافت: عارف يا مولانا.
لكزه مرة أخرى في كتفَيه: مولانا دي تقولها للمدير أو العمدة لكن أنا فوق الكل! فوق الجميع! مفهوم؟
– مفهوم يا فندم.
– أفندم إيه يا حمار؟ قول أيوه يا رب!
– أيوه يا رب! سيبني أنام أرجوك.
– تنام يعني إيه يا إبليس؟ ومين يوسوس للناس؟
يُغمض عينيه وينقلب على جنبه الآخر معطيًا له ظهره يلكزه مرة أخرى بإصبع مدبب: فز يا ولد شوف شغلك!
– سيبني أنام أنا تعبان.
– قوم وسوس للناس يا ولد!
– وإذا ما وسوستش يجرى إيه؟ خلِّي الناس كلها تروح الجنة!
– والنار أنا عاملها لمين يا حمار؟
– اشوي عليها الخرفان يا أخي.
– وبتقول يا أخي؟ نسيت أنا مين يا ولد!
– متأسف يا رب! حقك عليَّ! إنت مش أخويا ولا حاجة. أنت سيدي وتاج رأسي. هات رأسك أبوسها!
يقفز من سريره. يهجم عليه محاولًا أن يقبِّل رأسه. تسقط العمامة إلى الأرض ومعها الريشة. تظهر الصلعة المحلوقة نمرة واحد. يلثمها إبليس بشفتيه ويضحك مقهقهًا بصوت عالٍ.
يفتح رجال العنبر جفونهم. يصحون من النوم بعيون متسعة. ينظرون حولهم كأنما أفاقوا من الموت، وأصبحوا في العالم الآخر. إبليس والرب يتعاركان بالأيدي. كل منهما يصب اللعنات على رأس الآخر. بعد اللعنات تدوي الصفعات واللكمات. الرجال جالسون داخل جلاليبهم البيضاء متربعون فوق الأسرَّة. يتابعون المشهد بعيون شاحبة. تطل من تحتها نظرات تلمع. كالأطفال أو التلاميذ يشهدون مباراة. يصفقون بأيديهم ويهللون.
– هيه! هيه! هيه! هيه!
إلا رجل واحد. مكرمش الوجه. ضئيل الجسم، بلا أسنان. عيناه واسعتان جاحظتان من وراء نظارة بيضاء، أصلع الرأس. له لحية طويلة بيضاء تتهدل فوق صدره. تحت إبطه كتاب. قدماه حافيتان، يتقدم بخطوات بطيئة نحو الرجلين المتعاركين. رفع ذراعًا نحيلة كالعصا الخيزران وصاح بصوت حاد: محكمة!
دبَّ الصمت في العنبر. تجمَّد إبليس في مكانه، والرب أيضًا كف عن الحركة. العيون شاخصة نحوه في اتساع. صوته يهز جدران العنبر.
– محكمة!
نظر الرجال بعضهم إلى بعض. هزوا رءوسهم في صمت. نهض بعضهم يزيحون الأسرَّة في الأركان. أقاموا منصة في الوسط. فرشوا فوقها ملاءة بيضاء، وكوب ماء، ومطرقة يدق بها الرجل المكرمش الوجه. حوطوا كتفيه بعباءة سوداء. أصبح هو القاضي.
وصدى الصوت يتردد: محكمة!
انطلقت صفارة طويلة في الممر. من وراء الزجاج لمحو خيال الرئيسة ومن خلفها التمورجية. اختفت المنصة ومعها القاضي. عادت الأجسامُ كلها تحت الأغطية تغطُّ في النوم. غرق العنبر في الظلمة، والسكون مطبق، لا صوت ولا حركة، إلا ريشة سوداء فوق بلاط العنبر يحرِّكها الهواء ببطء.