بلد غير البلد
يداها تسدَّان أذنيها، فالصوت لا يمكن احتماله، صوت لم تسمعه أبدًا في كل عمرها الذي مرَّ، كانت تسمع عن شيء اسمه الحرب، وقنابل تُلْقَى من الجو والبيوت تُهَد والناس تُحْرَق، وشهدت الانفجارات والحرائق، ولكن كل هذا تمثيل في تمثيل، فالسينما غير الحياة، والأشياء التي تحدث في السينما غير الحياة، وإلا فلماذا صنعوا السينما؟ وكانت تحب مناظر الحرب على الشاشة، فهي مغامرات مسلية كمغامرات الحب والجنس وغيرهما من الأساطير والخرافات، والحياة أو حياتها هي بالذات ليست فيها خرافات أو مغامرات، إنها امرأة شريفة، تزوَّجت وأنجبت ستة بشَرَف، دون أن تعرف الحب أو الجنس، زوجها لم يَرَها وهي تخلع ملابسها أبدًا، وحين يقترب منها في السرير تصدُّه بقوة، وضميرها لا يؤنِّبها حين تستسلم لأنها تقاوِمه لآخِر نفس، ولأنها لا تشعر بلذة وإنما بألم.
وانطلق صوت مدفع فضغطت بيدَيْها على أُذُنيها وعظام رأسها: «يا ساتر يا رب! الحرب قامت بحق وحقيق.» لم تكن تصدِّق أن تقوم الحرب، أو أن تسقط قنبلة على بيتها، أو أن تموت أو تفقد ذراعها أو ساقها، هذه الأشياء المفزعة تحدث في السينما، أو لغيرها من الناس، أما هي فلا يمكن أن يحدث لها شيء من هذا القبيل، إنها تخاف من ذوي العاهات والمشوَّهين، وتخاف من جثث الموتى وهي مغطاة بالملاءة، وإذا سافَرَ زوجها لبعض أيام أتَتْ بجارتها لتَبِيت معها في الشقة، وإذا دخلت الحمام ورأت صرصارًا يجري خرجت مذعورةً، خصوصًا إذا كان من النوع الكبير الطيَّار، وإذا استيقظت في منتصف الليل على صوت كركبة في المطبخ تكوَّرت حول نفسها تحت اللحاف وكتمت أنفاسها حتى لا ينتبه اللص أو ما شابَهَه إلى وجودها في الشقة.
ودوَّى صوت فرقعة، فجَرَتْ تنتفض واختبأت تحت السرير: «لعنة الله على الطمع، كنا في دمنهور بلدنا والناس تعرفنا، والدي كان بيكسب، لكن هو طول عمره طمَّاع، صبر زي الجمل خمس سنين وورث الدكان عن أبويا، وفضل يزن على دماغي، التجارة في الإسماعيلية تكسِّب ذهب، وأخويا هناك له دكان على القنال وتسع صبيان يشتغلوا ليل نهار، والنبي محمد قال شاركوا إخوانكم في الرزق.» ولطمت خدها: «والله ما شوفنا رزق، الواد محمد خدوه الجهادية، والخمس بنات جوزناهم من قرشين دمنهور، لو فضلت واحدة معايا، بعد ست مرات حبل وولادة أموت زي الكلب وحدي.»
وأنصتَتْ من تحت السرير ولم تسمع شيئًا، فزحفت خارجة، وما إن وقفت على قدميها حتى فرقعت قنبلة في الجو أو في الأرض وهزت جدران الشقة، فقفزت أم محمد داخل الدولاب: «يا ساتر يا رب! يا حفيظ! احفظ المسلمين. مش ممكن تنصر الكفرة على المسلمين، أستغفرك يا رب. ده غضب من عند الله، حكمتك يا رب، لك حق تغضب يا رب، ما بقاش فيه إسلام والذمم خربت، أخوه وولاده التسعة بيسرقوا نصيبنا في الدكان، وهو كمان ياما غالط أبويا في الحساب، وعمري ما شفته ركع ركعة. لكن اغفر يا رب لعبادك المسلمين، هم بعيوبهم برضه أحسن من الكفرة.»
ومدت أُذُنها خارج الدولاب، وبَدَا كل شيء ساكنًا، فزحفت خارجة بحذر، وما إن استقرت قدماها على الأرض حتى انكفأت على وجهها مُمسِكةً رأسها وأُذُنيها بيديها؛ هزة كالزلازل حرَّكت الأرض من تحت قدميها، وصوت انفجار ملأ أذنيها بصفيرٍ حاد ولم تَعُد تسمع أو ترى شيئًا.
لكنها تنبَّهت بعد لحظة، وتحسَّسَت رأسها وكتفيها وذراعيها وساقيها، كل شيء في مكانه، ورفعت عينيها بحذر إلى فوق، السقف لا زال منصوبًا فوق رأسها، وانتقلت عيناها إلى الحجرة، الجدران لم تقع، والدولاب والسرير والتسريحة وكل شيء كما كان، ربما تكون حجرة الجلوس هي التي وقعت، هذه هي الكارثة. «الطاقم المدهب اشتراه المرحوم أبويا بمية وستين جنيه، الست تفيدة وكل الجيران نقلوا عفشهم من أسبوعين، قلت له نأجر لوري يابو محمد وننقل العفش، قالي: «يا شيخة أنت مصدقة إن الحرب حتقوم! ده كلام جرايد، طول عمري أسمع عن الحرب، لكن عمري ما شفتها بعيني».»
– «أمال الناس نقلت عفشها ليه يابو محمد؟»
– «قرود بيقلدوا بعض، واحدة ست عقلها فارغ والكل قلدها.»
ووقفت على قدميها بحذر، ومطت عنقها ناحية الباب لترى مدخل حجرة الجلوس من الصالة. «الطاقم المدهب زمانه بقه حتت. يا خسارته! والنبي ما حد قعد عليه غير المرحوم أبويا يوم الصباحية.»
وسارت خطوات حَذِرة بطيئة إلى الصالة، يداها تُمسِكان برأسها وتسدان أذنيها، وعيناها تتجولان في أنحاء الشقة. «نحمدك يا رب، الطاقم المدهب سليم، وكل حاجة سليمة، ألف حمد وألف شكر.» وتعثَّرت قدمها في شيء على الأرض: «يا خبر أسود، إيه ده؟ إزاز مكسر؟!» وتطلَّعت في ذعر إلى النوافذ، ووجدت الشيش وبقايا ألواح الزجاج، ورأت الأرض مفروشةً بقِطَع صغيرة من الزجاج. «الإزاز مش بتاعنا، بتاع صاحب البيت.» وابتلعت ريقها واقتربت من ترابيزة الأكل، ورأت قطعة صغيرة لا تشبه قِطَع الزجاج تمامًا، ومدت إليها يدها بحَذَر وأمسكتها بأطراف أصابعها لحظةً، ثم ألقت بها على الأرض مفزوعةً: «يا خرابي! لتكون شظية ولا قنبلة ولا البتاع اللي بيسموه النابلم.»
مر وقت دون أن تسمع صوتًا، وبَدَا كل شيء هادئًا، فأنزلت يديها من فوق أذنيها وفتحت شيش النافذة بحذر؛ كان الدكان هناك كما كان على رأس الشارع، وأبو محمد واقف أمامه وسط جمهرة من الناس، رءوسهم تتقارب وتتباعد وتتلفت حولها وأصابعهم تشير إلى شيء، وتعقَّبَتْ عيناها الأصابع ثم صرخت من الفزع؛ كان بيت السيدة تفيدة جارتها قد وقع. «بيتهم ملكهم، يادي الكارثة! لكن الحمد لله الست تفيدة سافرت هي وعفشها وولادها على طنطا، إنما حسنين أفندي … يا خبر أسود ليكون كان جوه البيت؟! يا عيني يا حسنين أفندي! كنت موظف عليك القيمة في المحافظة.»
وارتَدَتِ البالطو الأسود فوق جلباب البيت، وخرجت إلى الشارع، ولمحها زوجها فابتعد عن الناس مقتربًا منها، وقال لها وهو يهرش صدره: «الدكانة سليمة والحمد لله.»
– «فلوس حلال يابو محمد.»
– «حلال الحلال.»
– «وحسنين أفندي؟»
– «ربنا أنقذه، كان معايا في الدكان.»
– «راجل ابن حلال يابو محمد.»
– «ربنا مع المسلمين.»
– «ومراته بنت حلال، نقلت عفشها من أسبوعين. ما ننقله احنا كمان يابو محمد.»
– «ننقله فين يا أم محمد.»
– «عند أختي في دمنهور.»
– «ومن هنا لدمنهور يتكلف كام؟»
– «يتكلف اللي يتكلفه، ده الطاقم المدهب لوحده بمية وستين جنيه، أنت نسيت ولا إيه؟»
– «حسنين أفندي بيقول المحافظة بتجيب لوريات، أروح بكرة مع حسنين أفندي نأجر لوري.»
– «نروح دلوقت، احنا عارفين بكره حيحصل إيه؟»
تعقبت عينا زوجها وحسنين أفندي من الخلف وهما يسيران نحو المحافظة، كانت تسير وراءهما ببضع خطوات، وتعثرت قدماها أكثر من مرة في قِطَع الطوب التي سقطت من شرفة منزل، وقبَّلت يدها ظهرًا وبطنًا وهي ترى دكانًا متهدمًا تمامًا، وأشاحت بوجهها بعيدًا عن رجل نزفت الدماء من رأسه وبعض الرجال يحاولون حمله. «يا حفيظ يا رب! هي دي الحرب؟ شكلها مش زي الحرب اللي في السينما.» وتعقَّبت عيناها ظهرَ زوجها وانتقلت إلى ظهر حسنين أفندي، زوجها قصير محني، له صنم لم تَرَه إلا ليلة الزفاف، وتذكَّرت منظر الرجل الذي كان ينزف: «صنم صنم بس يعيش.» ورأت زوجها وحسنين أفندي يتوقفان، واستدار زوجها وقال لها: «انتظرينا هنا يا أم محمد.»
وقفت أم محمد في مكانها، لكن عينيها أخذتا تتجولان حولها، ورأت مبنًى كبيرًا له نوافذ زرقاء، ومن حوله حديقة كبيرة لها سور من السلك نمت عليه شجيرات الياسمين البيضاء، واقتربت من السور تتفرج، ورأت رجلًا يلبس جلبابًا ويمسك خرطومًا ويرش الزهور بالماء. كانت هناك أحواض من زهور حمراء وبيضاء وصفراء وبنفسجية، وسمعت صوتَ رذاذِ الماء وهو يسقط على الزهور، فتذكَّرت حادثةً مرت في طفولتها؛ كانت قد ملأت الزلعة من البحر، وفجأةً زلَّتْ قدمها فوقعت الزلعة وغرقت رأسها بالماء. وتوقَّف صوت الماء، فرفعت رأسها منتبهةً ورأت رجلًا يرتدي بدلة يقف مع الرجل ذي الجلباب الذي كان يرش الحديقة، ورأتهما وهما يسيران بين أحواض الزهور، ويقتربان من حوض كبير بجوار السور حيث تقف، وسمعت الرجل ذا البدلة يقول بصوت عالٍ: «الورد ده مش عاجبني.» ويرد الرجل ذو الجلباب بصوت منخفض: «ليه يا فندم؟»
– «اللون الأحمر باهت، الورد لازم يبقى أحمر خالص.»
وتعلَّقت عيناها بشفتَي الرجل المتوردتين وهو يقول: «أحمر خالص، أحمر لون الغزال.»
وردَّ الرجل ذو الجلباب: «حاضر يا فندم.» وغادَرَ الرجل ذو البدلة الحديقةَ واختفى في المبنى الكبير، وعاد الرجل ذو الجلباب يرشُّ الحديقة.
وألصقت وجهها بالسور تتأمل الورد الأحمر وتشم رائحة الياسمين، وتتابع بأذنيها وَقْع رذاذ الماء فوق الزهور. «أنا في حلم؟ أنا فين؟ في أي بلد؟» تذكَّرت أن الحرب قد قامت منذ ساعة أو أكثر قليلًا في الإسماعيلية، وأنها كانت في البيت، وأنها سمعت الضرب، وأنها رأت بيت حسنين أفندي متهدمًا، إنها تذكر كل هذا، ولكنها لا تذكر أنها ركبت قطارًا أو أتوبيسًا لتسافر إلى هنا! أيمكن أن تنتقل من بلد إلى بلد سيرًا على الأقدام؟ «اللهم اخزيك يا شيطان، يمكن ركبنا القطر!»
وتنبَّهت على صوت عالٍ يأتيها من الحديقة: «بتعملي هنا إيه يا ولية؟»
– «هو احنا فين ياخويا؟»
– «في الإسماعيلية.»
– «أمال الحرب كانت فين من ساعة كده؟»
وأشار الرجل بالخرطوم ناحية شارعهم وقال: «كانت هنالك، بعيدة، في القرشية. ابعدي عن السور لارشك بالميه.»
وأبعدت وجهها عن السور، وظلت عيناها شاردتين، ورأت زوجها وحسنين أفندي يُقبِلان نحوها، وسمعت زوجها يقول: «اللوري جاي بكره.» وسارت إلى جواره صامتة، ثم فجأةً سألته: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟» وخُيِّلَ إليها أن زوجها يحملق في وجهها بعينين واسعتين، لكنها عادت تسأل بهدوء: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟»