نُظِرَ ويُحْفَظ
إنَّه جالس على المقعد وأمامه الدُّوسيه الكبير المفتوح، عيناه مفتوحتان لا ترمشان، والقاعة الكبيرة جدرانها بيضاء، وسقفها عالٍ تتدلى منه نجفة بلورية، والمائدة مغطاة بمفرش من الجوخ الأخضر، وفناجين القهوة تصنع فوقها نصف دائرة، يتوسطها فنجان أكبر تغطيه طبقة كثيفة من البن أكثر كثافةً من الفناجين الأخرى، وأكواب الماء مثلجة تكثَّفت عليها قطرات صغيرة من الماء، وجهاز التكييف يزنُّ في أذنيه كنحلة دءوب، وأصوات عالية خشنة، ورءوس تهتزُّ، وتهتزُّ معها دوائر على الجدران هي انعكاسات الضوء على الصلعات، وأمام الفنجان الأكبر ذي الطبقة الكثيفة من البن جسدٌ كبير له رأس أبيض، يتحرك إلى اليمين فتتحرك الرءوس إلى اليمين وتتحرك معها الدوائر، ودخان السجائر يتصاعد في الجو ويلتفُّ حول النجفة في حلقات صغيرة تبتلعها حلقاتٌ أكبر.
وهو جالس على المقعد، يرتطم بأذنه اسم «مدحت عبد الحميد» كحجر مدبَّب، وتتحرَّك الشفاه المبللة بالقهوة، وتظهر أطراف الأسنان المصفرة بالدخان: «مدحت عبد الحميد كفاءة نادرة.» ويهتز الرأس الأبيض وتهتز الصلعات اللامعة.
ويحاول أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه، ولكن شفتيه لا تنفتحان، ولسانه جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقه كالصمغ، إنه يعرف قصة مدحت عبد الحميد وهي مكتوبة أمامه في الدوسيه، ولكن هل يتكلم؟
وبلَّلَ شفتيه ببعض الماء المثلج، وأحسَّ بحنجرته وهي تعلو وتهبط وتحتك بجدار عنقه، ما قيمة أن يفتح شفتيه ويقول شيئًا؟ إنهم لا ينظرون إليه، يتكلمون أحيانًا بلغة لا يفهمها، أياديهم بضَّة، أظافرها ناعمة نظيفة، وربطات أعناقهم مُنَشَّاة قوية كالورق الكرتون، وهم يضحكون ويتبادلون النكات، وهو لا يستطيع أن يضحك، مع أنه يضحك بسهولة مع زملائه في المكتب، ومع زوجته في البيت، ولكن هؤلاء لهم هيبة، نظراتهم تأمره بالصمت، تفرض عليه أن يكون من طبقة أدنى.
ولكن اسم مدحت عبد الحميد يخترق رأسه كرصاصة، مدحت عبد الحميد انطلاقة تحطم اللوائح الجامدة، وتتحرك الشفاه الندية والرءوس اللامعة، أيمكن أن يسكت؟ وفتح شفتَيْه لينطق الكلمات الملتصقة بحلقه كالصمغ، والمرارة يمتصها جوفه ويمتلئ بها، وتضغط على عضلات بطنه وصدره فيشعر بالغثيان، لكنه غثيان عاجز لا يستطيع أن يطرد ما يريد أن يطرد، غثيان لا يُشْفَى إلا إذا طرد الهواء من صدره، وطرد الدم من قلبه، وطرد معهما الكلمات الملتصقة بالدم وانفتح حلقه بكلمات عالقة كالديدان.
وفتح شفتَيْه نصف فتحة وأخرج من بينهما بعض الهواء الساخن، أيمكن أن تخرج بعض الكلمات؟ ولكن ما جدوى أن يتكلم؟ إنهم أكبر منه، وهم يملكون قوت عياله، ما قيمة أن يدخل معركة خاسرة؟ ما قيمة قطرة في محيط؟ مَن هو؟ الرقعة الصغيرة في البنطلون ظاهرة، وربطة عنقه متهدلة، وجلد يديه خشن مجعد وهما يقلبان في الدوسيه، وما قيمة الدوسيه؟
ما قيمة الحقيقة المدفونة؟ مدحت بك عبد الحميد سرق أموال الناس ولكن قريبه مرموق، وعبد الغفار أفندي اكتشف السرقة ولكنه كاتب صغير، التحقيق بدأ وطال وطال، وكيل النيابة اختفى وجاء غيره، أوراق ضاعت وأوراق جديدة ظهرت، وانتهى التحقيق وأصبح عبد الغفار أفندي هو السارق.
وتأمَّلَ حلقات الدخان الكبيرة وهي تبتلع الحلقات الأصغر، وخفَّف المرارة المركزة في حلقه ببعض الماء.
أيمكن أن يدافع عن عبد الغفار أفندي؟ لقد وعده قبل أن يدخل القاعة بأنه سيدافع عنه، ولكن ما جدوى الدفاع، الأكبر يأكل الأصغر في الماء، وفوق الأرض وفي الجو، وإذا فتح شفتَيْه ودافَعَ عن عبد الغفار أفندي فماذا إذن يكون دور الآلهة؟
وهو ليس إلا موظفًا في الدرجة الثانية، له زوجة وتسعة أولاد، كل شهر يؤجل شراء البدلة، وقوَّته تضعف مع الزمن، وبنطلونه يتهدل، ومع ذلك فكيف سينظر في عين عبد الغفار أفندي بعد الجلسة؟ وكيف سينظر في أعين كل الناس؟ إنَّهم ينتظرونه خلف باب القاعة، لقد وعدهم بأن يقول الحقيقة، وهزَّ يَدَه في ضِيق، لماذا يطلبون منه المعجزات؟ إنَّه ليس إلهًا؟ وحرَّك رأسه باستخفاف، وما قيمة هؤلاء الناس؟ إنَّهم لا يملكون قُوتَ عياله، إنَّهم لا يملكون إلا نظرات اللوم والعتاب.
وما جدوى نظرات اللوم والعتاب؟ إنَّها لا تنتزع اللقمة من فمه، ثم لماذا يقول الحقيقة وحده؟ لماذا هم لا يتكلمون، لا يصرخون، لا يثورون؟ إنهم كثرة، إنهم أغلبية، ولكنهم مشتَّتون بغير رباط، عصًا رفيعة من الخيزران تُخِيفهم، وكلمة معسولة تُرضِيهم.
ومد يده إلى فنجان القهوة وابتلع رشفة، والتقطت أذناه اسم عبد الغفار أفندي من الجو، تلفظه الشفاه الندية كبصقة لَزِجة، الكاتب الصغير الذي خان سيده، هذا الصنف لا أمان له، هذا الصنف لا أصل له، هذا الصنف تربَّى في الأَزِقَّة.
وصعد الدم إلى رأسه: ما دخل الأَزِقَّة في السرقة؟ هو أيضًا تربَّى في الأَزِقَّة، وليس له أصل، ليس له أقارب لهم وظائف محترمة، وليس له قريب واحد مرموق، ولكنه لم يسرق أبدًا، ثلاثون عامًا مضت منذ عُيِّن في وظيفته وكان يمكن أن يسرق لو أراد، أموال الناس كانت تحت يديه، وحين مرض ابنه الصغير واستدان ساوَرَه الشيطان لحظة، لكنه استعاذ بالله منه وطرد الفكرة من رأسه.
وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا سرق مدحت بك عبد الحميد، وكان يملك عربتين وعمارة وليس له إلا ولدان، لعله مرض أعوذ بالله، أو لعله العين الفارغة التي لا يملؤها إلا التراب.
وسمع الأصوات من حوله تخفت، ورفع رأسه ورأى رأس الأبيض يتحرك، واليد البضَّة الناعمة تمسك القلم وتكتب القرار الأخير، مدحت عبد الحميد بريء، وتعلقت عيناه بسنِّ القلم، وفتح شفتيه كأنه يلهث، وسمع صوته كحشرجة: «لحظة واحدة يا أفندم.»
وتراجعت الظهور السَّميكة في استرخاءٍ إلى مساند المقاعد الجلدية، وارتسمت حول الشفاه الندِيَّة دوائرُ كالابتسامات.
ووضع يده في جيبه وأخرَجَ منديله وجفَّف عرقه، وسمع صوتًا غليظًا مألوفًا يقول: «اكتبْ عليه: نُظِرَ ويُحْفَظ.»