المقال
الدَّم الأحمر يصعد متهاديًا إلى خديه، ويمشي حثيثًا في أصابع يديه وقدميه، دافئًا مشبَعًا بالدفء، من النار المتوهجة شديدة الوهج في قلب المدفأة الكبيرة، والقلم البارد بين أصابعه المحتقنة بالسخونة يتأرجح على صفحة بيضاء يروح ويجيء على سطورها الخالية من الحروف، لا يصنع شيئًا إلا خطوطًا قصيرة مشرشرة.
وقام من كرسي مكتبه وسار إلى المدفأة وجلس القرفصاء أمامها، وقرَّب القلم منها ليشيع في جسمه البارد الدفء، وجذبت النار بشدةِ توهُّجها عينَيْه، فحملق فيها متفرِّسًا، شاعرًا بخمول عجيب يشبه النشوة أو ألذ منها، وتمنَّى بينه وبين نفسه لو جلس بقية عمره مقرفصًا على هذا النحو إلى جوار تلك السخونة اللذيذة التي تسري في كل فقرة من فقرات عظامه، لكن القلم الممدود بين أصابعه ذكَّره بالمقال الذي لا بد أن يسلِّمه للجريدة اليومَ، فاستجمَعَ إرادته وعاد متثاقلًا إلى كرسي مكتبه، ووضع القلم على الورقة وحاوَلَ أن يكتب، لكن سن القلم راح يتأرجح مرةً أخرى فوق الصفحة البيضاء، ويرسم عليها خطوطًا قصيرة مشرشرة كأرجل الصراصير.
واقتحمَتْ ذاكرته في الحال صورتَه وهو تلميذ صغير جالس في حصة الأحياء، يرسم أرجل الصرصور وشواربه. كان يكره الصرصور، ويكره حصة الأحياء، ويود لو قفز من السور وهرب من المدرسة، لكن عينَيْ أبيه تُطِلَّان عليه من فوق صحن الملوخية تقولان له في استجداء: «اتعلم يا ابني لاجل تكون أفندي لك مقام كبير مثل خالك البيه.» وقفزت أمامه صورة خاله وهو يهبط من العربة السوداء الطويلة، ومعه زوجته البيضاء السمينة ومن خلفهما ابنتهما الرشيقة، ثم يسيرون إلى بيتهم المبني بالطوب الأحمر وهم يتطلَّعون بازدراءٍ إلى العيال الملتفِّين حول العربة، ويضعون مناديلهم الحريرية البيضاء على أنوفهم ليَحُولوا بينها وبين عاصفة التراب التي قامت في الزقاق المترب، ويسمع طفلًا يهمس في أذنه وهو يشهق: «خالك البيه!» فيرد عليه بنظرة زُهوٍّ عالية، ثم يجري نحو خاله ويمد له يده الملوثة بالطين والجميز، ويقول له في انبهار وهو يلهث: «حمد الله على السلامة يا خالي البيه.»
ووقع القلم من بين أصابعه وارتطم بالمكتب، وابتسم لنفسه في سخرية، وهو يتأمل أرجل الصراصير المرسومة على الورقة التي شدَّتْ من الماضي البعيد هذه الصورَ ومسح أنفه بطرف منديله الحريري الناعم، لتطرد رائحةُ العطر الرجالي الثَّمين أشباحَ الماضي الأغبر، ورفع رأسه من فوق المكتب ليتأمل اللوحات الفاخرة على الجدران، واصطدمت عيناه بوجه زوجته الكبير على الحائط، وانقبض قلبه وهو يتأمل الملامح الحادة المثلجة، الأنف الممدود إلى أعلى في تحدٍّ وقسوة، والشَّفتان الرفيعتان المشدودتان اللتان لا يعرف كيف يقبِّلها، والعينان الزرقاوان السليطتان تشوب زرقتهما أرستقراطية مترفِّعة منفرة، ومصمص شفتيه وهو يتساءل: ما فائدة الملامح في الزواج؟ وبماذا كانت تفيده ملامح خديجة الحلوة؟ وهربت عيناه من عيني زوجته وهبطت على الورقة، وأمسَكَ القلم ليكتب عنوان المقال، وبخط كبير وفي أعلى الصفحة كتَبَ: «طريقنا إلى الاشتراكية»، ووضع تحته خطًّا عريضًا، ثم أخذ يفكِّر في بداية المقال، وأصابعه ملتفَّة حول القلم تضغط عليه كأنما لتعتصر منه الكلمات، والقلم بينها يتلوَّى ويتأرجح على الورقة ليضع خطًّا ثابتًا تحت العنوان أو ليرسم رِجْل صرصور، وأصابع يده اليسرى تعبث بذقنه وشاربه، تارةً تشد شعره، وتارةً تتحسَّس حفرة …
ومط عنقه إلى الأمام وهز القلم بخفة، ووضع سِنَّه على الورقة، ولكنه أدرَكَ أن الورقة بما عليها من خطوط وأَرْجُل صراصير لم تَعُدْ صالحةً للمقال، فكوَّرها بيديه وألقاها في سلة المهملات، وفتح درج المكتب ليُخرِج ورقة جديدة، لكن عينيه التقطتا كتابًا صغيرًا بعنوان: «نحو الاشتراكية»، فقبض عليه بيديه، وفتحه بسرعةٍ وبرقت عيناه وهو يقرأ، وقد شعر أن الوحي والإلهام ينزلان به، فأغلق الكتاب وقذف به في الدرج، وسحب الورقة البيضاء النظيفة وانكفأ عليها يكتب: «أنا فلاح ابن فلاح فقير …» ورفع القلم عن الورقة ليرى شكل الجملة، ولم تعجبه كلمة فقير فشطبها وكتب كلمة مُعْدِم، وابتسم في رضًا وهو يقرأ: «ابن فلاح مُعْدِم»، أَجَل هذه الكلمة أفضل تؤكِّد للناس أنه رجلٌ له ماضٍ مشرف.
وسخن رأسه بالحماس، وجرى القلم على الورقة يخلع على رأسه أمجادًا لا حصرَ لها من الفقر، ويكيل على رءوس آبائه وأجداده مَفاخِر لا حدَّ لها من الحرمان والعدم، وزحزحت حمَّى الحماس دونَ وعيه غطاءَ المخزن الغائر في قاع مخه، المُغلَق على الذكريات الأليمة، وتسرَّبت من تحته صورٌ دُفِنَت بلا وعي في اللاوعي، وتراءت له أمه بجلبابها الأسود المترب وطرحتها السوداء يتكوَّر طرفها الطويل على عدد من كيزان الذرة، وقدميها المشققتين الوارمتين تحت حلقة الخلخال الحديدية، تنتقلان على الأرض في تثاقل وبطء كخُفَّي الجمل المنهك، وهو بجلبابه الزفير المتآكل ينخل تراب الفرن بأصابعه وركبتاه المدبَّبتان تحت صدره، وصوت أبيه المختنق يدبُّ في أذنه: «يشتغل معي في الحقل.» ويرتفع صوت أمه المنبوح: «لا! سيذهب إلى المدرسة.» ثم يتحشرج فمها لتتثاءب فتقفز شفتها العليا كاشفة عن أسنانها البارزة، وعن مساحة كبيرة من لثتها الحمراء فتظهر أمامه في الحال أسنان خاله البارزة ولثته الحمراء وهو يتثاءب، حين يراه جالسًا في ركن الصالة الكبيرة يضم ركبتَيْه الرفيعتين على أطراف سرواله المشرشر، ويضم شفتيه اليابستين على عواء معدته الخاوية، ويزداد معه عواء معدته فيحرف وجهه إلى الجهة الأخرى مُتظاهِرًا بالانشغال عن فم خاله بأي شيء، طاويًا في أعماق نفسه شحنات غير محدودة من الكراهية لخاله الذي يجلس على الأريكة الطرية ويتثاءب كالثور الملكوم، ولزوجة خاله التي تتلكأ في الخروج من المطبخ لتدعوه للعشاء، وتسير وساقاها ملتصقتان كالبقرة الحبلى، ولأبيه الغبي الذي لم يُحسِن في الحياة شيئًا سوى عزق الأرض، ولأمه التي حملته دون النساء في بطنها الخاوي فأورثَتْه القُبْحَ والفقر، ولكل الناس الذين ينامون على الأَسِرَّة ويدخلون المدارس ويدفعون المصاريف، ثم يأكلون بعد كل ذلك حتى يشبعون.
كان يكره كل شيء، يكره المذاكرة، ويكره المَدْرسة، ويكره التلاميذ، ويكره الشتاء، ويكره الريح الباردة التي تدخل إليه طول الليل من شقوق الجدران، ويكره النهار، ويكره الشمس التي تكوي رأسه طول الصيف، ويكره البواب الذي يُطالِبه بأجرة الحجرة كلَّ شهر، ويكره السكان الذين يعيشون في شقق مُحْكَمة، ويكره المرأة السمراء النحيلة التي تسكن الحجرةَ الخشبية ويكره طبيخها البايت، ويكره فحيحها البارد تحت عنقه وهي تهمس في أذنه بكلمات قبيحة.
كان يكره كلَّ شيء حتى نفسه والرائحة العطنة الراقدة في ملابسه، وجسمه العنيد الذي ينزُّ دائمًا بذلك العرق اللَّزِج، وأصابع قدميه المدببة التي تطل دائمًا من الحذاء، ونظرات الكراهية الصفراء التي تطل دائمًا من عينيه في المرآة الصغيرة المشروخة، ومعدته الشَّرِهة التي تلتهم في لحظةٍ خاطفة الرغيفَ والعشرَ طعميات ثم تنقبض على نفسها الفارغة وتعوي كالذئب.
كان يكره كل شيء وأي شيء ما عدا تلك اللحظة الباهرة العجيبة التي يتكوَّر فيها حول الرغيف والعشر طعميات الساخنة يتشمَّمها ويلعقها بلسانه، ثم يحتويها في فمه ويمصها مصًّا حتى تذوب في جوفه السحيق وتتلاشى.
الاشتراكية هي ألا تندفع الريح من شقوق الجدران طول الليل، وألا تسقط الشمس على الرءوس طول النهار، وألا تخرج أصابع الأقدام من الأحذية، وألا تتكدَّس في أحشاء الناس الكراهية.
وتوقَّف القلم بين أصابعه، وعاد ينظر إلى الجملة الأخيرة يقرؤها ويتأملها: أَلَا تتكدس في أحشاء الناس الكراهية؟ وتساءل بينه وبين نفسه: بماذا يكافح الناس إذا لم يكدسوا في أحشائهم الكراهية؟ وأي شيء غير الكراهية علَّمه الكفاح والإصرار على النجاح؟ وأي شيء غير الكراهية ألهَبَ إرادته، وطرد النوم، وخنق الغريزة، وسلب من خلايا عقله وجسمه استرخاءَها ولو للحظة واحدة عابرة؟ أي شيء غير الكراهية؟ وامتدت يده إلى الورقة تكوِّرها وتُلْقِي بها في السلة وتسحب ورقة أخرى نظيفة.
ولكن القلم راح يتأرجح مرةً أخرى على السطور الخالية من الحروف يضع الخطوطَ الصماء، أو يمارس هوايته الأصلية في رسم الصراصير المشرشرة، والكلمات لا تريد أن تخرج، كأنه لم يكتب أبدًا، مع أنه كثيرًا ما كتب، وكثيرًا ما ملأ الصفحات في المجلات والصحف؛ أنْ يضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة بجوار الجملة، لم يكن أبدًا عسيرًا عليه، إن اسمه طويل عريض يحتلُّ عرض الصفحة، وإن ثقافته واسعة ممتدَّة من المدرسة الإلزامية إلى ماجستير حقوق، وهو يحفظ عددًا كبيرًا من الكلمات المثقفة والمصطلحات الجديدة. ومطَّ عنقه إلى الأمام في اعتداد وثقة، وتعجَّب كيف ضيَّع كلَّ ذلك الوقت في كتابة كلمات سوقية بسيطة يكتبها أيُّ شخص لم يحصِّل من الثقافة ما حصَّل، ولم يحفظ من المصطلحات ما حفظ.
إن المرحلة الثورية التي نجتازها تتطلَّب الجمعَ بين الأيدولوجية المتبلورة الأصلية والعمل التطبيقي في إطار القوانين العامة للعالَم المنطلق نحو آفاق المستقبل الاشتراكي.
ووضع القلم على المكتب ومسح أرنبة أنفه بالمنديل الحريري تفوح منه رائحة العطر الرجالي الثمين، وتأمَّلَ الكلمات التي كتبها وهو يمط عنقه إلى الأمام في زُهوٍّ، وتثاءَبَ وفرد ساقَيْه وذراعيه وتمطَّى في ارتياحٍ، ونظر إلى الساعة ثم طبق الورقة بسرعةٍ ووضعها في جيبه، ونزل إلى الشارع، ورأى الصبي الصغير يجري إلى العربة الطويلة ليفتح الباب، ودخل إلى العربة وجلس ليُدِير المحرِّك، ورأى الصبي الصغير يلمع زجاج العربة بحماس ثم يقف في عرض الشارع ليراقب المرور حتى هدأ، وأشار له أن يسير مُقبِلًا نحوه باسطًا يده، فضغط على دوَّاسة البنزين بقوةٍ وانطلقت العربة كالسهم في الشارع الواسع.
وفي المرآة الصغيرة التي أمامه رأى الصبي الصغير يتراجع إلى الوراء ويده لا تزال مبسوطة إلى الأمام، وفي عينيه نظرات يعرفها، نظرات ظلت تطل إليه سنين طويلة من مرآته الصغيرة المشروخة.