في البدء كانت السحلية
في المساحات السوداء حول السراي كان النداء يسري كحفيف الهواء. رءوس الأشجار تُلقي بظلالها كالأشباح فوق الأرض. تتمايل بحركة كسولة مليئة بالملل، وهو يختفي وراء الجذع المقطوع، جالسًا القرفصاء داخل جلبابه الأبيض. رأسه ملفوف بالعمامة الضخمة من فوقها الريشة ممدودة كالإبرة. أصابعه الكبيرة تبحث في التراب عن شيء. ضوء القمر يسقط فوق وجهه. لحيته بيضاء طويلة تتدلَّى فوق صدره. حاجباه كثيفان يلتقيان فوق أرنبة أنفه. عيناه صغيرتان مستديرتان، تتابعان حركة يده فوق الأرض في استغراق كامل.
– يا رب!
أذناه تنتصبان. يتسمَّع الصوت. أصابعه تكفُّ عن الحركة. تنفرج شفتاه عن صوت هامس: مَن يناديني!
يدبُّ السكون في الكون، لا يسمع إلا حفيف الهواء يلامس أوراق الشجر. يطلُّ برأسه من وراء الجذع. يلمح الضوء الخافت في النافذة. شبح أبيض يروح ويجيء وراء الزجاج. النهدان بارزان أبيضان تحت ضوء القمر. شعرها طويل أسود ينسدل فوق ظهرها. عيناها مغلقتان وذراعاها ممدودتان أمامها، كمَن تمشي في النوم.
– يا رب!
خرج من وراء الشجرة واقفًا. ارتسم ظلُّه فوق الأرض طويلًا أسود اللون.
– أنا هنا! أنا …
صوته يسري في أذنَيه غريبًا كصوت رجل آخر. يتردَّد الصدى في سكون الليل.
– أنا هنا! أنا … أنا …
يرتدُّ الصوت مع الصدى إليه وهو واقف. يرى ظله فوق الأرض طويل القامة كأبيه. يهتز مع رءوس الأشجار والصوت يتردَّد بين جدران السراي. يحرِّك الشيش في النوافذ. تنفتح بعضُ العيون الغارقة في النوم. تتَّسع بلون شاحب ثم تنغلق مرة أخرى.
– أنا هنا! أنا … أنا … أنا …
كالصفَّارة الخافتة يعود الصدَّى إليه. أذنان تنتصبان مرهفتين. الصوت مألوف كصوت أبيه. مبحوح قليلًا تنتابه شرخةٌ خفيفة مع الألف الممدودة. يضغط على أضراسه وهو يضاعف الشدَّة على الهمزة فوق الألف: أأأ نا نا نا نا.
كان جالسًا فوق الكرسي ذي المسند العالي، داخل بدلة عسكرية. فوق صدره أقراص تلمع بضوء أحمر. كتفاه عريضتان محشوَّتان. أنفه غضروف كبير منتصب على شكل القوس. عنقُه تلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي. صوته يدوي في أنحاء البيت.
– أأأأأ نا نا نا نا.
ينفذ صوته من نافذة الصالة إلى الجيران. تُغلق أمُّه الزجاج والشيش. تقف ظهرها إلى الجدار وجهها ناحيته، بشرتها شاحبة هرب منها الدم. تزداد شحوبًا داخل ثوبها الأسود من الموسلين. ساقاها ملتصقتان بيضاوان تبرز من تحتهما عروقٌ زرقاء. شفتاها تتحركان بلا صوت، كأنما تكلِّم نفسها أو تخاطب شبحًا لا يراه أبوه.
يحرِّك أبوه رأسه من فوق الكرسي ذي المسند العالي. عيناه الصغيرتان من وراء الزجاج تبحثان عن الشبح. تدور عيناه في أنحاء الغرفة. تبحثان وراء الشمَّاعة، داخل الدولاب، تحت السرير.
لم يكن يعرف كيف ينحني جسدُ أبيه الضخم لينظر تحت السرير. يراه جاثيًا على ركبتَيه كأنما يصلِّي، ثم يمدُّ عنقه تحت السرير. كان طفلًا مولودًا لم يتعلَّم الكلام بعد، لكنه كان يسمع الأصوات.
في الليل وهو نائم يسمع صوت أبيه يأتي من تحت السرير يقول: إنت فين يا إبليس؟
ترنُّ كلمة إبليس في أذنَيه وهو متكوِّر كالجنين فوق السرير. يُخفي رأسه تحت اللحاف ويُغمض عينَيه. في الحلم يرى إبليس واقفًا في الظلمة، مرتديًا ثوبَ أمِّه الأسود، وجهه أسود أيضًا، وأسنانه تلمع في الليل كأنما يبتسم في سخرية أو يكشِّر عن أنيابه، في الصباح يفتح عينيه على خطوط الضوء تنفذ من الشيش، تناوله أمُّه كوب اللبن. يُلقيه في الحوض.
– اشرب اللبن!
– مش شارب!
– اسمع الكلام يا ولد!
– مش سامع!
لم يكن يسمع كلام أمه. سمع أباه يقول: النساء ناقصات عقل ودين، وفي المدرسة سمع المدرِّس يقول الرجال قوَّامون. فتح الكتاب وجعله يقرأ: الرجال قوَّامون على النساء. في كل يوم يقرؤها ويردِّدها وراء المدرِّس ثلاث مرات.
يمطُّ المدرِّس عنقَه ويضمُّ شفتيه طويلًا مع واو الجماعة: قوَّامووووون … يردِّدها وراءه التلاميذ في نفَس واحد كالنشيد: قوَّامووووون …
رفع إصبعه وسأل: يعني إيه قوَّامون يا افندي؟
كان المدرِّس يرتدي طربوشًا أحمر يتدلَّى فوق أذنيه. في يده منشَّة سوداء كذيل الحصان يهشُّ بها الذباب.
– القوامة يعني السيادة يا ولد!
– والسيادة يعني إيه يا افندي؟
– يعني الرجل يسود والأنثى تخضع للذكر.
رنَّت كلمة «الذكر» في أذنَيه بصوت الأفندي. كان له صوت يشبه صوت أبيه، والكرسي أيضًا له مسندٌ عالٍ، وعنقه تلتوي إلى أعلى ضاغطًا بفكَّيه على الشدَّة فوق حرف الذال: الذَّ ذَّ ذَّ كر كر كر، يُصبح صوته كالديك يكركر، يكرِّر الحرفين الأخيرين: الذ ذ ذ ذ كر كر كر كر …
ولم يكن يعرف ما معنى كلمة الذكر. سأل أمَّه فضربته على يده. يدها كانت كبيرة ويده صغيرة. يُخفيها في جيب المريلة، تُشبه مريلة أخته، بيضاء فيها مربَّعات حمراء، وكولة مستديرة حول العنق. تمشي أخته معه إلى المدرسة. تدبُّ على الأرض بقدمها كما يدبُّ، وفي قدميها حذاء أسود من الجلد يُشبه حذاءه، إلا أنه بغير رباط.
يشدُّ الرباط في حذائه ويعقده بحركة تُشبه حركة أبيه، والرباط حول عنقه أيضًا يشدُّه كما يرى أباه يفعل، مشرئبًّا بعنقه إلى أعلى.
كان يظنُّ أن ميزة الذكر على الأنثى هي هذا الرباط في الحذاء وحول العنق، لكن التلاميذ في المدرسة ضحكوا عليه، وأخذوه إلى دورة المياه، ومن وراء الباب المغلق أدرك الحقيقة.
لأول مرة رآه شيئًا بلا معنًى، قطعة صغيرة من اللحم تتدلَّى أسفل بطنه ينفذ منها خرطوم البول، لكن عيون التلاميذ يملؤها الزهو، يقيسونها بالمسطرة، وكلٌّ منهم يصيح بصوت عالٍ كالهتاف: أنا الأكبر! أنا! أنا!
صوت ابن العمدة يعلو على الجمع. يفتح فمه عن آخره ويهتف. صدره يعلو ويهبط، الدقَّات تحت ضلوعه تتصاعد، طبول تدقُّ بالإيقاع ذاته. التلاميذ يهتفون في نفَس واحد. يحملونه فوق الأعناق. الهتاف يدوي في أذنيه كهدير الشلَّالات، والهدير يذوب في صوت واحد كالصفارة: أنا الأكبر! أنا أنا أنا …
توقَّف لحظة رافعًا عينيه نحو النافذة. ضوءٌ خافت كالذؤابة يهتزُّ خلف الستارة الشفافة. خيالها يروح ويجيء من وراء الزجاج. نهداها كبيران كنهدَي أمه تتدلَّى بينهما السلسلة، في نهايتها قرص يلمع.
يدفن رأسه في صدرها كأنما هو صدر أمه. يبتلع الدموع في جوفه. لم يعُد يبكي منذ صفعه أبوه على وجهه. أتبكي كالنسوان يا ولد؟ يشدُّ على أسنانه ويبتلع الألم. تراكمت الدموع تحت ضلوعه كالورم، وفي الليل تصحو أمُّه على أطراف أصابعها تغطِّيه، وفي الصباح يمطُّ في وجهها شفتَيه كما يفعل أبوه. يجلس في كرسيه ذي المسند العالي ويصيح: أأنا نا الأ الأكبر كبر كبر …
يقف فوق الكرسي ويصبح أكبر من أمه. تضع بين أصابعه الريشة وتقول له ارسم الشجرة والعصافير. لم يكن يحب الرسم. يدوس بحذائه فوق أوراق الشجر. يضرب العصافير بالنبلة. يرشق الريشة في رأسه. يرتدي البدلة العسكرية ويلوِّح في وجه أمِّه بالسيف: فين إبليس؟
رنَّت كلمة «إبليس» في الجو كطلقة الرصاص. تردَّد صداها في المساحة السوداء حول السراي. هزَّت الأشجار رءوسها مع حركة الهواء. سرى الصوت بين الجدران المتآكلة، وعبر الممرَّات، تسلَّل إلى عنبر الرجال في الظلمة.
فتح إبليس عينيه وهو راقد فوق ظهره. رآه واقفًا في فتحة الباب يرتدي جلباب أبيه الأبيض، وعمامة الشيخ مسعود ملفوفة حول رأسه، من فوقها الريشة كأنما هو العمدة.
– قوم فِز يا إبليس!
ينطق كلمة «فِز» كما كان ينطقها أبوه. يشدُّ على أسنانه وهو يدوس على الكسرة تحت الفاء.
يُغمض عينَيه ويُخفي رأسه تحت اللحاف، لكنَّ يده تزحف. عظامها بارزة. يشدُّ اللحاف من فوقه ويصيح: فِز يا ولد شوف شغلك.
– أرجوك سيبني أنام.
– تنام إزاي يا إبليس؟
– زي خلق الله.
– ومين يوسوس للناس يا ولد؟
صوته يدوي في أذنيه كصوت الرب، لكن أصابعه صفراء وأنفاسه لها رائحة التبغ، وعرَق تحت الإبط كالشيخ مسعود.
– معاك سيجارة يا إبليس.
دس ذراعه تحت وسادته. قبضت أصابعه على نصف سيجارة. أخفاها بسرعة تحت اللحاف.
– هات السيجارة يا ولد!
– لأ.
– لأ يعني إيه يا ولد؟
– يعني لأ!
– مش عارف أنا مين يا ولد؟
– عارف يا سيادة الرئيس.
– رئيس مين يا حمار! أنا فوق الكل! فوق!
– حاضر يا سيادة الجنرال.
– جنرال مين يا حمار! أنا فوق! فوق!
لم يكن هناك من هو فوق الجنرال. هكذا سمع من زملائه الجنود. يمشي في المقدمة ومن خلفه الحرس. جسده ممتلئ باللحم الأبيض. يرتدي سترة من الجلد كالدبِّ في بلاد الإسكيمو، يظهر على شاشة سي. إن. إن. في مشيته عرج خفيف. خطوته بطيئة. يمدُّ ساقه اليمنى إلى الأمام كالساق الخشبية دون أن تنثنيَ الركبة. يصعد الدم إلى وجهه مع حركة الساق. شدقاه يمتلئان بالهواء. شفتاه حمراوان، والشفة السفلى ممتلئة متهدِّلة قليلًا فوق ذقنه. تهتزُّ حين يدوي صوت المدافع. يرفع عينيه نحو السماء. يرقب الأشباح السوداء المحلِّقة في السحاب، طيور جارحة من نوع النسور، لها أجنحة من الفولاذ من بطنها تتساقط القنابل كرذاذ المطر الأسود. يتصاعد الغبار وذرَّات الرمل. يمتلئ الكون بشبورة صفراء، يصبح الهواء ثقيلًا مشبعًا بالدخان ورائحة نفط يحترق.
يصفِّق الجنرال بيديه كالطفل يلعب. يضحك بصوت عالٍ ملقيًا رأسه إلى الوراء. يرفع إبهامه إلى أعلى، هاتفًا: فيكتوري! تدقُّ طبول النصر. يصطفُّ الجنود على جانبي الطريق، وجوههم ناحية الحائط ظهورهم الناحية الأخرى. من خلف الجنرال يسير الشيخ الأكبر مرتديًا ثياب الملك، فوق كتفيه عباءة مطرَّزة بالقصب. رأسه ملفوف بطرحة بيضاء، والمدير يظهر إلى جوار الشيخ، والرئيسة داخل ثوبها الأبيض. تهتزُّ الصفارة فوق نهدَيها، ومن خلفها تظهر الفرقة الموسيقية، وزنوبة تطرقع بالصاجات تغنِّي وترقص: حبك نار يا حبيبي يا وطني! نار يا حبيبي نار!
يتوقَّف الجنرال متَّسع العينين. يهتف بكلمات متقطعة: أوه! نو! نو! أنبليفابل!
كلمة أنبليفابل تخرق أذنيه. يهرش رأسه ويلتفت حوله. لا أحدَ يفهم لغة الجنرال، إلا المدير ورئيس الجيش، والرئيسة تعرف بعض كلمات قليلة، منها «سانك يو»، يُخرج الجنرال طرف لسانه، ويقلب حرف السين إلى ثاء، منحنيًا أمامها وقبَّعته في يده: ثانك يو مسز بريزيدانت.
لم يكن يفهم من الكلمات الأجنبية إلا كلمة واحدة هي: نو. مألوفة لأذنه منذ ولدته أمه ترقد القطة إلى جواره وتقول: نو! نو! وأخته أيضًا تموء بالكلمة نفسها: نو! نو! تقفز فوق قدم واحدة، تلعب معه الحجلة، وتضحك: نو! نو! تُمسك القلم وتكتب في الكرَّاسة حرف النون ثم حرف الواو، لكن الشيخ مسعود يخطف منها القلم. يلسعها على ردفَيها بالعصا الخيزران.
– امش يا بت يا نفيسة روَّحي لأمِّك!
– والنبي يا سيدنا الشيخ عاوزة أكتب!
– تكتبي إيه يا بت يا مقصوفة الرقبة!
في الليل ينام إلى جوارها فوق البرش. يسمعها تنشج بلا صوت. يدسُّ الكرَّاسة والقلم تحت وسادتها، وحين يلسعها الشيخ مسعود بالعصا يصوِّب النبلة نحو عمامته. يُمسكها بيديه الاثنتين قبل أن تسقط.
– تعال هنا يا ولد يا إبليس!
يجري خلفه بالعصا. لا ينقذه منه إلا أمُّه. تخطف منه العصا. تشوِّح بيدها المشقَّقة في وجهه.
– تضربه ليه يا شيخ مسعود؟
– ولد قليل الأدب ما حدش ربَّاه.
– متربِّي أحسن تربية!
– تربية نسوان!
مطَّ شفتَيه وهو ينطق كلمة «نسوان» كأنما هو يبصق، ثم استدار وأعطاهما ظهره. عنقه من الخلف غليظة ملتوية إلى الأمام كعنق الديك الرومي. يمشي بخطوة بطيئة والعصا الخيزران تهتزُّ في يده. العمامة ثابتة فوق رأسه، ويظهر العمدة فوق الجسر من حوله الخفر. يلمحه الشيخ مسعود فينكمش عنقُ الديك ويُصبح كالسمسمة. يتقدَّم نحوه محني الرأس. ينثني فوق يده يقبِّلها.
أمه واقفة مرفوعة الرأس، وهو واقف إلى جوارها يُمسك يدها. يلكزه الشيخ مسعود في كتفه بالعصا: سلِّم يا ولد على العمدة وبوس إيده.
تشدُّ ابنها من يده وتمشي، وجهها ناحية الشمس وظهرها ناحية العمدة. رأسها مرفوع لا ينحني وعيناها مفتوحتان. شفتاها تتحرَّكان بصوت كحفيف الهواء: إوعَ تبوس إيد حد!
– بناكل بعرق جبينَّا!
– ما حدش له عندنا حاجة!
– إوعَ تبوس إيد حد!
من فوق جفونه المغلقة يمشي صوتها كالغناء الممدود بامتداد الليل، وهو راقد فوق البرش، وأخته تمدُّ يدها تحت الوسادة. تفتح الكرَّاسة وتكتب اسمها من خمسة حروف: نفيسا، تضحك بصوت عالٍ وتردِّد: نفيسا يا نفيسا! يا خارجة من التقفيصة! تقفز على قدم واحدة وتلعب الحجلة. عصفورة فوق الشجرة تتطلَّع إليها ثم تردِّد: صَو! صَو! صَو! تهزُّ القطة ذيلها وتموء: نَو! نَو! نَو! يغنِّي الأطفال يا وابور يا مسافر على بلدي. يُمسك كلٌّ منهم بذيل الآخر ويصفِّر: توت! توت! تقفز الماعزة في الهواء وتمأمئ: ماء! ماء! تتوقَّف البقرة عن الدوران في الساقية وتُقهقه: قه! قه! قه! ترفع الحمارة رأسها نحو السماء. تفتح فكَّيها وتُصدر نهيقًا طويلًا كالضحك هاء! هاء! هاء! تُخرج السحلية رأسَها من الشقِّ. تهزُّ ذيلها وعيناها تضحكان.
يتوقَّف الضحك فجأة. تتلاشى كلُّ الأصوات ويغرق الكون في الظلمة. يُغمض عينيه ويُخفي رأسه تحت اللحاف. يسمع الصوت ينادي: فين إنت يا إبليس؟
تلكزه العصا الخيزران في كتفه: فِز يا ولد اضرب تعظيم سلام.
صوت الجنرال، لكنه يتحدث العربية. يفتح نصف عين ويراه واقفًا أمامه. كما كان يراه وهو طفل، مستندًا على ضلفة الباب، يرتدي جلباب أبيه الميت، وعمامة الشيخ مسعود.
– انطق يا إبليس!
– أقول إيه يا رب!
– اعترف!
– أعترف بإيه؟
– إنت وسوست للجنرال بحاجة؟
– أنا؟
– أيوه أنت أمَّال مين؟
– أوسوس للجنرال إزاي؟
– زي ما بتوسوس لكل الناس.
– الجنرال ما يعرفش عربي! أوسوس له إزاي؟
يُخفي رأسه تحت اللحاف. يرنُّ في أذنه صوتُ طفل يشهق. الشهقة متقطعة كالبكاء. العصا الخيزران تلسع الهواء. صوت متحشرج كصوت رئيس الخفر. يدقُّ الأرض بكعب البندقية: الجهادية يا ولد!
يختبئ منه في الجرن، يتكوَّر حول نفسه كالجنين بين أعواد الحطب. يكتم أنفاسه والدقَّات تحت ضلوعه تتوقف. لا يسمع إلا صوت عُواء ذئب وكلب ينبح، ثم يدبُّ السكون والقمر يخرج من وراء السحابة. يتسلَّل الضوء الأبيض بين أعواد الذرة الجافَّة. ذراع طويلة تمتدُّ. لها أصابع خمس. تقبض عليه كأنما هو دجاجة. يرفع عنه جلبابه من الخلف. يشدُّ السروال الأسمر من الدمور، يسقط ضوء القمر فوق ردفَيه المرتعشين. ظهره للضوء ووجهه الناحية الأخرى. يخاف أن يستدير. يخاف أن يحرِّك رأسه ناحيته أو يرفع عينيه إليه. كان كبيرًا. أكبر منه، يرتسم ظلُّه فوق الأرض طويلًا، وهو طفل يتعلَّم القراءة. يجلس فوق الحصيرة إلى جوار التلاميذ. يضمُّ ركبتيه تحت الجلباب الدمور، وذراعاه حول صدره.
تلكزه العصا الخيزران: سمِّع يا ولد الآية!
يُغمض عينيه ويلهث.
– وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ … يبتلع ريقه بصوت مسموع … إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.
تلكزه العصا في كتفه.
– مش الآية دي يا حمار! سمِّع آية إبليس!
يُغمض عينَيه ويفتح فمه.
– وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ … (وابتلع ريقه) وسجدوا جميعًا للخليفة الفاسد إلا إبليس. حملق فيه الشيخ مسعود بعينين حمراوين.
– الخليفة ما كانش فاسد يا حمار!
– أمَّال مين اللي كان يُفسد فيها ويسفك الدماء؟
– إنت بترد عليَّ يا ولد؟
– أنا …؟
– إخرس!
وانقطع صوته: نظر حوله إلى التلاميذ. التقت عيونُهم من تحت سحابة. فوق كل عين نقطة بيضاء وذباب أسود. تلسعهم العصا فوق ظهورهم. عصا الشيخ في الكتَّاب ثم عصا رئيس الخفر. تجري الموسى فوق رءوسهم. تجتثُّ الشعر. يتكدَّسون داخل العربة المصفَّحة. يطلُّون من وراء القضبان برءوسهم الصلعاء، وجوه طويلة كوجوه العجائز وعيون أطفال متسعة. من خلفهم عربة أخرى مصفَّحة تطلُّ منها رءوس الخِراف المحلوقة في طريقها إلى الذبح، ومن المذياع ينبعث صوتُ زنوبة يغنِّي: الليلة عيد ع الدنيا سعيد!
تحت الضوء الشاحب يرى وجه زنوبة. ملامحها مألوفة رآها من قبل. بشرتُها سمراء شاحبة. تفتح فمها عن آخره وتُغمض عينَيها. تضرب بقدمَيها الأرض. ترفس الهواء بذراعيها. صدرُها يعلو ويهبط. تلهث.
– الليلة عيد! الليلة عيد!
يدقُّ الجنود بكعوبهم الأرض. يرفعون البنادق وعيونهم مغلقة. ينامون وهم واقفون. يصحون من النوم ويهتفون: الليلة عيد! عيد! يا يا يعيش! يا يا يعيش!
يتسلَّل من تحت اللحاف ويجري فوق قدمَيه الحافيتَين. يجري في المساحات السوداء بلا توقف. من خلفه وقع الأقدام والأصوات تُطارده تسقط القبَّعة النحاسية عن رأسه، والبدلة العسكرية تسقط ومعها السروال. يُصبح ظهره عاريًا في مهبِّ الريح. رياح الخماسين تلسعه. يبتلع التراب وذرَّات الرمل، ويرتفع الكرباج إلى أعلى ثم يسقط. لا يسمع إلا صوت الهواء. لا يشعر بالألم، وحين يدخل دورة المياه يرى العلامات فوق ظهره. طويلة ملتوية كذيول السحالي. حمراء بلون الدم.
– قول أنا مرة!
يفتح فمه عن آخره ويبصق على وجهه.
– يا ابن المرة!
– أمي كانت بعشرين راجل!
ورفع رأسه كما كانت أمُّه ترفعه وشدَّ عضلات ظهره. حملق المدير في وجهه بعينين متسعتين، ثم قرَّب فمه من أذن الجنرال وهمس: جنون بالوراثة يا فندم!
كان يمضغ شيئًا بين أسنانه، والقطة إلى جواره تموء وتتعلَّق بساقَيه. تشدُّ سرواله إلى تحت، والمدير يضربها بالعصا الخيزران: بس! بس! إمشي! بس!
يضحك الجنود بصوت مكتوم، كالتلاميذ يُخفون أفواههم بأيديهم. يُغلقون عيونهم ويفتحون أفواههم يتثاءبون. يمشي الشيخ بين الصفوف. يلسعهم على أردافهم بالعصا الخيزران. ما عدا ابن العمدة، يضحك بصوت عالٍ ملقيًا برأسه إلى الوراء كرأس أبيه.
– أنا فوق الكل!
يدوِّي صوته في الجو. يتردَّد الصدى.
– أنا فوق الكل!
تقفز القطة كاشفة عن أظافرها. تموء بصوت حاد، وذيلها طويل يلتوي كذيل السحلية.
– نو! نو! نو!
ويهتف الجنود في نفَس واحد رافعين البنادق. جلاليبهم بيضاء: نو! نو! نو!
تنطلق صفَّارات البوليس. تدوِّي طلقات الرصاص في الجو. يُخفي رأسه تحت اللحاف. يسمع الصوت: اطلع يا إبليس!
– بريء والله يا فندم!
– طول عمرك توسوس يا شيطان.
– مش أنا والله يا فندم!
– أمَّال مين يا ولد؟
– دي السحلية يا فندم.
– أوه! نو! أمبوسيبل! أنبليفابل!
– أيوه يا فندم.
– والسحلية تعرف تقول لأ يا ولد؟
– أيوه يا فندم! دي هي أسس المصايب.
– إزاي يا ولد؟
– لولا السحلية يا فندم كان زمانا كلنا في الجنة.
– أوه! نو! امسكوه!
– بريء والله يا فندم!
وظهرت رئيسة الحكيمات ومن خلفها التمورجية بالحبال. أخفى رأسه تحت اللحاف وغاب في النوم. في أذنيه صفير طويل كالطنين، كالنشيج الممدود بامتداد الليل.
– نو نو نو نو نو!