ليس بغلًا
لم يكن فاقدًا للوعي، كان يعرف كل ما يدور حوله، ويرى ويسمع الأصوات واضحة حادة، ربما أوضح من أي وقت آخَر، لكنه لم يكن يتحرك، وربما لم يكن يبدو للعيان أنه يتنفس؛ فصدره لا يعلو ولا يهبط. حقيقةً، كان صدره لا يعلو ولا يهبط، لكنه كان يتنفس في الخفاء. كيف كان يتنفس في الخفاء؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون حركة أو صوت؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون أن تهتز الشعيرات الرفيعة على فتحتَيْ أنفه؟ لا أحد يعرف ولا هو نفسه يعرف. أشياء كثيرة أصبح يفعلها دون أن يعرف كيف يفعلها، قوى جديدة غريبة اكتسبَتْها بعض أعضاء جسمه هكذا بالغريزة دون وعي أو تدرُّب، الجدار العالي بعد يوم واحد أصبح يعرف كيف يتسلَّقه، كيف يقفز إلى أعلى قفزةً واحدة هائلة ترفعه إلى الطاقة الحديدية، فيمسك فيها بكل قوته ثم يرفع جسمه إلى فوق على عضلات يديه؛ ليطل من بين القضبان على ذلك الجزء الصغير المربع من السماء.
كيف كان جسمه يتمدد وينكمش، ويتصلب ويرتخي، ويختفي ويظهر، وفقًا لإشارات أو نظرات أو أصوات معينة، بل كيف كان أن يخرج منه عضو جديد كالأميبا أو وحيدة الخلية إذا لزم الأمر، لا أحد يمكن أن يصدق أن جسمه هذا الذي حمله أكثر من عشرين عامًا وعرف ثقله وكثافته وقدراته يمكن أن يتغيَّر بهذا الشكل وبهذه السرعة فكأنه ليس جسمه، كم من مرة وضع الرسالة المطوية بين اللثة والصدغ، ومر من جوار الحارس ناظرًا إلى الأمام موحيًا إلى جسمه بكل إرادته وبكل غريزة البقاء فيه ألا يرى فلا يرى.
لم يكن غريبًا إذن أن يتنفس وصدره ساكن، ويسحب الهواء دون أن تهتز شعيرات أنفه، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعله حيًّا، فما إن يتوقف صدره عن الحركة وتتوقف شعيرات أنفه عن الاهتزاز حتى يتوقَّف ذلك الصوت الغليظ الذي يدوِّي في الهواء ثم يهوي مرتطمًا بشيء صلب. له طراوة اللحم، وله إحساس معين يحسه ويعرفه، ليس ألمًا مبرحًا بل ليس ألمًا على الإطلاق، وإنما أشبه ما يكون بالضغط أو الشد، وهنا أيضًا يكتسب الجسم قدرةً خارقة عجيبة، يكتسب القدرة على عدم الإحساس بالألم، كأنما الشومة الغليظة التي ترتفع في الهواء ثم تهوي لا ترتطم بجسمه هو وإنما بجسم آخَر منفصل عنه، لكنه قريب منه، قريب إلى حدِّ أنه قد لا يكون منفصلًا وقد يكون جسمه هو، ومع هذا التشكُّك والالتباس والاختلاط يصبح الألم أيضًا شيئًا مشكوكًا فيه، ملتبسًا إلى حد الاختلاط بإحساس آخَر يشبه الإحساس بالفرح أو اللذة، ويكاد يحس أنه سعيد، وقد يشعر برغبة في أن يبتسم؛ ذلك أن فكرة غريبة خطرت بباله، وهي أن الشاويش هو الوحيد الذي يلهث من التعب، وقد وقف على بُعْدِ خطوة منه يتحسَّس يديه من فرط الألم الذي يحسه بعد ذلك المجهود المضني، وقد يئنُّ أنينًا خافتًا يختلط بأنفاسه اللاهثة، ويبتسم هو في الخفاء دون أن يحرِّك عضلات شفتَيْه، ويرقب الشاويش دون أن يحرك جفنَيْه، ويتنفس دون أن يحرك صدره بتلك الطريقة الجهنمية التي لم يَرِد لها وصفٌ في كتب الطب! ولكن كم يجهل الأطباء الجسمَ الإنساني، إنهم يشرحونه كقطعة من اللحم ويحكمون عليه بحواسهم الخمس العقيمة، أيعرفون شيئًا عن تلك الحواس الجديدة أو الأعضاء التي تنبت فجأةً؟ وكيف يعرفون وهم لم يعيشوا التجربة الفريدة التي يعيشها هو؟
ورأى الشاويش وهو ينتصب فاردًا عضلاته باسطًا الشومة أمامه ضاربًا على رأسها بيد، ورافعًا اليد الأخرى مشدودة الأصابع لترتطم بجبهته، ويظهر الضابط علوي قصيرًا سمينًا أبيض، وشفته العليا مشقوقة من الوسط لتصنع قناة بين فمه وأنفه كما هو الحال في الجنين في شهوره الأولى؛ حيث لم تتم بعدُ تلك الحواجزُ التي تفصل الأعضاء بعضها عن البعض، ويرنُّ في أذنه الصوت الغريب، صوت لا يعرف أهو يفلت من الأنف إلى الفم، أم من الفم إلى الأنف: «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخذ ايه من السكوت؟» وتتسرب كل قوته وصلابته إلى عضلات شفتيه، وتترك جسده مرتخيًا هامدًا ممدودًا، وتصبح شفتاه كشريطين رفيعين من الصلب الملتهب يُطبِقهما بكل قوته فتلتحمان ببعضهما بعضًا في شفة واحدة عريضة.
الصوت الحاد الأخنف يرنُّ في رأسه، وهو عاجز عن النطق ليس عجزًا لا إراديًّا لعدم القدرة على تحريك اللسان، وليس فقدانًا للذاكرة ونسيان مكان المطبعة، وليس تمسُّكًا بمبدأ أو وفاءً لعهدٍ أو التزام، فهو لم يَعُدْ يذكر تلك المسائل والعواطف البشرية، إنه لم يَعُدْ بشرًا، أصبح كائنًا آخَر له جسم آخَر وأعضاء أخرى، وهو قادر على النطق، قادر على أن يفتح شفتَيْه ويقول: «شارع وسط البلد، نمرة ٦.» هذه الكلمات لا تزال في ذاكرته واضحة، أكثر وضوحًا من أي شيء آخَر، بل لا يكاد يكون هناك شيء غيرها في ذاكرته، نسي شكل ملامح أمه، ونسي علم الجيولوجيا الذي قضي سنوات عمره يتعلَّمه، أفرغَتْ ذاكرتُه كلَّ محتوياتها ولم يَبْقَ إلا تلك الكلمات القليلة: شارع وسط البلد نمرة ٦.
ودوَّى الصوت الحاد الأخنف في رأسه محدثًا أصداء غريبة في تجويف رأسه، الذي اتسع وانتفخ فكأنه صندوق كبير مفرغ يكبِّر الصوت كالميكروفون.
«فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟» الضابط علوي ذو الشفة الأرنبية المشقوقة لا يمكن أن يعرف ما الذي يمكن أن يأخذ من السكوت، إلا ذلك الضرب المبرح حتى الاقتراب من الموت أو لعله الموت حقيقة، ولكنَّ هناك شيئًا آخَر لا يعرفه علوي ولا يمكن أن يعرفه لا لنقص في عقله، ولا لأن بعض خلايا وجهه متوقِّفة في نموها عند مرحلة الجنين في شهوره الأولى، ولكن لأنه شيء غريب جدًّا، لم يعرفه أحد من قبلُ وما كان له هو أن يعرفه لولا أنه عاش هذه اللحظة العجيبة التي يعيشها الآن، لحظة ينفصل فيها الجسم عن النفس دون أن يموت أحدهما، لحظة يصبح فيها جسمك وكأنه شيء آخَر بعيد عن نفسك، ليس بعيدًا جدًّا ولكنه منفصل عن نفسك بمسافة صغيرة متناهية الصغر، كشعرة رأس أو واحد من الألف من شعرة الرأس، في تلك اللحظة لا يهمك جسمك، فهو ليس جسمك، وألمه ليس ألمك، وبقاؤه ليس بقاءك، وفي تلك اللحظة بل في ذلك الجزء من اللحظة تنشطر غريزة البقاء إلى شطرين، ليسا شطرين متساويين، وإنما أحدهما شطر كبير جدًّا يُخَيَّل إليك أنه هو الكل وليس هناك جزء آخَر بعيد، ليس بعيدًا جدًّا وإنما قريب بقرب ذلك الجسد منك، وهكذا يحدث ذلك الشيء العجيب، تكون أنت متكورًا على نفسك متقوقعًا حولها منتفخًا بكل غريزة البقاء فيك، ويكون جسدك هناك على غير بُعْدٍ منك، عاريًا مرتخيًا ممدودًا، لا يحس بالبرد أو الحر ولا يعرف الضرب من الركل من الزغد من الزغزغة، كل شيء يصبح لديه سواء، كضغطٍ ما يروح ويجيء، ويجيء ويروح، كذلك الضغط الطبيعي للهواء من فوق، وللأرض من تحت، على أي كائن أو جسم.
في تلك اللحظة لا يكون لبقاء ذلك الجسم معنى، يبقى أو لا يبقى سيان، المهم هو نفسك، هو تلك النقطة الهلامية المحسوسة وغير المحسوسة التي يتركَّز فيها بقاؤك، تلك القطرة السرية المجهولة من الحياة التي تجعلك حيًّا حتى ولو فقدتَ إحساسك بوجود جسدك، تلك القطرة التي إذا جفَّتْ جفَّتْ فيك الحياة وأصبحتَ ميتًا ولو كان جسدك ما زال محسوسًا.
لم يكن غريبًا أن تتركز غريزة البقاء في تلك القطرة، وأن يتحوصل ويصنع حولها قوقعةً صلبة منيعة، قوقعة حديدية تغلق فوهتها إغلاقًا غريبًا كأنما انصهرت شفتاها الحديديتان وذابتا بعضهما بالبعض، ولم تَعُدْ هنالك فوهة أو حتى معالم فوهة، ولكن هل يمكن أن يتخيل تلك القوقعة الحديدية بغير فوهة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتَّسِع لأكثر من قطرة، وداخلها مساحة صغيرة متناهية الصغر لا تتَّسِع لأكثر من قطرة واحدة، ذابت فيها كل حياته وكل ذاكرته التي نفضت عنها كل شيء وتركَّزَتْ وتبخَّرت وتكثَّفت في قطرة واحدة مقطرة هي المطبعة؟
«فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الأخنف لا يزال يردِّد السؤال الغبي الأجوف: «حتاخد إيه من السكوت؟» سؤال غريب، أغرب سؤال سمعه في حياته، سؤال ليس له جواب لأن أحدًا لا يعرف الجواب، سؤال لم تستطع البشرية بأكملها أن تجيب عنه حتى الآن، هي التي أجابت على ملايين الأسئلة، وكشفت الملايين من أسرار الأرض والسماء، سؤال بغير جواب، والسؤال نفسه ليس سؤالًا، لا يعرف أحد كيف يسأله أو ما الذي يسأله، أو ما الذي يريد أن يعرف بالضبط؛ ذلك أنه يعرف الجواب، ليس تلك المعرفة العادية الواضحة حيث يمكن أن يعرف، ولكنها معرفة مجهولة كعدم المعرفة سواء بسواء. إنه يعرف أن هناك بؤرة صغيرة في مكانٍ منه تتركز فيها الحياة كبؤرة العدسة، صغيرة ودقيقة ولا مرئية، وربما لا موجودة ولكنها محسوسة في مكانٍ ما من نفسه يعرفها ويحسها دون جدوى، كسراب ولكنها ليست سرابًا، إنها الحقيقة ماثلة في كيانه كحقيقة وجوده، حقيقة صغيرة متناهية الصغر كذرة أو واحد في الألف من الذرة، يعلقها كل لحظة بذهنه ويختزنها في جوفه ويتقوقع حولها متشبثًا بها إلى الأبد، فهي سر حياته وسر وجوده وسر بقائه، عرفها تمامًا كما عرف نفسه ولم يعرفها أبدًا كما لم يعرف نفسه.
«المطبعة فين؟ انطق يا مغفل! حتاخد إيه من السكوت؟»
الصوت الحاد الأخنف يزداد حدة ويزداد خنفًا، والقوقعة من حوله تزداد سمكًا وصلابة، والقطرة في داخلها تزداد أمنًا وطمأنينةً فترقُّ وتصفو وتشفُّ حتى تكاد ترى الحروف من خلالها واضحةً جليلة، «شارع وسط البلد، نمرة ٦»، حروف تلمع بلون الرصاص، تلتفُّ وتتشابك، وتغلظ وتنحف، وتنفصل وتتصل، ورائحةُ الورق حين يُسْحَق بين فكَّيِ المطبعة رائحةٌ نفاذة غريبة، لا تدخل إليك من فتحتَي الأنف كأي رائحة، وإنما تشق عظامَ رأسك وتغزو نافوخك بكلمةٍ تعرفها قبل أن تقرأها، وتدور المطبعة في رأسك وتصطكُّ الحروف الرصاصية كالأسنان وتُولَد الكلمة؛ كلمة وليست إلا كلمة، ولكنها النقطة التي بدأ بها كل شيء، النقطة التي بدأت منها حياته، وامتدت على طول السنين حتى هذه اللحظة التي يعيشها الآن، خيط طويل بدأ بنقطة وما زال ممتدًّا إلى تلك النقطة الهلامية الصغيرة المتناهية الصغر، التي تلتفُّ حولها نفسه وتحوطها وتحميها كجنين في بطن أمه.
الآن أصبح الشيء أقل غموضًا، وأصبح في استطاعته أن يتصوَّر خطًّا طويلًا رفيعًا كالشعرة، يبدأ بنقطة تدور حولها المطبعة في شارع وسط البلد رقم ٦، وينتهي إلى تلك النقطة الحبيسة داخل نفسه في تلك الصحراء الواسعة الجرداء، حيث لا شيء إلا الشاويش بشومته ذات الرأس الغليظ الأعوج، بصوته الحاد الأخنف.
«فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
السؤال هو هو لكن الجواب لم يَعُدْ مجهولًا، إنه لا يستطيع أن يقول إنه عرف الجواب، وإنَّ في إمكانه أن يقول لماذا هو يسكت، وما الذي سيأخذه من السكوت، وما حقيقة هذا الخيط الطويل الممتد ما بين نقطتين مجهولتَي الأصل: إحداهما فرضها هو نفسه، والأخرى فُرِضَت عليه كما فُرِضت عليه نفسه، ولكنه يعلم علْمَ اليقين أن المطبعة لا تزال تدور في تلك الشقة الصغيرة في شارع وسط البلد، تُرُوسها وحروفها الرصاصية تصطكُّ والورقُ يُسْحَق بين فكَّيْها، وتخرج الرائحة النفاذة تنفذ إلى النافوخ، أيمكن أن يكتشفوا مكانها من الرائحة؟ أيمكن أن تتوقف المطبعة عن الدوران؟ أيمكن أن يفقئوا تلك العين التي يرى بها رغم تلك المساحات الشاسعة بين مكانه في الصحراء ومكانها في وسط البلد؟ أيمكن أن يسحقوا تلك النقطة الأولى التي بدأ بها خيط حياته الطويل المشدود منها إلى نقطة الحياة الحبيسة داخل نفسه؟
أيمكن أن تفوح الرائحة؟ أيمكن أن يفتح واحد فمه ليتنفس أو يلهث أو يئِنُّ فتخرج من بين شفتيه مع الهواء كلمات «شارع وسط البلد، رقم ٦»؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ إن مجرد التفكير في إمكانية حدوثه يزلزل كيانه، في مكانه هو إحدى النقطتين اللتين يشد بينهما الخيط، وبقاؤه هو بقاء هذا الخيط مشدودًا بين نقطتَيْه الاثنتين، الاثنتين معًا؛ لأن زوال واحدة معناه انقطاع الخيط وزوال الثانية.
«فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخد إيه من السكوت؟»
الآن فقط يستطيع أن يعرف لماذا يسكت، لماذا لا يفتح شفتَيْه المُطبِقتين ويئِنُّ ويجعل الكلمات تخرج مع الهواء: «شارع وسط البلد، رقم ٦». إن القضية ليست التزامًا بمبدأ أو وفاءً لعهدٍ ما تجاه آخَرين، فالآخرون هنا ليس لهم وجود، إن جسده الذي هو أقرب الآخرين إلى نفسه لا يفصله عنه إلا تلك الشعرة أو الواحد في الألف من الشعرة، لم يَعُدْ له وجود، فما بال الآخرين. ولكن القضية أخطر من ذلك بكثير، إنها قضية نفسه، قضية ذاته، بقاء هذه الذات أو عدم بقائها، استمرار وجود ذلك الخيط المشدود يحمل من وسط البلد الماء والهواء إلى ذاته الحبيسة داخل القوقعة، أن يبقى أو لا يبقى هذه هي القضية، والبقاء هنا ليس ذلك البقاء الجسدي، فالجسد لم يَعُدْ محسوسًا وإنما هو بقاء من نوع آخَر، إنه بقاء الخيط مشدودًا بين تلكما النقطتين. ما هو هذا الخيط؟ وما هما تلكما النقطتان؟ هذا ما لا يعرفه أبدًا.
ولم يَعُدْ يسمع الصوت الحاد الأخنف، لا بد أن الضابط علوي سكت قليلًا لتستريح حبال صوته، وبدأ يسمع قدمَي الشاويش الثقيلتين يصطكُّ حديدهما بالأرض الأسفلت، وسمع صوت الشومة وهي ترتفع في الهواء وتستقر لحظةً، ثم تهوي فجأةً وترتطم بشيء صلب له طراوة اللحم وكثافته، ولكنه ليس لحمًا، أو على الأقل ليس لحمه هو بالذات، وإنما لحم آخَر لا يبعد كثيرًا عنه، ربما لا يفصله عنه إلا مسافة صغيرة جدًّا متناهية الصغر كشعرة أو واحدة في الألف من الشعرة، ولكنها مسافة على أي حال تفصله عن ذلك اللحم المضروب، لو كان بغلًا لَمات، ولكنه ليس بغلًا، إنه إنسان له عقل يعرف كيف يفكر، وكيف يتغلب على أي قوى، وكيف ينتصر في النهاية، كيف ينتصر … كيف؟ وهو ليس إلا نقطة واحدة حبيسة، ليست طليقة في الهواء ولا يمكن أن تنطق كالذرة وتنفجر، ولكنها حبيسة داخل قوقعة سميكة صلبة بغير فوهة، كيف تنتصر؟ وعلى أي قوى؟ أي قوى هائلة وساحقة ومبيدة؟ إنه لا يكاد يصدِّق، لا يكاد يكتم الفرحة، لا يكاد يخفي الزهو، وأي زهو. إنه قادر على الانتصار رغم كل شيء، قادر على أن يمنح المطبعة الدوران، والدوران قادر على أن يجعل الحياة تسري في الخيط الطويل المشدود ما بين وسط البلد ومكانه البعيد في الصحراء، إنه منتصر، إنه سعيد، ربما يريد أن يرقص.
وها هو ذا الصوت الأخنف يعود مرة أخرى، وها هو ذا يُطبِق شفتَيْه الحديديتين المنصهرتين في شفة واحدة، لو فتحوا فمه بمنشار فلن يخرج من حلقه ذرة هواء؛ لأن حلقه هو الآخَر أصبح مسدودًا بغير فوهة، ولأنه أصبح يعرف كيف يتنفس داخل القوقعة بغير هواء يدخل ويخرج.
«أخدت إيه من السكوت يا مغفل؟ زميلك اعترف … شارع وسط البلد نمرة ٦.» إنه الصوت الحاد الأخنف، هو بأنفه المفتوح على فمه، هو الذي يقول «شارع وسط البلد نمرة ٦»، هو هو الحاد الأخنف.
لم يعرف تمامًا ماذا حدث، لكن الصوت دوَّى في أذنه كالفرقعة، كبالونة كبيرة منتفخة بالهواء انفجرت، كسلك رفيع طويل مشدود انقطَعَ فجأةً، ولم يَعُدْ يرى الشاويش ولم يَعُدْ يسمع الصوت الحاد الأخنف، لم يَعُدْ يرى أو يسمع شيئًا، ولم يحس أصابع الشاويش الغليظة وهي تلتفُّ حول قدمَيْه وتجرُّه بعيدًا إلى حيث لا يعلم أحد.