جنَّات في لحظة إفاقة
في غرفتها كانت راقدة فوق ظهرها. من فوق جفونها المغلقة سمعت الصرخة. دوت في رأسها طويلة ممدودة بامتداد الظلمة. صرخة واحدة ذائبة في ملايين الأصوات كالهتاف، والهتاف كالصرخة الواحدة تذوب في صمت الليل.
انتصبت أذناها وعيناها مغلقتان. صفير طويل كالريح تعوي من بعيد، أو طنين الصمت في الأذن. الكل صامت والكل يهتف. أصوات تدوي كهدير الشلالات. يسقط النظام! يسقط! تفتح فمها عن آخره وتهتف: يسقط! يسقط! الطريق ممدود أمامها بامتداد الأفق، وهي تجري مع التلاميذ والتلميذات. أصوات من خلفها تطاردها كطلقات الرصاص، قدماها تُبطئان السير، جسمها ثقيل. صدرها يلهث. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. بقايا حريق ينطفئ ورائحة نفط. أشلاء أطفال مثل ذرَّات الرماد تنتشر في الجو، كالهيولي الأولى قبل انفصال السماء عن الأرض. رياح الخماسين تهب. رمال تملأ الكون بلون أصفر، ورذاذ كالمطر الأسود يهبط.
– عاصفة الصحراء!
ترتطم الكلمة بأذنَيها كالصفعة. يأتي الصوت من خلفها. تتوقف لحظة. وجهها ناحية السماء وظهرها ناحيته. تمد ذراعها أمامها تتلقَّى قطرات المطر – رءوس الأشجار ترتعد تحت ضربات الريح. أوراقها تتساقط فوق الأرض. ذراعها طويلة نحيلة كالعصا الخشبية. فوق أصابعها رعشة مرئية للعين. شيء في الجو مجهول ومخيف. عنقها يشرئبُّ وأذناها مرهفتان.
– جنَّات!
اسمها يرنُّ في أذنَيها غريبًا، كأنما تسمعه لأول مرة. مَن عساه يناديها؟ من عساه يعرف اسمها من ملايين الأسماء في الكون؟ تشدُّ جفونها لتفتح عينيها. حزام من الجلد كأنه مشدود حول رأسها. تحاول أن تنهض بجسمها متَّكلة على كوعها، تدور بها الأرض والصوت لا يزال يناديها، غريبًا ومألوفًا فيه بحَّة خشنة. كصوت جدِّها الذي مات، لكن روحه كانت تصحو في الليل. تزور جدتها. تسمع وقْعَ قدميه وهو يمشي في الصالة. يدقُّ الأرض بعصاه الخشبية. دقَّة بعد دقَّة. مع دقَّات الساعة المعلَّقة على الحائط. تُخفي رأسها تحت الغطاء وهي راقدة إلى جوار جدتها. تتوقَّف الدقَّات أمام غرفة النوم. يدبُّ الصمت في الكون. لا تسمع إلا الدقَّات تحت ضلوعها، وأنفاس جدتها تعلو وتهبط. عيناها مفتوحتان تلمعان في الظلمة. رموشها تهتزُّ.
– صاحية ليه يا جنَّات؟
– وأنت صاحية ليه يا نينة؟
ترمقها جدتُها بنظرة طويلة. هذه البنت غريبة. لا تسألها سؤالًا إلا وتردُّ عليها بسؤال.
– نامي يا جنَّات.
– مش جاي لي نوم يا نينة.
تربتُ عليها بيدها المعروقة، وصوتها يسري في أذنيها ناعمًا كصوت أمها.
– نامي نينا هوووووه … هوووووو …
تُغمض عينيها وتنام، ثم تسمع طقطقة السرير. من بين جفونها المغلقة ترى جدتها تتسلل من تحت اللحاف. ينفتح الباب بلا صوت ثم ينغلق.
تكتم أنفاسها وأذناها مرهفتان، من وراء الباب تسمع صوت جدتها، تشهق بصوت متقطع كالضحك المكتوم أو النشيج الطويل، وفي الصباح تراها واقفة خلف النافذة. داخل ثوبها الأسود. له كولة من الخرز اللامع. ساقاها بيضاوان سمينتان داخل جورب أسود شفَّاف. قدماها صغيرتان داخل حذاء أسود من الجلد اللامع له كعبٌ عالٍ رفيع. بين يديها كتاب الإنجيل تتمتم بصوت هامس.
– أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا.
قبل أن يموت جدها كانت تخلع الحذاء قبل أن تصلي. تُمسك بين يديها المصحف لا الإنجيل. منذ تزوَّجها وهو يعلِّمها الوضوء وقراءة القرآن، لكنها تسمعها في الليل تُردِّد اسم المسيح. تُخفي الإنجيل تحت الوسادة.
– هو الإنجيل كتاب ربنا يا نينة؟
– طبعًا يا بنت!
– يعني ربنا عنده كتابين زي جدي؟
– جدك إيه يا بنت! ربنا فوق الجميع!
– فوق الجميع فين يا نينة؟
– في السماوات العليا.
– والشيطان يا نينة؟
– نامي يا بنت وكفاية أسئلة!
ترمقها جدتُها بعينين حمراوين. هذه البنت شيطانة. منذ ولدت وعيناها مفتوحتان. انزلقت من بطن أمها مفتوحة العينين. كانت الناس تولد بعيون مغلقة وأفواه مفتوحة تصرخ، لكنها ولدت صامتة مطبقة الشفتين. شهقت جدَّتُها وبصقت في فتحة ثوبها عند العنق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
ثم جعلت أمها تغتسل من الدم والإثم. كانت الولادة في إنجيل جدتها ذنبًا لا يغفره الله، إلا بالأسى والألم، وفي الليل ترى أمها واقفة خلف النافذة. عيناها مليئتان بالأسى والألم. ترفع يدها نحو نجمة الصباح.
– يا زهرة يا أم العدل والرحمة.
تغنِّي مع أمها بصوت خافت. تضع رأسها فوق صدرها. تهدهدها قبل أن تنام: هووه … نامي نينا هووووه … صوت السرير الهزَّاز كاللحن القديم. يسري في عروقها كالدم. الدقَّات تحت ضلوعها تتصاعد. تشدُّ جفونها لتنظر في عينَي أمِّها. صافيتان بلون السماء. فوق كل عين دمعة كاللمعة. أمامها ورقة بيضاء تكتب. أصابعها بيضاء ناعمة حول القلم. الحروف سوداء تتحرك فوق السطر. كلمة وراء كلمة. تمتلئ الورقة بالكلمات المكتوبة. الصفحة وراء الصفحة. تُشبه الصفحات في الإنجيل أو المصحف، والحروف شكلها واحد.
تتَّسع عيناها في الظلمة، أيمكن لأمِّها أن تكتب؟ كانت تظن أن النساء لا يعرفن الكتابة. والرجال لا يكتب منهم أحد إلا جدُّها وربنا.
– نامي يا جنَّات.
صوت جدتها يقطع عليها أحلامها. كانت تحلم أن تكون مثل أمها تكتب، لكن جدتها قالت إن الله لم يخلق المرأة لتكتب. قرأت عليها من الإنجيل قصة السحلية وحواء. تزحفين على بطنك إلى الأبد ويكون اشتياقك لرجلك وهو يسود عليك.
تُخرج جدَّتُها لسانها وهي تنطق بالكلمات. تلهث وهي راقدة فوق السرير النحاسي. الأعمدة الأربعة تهتز بصوت مسموع. قبل أن يموت جدُّها كانت تخفي الإنجيل في صندوق تحت السرير. الصليب وضعته في كيس من القطيفة الحمراء. تردِّد وراء جدها وهي جاثية فوق سجادة الصلاة: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ….
تتوقَّف الكلمات في حلقها. تبتلعها مع لعابها الجاف، إلا كلمة واحدة، تظل متوقفة، في عنقها. بارزة مدبَّبة مثل تفاحة آدم. تصعد وتهبط مع أنفاسها. ترسم الصليب على صدرها: الأب والابن والروح القدس.
– هي مين الروح القدس يا نينة؟
– نامي يا جنَّات.
لكنها لم تكن تنام. تتسلل من السرير وجدتها نائمة. تمشي على أطراف أصابعها إلى غرفة أمها. السرير خالٍ. الأوراق مبعثرة فوق الأرض. ضوء القمر يدخل من النافذة أبيض بلون الموت. يلمع الورق كالفضة والحروف سوداء. خطُّ أمِّها دقيق. تضع نقطة تحت الباء ونقطتين فوق التاء، ثلاث نقط فوق الثاء ونقطة واحدة فوق النون. الكلمة بجوار الكلمة تتشابك فوق السطر. سطور منتظمة مكتوبة تحت الضوء، وهي تعلَّمت القراءة ويمكن أن تفكَّ الخط. صوتها كحفيف الهواء تقرأ في الليل.
– أنا لا أخاف منك.
– يا مَن تُحرِّم المعرفة وتطفئ الضوء.
– يا مَن تتخفَّى وراء قناع الرب.
– وتزرع الخوف والطاعة بدل الحب.
– وتقتل الآلاف بلا ذنب.
– وتلعنني كالسحلية إلى الأبد.
ترفع عينيها من فوق الورق. تراه واقفًا بجوار بيت الأدب. ظلُّه طويل أسود مرسوم فوق الأرض. بقعة دم حمراء تلمع على البلاط. صوته كصوت جدِّها الميت. فوق صدره قرص ذهبي يلمع.
– زكريا؟
يرنُّ الاسم في أذنيها مألوفًا سمعته اليوم وراء اليوم، والسنة وراء السنة، ثلاثين عامًا. صورتها فوق الجدار داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. وجهه يطلُّ من الصورة ثابت العضلات. مربع الرأس كأبي الهول. عنقه مشنوق برباط أسود على شكل فيونكة. كانوا يسمونها «بابيونة» وهي تجري وتجري لا تتوقف. الطريق ممدود أمامها بلا نهاية. الليل بلا قمر ولا نجوم. رذاذ أسود يدقُّ فوق أوراق الشجر. النبض تحت ضلوعها يدقُّ مع المطر. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. شبورة سوداء تملأ الكون لها رائحة النفط. رياح الخماسين تدوي من بعيد. كأصوات الملايين تهتف: يسقط! يسقط!
تسمع صوتها بأذنها. جسدها يهتزُّ مع اهتزازات السيارة. سوداء طويلة من نوع «الليموزين». أصابعها ترتعد فوق حافة النافذة. شيء في الجو مجهول ومخيف. عنقها تشرئبُّ خارج السيارة. قدماها تسبقان العجلات. تلهث وهي جالسة. يدها تمتدُّ إلى جوارها تتحسَّس الهدية. ربطة عنق جديدة من الساتان. بيضاء فيها دوائر خضراء، والصندوق مربوط بشريط أخضر، تفتح زجاج النافذة. في أنفها رائحة الوطن بعد غيبة أسبوعين. بدت لها عامين أو قرنين من الزمان. استبد بها الشوق فاختصرت الرحلة. جاءت قبل موعدها بثلاثة ايام. أنفاسها تتلاحق بصوت مسموع، والدقَّات تحت ضلوعها أسرع من العجلات، عيناها تطلَّان على الوطن. رائحة أمها وأبيها. سنابل القمح ونوارات القطن. شارع الجامعة والكلية، وصوته من فوق المنصة يخطب. آلاف الأصوات تهتف. يعيش! يعيش! تلتقي عيناها بعينيه في نظرة طويلة. في حديقة الأندلس يجلسان. يُمسك يدها بيديه الاثنتين.
– جنَّات؟
– نعم.
– بتحلمي؟
– أيوه.
انفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة. لا بد أنها تحلم به.
– بتحلمي بإيه يا حبيبتي؟
– عاوزة أكتب.
تجمَّدت الابتسامة. اعوجَّ فمه ناحية اليمين.
– تكتبي إيه يا جنَّات؟
– حاجات كثيرة.
– اكتبيلي رسالة حب.
في الليل جلست في ضوء القمر، كتبت له أول رسالة.
– كالثمرة المحرَّمة أحبك.
– فوق شجرة المعرفة.
– أمدُّ يدي وأقطفها.
– لا أخاف.
– فالله هو الحب.
تفتح جفونها نصف فتحة. رأسها يهتزُّ مع اهتزازات السيارة. قرص الشمس ينزلق وراء الأهرامات الثلاثة. سائق الليموزين يرتدي قبعة عسكرية. رائحة الوطن في أنفها. ذرَّات تراب، ومعجون الحلاقة. كولونيا ما بعد الحلاقة من نوع اللافندر. أنفاسه فوق وجهها لها رائحة خاصة. تحملق حول رأسها تحت سقف السيارة. تسبقه قبل أن يظهر، وتبقى معها بعد أن يذهب. تدفن وجهها في صدره وتهتف باسمه: زكريا!
توقَّفت السيارة أمام البيت. قدماها تسبقانها فوق السلَّم. تقف عند الباب تلهث. متردِّدة كأنما تتهيَّب الدخول. تضع حقيبة السفر فوق الأرض وتُخرج مفتاحها من جيبها. أتفتح الباب أم تدق الجرس؟
فتحت الباب بلا صوت. دخلت على أطراف أصابعها تكتم أنفاسها. أرادت أن تُفاجئه بوجودها. أرادت أن يرفع عينيه فجأة فيراها وتمتلئ عيناه بالضوء، ويمتدُّ العناق طوال الليل، وفي الصباح تفتح الصندوق الكرتوني وتُخرج الهدية.
دخل المفتاح في شقِّ الباب بلا صوت. كانت الصالة غارقة في الظلمة. ضوء خافت ينبعث من غرفة النوم. موسيقى خافتة والباب مغلق إلا من شقٍّ رفيع.
توقَّفت وراء الباب تلهث. لماذا كانت تلهث؟ كأنما كانت تعرف بعقل آخر. كانت جدتها تسمِّيه العقل الباطن، ودوَّت صرختها في الليل طويلة ممدودة تُشبه صرخة جدتها، وأمها حين كانت تصرخ. صرخة واحدة تمتد في أذنيها كهدير الشلالات. كملايين الأصوات تصنع صمت الليل. الكل مات. والكل يهتف: يسقط! ساقط! ساقط!
تقلَّبت في السرير وفتحت عينيها. رأت جدتها واقفة داخل فستان من الموسلين الأسود. شعرها معقود تحت شريط أسود من الساتان، كانت تسمِّيه «التربون». عروق زرقاء نافرة في ساقيها السمينتين، وحذاؤها في يدها. أسود من الجلد اللميع. له كعب مدبَّب رفيع، تهزُّه في الهواء.
– ساقط!
– الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات يا سيدتي!
ويهزُّ جدُّها رأسَه علامة الإيجاب. جالس داخل بدلة عسكرية. فوق صدره نيشان. وجهه مربَّع يُشبه وجه زكريا. أبيض بلون الملاءة. شعر رأسه تساقط، إلا ذؤابة رمادية تتطاير فوق أذنه كالريشة. يمدُّ عنقه إلى الأمام بزاوية حادة، كعنق الديك الرومي.
– المرأة هي التي تسقط يا سيدتي.
ويهزُّ جدُّها رأسه مرة أخرى. تتطاير الريشة فوق أذنه. يُمسكها بيديه الاثنتين يُخفي بها الصلعة الأمامية. رجال كثيرون جالسون حول منضدة رخامية. وجوه مألوفة رأتها منذ ولدت، وفي الحياة الأخرى قبل الولادة. جدُّها الأكبر بأنفه الضخم المقوَّس يُشبه الحدأة أو النسر. علامة الانحدار من صلب أبيه. لم يكن من دليل على هذا الانحدار من الصلب إلا غضروف الأنف، وحدث أن ولد طفل بأنف صغير بلا غضاريف.
– يا هووووووه …
صوت يُشبه صوت أمِّها يصرخ في السكون. ممدود كصوت جدتها بامتداد الليل، كأنما تنادي على إله اسمه يا هوه. إله الزلازل والبراكين. تناديه ليأتي وينقذها لكنه لا يأتي، ويُرسل إليها روح جدِّها الميت، يقف بجوار بيت الأدب. بين شفتيه غليون أسود، تسمِّيه جدَّتُها «البايب». له زلومة طويلة تلتوي إلى الأمام مثل قرن الغزال، ومن فتحتي أنفه يخرج عمودان من الدخان. يتصاعدان إلى السقف، يملآن الجو بالشبورة السوداء، والهواء يثقل مشبعًا بالدخان والهزيمة، ورياح الخماسين تصفر، وهي تجري بلا توقُّف. صوته من خلفها يطاردها: ساقطة! يُشبه صوت زكريا. البحَّة الخشنة كالشرخ. يُخرج طرف لسانه وهو ينطق حرف السين. يفتح فكَّيه عن آخرهما مع الألف الممدودة. كأنما يتثاءب. يضغط على الكسرة تحت القاف ويشد على أضراسه.
كانت تجري ظهرها ناحيته ووجهها ناحية الأفق. قدماها تدبَّان فوق الأرض. قلبها تحت ضلوعها يدب بالإيقاع ذاته. اندفعت إلى الأمام خارج غرفة النوم. عبرت الممرَّ في قفزة واحدة. هبطت السلَّم جريًا لا تخشى السقوط. بدفعة واحدة من يدها فتحت باب «الجاراج». لم يكن ينفتح أبدًا بدفعة واحدة. أيقظت «الموتور» بخبطة واحدة من قدمها، لم يكن يستيقظ إلا بعد ثلاث أو أربع خبطات. أخرجت السيارة «الفيات» بظهرها دون أن تحتكَّ بالجدار. لم تكن تُخرجها دون أن تصطدم بالجدار أو الباب.
انطلقت «الفيات» البيضاء تشقُّ الكون كالسمكة الفضية، يداها فوق عجلة القيادة تدوران. النبض تحت ضلوعها يتصاعد كالهتاف. يسقط! يسقط! أبواق السيارات تدوِّي مع صلصلة الترام. عويل المآتم وزغاريد الأفراح، وأجراس الكنائس وآلاف المآذن، وابتهالات الشحاتين ونداءات باعة الصحف. والمارشات العسكرية والدعايات الانتخابية، وصفَّارات البوليس، وزئير الدبابات، وهدير «الموتور» يرتفع فوق كل الأصوات. ملايين الأصوات تذوب في صوت واحد: يسقط! يسقط!
العجلات الأربع تطير في الهواء. شعرها الأسود يتطاير حول رأسها. في مِرآة السيارة رأت عينيها. ثلاثون عامًا من الحزن، ومن تحت السطح ترى البريق. كعينَي امرأة أخرى تفرح بالخلاص. ترفع يديها. تصفِّق كالطفلة. الدقَّات تحت ضلوعها تتراقص. السيارة ترقص بالإيقاع ذاته. عجلة القيادة بين ذراعيها تضمُّها كأنما هي أمُّها.
– جنَّات!
أفاقت على الارتجاجة. فتحت عينَيها ورأت السقف الأجرب المشقَّق. أمامها امرأة واقفة داخل ثوب أبيض. رأسها ملفوف بطرحة رمادية. فوق صدرها قرص ذهبي يلمع. مرسوم عليه الوجه المربع ومنقار النسر.
– زكريا؟
– أنا الرئيسة!
هزَّت رأسها بحركة إلى الأمام والخلف. علامة النفي، وتقدَّمت نحوها في يدها الإبرة. مسحت ذراعها بقطعة قطن. رائحة كحول تملأ أنفها. عيناها ثابتتان في عينَيها. نظرة مألوفة. طبقة طافية من الحزن، من تحتها نظرة طفلة.
– نرجس؟
– أنا الرئيسة!
وهزت رأسها علامة النفي. أمسكت ذراعها لتغرز الإبرة. ضربتها على يدها فطارت الحقنة في الهواء، ثم سقطت فوق البلاط وانكسرت.
– مش واخدة الحقنة!
– لازم تاخديها!
– مش حاخدها!
وضربت بقبضة يدها المنضدة الخشبية فانشقت نصفين، انطلقت الصفارة في فم الرئيسة. طويلة ممدودة كصفير الريح. متقطعة كالنشيج، وظهر التمورجية بمرايلهم البيضاء. ثلاثة أو أربعة. لم يستطيعوا التغلب عليها، حاولوا نقلها إلى غرفة الكهرباء. لم ينتقل جسدها من السرير إلى النقَّالة ذات العجلات حاولوا أن يرفعوه. أصبح كالأرض لا ينتقل. لا يمكن أن ينفصل عنها أو عن السرير.
وظهر عدد آخر من التمورجية. عشرة أو عشرون أو ثلاثون، لكنها أصبحت هي والسرير والأرض كتلة واحدة، كأنما عادت روحُها إلى جسمها، ولا يمكن لأحد أن يفصل روحَها عن جسمها.
اتسعت عيون التمورجية وملأها الذعر. صاحوا في نفَس واحد: ركبها إبليس!
وانطلقت الصفارة كالصرخة الطويلة الممدودة في الليل.