الكذب
فجأةً أصبح عاريًا تمامًا.
لم يعرف كيف خلع ملابسه، لكنه كان يريد أن يَضَعها أمام أمر واقع، أمام رجل عارٍ. إنَّ العُرْي في حد ذاته كفيل بأن يطوِّر العلاقة بينه وبينها. لم يَعُدْ عنده صبر، فالحاضر خطر والمستقبل غير مضمون، ولم يَعُدْ عنده وقت، فالشباب أدبَرَ والكهولة تقترب بابتعاده عن الأربعين، ورصيده من القوة أصبح يقلُّ، وكثيرًا ما فشل جسده في لحظاتٍ تأجَّجَ فيها القلب.
كان يتحدَّث في شيءٍ ما، كان موضوعًا جافًّا، لعله كان علمًا أو سياسة أو فلسفة، وكانت هي تجلس أمامه مرتدية فستانًا حديثًا، لم تكن نظرتها مُغرِيةً أو مشتهية أو أي شيء من ذلك الشَّبَق الذي تتقنه النساء المحتشمات، بالعكس كانت نظرتها تطرد الرجلَ أكثر ممَّا تناديه، تطرده بكل عنف وبغير رجعة كما نطرد عن أنفسنا المرضَ أو الموت أو أي شيءٍ نحسُّ أنه إذا ما انقضَّ علينا فمن المحال ألَّا يَفْتِك بنا.
«نحن مَسُوقون إلى حقنا، أردنا أم لم نُرِد.» قال لنفسه هذه الجملة حين لمح نفسه في المرآة عاريًا، عشرون سنة عاشها مع أم أولاده الخمسة، زوجة شرعية خجول وعذراء وتعشق الإنجاب بغير أن يتعرَّى الجسم.
وأشاح بوجهه بعيدًا عن المرآة.
فقد اصطدمَتْ عيناه بصدر مُشعِر كصدر القرد، وبطن عالٍ كبطن امرأة حامل، لم يكن يظن أن بطنه ارتفع إلى هذا الحد. في كل يوم كان يرتفع ارتفاعًا قليلًا جدًّا غير ملحوظ، ويضيق البنطلون بسيطًا جدًّا لا يزيد عن ملِّيمتر أو نصف ملِّيمتر، لكنه التراكم؛ تراكم الأيام، مئات الأيام، آلاف الأيام، وتراكمت معها الملِّيمترات بعضها فوق بعض، عشرين سنة.
وكانت هي تجلس وفي يدها الكتاب، كانت تعرف أنه جالس في كرسيِّه بكامل وقاره يتحدَّث، فالكلمات تخرج من فمه متتابِعة واحدة وراء الأخرى بغير فواصل وبغير سكتات، كأنما كان يمضغ لعابه ثم يفرزه حروفًا متلاصقة ممتدة كسائل له قوام، أو كالخيط يتدلَّى من فمه طويلًا وحريريًّا، لا ينتهي ولا ينقطع، وربما يلتفُّ ويتشابك كالشرنقة، وربما استطاع حرف واحد أن ينفصل من تلقاء نفسه ويتطاير في الجو كذرة مائية أو فقاعة لا تلبث أن تسقط فوق أي شيء صلب.
كانت تنصت إليه، وهو ليس ضيفًا عاديًّا، إنه صديق زوجها منذ سنين كثيرة أكثر من السنين التي جمعت زوجها بأي أحد. وهو رجل مؤدب، تستطيع أن تحسَّ ذلك من عضلات وجهه المشدودة، وتقلُّص عضلات العنق، والكرافتة المربوطة حول رقبته والمعقودة بشدة، كأنما لا تُفَك أو لا يمكن أن تُفَكَّ أبدًا، كأنه ينام ويصحو بها، بل كأنه وُلِدَ بها، والجاكت ذي الصفين من الأزرار، والبنطلون الضيق المزرَّر بإحكامٍ، وساقَيْه المضمومتين وركبتَيْه المتلاصقتين كما تجلس المرأة ذات الحياء أو الفتاة العذراء. أجل، كانت له عذرية رجل لا يبدو أنْ خلَعَ ملابسه أبدًا، أو أن ملابسه يمكن أن تُخلَع حتى لو أراد.
ولم يكن وجوده بالبيت وإنْ غاب زوجها يزعجها في شيء، تتركه يتحدَّث في كرسيه وتفعل ما تريد؛ قد تكتب، وقد تقرأ، وإذا وقع منها القلم وتدحرج تحت المنضدة فهي تنثني لتلتقطه بغير حرج، فإذا ما قفز فستانها الضيق القصير وتعرَّتْ تمامًا من الخلف لم تنزعج، فهو لا يمكن أن ينظر إليها، وإذا نظر فإن نظرته رفيعة مثقفة، تحطُّ على جسدها بغير ثِقَل وبغير حرارة كالهواء سواء بسواء، حتى حديثه غير المنقطع لم يكن يزعجها في شيء، بل لعله كان يسليها، فإذا ما غاب فتحت الراديو.
أعطى ظهره للمرآة وظل واقفًا، كانت جالسة أمامه على كرسي منخفض وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع الطبيعي الذي تتخذه فخذَا المرأة الحديثة حين تجلس، وكانت عيناه تنفذان بينهما بسهولة وتبلغان نهايتهما دون مشقة على الإطلاق، وكان قد انتقل في حديثه من السياسة العالمية إلى أصل الكون، إلى الجبرية في الأديان، لكن عضلات عنقه كانت — وهو يتحدث — تتقلص في شدة مُحدِثةً صريرًا غريبًا يخشى أن يكون مسموعًا، فإذا به يتكلم بصوت أعلى مما تقتضيه الآداب الحديثة. كان يشعر بشيء من الحرج، لكن صوته يرنُّ في الصالة ذات الأثاث المودرن ويهز الستائر الشفافة فوق النوافذ هزًّا رقيقًا ناعمًا يدغدغ أذنَيْه، فإذا به يعشق صوته ويستشعر في نطق الكلمات لذةً كبيرة.
وكان الكتاب لا يزال في يدها، وعيناها على سطر فوق إحدى الصفحات، لم تكن تحرِّك عينيها من كلمة إلى كلمة. كانت تعشق الكتب بشدة لكن كرهها للقراءة كان أشد، فإذا بعينيها تزحفان كمنقار، وتسري نعومة الورق الفاخر في نعومة أناملها؛ فتستشعر ترابطًا حسيًّا بينها وبين الثقافة.
وظل واقفًا وظهره إلى المرآة، إنَّها لم ترفع رأسها بعدُ من فوق الكتاب، كل ما حدث حينما انقطع صوته فجأةً أنِ امتدت يدها بغير وعي إلى الراديو فامتلأت الصالة بصوت رصين يتلو القرآن، ربما لو كان برنامجًا آخَر غير محتشم، تمثيلية مثلًا أو قطعة موسيقية، ربما تحرَّكَ من مكانه، أما أن يُتلَى القرآن وبذلك الصوت الوقور، فلم يكن أمامه إلا أن يظل واقفًا في مكانه بغير حراك. كان الفصل شتاءً — اليوم الأخير من شهر يناير بالتحديد — وبالرغم من النوافذ المتينة المحكمة، كان هناك تيار من هواء بارد متجه إلى عموده الفقري بالذات، وفكَّرَ في أن يمدَّ يده ليلتقط شيئًا من ملابسه الملقاة تحت قدمَيْه، لكنه خشي إنْ تحرَّكَ أن يلفت نظرها قبل أن تنتهي تلاوة الآيات. استطاع فقط أن يرمق بشيء من الحسرة البلوفر بصوفه الإنجليزي الغالي يشيع الدفء في البلاط، وإلى جواره كانت هناك الكرافتة بربطتها المُحْكَمة المحترمة وذيلها الطويل الرفيع اللامع من السولكا، وإلى جوارها تمامًا ويكاد يلتصق بها كان هناك سرواله القطني الخشن الضخم، يفضح حجم بطنه وانبعاج فخذيه، يفضحهما بغير شفقة وبغير حياء وبغير مراعاة للآداب العامة.
وانتهت التلاوة، وبدأ يفكِّر في الحركة التي يمكن أن يبدأ بها، وخُيِّل إليه أن حركة الذراع قد تكون أكثر لياقةً من غيرها، ولعله حرَّكَ ذراعه فعلًا؛ لأن الشَّعْرَ الكثيف تحت إبطه أصبح ظاهرًا للعِيَان، لكن خلجة واحدة لم تتحرك فيها، كانت لا تزال جالسةً تقرأ في الكتاب، وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع العادي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تستغرقها القراءة، ذلك الاستغراق الطبيعي لأي شخص مثقف، لكنه لم يكن يظن أو لم يكن يدور بخَلَده أبدًا أن الاستغراق مهما بلغ من العمق أو الثقافة يمكن أن يَحُول بين المرأة وبين رجل عارٍ.
وكانت أذناها قد التقطتا صوتَ المقرئ، فامتدت يدها بغير وعي وأدارت المسمار بشيء من الرهبة، وبدأ صوت كالهدير يذيع نشرة الأخبار. ربما لو كانت وحدها لَامتدت يدها مرةً أخرى وأدارت المسمار، لكنها كانت تعرف أنه جالس في كرسيه، عنقه مشدود ومربوط بالكرافتة، ونصفه الأعلى صندوق أُحْكِم إغلاقه بصفين من الأزرار، وساقاه مضمومتان ملتصقتان في احتشام؛ الوضع الطبيعي الذي تتخذه ساقا الرجل الحديث حين يستمع إلى النشرة. وكانت عيناها قد تسرَّبتا من فوق السطر خلسةً فوق ذراعها البضِّ الناعم، لكنهما لم تلبثا أن تعثرتا ببضع شعرات نافرات خشنات فتذكَّرت موعد الحلاقة.
وكان هو قد بدأ يشعر بالحيرة، فما الذي يفعله ليُخرِجها من ذلك الاستغراق؟ وضع أصبعه في فمه ليصفِّر كما كان يفعل وهو طفل حافٍ يلعب في الحارة عاري الأرداف، وربما وضع أصبعه في فمه فعلًا لكنه لم يصفِّر، لم تَعُدْ عضلاتُ فمه قادرةً على إحداث تلك الأصوات المنافية للذوق العام، وظل واقفًا جامدًا عاريًا كالتمثال، لكن الصمت دبَّ فجأةً في الصالة؛ ربما انقطَعَ تيار الكهرباء، ورفعَتْ رأسَها من فوق الكتاب فإذا بالصالة غارقة في الظلام، وكادت تصطدم به وهي متَّجهة إلى حجرة المكتب، لولا أنه تراجَعَ خطوةً إلى الوراء، ولمَّا عادت بكتاب آخَر كان التيار قد عاد، وكان هو جالسًا في كرسيه المعتاد بكامل ملابسه وكامل وقاره.