كانت هي الأضعف
الأصبع الأوسط من دون أصابع يده اليمنى؛ فليس هناك أصبع آخَر يصلح، الأصبع الصغير أرفع من اللازم، والإبهام أتخن من اللازم، السَّبابة ظفرها ميت لا ينمو بعد أن فرمته الفأس، والظفر مهم، ربما أهم من الأصبع؛ فهو الذي سيشق الطريق. وقد ألحَّ على أُمِّه أن يستخدم شيئًا آخَر أكثر صلابةً كبوز العصا الخيزران، لكن أمه زغدته في كفته بأصابعها القوية فتدحرج على الأرض وعجز عن البصق، فلعق التراب بلسانه وهو يتأمَّل قدمَيْ أمه الكبيرتين تدبَّان بقوة، وجسدها الفارع المدكوك يهز الأرض، وأصابعها الطويلة الصلبة تلتفُّ حول الفأس وترفعه إلى أعلى كما لو كان عودَ ذرة جافًّا، ثم تهوي به إلى الأرض لتشجَّها كالبطيخة.
قوية كالثَّور، تحمل على رأسها حمولةً أكثر ممَّا تحملها الحمارة، وتعجن ماجورَ عجين وتكنس وتطبخ وتعزق وتحمل وتلد ولا شيء فيها يكلُّ أو يمل … رغم أنها أمه التي صنعته من لحمها وشرب من دمها، لكنها احتجزت لنفسها القوةَ ولم تُورِثه غيرَ القُبْح والضعف.
هذه الرَّغبة العنيفة في أنْ يلتصق بأمه ويضع رأسه في صدرها ويشم رائحة جسدها لم تكن حبًّا؛ كان يريد أن يمتزج بها مرة أخرى لتلده مرة أخرى بعضلات أكثر قوةً، كان يريد أن يسحب من أنفاسها شيئًا من القوة. حين كان يقبِّلها لم يكن يريد أن يقبِّلها، ولكنه يريد أن يعضَّها ويأكل لحمها المدكوك قطعةً قطعة، ولكنه لم يكن يستطيع، كل ما كان يستطيعه هو أن يدفس رأسه في حجرها ويكرهها، وأحيانًا يبكي، وأحيانًا يهرب. تسلَّلَ يومًا من الحقل آخِرَ النَّهار، ووضع ذيل جلبابه بين أسنانه، وظل يجري حتى دخل في أرضٍ لا يعرفها وحوَّطه الظَّلام من كل جانب، وسمع عواءَ ذئبٍ من بعيد، فاستدار عائدًا جريًا إلى داره. ومرةً سرَقَ من جراب أمه قطعةً من ذات الخمسة القروش، وركب قطارَ الدلتا ونزل في قريةٍ لا يعرف اسمها، أخذ يسير في شوارعها حتى عَوَتْ معدته والتهبت شقوقُ قدمَيْه، فقطع تذكرة وعاد بالقطار إلى قريته. ومرةً سرق قطعةً من ذات العشرة القروش وذهب متخفيًا إلى حلَّاق الصحة ووقف أمامه يلهث.
– «انطق يا ولد عاوز إيه؟»
وشد لسانه الجاف من سقف حلقه وأخفى أصابعه في جلبابه: «صوابعي …»
– «مالها!»
– «مش بتمسك الفاس زي أمي.»
وزغده الرجل في كتفه: «وهو ده عيب يا وله، روح خلي أمك توكلك رطل لحمة وانت تبقى زي الحصان!»
وبكى في حجر أمه الفسيح حتى اشترت له قطعةً من اللحم أكلها عن آخِرها، وشرب وتجشأ وهو يشعر بدفءٍ مُمتِعٍ يسري في أصابعه، فقبضها وبسطها وثناها وفردها سعيدًا بقدرته الجديدة، لكنه شعر بجفنيه يثقلان، فأغمض عينَيْه وراح في نوم عميق، ثم استيقظ بعد يومين ليجري وراء الجدار حيث تسرَّبَتْ في أمعائه بقايا اللحم، وتسرَّبَتْ معها القدرة الجديدة.
ولكن لا بد من حل، إن في رأسه عقلًا يشتغل، وهو أذكى رجال القرية؛ فهو يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويحل مشاكلهم، ويخطب الجمعة حين يغيب الإمام، ولكنَّ عقله وذكاءه لن يشفعا له؛ فالرجل عندهم جسد قوي وَلْيكن له رأس بغل.
عقله يشتغل لكن عضلاته تتهدَّل، والأيام تمر واليوم الملعون يقترب، وكل الطرق يجرِّبها ولا تنفع، فيغلق بابَ القاعة الخلفية على نفسه ويقف يمرِّن عضلاته، يقبض أصابعه ويثنيها ويفردها ويطرقعها، كل ليلة يتمرن، وأصابعه تنقبض تارةً وتلتوي تارةً أخرى ثم تسقط.
وحل اليوم، ورأى أمه قبل الفجر تكنس القاعة وترشها، وترص الدكك الخشبية أمام الدار، وحاوَلَ أن يتناوم أو يتماوت، لكنَّ أمه زغدته في كتفه بأصابعها المعهودة فانتفض على قدمَيْه، وبدأت وفود الناس تملأ صحن الدار؛ رجال يحملون العِصِيَّ ويتصارعون ويرقصون، ونساء يرتدين الجلابيب الملونة ويغنين ويزغردن ويقذفنه بأشياء تلسع قفاه، وهو مسمر في الأرض ببلغة جديدة ناشفة تحك أصابع قدمَيْه، وحول عنقه كوفية جديدة يشدها بأصابع متشنجة فيكاد يخنق بها نفسَه لولا عضلاته التي تلين كالعجين، وساقاه لا تتحركان وإنما هي دفعات من الخلف ومن اليسار ومن اليمين تجعله يتذبذب، فكأنه يرقص مع الراقصين ويترنح مع المترنحين، إلى أن وجد نفسه على عتبة القاعة، رفع رأسه من فوق صدره ليرى أمامه شيئًا عجيبًا، شيئًا نصفه الأعلى مغطًّى بشال أحمر كبير، والنصف الأسفل فخذان رفيعتان عاريتان، إلى جوارِ كلِّ ساقٍ امرأةٌ تقبض عليها بذراعين مفتولين نفرت منهما عروق غليظة.
ظلَّ واقفًا على عتبة الباب عيناه تزغللان، وفمه يحاول أن ينفتح ليصرخ، لكنَّ شيئًا لا يخرج من بين شفتيه إلا لعابه الذي يجري من زاوية فمه دافئًا ناعمًا كذيل حية لا تعض.
وشعر بأصابع قوية تشبه أصابع أمه تضغط على كتفيه وتجلسه على مؤخرته، وأحس بعض الراحة حين افترشَتْ أَلْيَتاه الأرض الرطبة المرشوشة، وظل جالسًا مُغمضًا عينيه في شبه غيبوبة، لكن لكزة أخرى في كتفه جعلته يفتح عينيه ليجد نفسه وجهًا لوجه مع الساقين المنفرجتين، وأشاح بوجهه بعيدًا فلمح بزاوية عينه جمهورَ الرجال والنساء من خلفه محتشدين في صحن الدار، أبطلوا الطبل والزمر والرقص ووقفوا ينتظرون، عيونهم مفتوحة عن آخِرها، ترقب باب القاعة في شغف ولهفة. ولكن لا … لن يمتِّع أنظارَهم بالفضيحة، إنه ليس أبله، بل إنه أذكى رجال القرية؛ يقرأ لهم الجرائد، ويكتب لهم الخطابات، ويخطب حين يغيب الإمام … ولا بد له أن يخرج إليهم رافعًا رأسه كما فعل كل رجال القرية، بما فيهم ذلك الصبي الأبله الذي يتهته ويريل.
وبسط يده اليُمنى وشدَّ أصبعه مُتقدِّمًا به بين الساقين، ولكن ذراعه ارتجفت نافضةً عنه الأصبع الذي سقط متهدلًا كذيل جرو ميت.
ولم يتوقف، ظل يحاول ويناضل، والعرق الغزير يجري في قنوات وجهه ليصب في فمه، فيلعقه بلسانه وهو يختلس النظر إلى المرأتين الجالستين إلى جواره، وكانت كل امرأة منهما منقضَّةً بجسدها على الساق التي من نصيبها، مُشِيحةً بوجهها ناحية الحائط؛ تأدُّبًا من أن تتفرج على مثل هذا المشهد، أو زهدًا في شيء تراه كثيرًا، أو استنكارًا من أن تصنع من نفسها رقيبًا على رجولة رجلٍ لحظةَ زفافه، أو خجلًا أو إشفاقًا … أو أي شيء، المهم أنهما لم تكونا تريانه.
وحرَّكَ عينيه ناحية الباب في حذر ليكشف جانبًا من الجمهور الواقف المترقِّب، لمح بطرف عينه الرجل العجوز والد العروس واقفًا بالباب عيناه تروحان وتجيئان من باب القاعة إلى وجه الناس في قلق وخوف.
وفرك أصابعه في اطمئنان، الحقيقة لا يعرفها أحد، فالمرأتان لا تريان إلا الحائط وصاحب الشأن مستغرق في القلق على شرفه.
لا أحد يعرف الحقيقة، إلا هي، هي؟ مَنْ؟ إنه لا يعرفها، لم يرها أبدًا، لم ير وجهها ولا عينيها ولا شعرة واحدة من شعر رأسها، أول مرة يراها الآن، وهو لا يرى عروسًا، لا يرى أسنانًا، مجرد شال أحمر كبير في نهايته فخذان رفيعتان منفرجتان كفخذي البقرة الكسيحة، ولكنها موجودة أمامه تفضح عجزه، وتنصب قائمتها كالفخ لتصيد ضعفه وفشله، وهو يكرهها كما يكره أمه، ويود لو مزَّقها بأسنانه إرْبًا، أو صب عليها ماء نار فتنهشها.
ومنحته الكراهية ذكاءً وكبرياء، فبصق على الأرض في تأفُّف ومصمص شفتيه في ازدراء، وشد ملامحه مستجمعًا قواه، ونهض من مكانه متمهلًا، واستدار إلى الباب رافعًا رأسه إلى أعلى، مدليًا البشكير إلى أسفل، وخطا خطوة بطيئة ثابتة نحو الرجل العجوز، ورمقه بنظرة استعلاء ثم قذف البشكير في وجهه، نظيفًا كما كان، مغسولًا كما كان، لم تطأه بقعة دم حمراء.
وتهدلت عينا والد العروس في خزي، وانكمشت رقبته حتى التصق رأسه بصدره، وحف به الرجال من كل جانب متآزِرين متكاتفين، ثم استداروا جميعًا إلى باب القاعة متحفزين، وظهرت العروس على عتبة الباب ورأسها الصغير من تحت الشال الأحمر منكس في انكسار، ونظرات نارية منذرة ترشقها من كل جانب.