النفي إلى الوطن
كتب الجبرتي في تاريخه
«هي أول سِنِي الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعُف الشرور، وترادُف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابُع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتُر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.»
من إعلان لنابليون بونابرت
«العزة الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنا من أصدقائه.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أدركتُ أن النجاة بالأنفس والمال هي ما طلبه أمراء المماليك. روى لي أصدقائي عن الأحمال الثقيلة، نقلها الجند والخدم والعبيد من داخل القصور إلى بيوت في أحياء القاهرة القديمة، تهيَّئوا — في نفوسهم — للهزيمة الوشيكة، نقلوا الأموال والنفائس إلى أمكنة مخفية، تظل حيث هي، أو ينقلونها — حين الخطر — خارج المحروسة.
المعارك متصلة بين عساكر الأمراء المصرلية، الأرناءوط ضد الإنكشارية، الدلاة يُعادون الفرق الأخرى، العصيان معلنٌ للوالي، الأهالي هدفٌ عابر، دائم، لطلقات الرصاص، وضربات السيوف.
قال الحاج حيدر العلاف: معاناتي من المماليك أشد مما عاناه أحد … لكنني أوافق على خروجهم لمواجهة الغزو.
وهزَّ سبابته أمام المعلم حجاج الخضري: من حق البلد الذي استمتعوا بخيراته أن يُدافعوا عنه.
قال شيخ الخضرية: ربما قدوم الفرنسيِّين فرصة لزوال المماليك.
وفاض صوته بالفرحة: سئمنا حكم البكوات والكشاف وضباط الوجاقات.
وسَّط العلاف راحتَه في الفراغ: المماليك مسلمون، لا تُفضِّل عليهم مَن لا تعرف ما يعبدون!
أشرتُ بأن يكون تهيؤنا لدحر الغزوة الوشيكة، وإدراك النصر.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فكانت كلُّ طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم، وينصبون لهم خيامًا، ويجلسون في مكان حزب أو مسجد، ويرتِّبون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم مَن يُجهِّز جماعةً من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك؛ بحيث إن جميع الناس بذلوا وسعهم، وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم، وسمحَت نفوسهم بإنفاق أموالهم، فلم يشحَّ — في ذلك الوقت — أحدٌ بشيء يملكه.»
صوت
يا خفيَّ الألطاف، نجِّنا مما نخاف!
هذا هو الدعاء الذي علَت به أصوات الناس، لمَّا توالَت الأنباء بتقدُّم الفرنسيِّين في المدن والقرى. نُوديَ بالنفير العام، رمَّم الناس الأسوار، وحفروا الخنادق، ووضعوا المتاريس والمصاطب في أول الشوارع والحارات، أُغلقت المتاجر والوكائل والدكاكين والطوابين والأفران، خرج الأفراد والطوائف إلى برِّ بولاق، نصبوا الخيام بالقرب من المعركة المرتقبة.
تنادَى الناس إلى الجهاد.
في صحن الأزهر، وأروقته، وتحت أعمدته، قام العلماء ومشايخ الطرق الصوفية وأرباب السجاجيد وأرباب الرسوم والقراء والخطباء والسناجق وشيوخ طوائف الحِرَف والمتصدرون إلى قراءة البخاري، والتهدج بالأدعية والابتهالات والأذكار، دعوا الناس إلى قراءة استغاثة أبي مدين الغوث في صفة الجهاد.
مغاوري تليمة النسَّاخ بسوق الكتبيِّين، انشغل بما طلبه الحاج حيدر العلاف، نسخ ما ينبغي على مريدي الطريقة أن يردِّدوه من الأحزاب والأذكار والأدعية والابتهالات. يتكسب من نسخ المخطوطات للعلماء والأدباء والمؤرخين وكُتَّاب التراجم، ينسخها لحساب مؤلفيها، أو يبيعها للوراقين، عمل بنسخ الكثير من أمهات الكتب، بعضها مخطوطٌ في نسخته الأولى، وبعضها في نُسَخ منقولة، إلى جانب المراجعة والتصحيح.
قيل إن الشيخ الجوسقي شيخ زاوية العميان يُشاركه دكانه، وييسر له كُتُبًا من العلماء ينسخها، ألحق بدكانه عددًا من الكُتَّاب، ينسخون القرآن الكريم، وسيرة الرسول، وكتب الفقه والطب والأدب وغيرها من العلوم، إن انتَهوا من نَسْخها قدَّموها له، يراجعها، ويدفع بها إلى الجهة المكلفة. خصَّص جزءًا من الدكان لتجليد الكتب والمخطوطات، وترميمها.
قامت الصداقة بتردُّد مغاوري على وكالة العلاف. تكلَّما في الأحوال، شرقًا وغربًا، استشهد مغاوري بآيات من القرآن وأحاديث الرسول وحكايات رواها التاريخ. اطمأنَّ الحاج حيدر إلى قربه من الصوفية، فدعاه للانضمام إلى الطريقة.
أمر الحاج حيدر مريديه، فضجُّوا بالذكر، شارك المريدون بقيةَ الطرق في الخروج بالأعلام والأشاير والطبول والدفوف والكاسات. حتى الطرق العثمانية: المولوية والنقشبندية وغيرها، علَت أصواتُ مريديها بالأدعية والابتهالات.
خرج القادرون على حمل السلاح، بكل ما في حوزتهم من بنادقَ وسيوفٍ وبُلَطٍ وشوم ونبابيت، أقاموا المتاريس، تحصَّنوا بأسوار الحارات، وداخل الأزقَّة، لم يبقَ في الدور إلا النساء والأطفال، حملوا ما استطاعوا من العِصيِّ والنبابيت، واشترى الكثيرون ما يُعينهم على المقاومة من سوق السلاح، وضع الناس المتاريس من الحجارة، ومصاطب الدكاكين، والأبواب الحديدية. توزَّع الصبية على مفارق الطرق ونواصيها، يترصَّدون مَقْدِمَ الفرنسيِّين.
طالب الحاج مَن أقعدَتهم الظروف عن الخروج إلى القتال بالمساعدة في تثبيت الأمن داخل القاهرة، تأكَّدوا من انتظام حركة الطريق، وعدم إغلاق المقاهي طيلةَ النهار والليل، تعليق القناديل على البيوت والدكاكين، وتوفير الحاجات الضرورية للأهالي، فلا يُعانون.
نقل الأمراء المصرلية ما يملكون من كلِّ ما له قيمة، أخفَوا ما في قصورهم من أموال ومتاع، إلى الحواصل والأجران ودور الأرياف، وفروا إلى الصعيد والفيوم والشرقية والشام.
ضبطت الأحوال في القاهرة، وإن انتشر السلب والنهب والتدمير في المناطق المتاخمة للعاصمة.
كتب الجبرتي في تاريخه
«ضجَّ العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات، بقولهم: يا رب، ويا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم، ويأمرونهم بترك ذلك، ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحِراب وضرب الرقاب، لا برفع الأصوات والصراخ والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عمَّا هم فيه، ومَن يقرأ، ومَن يسمع.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«وصَعِد السيد عمر مكرم نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بَيرقًا كبيرًا، أَسْمَته العامة البيرق النبوي، نشره بين يدَيه من القلعة إلى بولاق، وأمامه الآلاف من العامة.»
صوت
أحدث فرارُ الأميرين إبراهيم بك ومراد بك — في نفوس الناس— ردَّ فعل قاسيًا. مَن قادهم السيد عمر إلى الضفة الشرقية للنيل، ومَن لزموا بيوتهم في القاهرة، صار الفرار هدفًا يقصدونه.
تجمَّع المماليك على الشاطئ الشرقي للنيل، يترأَّسُهم شيخ البلد إبراهيم بك. في الناحية الغربية مراد بك، على رأس جنوده لملاقاة الفرنسيِّين.
فاجأ الجيش الفرنسي أرصادَ المماليك ومقاتليهم، عجزوا — للمفاجأة — بالمبادرة، أو الحركة. استخدم الفرنسيون من الأسلحة النارية ما لم يكن يعرفه أمراء المماليك، بالإضافة إلى حسن الاستخدام والتنظيم.
ألحقَت مدافع الفرنسيِّين خسائرَ هائلةً في عساكر مراد بك، تحوَّلَت ناحية عساكر إبراهيم بك في البر الشرقي، تركوا الخيام والسلاح والمتعلقات الشخصية، حتى السيوف والثياب المرصَّعة بالجوهر والذهب تخلَّصوا منها، وفرُّوا خارج البلاد. مضَوا إلى ما بعد بلبيس في صحراء الشرقية، وإلى الصعيد حتى أسوان.
لم يكن ما حدث أولَ فرار للأميرَين مراد وإبراهيم، فرَّا — قبل عشرة أعوام — أمام جند القائد العثماني حسن الجزايرلي، عجز الأميران عن المقاومة، ففرَّا إلى الصعيد، ساعد على هزيمتهما نصرةُ الأهالي لجيش العثمانيِّين حتى يُخلِّصَهم من ظلم المماليك.
عبرَ الفرنسيون النيل، دخلوا القاهرة. كانت المدينة تُعاني الفوضى والخوف وفرارَ الزعامات.
لم يُشِر السيد عمر إلى نكوص أمراء المماليك، اكتفى بالقول إن الخطر يتهدَّد البلاد، فلا بد أن يُدافعوا عن الوطن، وعن أنفسهم. قال إن الموت حقيقة، يلتقيها المرء في السلم، وفي الحرب. فعل الموت في الحرب شهادة يتمناها.
أزمع أن يجاوز التخاذل واللامبالاة، ويتجه إلى الناس، أهالي بر مصر من العلماء والتجار وأرباب الحِرَف والصناعات والمزارعين. سخَّف نصيحةَ الشيخ ناصف عبد السميع واعظ مسجد أبي السعود الجارحي، بأن أولاد العرب لا عهدَ لهم بحمل السلاح، ولا بالحرب، فهي صنعة الحكَّام والمماليك. حذَّر من أن السيد عمر مكرم الأسيوطي يُجيد الخطابة، وتهييج الناس، ودعوتهم إلى ردِّ المعتدين، لكن الحرب لها ناسها الذين يُجيدون القيادة العسكرية، ووضع الخطط، واستعمال السلاح، انشغل أمراء المماليك بإخفاء كنوزهم، بأكثر من انشغالهم بردِّ العدو. حرَّضوا الناس على مقاتلة الفرنسيِّين لصالح المماليك، وليس لصالح أبناء البلد، السيف جسر العلاقة بين يد المملوك وعنق المصري. الصوت الأعزل بلا حول. مَن يعرفون القتال، ويملكون السلاح، غابوا عن المعركة قبل أن تبدأ. توزَّعت الحشود في تفرعات الطرق والخلاء والزراعات، يحاصرهم الفزع والخوف والقلق، مَن أفلتَته أيدي البدو وقُطَّاع الطرق، فقد نجا بحياته.
قال الحاج حيدر العلاف: ظني أن المماليك انتهَت أيامهم، لم يبقَ إلا إعلان الوفاة.
أردف مغاوري تليمة: هل يذهبون فننتظر قدومَ غزاة آخرين؟
علا صوتُ حجاج الخضري بالغضب: لماذا نظل محكومين بالأجانب؟!
في خزانته بوكالة الرميلة، عملة قروش سُكَّت في حُكم علي بك الكبير، نُقش عليها اسمُ والي مصر بالكامل، يستعيد بها دعوةَ الأمير المملوكي إلى استقلال مصر عن دولة الخلافة، حلَّ محلها البارة والمديني.
يعلو الانفعال ملامحه: خروج الفرنسيِّين أول الطريق إلى مصرية البلد.
يستطرد في انفعاله: سقط علي بك الكبير، لكن الحلم لم يسقط.
وجد في استقلال البلاد مطلبًا، تضاءل أمامه ما فرضه علي بك من القروض والمصادرات وزيادة الضرائب. للخروج من التبعية ثمنُه الذي لا بد أن يدفعه الجميع، لا يستثني التجار الفرنجة.
حين اتسع رزقه، رفض أن يشتريَ مماليك من صغار العبيد ذوي البشرة البيضاء. قَدِموا من مناطق دولة الخلافة، عرض الجلاب أن يعتنقوا الإسلام، فيصح شغلهم في تجارته. لم يرفض الخضوري اختلافَ الديانة، لكنه رفض تبعيَّتهم إلى العثمانيِّين، مَن يأمل للبلاد أن تخلوَ منهم.
قَدِم السيد عمر مكرم من بيته بساحل أثر النبي، تلوح بوابتَا الجنوب والشمال في القيسارية الهائلة، المطلَّة على النيل، الفلايك المتلاصقة إلى جانب الرصيف، تتخلَّل تشابُك صواريها الرفيعة مشاهد مبتورة، تعكس عمليات النقل من الميناء إلى الدلتا والصعيد.
مال إلى ميدان الرميلة، اتجه صاعدًا إلى قلعة الجبل، نزل من القلعة إلى بولاق، وسط حشدٍ هائل من أهل العلم والوجهاء والأعيان إلى جانب الزعر والجعيدية والحرافيش، يحملون البيرق النبوي، يلوحون بالعِصيِّ والنبابيت والشوم والمساوق، تُرافقهم التكبيرات والتهليلات والأدعية والطبول والدفوف والزمور، مضَت الجولات في الأسواق والميادين والشوارع وداخل المساجد.
ألغي الحاج حيدر العلاف لياليَ الذكر، أو التعشِّي بالثريد واللحم. خشيَ أن يحلَّ التعبُ بالمريدين، ويُثقلهم النوم، يتقاعسون عن الخروج. مَن يعضُّه النوم يقتصر طعامُه على كسرة خبز، من الكسرات التي امتلأت بها أجولة أول وقوف الذاكرين.
أذن للنسَّاخ مغاوري تليمة أن يوزِّع في الأسواق نُسَخًا من كلمات التحريض ضد الفرنسيِّين، صاغها شعراء وكُتَّاب أخفَوا أسماءَهم خشيةَ العقاب. يقصده علماءُ الأزهر وطلبتُه والتجار وأرباب الحِرَف والصناعات، وغيرهم من أهل القاهرة وما حولها.
من أوراق السيد عمر مكرم
معظم هذه الأوراق مسودَّات، أتذكر بها بعض الوقائع الشخصية والعامة، كتابات أولية، ربما عُدت إليها بالتعديل والتصويب والإضافة والحذف.
ساءَتني نصيحةُ التجار الأجانب لوكيل الباشا أن يُسلِّم القاهرة، قدَّموا العرض نفسه لبونابرت.
ما شأن الأجانب بمصير البلد الذي استضافهم؟
تضاءل الأسى في الشعور بالصدمة لتوجُّه عددٍ من المشايخ إلى الجيزة، يُقدمون عرض التسليم.
استقر يقيني على أن مصر يجب أن تكون لأهلها.
من أوراق السيد عمر مكرم
قال المعلم حجاج الخضري وهو يمدُّ يده بالمصافحة: الناس تحتاج إليك لقيادتها ضد الفرنسيِّين.
عرفتُ فيه ما لا يُضايقني، عفوي الكلمات والتصرفات، ما يواتيه يفعله أو يقوله دون تدبُّر، يتحدث في كل الموضوعات، يجد — دائمًا — ما يعبِّر به عن وجهة نظره. إنْ تكلَّم واجهَ محدِّثَه بنظرة مباشرة. يقول الحقيقة في وجه مَن يُخالفه، لا يهمس بها من ورائه، يمتلك قدرةً هائلة على الاقتحام، ينادي الشخص باسمه الأول، بمجرد أن يتعرَّف إليه، يُلقي الدعابة دون أن يلتفت إلى وقْعها في النفس، خطواته نشطة أقرب إلى الهرولة، يحرص على أداء فرائض الدين، حتى يُسعفه الله في معاركه ضد الأمراء المصرلية وجند الفرنسيِّين، بقوة مماثلة لقوة الإمام علي بن أبي طالب، لمَّا رفع بابًا صدَّ به ضرباتِ الأعداء. حاول ثلاثةٌ من جنده أن يرفعوا الباب، بعد أن ألقاه على الأرض، فعجزوا.
قلت: سجْني أو قتْلي لن يُفيد الناس، دعائي أن يُطيلَ الله مَن يرعى الفكرة.
صوت
تلاشَت مقاومةُ المماليك كأنها لم تكن.
انتظمَت الحياة في المدن والقرى، نشطَت الأسواق، فتح أبوابه الكثير من الوكائل والمحال والمصانع والقهاوي. أُضيف ما لم تكن تعرفه المدينة من النظافة والإضاءة، ويجعل الحياة مقبولة.
رفض السيد عمر مكرم النقيب عضويةَ الديوان الكبير لمَّا عرضها الفرنسيون، أن يشارك في عضوية الديوان؛ فهو ما يعني قبولَه بغزو الأجنبي للبلاد. قال إن إنشاء الفرنسيِّين للديوان للإفادة من نفوذ علماء الأزهر، وتأثيرهم في الحياة المصرية. لا صلةَ للديوان بما زعمه بونابرت من تعويد أولاد العرب على الحياة النيابية، الديوان لإحكام الرقابة على أهل البلد، وملاحظة تصرفاتهم، ووأْد التمرد في بداياته، وهو ما صنعه العلماء لأجلهم في أكثر من مناسبة.
قَبِل عضويةَ الديوان عددٌ من المشايخ وممثلون عن علماء الأزهر والتجار وشيوخ الصناعات وشيوخ البلد وقبائل البدو، خافوا على البلد، أو خافوا على أنفسهم.
السيد عمر مكرم عالم دين، يُرشد الناس، ويقودهم إلى ما فيه صالحهم، لكنه بلا دراية ولا حول بأمور الحرب. أزمع ترك القاهرة، بعد أن داخله التثبُّت أن المدينة لم تَعُد ملْكًا لأبنائها.
اختار الرحيل إلى فلسطين.
رفض عمر مكرم إعلان بونابرت بالأمان. عاد السادات والشرقاوي وغيرهما من العلماء والوجهاء والأعيان، اختار الكثيرون العودةَ إلى مصر، بينما ظل السيد عمر في منفاه، فلا يعود إلا على جهاد يُناوئ حكمَ الفرنسيِّين.
صَعُب على إبراهيم ومراد العودة إلى مصر خشيةَ الملاحقة، رفض السيد عمر وعدَ الفرنسيِّين بالمنصب والمكانة، هو لن يساعد — ولو بإقامته المسالمة — في طمأنينة الوجود الفرنسي.
عرض أمراء المماليك على الغزاة أن يُتيحوا لهم العودة إلى البلاد، في ظل السيطرة الأجنبية. الحكم هدفٌ يعملون على بلوغه بالطرق السالكة.
من أوراق السيد عمر مكرم
لم أناقش اعتزامَ الشيخَين السادات والشرقاوي وغيرهما من العلماء عدمَ مغادرة القاهرة، اطمأنوا إلى وعدٍ لكبير الفرنسيِّين بالأمان، وعدم إجبارهم، ولا إجبار أهل مصر، على ما لا يُطيقون.
تركتُ مصر بنية عدم العودة إلا على جهاد، صحبني المعلم أحمد المحروقي وحسين أغا شنن وكثيرون، في طريقنا إلى الشام، ذلك هو القرار الذي لن أُراجعَه، أو أُبدِّله. أهملتُ التحذير من مشاق النفي، رفضتُ حتى الهمسات التي زيَّنَت لي العودة، وأن حكم الفرنسيِّين سيُتيح لي المشاركة.
هل أُشارك المحتل في حكم البلاد؟!
بلغَتني الأنباء بتسليم شيوخ القاهرة، أعلنوا الخضوع لساري عسكر الغزاة، عدوَى التسليم أصابَت العديد من رفقائي في رحلة النفي المؤقت. الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والكثير من المشايخ، ومن العلماء كذلك.
رفضتُ التسليم بما استقرَّت عليه آراءُ شيوخ القاهرة، أنقم على إبراهيم بك وقفتَه المتخاذلة، لكن الأمل قد يكون في خروجي، معي القلة من المشايخ والعلماء، ما جرى يحتاج إلى مراجعة، وإعادة رؤية، العودة بعد التهيؤ للمقاتلة، النفي وملاقاة المجهول أهون من القبول بدعوة ساري عسكر الفرنسيِّين لأُديرَ شئون الحكم إلى جانب قواده وعلمائه.
قال لي إبراهيم بك في رحلة النفي: لن تطولَ غيبتُنا، سنعود، فتحصل على رئاسة الأشراف التي حُرمتَ منها.
قلت: سأقضي بقية عمري في انتظار عودة مصر إلى أهلها.
الحياة في النفي إملاءٌ من الهزيمة لأمراء المماليك، هزمهم الفرنسيون، وطاردوهم. إذا حاولوا العودة إلى مصر فإنهم سيلقَون جزاء ما اقترفوا في حياة المصريِّين.
حياتي في الاختيار، اخترتُ الإقامة في العريش شهورًا، ثم دفعَتني الأحداث إلى يافا، أعيش بأمل العودة إلى مصر.
تطلَّع المصريون إلى المماليك لردِّ الفرنسيِّين، وتطلعوا إلى الفرنسيِّين لرد المماليك.
متى يردُّ أهلُ البلد كلَّ أعدائهم، فتخلو لأبنائها؟
كتب الجبرتي في تاريخه
«… والدار التي جدَّدها السيد خليل البكري، وكانت بجوار دار الست خاتون المذكورة، وهو الأجل المبجل، والمحترم المفضل، السيد خليل البكري الصديقي، والدتُه من ذرية شمس الدين الحنفي، وأخوه السيد أحمد الصديقي، الذي كان مواليًا على سجادتهم، لما مات السيد أحمد لم يتولَّها مترجم، لما فيه من الرعونة، وارتكابه أمورًا غير لائقة، بل تولَّاها ابنُ عمه السيد محمد أفندي مضافة لنقابة الأشراف، فتنازع مع ابنه المذكور، وقسموا بيتَهم الذي بالأزبكية نصفَين، وعمر منابه عمارة متقنة، وزخرفه، وأنشأ فيه بستانًا زرع فيه أصناف الأشجار، ثم لما تُوفي السيد محمد أفندي تولَّى المترجم مشيخة السجادة، وتولَّى نقابة الأشراف السيد عمر مكرم الأسيوطي، فلما طرق البلاد الفرنساوية تداخل المترجم فيهم، وخرج السيد عمر مع مَن خرج هاربًا من الفرنساوية إلى بلاد الشام، وعرَّف المترجم الفرنساوية أن النقابة كانت لبيتِهم، وأنهم غصبوها منه، فقلدوه إياها، واستولى على وقفها وإيرادها، وانفرد بسكن البيت، وصار له قبول عند الفرنساوية، وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان الذي نظموه لإجراء الأحكام بين المسلمين، فكان وافر الحرمة، مقبول الشفاعة عندهم، وازدحم بيته بالدعاوى والشكاوى، واجتمع عنده كثيرٌ من مماليك الأمراء المصرلية الذين كانوا خائفين، وعنده خدمٌ وقواسة، ومقدم كبير، وسراجين وأجناد، واستمر على ذلك إلى أن حضر يوسف باشا الوزير في المرة الأولى التي انتقض فيها الصلح، ووقعَت الحروب في البلدة بين العثمانية والفرنساوية، والأمراء المصرلية وأهل البلد، فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه».
صوت
قال بونابرت لضبَّاطِه عقب تحطُّم الأسطول الفرنسي في أبو قير: «إن السُّبل تقطَّعَت بيننا وبين الوطن، ولا نملك وسائل اتصال آمنة، حسنًا، لا بد أن يعلم الجميع أننا نتمتع بالاكتفاء الذاتي؛ فموارد مصر عظيمة، وعلينا أن نرتقيَ بها، وقد كانت مصر في زمانٍ مضى، مملكةً قائمة بذاتها، والمهم حماية الجيش من مشاعر الإحباط؛ ففي تلك المشاعر بداية النهاية.»
صرف بونابرت همَّه في إنجاز ما يكفل ضروراتِ العيش، أمر بتأسيس المطبعة الشرقية، طبع فيها أول بيان إلى الأهالي يوم الثاني من يوليو ۱۷۹۸م، أي قبل نزول الحملة برَّ الإسكندرية، وصدر العدد الأول من صحيفة «لو كوريه دي ليجيبت» في التاسع والعشرين من أغسطس ۱۷۹۸م، بعد شهر واحد من بداية الحملة.
أمر بتدبير الموارد للإنفاق على احتياجات الناس، وتوفير رواتب الجند ومصاريف الحملة. قصر نقل مراكب الصعيد على مستلزمات الجيش الفرنسي، ما يخالف ذلك يحتجز على المراكب، وفي المخازن. عُنيَ بإصلاح قنوات المياه المخربة، إقامة التحصينات، تعبيد الطرق، زيادة الضرائب والرسوم الجمركية.
أفاد منه المصريون وقت الحملة، وبعد رحيلها: مصانع المنسوجات ودَبْغ الجلود والورق والبارود وسك النقود، ومحطات رفع المياه، إلى جانب إنشاء المستشفيات الحديثة، وإدخال المطبعة، وإصدار الصحف، تشجير حواف جبل المقطم لمنع العواصف الترابية عن القاهرة. أُزيلت المقابر داخل المدينة، بدأ هدمُ مقابر الأزبكية والرويعي لتحسين المنطقة، وتجميلها، أُزيلت المصاطب من أمام الدكاكين، خشيَ بونابرت أن تتحول — بواسطة أهل القاهرة — إلى متاريس، يُعيدون — من ورائها — قذفَ جند الفرنسيِّين بالحجارة والنبال. كذلك أمر بحصر أسماء أصحاب الدرك على الأخطاط والوكائل، وأسماء الخفراء والبوابين، لا يأذنون بدخولها إلا للمعلمين والأسطوات والصبية، يدخل الغرباء بعد ذكر الاسم، والحرفة، والغرض من الزيارة، حطَّم جندُه الكثيرَ من أبواب الدروب والعطوف والحارات، نقلوا أخشابها إلى بركة الأزبكية للتدفئة بوقودها زمن الشتاء، جعل حول الطرق أعمدةً وأشجارًا وتكعيباتٍ وتعاريشَ وبساتينَ من أولها إلى آخرها.
شقَّ الفلاحون شارعًا جديدًا في موضع أرض الطبالة، فتحوا طريقًا طويلة ممهدة، على جانبَيها أشجارٌ، تصل بين الأزبكية وبولاق، وفتحوا شارع الموسكي، بدَّلوا توسيع الشوارع، وبنَوا شوارعَ جديدة، ما اقتضاه من هدم مساجد ودور ودكاكين، من جغرافية معظم أحياء القاهرة.
قسَّم ساري عسكر القاهرة إلى ثمانية أقسام إدارية، بالإضافة إلى القلعة.
قال لعلماء الديوان: مصر بلد إذا أحسنت الإدارة فيه، أكل العامر الصحراء، وإذا ساءت الإدارة فيه، أكلت الصحراء الأرض العامرة فيه. لو أُتيح لي أن أعيش في هذا البلد، وأحكمه، لما تركتُ قطرةً من ماء النيل تذهب إلى البحر. أمر ببناء ألف هويس، تحدُّ من اندفاع مياه الفيضان، تُسيطر على توزيعها، إيقاف هدر مليارات المياه من النيل في البحر المتوسط، أخذ على أهل القاهرة أنهم يُلقون في النيل — الذي يشربون منه — غائط البشر، وفضلات الحيوان.
لم تَعُد نظرات بونابرت تتجه إلى ما وراء الأفق. أدرك أن البلاد المصرية هي الساحة التي قُدِّر له — حتى يشاء الله — أن يتحرك فيها. بدا المصريون هم الشريك الذي ينبغي أن يتجه إليه، يُهادنهم، يُصالحهم، لا يخرجون عليه، بل يضعون أيديَهم في يده.
تخلَّى كبيرُ الفرنسيِّين عن طريقةِ تعاملِه مع العلماء، اختار عالمًا مصريًّا لمنصب قاضي القضاة، كان المنصب مقصورًا على القضاة الأتراك. مال إلى الودِّ والمباسطة، واختيار الكلمات التي تقع في النفس موقعًا حسنًا، ضمَّن منشوراتِه آياتٍ من القرآن الكريم، وذكْر اسم الرسول الكريم، وحرص على البسملة في بداية المنشور، والحمد في آخره.
أذاع رواتُه في الأسواق، وداخل أروقة الأزهر، والمساجد الأخرى، أن أعمالَه بوحيٍ من الله، وأن المشايخ طلبوا منه أن يُعلن إسلامه، لقاء فتوى بإعفائه من الختان، والإذن له بشرب الخمر، ما يبذله من الكفارات والصدقات يعفيه من نيران جهنم، لكن توالي القلاقل لم يُتِح له فرصةَ التفكير في طلب المشايخ.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفيه: سأل ساري عسكر عن المولد النبوي، ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟
فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل وقال: لا بد من ذلك. وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل.
واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ألعابًا، وضربوا طبولهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات، مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة، وصواريخ تصعد في الفضاء.»
صوت
حتى أعياد المصريِّين في المناسبات الدينية، حرص بونابرت على حضوره فيها. رأيتُه في عيد وفاء النيل، قدم الآلاف من أهل القاهرة، ومدن الأقاليم.
جلس بونابرت على المنصة، على ملتقى النيل بالخليج، إلى جواره ضباطُه بثيابهم العسكرية، وذوو اللحَى والعمائم والقفاطين من علماء البلاد، فضلًا عن أعداد هائلة من الأمراء وكبار القوم والأعيان والتجار وطوائف الحرفيِّين والحرافيش وضباط الفرق وأغا الأوجاقلية والمحتسب والفرق الموسيقية والأعلام والبيارق والعربات المزينة بالورود والأوراق الملونة، احتشدوا على ضفَّتَي النهر، وفي المتنزهات، وداخل القوارب، ومشاهدة إلقاء تمثال الطين الممثل لعروس النيل في مياه النهر.
أعلن قاضي المقياس أن النيل بلغ وفاءه. نقل المشايخ إلى كبير الفرنسيِّين ما أعلنه القاضي، فأظهر استحسانه.
أعطى بونابرت إشارةَ فتح الخليج، كسر الشيخ البكري سد الجسر، جبره، جرَت المياه وسط الأهازيج والمدائح النبوية والقصائد والتواشيح والمقامات وعزف الموسيقى والزغاريد وإلقاء قِطَع الذهب والعملات الصغيرة على القوارب، وفي المياه. كذلك خصلات ذؤابات الخيل، وخرق القماش، ورقصات الغوازي.
كان نهاية الحفل إطلاق المدافع من بطاريات الفرنسيِّين المقامة على ضفة النهر.
ثالث يوم، جرى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
خصص بونابرت مبلغًا لتعليق القناديل والزينة على مآذن الجوامع وأبوابها وجدرانها، ازدحمت الميادين والساحات بالولائم والوقدات والختمات والأذكار، وقصائد الشعراء والأغنيات والأهازيج وخيال الظل والألعاب والمراجيح، والفِرَق الفنية والمغنِّين والمغنيات والحركات الراقصة، وأرباب الملاهي والحواة وأهل الملاعيب والعروض البهلوانية، ولاعبي القردة والدببة والكلاب المدربة، والدراويش بشعورهم الطويلة، وأزيائهم الملونة، تمازجَت موسيقى الأغنيات وموسيقى عسكر الفرنسيِّين وعزف الربابة ونفخ المزمار.
اخترقت الشوارع فرقة الطريقة الهاشمية، يتقدَّمها ربيع عبد الراضي، من حوله الأدعية والموشحات والابتهالات والأهازيج، يحمل أفرادها البيارق والخِرَق الملونة، يقرعون الطبول، يصدحون بالمزامير، يُطوحون الأجساد على إيقاع الذكر، يؤدون أفعال الجلوة: ابتلاع الثعابين والنيران، ضرس الزجاج، وخز الأسياخ في الوجنات، التمدد على فراش المسامير، السير حفاة على النار وقِطَع الزجاج، أفعال الحواة والسحرة، تربية الثعابين والقردة، المبارزة بالسيف والترس والنبُّوت، رقص الجمال والجياد والحمير والكلاب.
أمر الحاج حيدر العلاف مريديه أن يقصروا مشاركتَهم على مشاهدة الاحتفالات، والمشاركة في موضع المناسبة، لا يصحبون الجيش الفرنسي في عودته إلى معسكراته بالعباسية.
غاب عن الحفل القضاة الأربعة وأرباب الديوان وقادة الجند والوجهاء والأعيان. عدا الشيخِ البكري، وعدد من مريديه، فقد كانت غالبية الحضور جماعات من القبط والشوام والإفرنج.
طلب السلطان الكبير من الشيخ خليل البكري أن يُحدِّد ما يحتفل به المصريون من المناسبات الدينية، ذكر له لياليَ الوقود الأربعة: أول رجب ونصفه، وأول شعبان ونصفه، أول رمضان، ليلة الإسراء والمعراج، ليالي رمضان، العيدين، عاشوراء، مولد النبي.
أوعز بونابرت بتوسيع احتفال المناسبة، لكنه قصر مشاركتَه على حضور حفل الشيخ خليل البكري في بيته. دعا إليه عشرات من مشايخ الأزهر، افترشوا الأرض، قرءوا ما تيسَّر لهم قراءته من القرآن الكريم، روى أحدُهم سيرةَ الرسول العظيم. مدَّت الأسمطة بالخبز والأرز المفلفل والمعجنات والدجاج واللحم والمشويات والمقليات، اختلطت بها أنواعٌ لذيذة من البهارات والتوابل، إضافة إلى العسل والحلوى، صفَّت عشرات الموائد، على كل مائدة سنة من المشايخ والعلماء والوجهاء، وضعت أمام ساري عسكر أطباقًا من الفضة الموشَّاة بالذهب.
عكسَت ملامح بونابرت نشوةً لمَا شهده، ولكلمات العلماء الكبار التي أزالت الجفوة بين تديُّن المصريِّين، وما درج عليه الفرنسيون من العادات. أسقط العلماء الختان، وأجازوا شرب الخمر لمن تحوَّل عن دينه إلى دين الإسلام.
لا أذكر مَن أطلق عليه تسمية أبو نابرت.
أُطلقت المدافع، أُوقدت الصواريخ والحراقات، علَت الطبول والدفوف والزمور والأعلام والأشاير والطاسات، صدحَت الموسيقى، ارتفعَت أصوات القراء والمنشدين والمدَّاحين والأدباتية والحكواتية. تحرَّكت عروض الأراجوز وخيال الظل، أُقيمت الزينات المضيئة في الشوارع والميادين، وعلى واجهات البيوت، أُضيئَت المصابيح والقناديل والشموع الكبيرة، تسابقَت في الخليج زوارق مزدانة بالأعلام والأنوار، وُزِّعت في المناسبة خلع وكساوى وإنعامات.
من بيان للقائد العام
«إننا أرسلنا لكم — في السابق — كتابًا فيه الكفاءة، وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان. ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا، فقابلناهم بما يستحقون، وقتلنا بعضهم، وأسرنا بعضهم، ونحن في طلبهم حتى لم يبقَ أحد منهم بالقطر المصري. وأما المشايخ والعلماء أصحاب المرتبات والرعية، فيكونون مطمئنين، وفي مساكنهم مرتاحين، إلى آخر ما ذكرته.»
صوت
للمعلم حجاج الخضري قبول عند الناس، اجتذبَتهم مواهبُه وخِلالُه. يميل إلى الجلوس — من بعد صلاة العشاء حتى قرب الفجر — على مقهى الأشراف بالرميلة، يتردَّد عليه رواةٌ ومنشدون وعازفو ربابة. يختار موضعًا مواجهًا للمصطبة التي يجلس فوقها الراوي، يُكرر طلبات الإعادة، يشارك — بتعليقات الاستحسان والرفض — قعودَ الكراسي الجريد، وحصير سعف النخل، والمطلين من الأسطح والنوافذ والكوات على الساحة الضيقة. يُدخن الشُّبُك في جلسته قبالة المصطبة، يسند قدمَيه الحافيتَين إلى الحصير، يعطي سَمْعَه للراوي، قراءة الحكايات والسير الشعبية والأخبار وإنشاد الأشعار، يتابع مغامرات سيف بن ذي يزن، والزير سالم، وعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، والأميرة ذات الهمة، وحمزة البهلوان، ومار جرجس، والتنين، والظاهر بيبرس، وعلي الزيبق.
يحب الزناتي في رواية الشيخ حمود عيسى، يفضِّله على الشعراء الغجر والمساليب والحلب والتتر، يستعيد منه مواقف الزناتي، ينتصر له على الهلالي، يعجب بتقدُّمه رجال قبيلته في الكرِّ والفرِّ والقتال، هو يحرص أن يتقدم — مثل الزناتي — صفوفَ الأعوان والصبية في حربهم ضد الفرنسيِّين، لا يقصر أفعاله على إصدار الأوامر، يسبق إلى تسلُّق الجدران، والتربص في الحنايا والزوايا، واصطياد القتلى، يُفيد من صداقته للجان، في المطاردة الصامتة لعساكر الفرنسيِّين. يلهج الناس بأفعاله في الأسواق، يُضيفون إليها رواية ما لم يحدث، وبالتوشية.
يُعيد حمود عيسى — في نهاية حكاياته — سيرةَ عنترة، تختلف الرواية عن روايات الهلالية والظاهرية، تتحدث عن أفعال عنترة لنفض العبودية، ورفض الكيد والتآمر.
يضع الخضري انتباهَه في السماع، يُهمل الشُّبك، ولا يحتسي القهوة، حذَّر المعلم عبد رب النبي صاحب مقهى الأشراف من أن يبيع لروَّاد مقهاه أفيونًا، أو عجائنَ مخلوطةً بالأعشاب، أو معسلًا مخلوطًا بالحشيش.
يحب أفعال الفتوات، يعتزُّ بأنه عاش بينهم دون أن يُخالطَهم، أو يدخل في خناقة، لكنه اعتاد تلبيةَ ما يُصدره من أوامر.
يتصرف مع أعوانه بعفوية طيبة، هو واحد منهم، لا يبذل مجهودًا لكسبِ ودِّ الناس، وربما إعجابهم، لا يضرب إلا عند الضرورة، حين يدافع عن نفسه، إذا دخل معركة، اكتفى — في تراشق الكلمات — بتطويح النبُّوت، يُصدر صفيرًا في الفراغ، لا يهوي إلا ليتَّقي به الخضري ضربةَ بلطة، أو سكين تستهدفه، تتواصل ضربات النبوت دون تدبُّر، حتى يسقط الرجل أمامه جريحًا، أو ميتًا.
لم يكن له نبُّوتٌ يخصُّه، أيُّ نبُّوت يقضي، في بيته ما لا يذكره من النبابيت والعِصيِّ والشوم، لا يلجأ إليها إلا إن قاربت المشكلة بيته في عرب اليسار، فهو يلتقط نبُّوتًا، ويخرج إلى المتعاركين، ما لم يحدث — لإجماع الناس على حبِّه وطاعته — سوى مرة واحدة. تعالَت صيحاتُ أبناء عرب اليسار المحذِّرة من جرْي جنود الفرنسيِّين خلف أحد صبيانه في شوارع الحي.
نشطَت وكالة الحاج حيدر العلاف في تجارة البن، حين غلب البنُّ على واردات التجار، نشطَت وكالتُه في استيرادها، لما حدثَت أزمة في المحصول، وسط المعلم عبد رب النبي شيخ الخضرية، حول حيدر العلاف إلى مقهاه حِمْل جمل من البن اليمني.
أشفق على أهل البلد تجول الفرنسيِّين في الشوارع والأسواق، الجنود يدفعون للباعة دون فصال، النسوة مكشوفات الوجوه، يرتدين ما يخالف العباءة والملاءة والنقاب، يسرنَ منفرداتٍ وجماعات، تتناثر اللغة التي لا يفهمها، والإيماءات المداعبة، والضحكات، يكره المحرمات من الأقوال والتصرفات، ومن الحشيش والمسكرات والبوظة. سلط أعوانه لمنع الخواطي من إغراء الناس بالفاحشة.
يُعيد على الشاعر ما ينساه من السيرة العنترية، لكنه يحرص على المتابعة، كأنه لم يستمع إليها من قبل.
لم يقصر شغفه بالسيرة على سماع حمود عيسى. اقتنى — من دكان مغاوري تليمة — مخطوطًا يحوي السيرة العنترية كاملة، يعود إليها إن أخذه الأرق. قد يطلب من راوي المقهى روايةَ السيرة النبوية وقصة الإسراء والمعراج وقصص أولياء الله والصالحين.
قال: لن نقوى على هزيمة الفرنسيِّين في معركة، لكننا نستطيع تكريب أيامهم حتى يتركوا البلد.
ولوَّى ملامح وجهه: إذا كان اليأس قد دفع العشرات من جندهم إلى الانتحار، فإن علينا أن ندفع كلَّ الجنود إلى الفعل نفسه.
ثم وهو يهزُّ قبضته: إذا ظل الفرنسيون في مصر عامًا أو عامين فعلينا ألَّا نُتيحَ لهم البقاء عامًا آخر، هذا هو معنى ما نفعله!
يُنفذ أبناء الطائفة ما يطلبه منهم، دون مناقشة ولا سؤال. يعاقب المخالفين والعصاة بفرض الغرامات، وإنزال العقاب البدني، وإغلاق المحال، وإن زادَت أفعالهم، أو تكررت، يأمر بمنع انتسابهم إلى الطائفة.
جعل أعوانه وصبيانه جندًا لمحاربة الفرنسيِّين، يُدرِّبهم على استعمال العِصيِّ والبُلَط والسيوف والسكاكين، يخرج بهم عقب أداء صلاة الفجر في جامع الحاكم، يمضون إلى خلاء الدراسة، يُعلمهم فنون القتال، أو يكرر ما تعلَّموه. حثَّهم على لعب الرمح ورمْي النشاب والمبارزة بالسيف في ميادين الرميلة، قرة، الرميلة، بركة الفيل، الأزبكية، وغيرها من الميادين، يقذفون بكرات من اللهب المشتعل على معسكرات الفرنسيِّين في القاهرة وخارجها، يُدركون من تعالي النيران واختلاط وقْع أقدام الخيل، وصهيلها، وطلقات الرصاص، والتفجيرات والصرخات والتأوهات، ونباح الكلاب، أن الشعلات الملتهبة أحدثَت تأثيراتها، يُطلق على المعسكرات حمارًا محملًا بالحطب المشتعل، ينتشر الحريق في المواقع التي تطؤها حوافر الحمار البطيئة، تتحول المعسكرات إلى نيران يصعب مغالبتها.
يتلفت الخضري حوله، يتبيَّن ما إذا كان أحدٌ رأى ما حدث، إن داخله اطمئنان، يسبق أعوانه إلى الشارع المجاور للمعسكر، يبتعدون بخطوات مهرولة.
عرف عن تنقل السقا عشم بين البيوت والمساجد والدكاكين، يسبق خطواته النداء: يعوض الله! يبدِّل ما يحمله على ظهره بين القرية الجلدية وجرَّة النحاس، ينقل تعليمات الخضري في غيبة من رقابة الفرنسيِّين، عمله إلى جانب السقاية، ترديد التسبيحات في الثلث الأخير من كل ليلة، قبل أن يؤذن للفجر.
يدعو أحمد الهواري مؤذن جامع الفكهاني بشارع العقادين لرفع الأذان — في غير موعد — من مئذنة الجامع، يعرف الناس أن حدثًا مهمًّا يجري في القاهرة، فينتبهون. ربما كان الأذان إشارةً متفقًا عليها ليتحرك الثوار نحو العملية التي استعدوا لها، وربما كان الأذان لتذكير الناس بالظلم الذي يعانونه.
تخوُّفًا من تسرُّب الخيانة، ألغى الاتصال بين أعوانه، لا كلمة تحمل سرًّا، ولا إيماءة بمعانٍ مضمرة، كلُّ واحد في حاله، وفي نفسه، يظل صامتًا، ساكنًا، حتى يتلقَّى الأوامر. لم يكن يُعفي نفسه من الصرامة التي يعامل بها أعداءه.
يذكر الناسُ صبيَّه شحاتة أبو داود، وقَّاد في جامع الحسين، يباشر إضاءة القناديل داخل الجامع، وما يُطيل عمرها، يقوِّي إضاءتها، يُعنَى بغسلها، وتعميرها، تعليقها في المواضع المناسبة. يترصد لعسكر الفرنسيِّين، يُفاجئهم بما لم يتوقعوه، يدسُّ السلاح في حفرة، يُغطيها بالتراب، خلف رواق القبلة بالجامع الأحمر، يلجأ — عقب كلِّ هجوم — للفرار بالقفز فوق أسطح البيوت المتلاصقة، تنقله إلى موضع بعيد، لا يصلون إليه. يتظاهر بانطفاء عينَيه، يُتيح لنفسه السير آمنا بالقرب من معسكرات الفرنسيِّين، يتصيَّد مَن يختطفه في زاوية مظلمة أو مهجورة، يطمئن إلى غياب الرقابة، أو المطاردة.
أول رؤية الخضري له، حين أنزله أعوانه من أعلى شجرة في حديقة بيت الأمير الملوكي فلان.
حدجه بنظرة مغيظة: هل كنت تعبد الله؟
انكمش بالخوف في نفسه: لن تتأثر الحديقة بنقص حبة جوافة.
– سآخذك إلى ما يرضى به الله عنك.
وظَّفه حجاج الخضري وقَّادًا في جامع الحسين، يلجأ إليه فيما يحتاج للقفز من فوق الأسوار، والتنقل بين الأسطح.
لمعرفة شحاتة أبو داود بالمواقيت وعلوم الفلك وعلم الهيئة، ولشدة فطنته، جعله الحاج حيدر العلاف ميقاتيًّا لجامع قاني باي الرماح بميدان صلاح الدين، يؤقت للصلاة وهلال رمضان وشوال، يُجيد استخدام المزولة في النهار، والساعات الرملية، والآلات الزمنية فترة الليل، تُحدد له الوقت بما يدعوه إلى طلب رفع الأذان في موعده.
نهَرَ الخضريُّ صبيَّه شحاتة لروايته عن جندي فرنسي أخذه التحديق إلى ما وراء المشربيات، يتخيل القابعات وراءها من الحريم، الحياة في الغموض والسحر، لم ينتبه إلا بعد أن أحاطَت يدُ شحاتة صدرَه، وأخرسَت اليدُ الأخرى فمَه.
قال الخضري في تهوين: لمَّا أوقفوه أمامي كان ميتًا من الخوف.
قال حيدر العلاف: ماذا فعلت به؟
– طالبتُهم بإطلاق سراحه.
وبلهجته المهونة: يكفي ما فعل بنفسه!
أنشد الرواة بطولاته على الربابة والمزمار والناي في مقاهي القاهرة وقعداتها، وقيلت في بطولاته مقطوعات زجلية، تروي ما حدث، وما اختلقه الخيال.
صوت
قال حيدر العلاف: إذا كان الكفار — كما قيل — ينتمون إلى المردة والعفاريت، بأفواههم الضخمة، وأنيابهم، وأظافرهم المخلبية، وعيونهم التي تُرسل نارًا، فإنَّ على الخضري أن يلجأ إلى قدرات أصدقائه من الجان!
عرف الناس عن حجاج الخضري قدرةً في التعامل مع الروحانيات، وتحريك الساكن، سواء كان بشرًا، أم حيوانًا، أم طيرًا، أم نباتًا، عرفوا عنه قدرةً على التمييز بين الأشخاص العاديِّين والممسوسين، وبين مخلوقات العالم السفلي من الجان والمردة والعفاريت، يكلِّم الجان، يُشافههم، يسألهم، يجيبون، يأخذ منهم ويعطي. اشتهر بقدرته على تسخير الجان، تخدمه، تُطيعه، تلبِّي أوامره.
قيل إنه أفاد من علاقته بالجان ومخلوقات العالم السفلي، في اختطاف عسكر الفرنسيِّين، يلزم الوقَّاد شحاتة أبو داود موقف الحمير، يقصد أن يؤجر حماره لجندي فرنسي، يترك له الجندي اختيار الطريق الذي يسلكه، يطلب النزهة في الأسواق والساحات، يغيب به شحاتة في الخلاء، حيث لا يعود. المرأة فائقة الجمال تطلع للجندي على جانب الطريق، تُغويه بكلماتها وإيماءاتها المحرِّضة، ما يكاد يُلامسها حتى تختطفه الأيدي من خلف الباب الموارب، تغيب أخباره، يمضي الرجال بالجثمان، محمولًا في جوال، إلى صحراء الدراسة، يتلفعون بالظلمة، يدفنونه في حفرة بحجم الجثمان، ويعودون.
أصعب الأوقات عندما دسُّوا في الجوال جنديًّا فرنسيًّا، دون أن يتأكدوا من موته، تحرك الجسد داخل الجوال لحظةَ حملِه إلى النهر، توهم شحاتة أبو داود أنه قتله قبل أن يدفع بجسده داخل الجوال. شحوب المرئيات جاوز بهم دوريةً في جانب الطريق. حين العودة أنَّب الخضريُّ صبيَّه صفر الخراشي على فعلته: ألقيتَه في النهر وهو على قيد الحياة!
قال شحاتة أبو داود مهونًا: كنَّا نريد موته، وهذا ما حدث.
تقلَّصت ملامح الخضري بالغضب، إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، فرِّق بين أن تقذف بجسد الميت في النهر، وبين أن تدفع به إلى الماء حيًّا!
أغاثه الملك وطواط وأبناؤه السبعة — في أحوال كثيرة — للفرار من انتقام الفرنسيِّين، يصعدون من قاع بئر بيت الكريدلية إلى حيث المعركة المحتدمة بين الخضري وأعوانه، وبين جنود الفرنسيِّين، تصفع وجوه الجنود، تلتصق بها، تُفقدها البصر.
يستمد العون من ساكني بئر الوطاويط، بداخله عددُ نجوم السماء من الوطاويط التي تقوى — بأمر سلطانها — على الأذى، لا يقتصر أذاها على الالتصاق بالوجه، لا تترك المرء حتى يفقد البصر، أو يختنق الجندي، ويموت، أطراف جناحه الهائل تُشعل نيرانًا تحرق مَن تلامسه. ربما يأنس إلى ضريح الشيخ هارون بحارة بئر الوطاويط، يجد في قربه من البئر ما يُعينه على التفكير، ومراجعة النفس، وفعل ما يجب فعله.
أجاد أتباعُه الرميَ بالسهام والنُّشَّاب والنِّبال وأوتار القِسي والرماح والرصاص والمدافع، حتى ما لا يملكونه تعرَّفوا إلى طريقة استعماله، إنْ وقع في أيديهم، أفادوا منه، يحرصون على لثْمِ وجوههم بتلفيعات سوداء.
يعتزُّ بطعنة سونكي صوَّبها جنديٌّ إلى صدره، تفاداها، وإن أصابَت كتفه بجرح غائر، استغنى عن السلاح، غداةَ تولِّي محمد علي الولاية، توقَّع بدايةً جديدة يحكم فيها المصريون أنفسهم، بولاية حاكم مسلم.
صوت
كادت ثورةُ شعب القاهرة تبلغ النجاح قبل أن تبدأ.
عرف حجاج الخضري من أعوانه — له أعوان من الخضريِّين على أطراف القاهرة، وأغلب مكوثه في سوق الخضر، المساحة الهائلة بين باب اللوق والأزبكية، وبين ابن طولون والرميلة — أن كبير الفرنسيِّين في طريقه إلى داخل المدينة، بعد أن تفقَّد حصون عساكره في جزيرة الروضة ومصر القديمة.
حين وصل موكب بونابرت إلى أبواب القاهرة، فاجأهم أعوان الخضري بآلاف من قِطَع الصخر، أصابَت مقدمة الموكب، وأفلح الباقي في التراجع، تحوَّل قائد الفرنسيِّين إلى دخول القاهرة من باب بولاق، ومنه إلى ميدان الأزبكية.
صوت
أدرك الفرنسيون — بعد أن دُمِّر أسطولهم في أبو قير — ما صارت إليه أوضاعهم، استفزَّهم الحصار، أعادوا النظر إلى ما صاروا إليه، لم يَعُد أمامهم إلا الاندماج في أهالي بر مصر، يُعينون ساري عسكر على دعاوى الانتساب إلى الإسلام، والتخاطب باللغة العربية، والاحتفال بالمناسبات الدينية والشعبية، واعتبار المماليك خطرًا ينبغي اجتثاثه.
أزمعوا إيجاد مصادر لتمويل نفقات الحملة: فرضت عوائد على الأملاك، أُنشئ ديوان لتسجيل الحجج والعقود، يُحصل رسومًا لما يُثبتون به امتلاكهم ما يحوزونه من أراضٍ وعقارات ومزروعات. طلب ساري عسكر من الديوان تحصيلَ قرض نصف مليون ريال، من التجار المسلمين والأقباط والنصارى الشوام، بالإضافة إلى مبالغ تُؤخذ من المواريث والرزق والهبات والمبايعات والدعاوى.
سرَى السخط بين الأهالي، وأظهروا التذمر، لكن ساري عسكر واجه غضبةَ الأهالي بقسوة لم تكن متوقعة، ولم يكن لها ما يُبررها.
أعلنت الدعوة إلى الثورة من مآذن المساجد، وأسطح البيوت. صعد البعض أعلى المآذن والمنارات، يؤذنون في غير موعد، يصيحون، يضربون الطبول.
أغلق العلماء أبواب الأزهر، أبطلوا دروس الجامع والأذان والصلوات، أُغلقت المحال المجاورة، حرص سكان البيوت على إغلاق ما يُطل على الطريق، أغلق أهل الأسواق وكائلهم ودكاكينهم، تعهَّد كبار التجار ومساتير الناس بتقديم ما يحتاجه الثوار من الكلف والنفقات والمآكل والمشارب. شملت المظاهرات سكان الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة.
أُطلقت المدافع من القاهرة والأزبكية، سقطت القنابل على الدُّور والشوارع والدروب والأزقة والأشجار. علَت صرخات الألم والخوف، تقطَّعت الانفجارات الهائلة، علَت النيران في الكثير من البنايات. امتدَّت إلى داخل البيوت، وانهارَت دورٌ كثيرة، غابَت الحارات في غلالات من الدخان.
فعل الفرنسيون ما لم يَدُر ببال أحد.
دخلوا بجيادهم الأزهر الشريف، داسوا أرضية الجامع بالنعال، عاثوا بالأروقة والأعمدة، كسروا القناديل، حطَّموا أثاث الطلبة والمجاورين، استولوا على ما وصلَت إليه أيديهم من المتاع والأواني والقصاع والودائع، دشتوا الكتب والمخطوطات، مزَّقوا المصاحف، أملى عليهم الحقدُ أن يبولوا ويتغوطوا في أركان الجامع وزواياه.
أمر بونابرت بفتح الطرق بين الأزهر والقلعة ومعسكرات الجيش الفرنسي، هدم أعمدةً في داخل الجامع، وأزال الأبواب والمتاريس التي صنعها الثوار، أمر بقطع رأس كلِّ مَن يقبض عليه وفي يده سلاح، حتى لو كان عصًا، ألقى عسكر الفرنسيِّين عشراتِ الجثث في المنطقة ما بين بولاق ومصر القديمة، كَثُر طفوُ الجثث دون رءوس فوق مياه النيل. أصدرَت المحكمة العسكرية حكمًا بإعدام كلِّ مَن شارك في الثورة. عانى القادمون من مدن الأقاليم ردَّ الجيش الفرنسي لهم، شكَّلوا جدارًا على حدود العاصمة، يمنعون الدخول إليها، عدا مَن يثبت خصومتُه للثوار. ساعد مَن سُمُّوا فرسان مالطة قوات الجيش الفرنسي على إخماد الثورة.
كان أشد حزن الناس عندما أصدر المجلس العسكري للفرنسيِّين حكمًا بإعدام المشايخ أحمد الشرقاوي، وعبد الوهاب الشبراوي، ويوسف المصيلحي، وسليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، وإسماعيل البراوي، وأحمد الشرقاوي، وغيرهم.
اشتُهروا بصدوعهم للحق، وأَمْرهم بالمعروف، ونَهْيهم عن النار، وإقامة الهدى. أُخذوا إلى بيت البكري، ظلوا فيه حتى أخذهم جندُ الفرنسيِّين إلى بيت القومندان بدرب الجماميز. نُزعت عنهم ثيابهم، وأُودِعوا الزنازين، ثم أُعدموا في اليوم التالي، وقُطعَت رءوسُهم.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وأصبحوا يوم الأحد متحزبين، وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفَوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية، وزعر الحارات البرانية، ولهم صياحٌ عظيم، وهمٌّ جسيم ويقولون بصياح في الكلام: نصر الله دين الإسلام، فذهبوا إلى بيت قاضي العسكر، وتجمَّعوا وتَبِعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر، فخاف القاضي العاقبة، وأغلق أبوابه وأوقف حُجَّابَه، فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب، فلم يُمكنه الهروب، وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر. في ذلك الوقت حضر دبوي بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه، فمرَّ بشارع الغورية، وعطف على خط الصنادقية، وذهب إلى بيت القاضي، فوجد ذلك الزحام، فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة، وتلك الأخطاط بالخلائق المزمومة، فبادروا إليه وضربوه، وأثخنوا جراحاتِه، وقُتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه؛ فعند ذلك أخذ المسلمون حِذْرَهم وخرجوا يهرعون، ومن كل حدب ينسلون، ومسكوا الأطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية، إلى باب زويلة والصليبة وباب الشعرية وجهة البندقانيِّين، وما حاذاها، ولم يتعهدوا جهةً سواها، وهدموا مصاطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريسَ للكرنكة، لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة، ووقف دون كلِّ متراس جمعٌ عظيم من الناس …» «فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات، وتعهَّدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين؛ كسوق الغورية والفحامين. فلما سقط عليهم ذلك، ورأوه، ولم يكن في عمرهم عاينوه، نادوا: يا سلام، من هذه الآلام. يا خفيَّ الألطاف، نجِّنا مما نخاف! وهربوا من كل سوق، ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرميُ من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان، وهُدمَت في مرورها حيطان الدور، وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكائل، وأصمَّت الآذان بصوتها الهائل. فلما عظم هذا الخطب، وزاد الحال والكرب، ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيِّين، ليرفعَ عنهم هذا النازل، ويمنعَ عساكره من الرمي المتراسل، ويكفَّهم كما انكفَّ المسلمون عن القتال، والحرب خدعة وسجال.»
كتب الشيخ عبد الله الشرقاوي في كتابه «تحفة الناظرين فيمن وليَ مصر من الولاة والسلاطين»
«إن الفرنسيس قتَلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالمًا، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر، ومكثوا فيه يومًا، وبعض الليلة الثانية، وقتلوا فيه بعض العلماء، ونهبوا منه أموالًا كثيرة. وسببُ وجودِها فيه، أن أهل البلد ظنوا أن العسكر لا يدخله، فحوَّلوا فيه أمتعةَ بيوتهم، فنهبوها، ونهبوا أكثر البيوت التي حول الجامع، ونشروا الكتب التي في الخزائن، يعتقدون أن بها أموالًا، وأخذ مَن كان معهم من اليهود الذين يترجمون لهم كتبًا ومصاحفَ نفيسة.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيل، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرَّقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأزقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشَّموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوا من المتاع والأواني … وانتدب برتليمي — ضابط بوليس فرنسي — للعسس على مَن حمل السلاح، أو اختلس، وبثَّ أعوانه في الجهات، يتجسسون في الطرقات، فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم، وما يُنهيه النصارى من إبغاضهم، فيحكم فيهم بمراده، ويعمل برأيه واجتهاده، ويأخذ منهم الكثير، ويركب في موكبه ويسير، وهم مُوثَقون بين يدَيه بالحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال، فيودعونهم السجونات، ويطالبونهم بالمنهوبات، ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب، ويدل بعضُهم على بعض، فيضعون على المدلول عليهم أيضًا القبض. وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الأغا، وتجبَّر في أفعاله وطغى، وكثير من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أممٌ كثيرة لا يُحصي عددَها إلا الله.»
صوت
ساءني بيانٌ من العلماء أعضاء الديوان، يدعو الناس إلى النأي عن إثارة الفتن، وعدم إطاعة المفسدين.
التقى بونابرت أعضاء الديوان. رفض التماسهم بإيقاف ضرب القاهرة، شرط أن يدفعوا الثوار إلى إلقاء السلاح، فيتوقف عن ضرب المدينة.
سأل الشيخ عبد الله الشرقاوي سر عسكر الفرنسيِّين: ألم تَعِد في بيانك عند وصول الحملة إلى الإسكندرية أنك ستدخل دين الإسلام؟
قال بونابرت مستغربًا: كيف تعرف أني لم أُسلم؟
استطرد في لهجة مهددة: لكنني قد أرجع عن إسلامي إن أصررتم على مقاومة وجودنا!
أمر كبيرُ الفرنسيِّين بإنشاء ديوان جديد أوسع صلاحية من الديوان القديم، زاد عددُ أعضائه إلى ستين بدلًا من عشرة، وشارك فيه — إلى جانب العلماء — ممثلون لطوائف الجند والتجار ومشايخ الأخطاط والأقباط والأجانب.
اتجه المشايخ إلى الأزهر لإبلاغ المحتشدين مطالبَ كبيرِ الفرنسيِّين، رفض الثوار الإذن لهم بتخطِّي المتاريس على مداخل الشوارع والأزقة المؤدية إلى الجامع.
كتب الجبرتي في تاريخه
«إن عدةَ أعضاء اقترحوا الشيخ الشرقاوي رئيسًا، وأجاب الترجمان: نو! نو! إنما يكون ذلك بالقرعة بأوراق، فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي … وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر، بطلب المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صاري عسكر، فلما استقر بهم الجلوس، خاطبوهم، وتشاوروا معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان، وفصل الحكومات، فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى السرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد العريشي، والشيخ يوسف الشبراخيتي، والشيخ محمد الدواخلي.»
«حضر هذا المجلس أيضًا مصطفى كتخدا بكر باشا، والقاضي، وقلَّدوا محمد أغا المسلماني أغا مستحفظان، وعلي أغا الشعراوي والي الشرطة، وحسن أغا محرم أمين احتساب؛ وذلك بإشارة أرباب الديوان، فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك، فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلَّدوا ذو الفقار كتخدا محمد بك كتخدا بونابرتة، ومن أرباب المشورة الخواجا موسى، كانوا وكلاء الفرنساوي، ووكيل الديوان حنا بيبو.»
من خطاب نابليون بونابرت للمشايخ في افتتاح الديوان الثاني
«اعلموا أنكم إن قدَّر الله في الأزل هلاك أعداء الإسلام، وتكسير الصلبان على يديَّ، وقدَّر في الأزل أن أجيءَ من الغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفيه: طلب ساري عسكر بونابرتة المشايخ. فلما استقروا عنده، نهض بونابرتة من المجلس، ورجع بيده طيلسانات ملونة بثلاثة ألوان، كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي، فوضع منها واحدًا على كتف الشيخ الشرقاوي، فرمى به إلى الأرض، وامتعض وتغيَّر مزاجه، وامتقع لونه، واحتدَّ طبعه، فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابًا لصاري عسكر، وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيِّه وعلامته؛ فإن تميزتم بذلك عظَّمتكم العساكر والناس، وصار لكم منزلة في قلوبهم، فقالوا: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين، فاغتاظ لذلك، وتكلَّم بلسانه، وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي: إنه لا يصلح للرياسة، ونحو ذلك، فلاطفه بقيةُ الجماعة، واستعفوه من ذلك، فقال: إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكار في صدوركم، وهي العلامة التي يقال لها الوردة، فقالوا: أمهلونا حتى نتروَّى في ذلك، واتفقوا على اثنَي عشر يومًا.
وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات باستدعاء، فصادفهم منصرفين. فلما استقر به الجلوس بشَّ له، وضاحكه، ساري عسكر، ولاطفه في القول الذي يُعربه الترجمان، وأهدى له خاتمًا من الماس، وكلَّفه الحضور في الغد عنده، وأحضر له جوكار أوثقه بفراجته، فسكت وسايره، وقام وانصرف. فلما خرج من عنده دفعه على أن ذلك لا يخلُّ بالدين.
وفي ذلك اليوم، نادى جماعة القلقات على الناس بوضع العلامات المذكورة، المعروفة بالوردة، وهي إشارة الطاعة والمحبة، فأَنِف غالب الناس من وضعها، وبعضهم رأى أن ذلك لا يخلُّ بالدين؛ إذ هو مكروه، وربما ترتب على عدم الامتثال الضرر، فوضعها.
ثم في عصر ذلك اليوم نادوا بإبطاله من العامة، وألزموا بعض الأعيان، ومَن يريد الدخول عندهم لحاجة من الحاجات بوضعها، فكانوا يضعونها إذا حضروا عندهم، ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم، وذلك أيام قليلة، وحسب ما يأتي ذكره، فتركت».
من أوراق السيد عمر مكرم
تركت القاهرة وفي داخلي يقينٌ أن الثورة قريبة، لم أتصور أنها ستكون بهذا القرب، لم تُقاربها هزيمةُ الفرنسيِّين في أبو قير، بقدر ما حرَّكها سوءُ الأوضاع الاقتصادية.
أخفى أمراء المماليك معظمَ أموالهم، أو أنفقوها في التدبير للحرب، أو فرُّوا بها. عمَّق من المشكلة ما فُرض من الضرائب على أهالي بر مصر، فُرضت الضرائب على العقارات والوكائل والحمامات والأسبلة والمساجد والبيمارستانات والكتاتيب والخانات والمعاصر والدكاكين. عدا البيوت، لم يُفلت مكان له أبواب.
أطلتُ تأمُّلَ قولِ حجاج الخضري: أسهل لو أنهم حدَّدوا ما لا يخضع للضرائب … قسوة الضرائب تشمل كلَّ شيء!
روى لي قادمون من القاهرة ما جرى في المحروسة من أحداث. خرج جماعات من المباشرين وكُتَّاب الخزينة من النصارى، وأرباب الصنائع والحِرَف، السيوفية والسبَّاكون والحدادون ومقدمو السقائين والنجارون والمرخمون والمبلطون والخراطون والمهندسون والحجارون والفعلة. تنازل كلُّ شخص عن معظم ما يملكه، أو جميعه.
لا خبرةَ لي بأمور القتال، لكن الخطأ الذي استغلَّه بونابرت عندما أجاد المصريون الانتشارَ في الحارات، ونسوا الأماكن المرتفعة، فاحتلَّها الفرنسيون.
أمر بونابرت أن تقذف مدافعُ القلعة قنابلَها على جامع الأزهر، وما يتصل به من أحياء وشوارع. تساقطَت القنابل من مدافع الفرنسيِّين، على المساجد والبيوت والطرقات، ألحقَت الدمار بالبنايات والخانات والوكائل والأسبلة، كأن الأرض زلزلت زلزالها.
حتى الأزهر الشريف سقطَت القنابل في ساحته، وتأثَّرت جدرانه، قُتل أعداد كبيرة من الطلبة والمجاورين.
أُغلقت أبواب جامع البيومي بخط الحسينية، وأُوقفَت حضرة الأربعاء من كل أسبوع. لم تَعُد الحسينية — كما كانت — موضعًا للمناظر البديعة والرياضة والنزهة واللعب، تصوَّرتُ بناياتِها المقوضة، شوارعَها المهدَّمة، خلوَّها من كلِّ ما يَشِي بالحياة.
أبلغني الرسل عن فرط الرمان، وكيل حاكم القاهرة، عيَّنه بونابرت ليُنزِل العقوبات بأبناء البلد، رُويَت حكايات غريبة عن العقوبات الشنيعة التي أنزلها بسكان القاهرة والأقاليم، حتى يُجبيَ المزيد من الضرائب، ويقضيَ على أيِّ أثر للثورة.
لزمتُ الصمت في انقضاء الأحداث، قصرتُ موقفي على المراقبة والملاحظة والتأمل، اعتذرتُ عن عدم تلبية دعوة كبير الفرنسيِّين بالمشاركة في الحكم، ولم أدخل الديوان، ولا عُدْت إلى موضعي في رئاسة نقابة الأشراف، ولا في نظارة الأوقاف، حتى ما خلَّفته من أملاك رضيتُ بالقليل الذي يُعين على الحياة، واستغنيتُ عن الباقي.
لم أُصدِّق ساري عسكر في زعمه أن النبي ﷺ ظهر له في المنام، وقال له: اجهر بإيمانك بأركان ديني لأنه دين الله، إن العرب في انتظار هذه العلامة، وسأُخضع آسيا كلَّها لسلطاتك.
جازَت أفعاله على بعض المشايخ والعلماء، لكنها لم تُصادف عندي قبولًا، أهملتُ قوله إنه يعتقد وحدانية الله، ويحب الملة المحمدية، ويُعظم النبي العظيم، ويحترم القرآن، ويقرأ منه كلِّ يوم بإتقان، وإنَّ نيتَه إقامةُ مسجد جامع لا نظير له في الأقطار، وعرض تقديم كسوة الكعبة باسم المشيخة الفرنسية.
صوت
اقتحم الطاعون حياة المصريِّين في أعقاب ارتفاع الفيضان، إغراقه لمئات القرى ومساحات واسعة من الزراعات.
تحدث الأوبئة من فيضان النيل، أو انحساره، تطغَى المياه فتُغرق البشر والدور والزراعات، تنقص فيحلُّ الجدبُ والبوار وتلفُ الزرع والفوضى والمجاعات، الأوبئة هي النتيجة التي قد يسبِّبها ارتفاع الفيضان، أو انخفاضه، تنضب المياه فيموت الزرع والبهائم والبشر.
عجز الفلاحون عن بيع ما لديهم من أمتعة ودور وماشية وحواشٍ، عرضوها للبيع، فلم يُقبِل أحدٌ على شرائها، أخفى التجار بضائعهم في الحواصل والمخازن، خلَت الأسواق والبيوت والمصاطب والدكاكين والقهاوي والحمامات والساحات، لا يتحرك الناس منها وإليها إلا بمحاذرة، وحسب الضرورة، يُحاذرون المتناثر في الشوارع من القيء والبراز. المقابر من الجير الحي، تُحفَر، وتُغطَّى بالجير، يحزن الأهل أنه سيأكل الأجساد فلا يبقى منها شيء.
غابت الموالد، ولَزِم أتباع الحاج حيدر العلاف بيتَ المريدين، لا يغادرونه إلا إلى الجلوات وحلقات الذكر والحضرات. حتى المساجد لم يَعُد يتردد عليها إلا من وجدوا اللواذ بأضرحة الأولياء ومقاماتهم، شفاعة في الحساب القريب. اجتمع العلماء والمجاورون في ساحة الأزهر، يقرءون آياتِ القرآن وصحيحَ البخاري والأوراد.
توقَّع الناس أن يبلغ الحال ما تكرر من قبل، عندما كانت الأرجل تقع على خلائق مطروحين بالأزقَّة، وإذا وقع حمار، أو حصان، انقضَّ الجوعَى عليه، وأكلوه نيِّئًا، أو ميتًا تفوح منه رائحة النتن، وكانوا يخطفون الأطفال من ذويهم، ويأكلونهم، نبش البعض مقابر باب الوزير، وأكلوا جثث الموتى.
عزَّت الأقوات، الخضراوات والفاكهة وأنواع اللحم، تشطحت الأسعار، ضجَّ الناس من الفاقة، خطفوا الخبز وبقايا الطعام من الأسواق، اتهموا كبار التجار بتخزين القمح في حواصلهم، هجموا على الحواصل في القاهرة ودمياط والإسكندرية ورشيد، فنهبوها، ارتفعَت أسعار ما بقي من المخزون.
لم يَعُد الكناسون يكنسون شيئًا من الطريق، سبقهم الجوعى إلى التقاط ما يسدُّ جوعهم. أكل الناس ما تساقط من النوافذ والأسطح والعربات، من بقايا الأكل، وقشر البطيخ، وأوراق الشجر، أكلوا لحم الحمير والخيل والبغال والقطط والكلاب، ولحوم الحيوانات والطيور الميتة والجِيَف، تناثر الموتى، وتكوَّموا في الطرقات.
اشتدَّ الكرب، عمَّت البلوى، كاد الناس يأكل بعضهم بعضًا، تسلَّل الوباء بالجوع والعطش، انفتحَت له الأبواب على مصاريعها، سماه الناس قارب شيحة اللي ياخد المليح والمليحة، وسموه «الكبة». خاف الناس الحمَّى، يعقبها صداعٌ شديد، يتأكدون من المرض لمَّا يظهر الحيل في فخذ المريض، أو مفاصله، يتوقعون الوفاة، أو رحمة من الله.
ينطلق الصوات لحظة الإحساس بأعراض المرض، تُدرك الأسرة أن الأجل حان، لا شفاء، ولا سبيل للتغلب على الوباء، ثمة مَن داروا على مرضاهم، فأخذهم الوباء، خلَت دورٌ من سكانها، وخربَت قرًى كثيرة.
صار دفنُ الموتى همًّا للناس، يَصِل النهار بالليل، نقلُ الموتى للصلاة عليهم في جامع الأزهر، وفي مصلَّى باب النصر حدثٌ لا ينتهي، الموتى لا يُدفنون داخل القاهرة، بل يُنقلون خارجها، إلى الصحراء المحيطة بالمدينة، لا تكاد الشوارع تخلو من الجنازات، مَن يأخذه الرجال لا يعود، قبره الجير الحي، راجَت الوصفات الشعبية، وأعمال السحر.
ألغي الحاج حيدر العلاف أسمطةَ الطعام لزوار بيت المريدين، يتقاضى كلُّ مريد، أو زائر، ما يشتري به حاجته من السوق، يُعنى بتنظيفها، فلا تفسد صحته.
ضاقت المعايش، وانعدم الأمن، وانقطعت الطرق. تواترت المظالم والمصادرات، مات المئات بلا ورثة، فوضع الشيخ المهديُّ يدَه على ما خلَّفوه من أموالٍ وذهبٍ وأراضٍ ومتاع، ضمَّ إلى حيازته تركاتِ موتى، بادِّعاء أنها بلا ورثة، إذا صرع الوباء تاجرًا ميسورَ الحال، بادر أعوان الشيخ بإغلاق أبواب وكائله ومحالِّه وبيته، يَعْنيهم الحصول على تركته كلِّها، دون الورثة من أبنائه وأهله. جنى عددٌ من كبار المشايخ ثرواتٍ، خلَّفها موتُ أرباب أُسَر، وأُسَر بأكملها، ضمَّت تركاتهم إلى ثروات المشايخ، حتى تضخَّمت، قاربوا في مكانتهم أهل المال، قدر ابتعادهم عن أهل العلم.
هلك الكثير من العلماء والمشايخ والعسكر وأهل البلد والأطفال والجواري والعبيد، نهشَت الكلاب جثث الموتى. تناقص الملايين الثلاثة من المصريِّين.
قال نابليون لضابط أركانه عشيةَ موقعة أوستر لتز
«لو استطعتُ الاستيلاء على عكا، لارتديتُ عمامة، وجعلتُ جنودي يرتدون السراويل التركية الفضفاضة، ولما عرضتُهم لخوض المعارك، إلا في الضرورة القصوى، ولجعلتهم فيلقًا مقدسًا، ولأنهيتُ الحرب مع الترك بجند من العرب واليونان والأرمن، ولكسبتُ معركة في إسوس، بدلًا من خوض معركة في مورافيا، ولنصَّبتُ نفسي إمبراطورًا على الشرق، ولعدتُ إلى باريس عن طريق القسطنطينية.»
صوت
البلاد في قبضة الفرنسيِّين، الأحلام القديمة غادرَت شرانقها، لكن تحطُّم الأسطول الفرنسي بمدافع أسطول الإنجليز بدَّل الصورة تمامًا. فوجئ بونابرت بما لم يكن يتوقع. كان قد أحرق سفنَ علاقاته في الداخل بهزيمة المماليك، وإسكات أصوات المعارضة التركية. تقافز السؤالُ أمامه ملحًّا، قاسيًا: هل يُعِدُّ نفسه لحرب طويلة، تُطيل بقاء قواته في مصر حتى تستعيدَ قوتها البحرية، وأحلامها القديمة، أو يختصر الهزيمة، فيعود إلى بلاده؟
صوت
النفي هو اختيار السيد عمر مكرم، أما أمراء المماليك فقد فرُّوا بجرائمهم.
ظل السيد عمر في منفاه الاختياري، على حلم العودة إلى الوطن، إلى أهله وناسه وطريقته ومريديه، أقام أمراء المماليك في فلسطين بحلم العودة، لا لاستعادةِ الوطن من قبضة الغزاة، وإنما لاستعادة ما كان لهم من الحكم والسيادة والثراء والأُبَّهة.
قال الحاج حيدر العلاف: أمراء المماليك يعيشون بالحرب في بلد يعمل للسلام.
قَدِم بونابرت على رأس جيشه في السابع عشر من فبراير ۱۸۹۹م. شاهد السيد عمر انهزامَ العثمانيِّين في العريش، رافقهم في السير إلى يافا، تابع — بالحنين — أحداثَ المحروسة.
لم يناقش بونابرت عودةَ السيد عمر وعشرات العلماء والأعيان وكبار الموظفين إلى مصر، ألحَّ ضباطه حتى يترك زعماء المصريين منفاهم، ويعودوا إلى بلادهم، بينما ظل المماليك في حال المطاردة، عودة زعماء المصريين إلى بلدهم يُعين بونابرت على استقرار حكمه. أراد الفرنسيُّون أن يضعوا شعبيةَ عمر مكرم في خدمة استقرارهم، طاردوا أمراء المماليك ليُريحوا الناس من خطرٍ قائم، إزالة كابوس من حياة المصريِّين.
من أوراق السيد عمر مكرم
لمحتُ بين العائدين إلى القاهرة صديقي المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي.
هل هاجر مثلي؟ مثل الآخرين من العلماء والقضاة وكبار التجار والبكوات والأعيان والأشراف والأغنياء المساتير؟ هل وجد وقتًا لتسجيل تاريخه؟ هل اكتفى بسماع الوقائع، تعويضًا عن مشاهدتها؟
من رسالة لنابليون بونابرت
إن الشعب المصري — على الرغم من ثوراته العديدة ضدنا — يمكن اعتباره شعبًا وديعًا، على أنه يكرهنا وهيهات أن يحبَّنا، مع أننا نعامله بأحسن ما يمكن أن تُعامَل بلاد محتلة. إن اختلاف العادات، وأهم منه اختلاف اللغة، وخاصة اختلاف الدين … كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها، والتي تَحُول دون إيجاد صلات الودِّ بيننا وبين المصريين. إنهم يمقتون حكم المماليك، ويرهبون نيرَ الآستانة ولا يحبون حكمها، ولكنهم لا يُطيقون حكمنا، ولا يصبرون عليه إلا بأمل التخلص منه.
صوت
عاد السلطان الكبير إلى القاهرة.
ما كادت تنقضي أيام، حتى أبلغني مغاوري تليمة بالهزيمة القاسية للفرنسيِّين، أخفقوا في حصار عكا، خسروا أكثر من ثلاثة آلاف جندي، غالبيتهم ماتوا بالطاعون. تناثرت التعليقات بأسماء نلسون وأحمد باشا الجزار وعمر المقدسي والبكري وغيرهم ممن صنعوا الانتصار على الفرنسيِّين، ومَن داروا هزيمتهم.
عرفت من أرصاد أن أمراء المماليك لم يَفُتهم وهْمُ الانتصار، لقيَ ساري عسكر الفرنسيِّين في حصاره لعكا هزيمةً قاسية، قادوا عساكرهم إلى قرب الجيزة، وانتظروا.
من رسالة لنابليون بونابرت إلى الديوان
«لمَّا كان أسطولي على استعداد، وجيشي العظيم قد اعتلى سفن الأسطول، فإنني مقتنع — كما قلت لكم مرارًا — أنه ما دمتُ لن أُوجِّهَ لأحدٍ ضربتي القاصمة التي أُدمر بها جميع أعدائي مرة واحدة، وما دمتُ كذلك لن أستمتعَ بالهدوء والسكينة بامتلاك مصر التي هي أجمل مكان في العالم، فإنني قد قررتُ أن أرحل على رأس أسطولي، تاركًا القيادة، خلال فترة غيابي، للجنرال كليبر، الرجل الجدير بالتميز، والذي أوصيتُه بأن يحفظ للعلماء والشيوخ المحبة نفسها التي خصَّتكم بها من جانبي.»
«فلتعملوا بقدر ما يمكنكم على أن يُوليَ شعب مصر لكليبر الثقةَ نفسها التي كان يُكنُّها لي، وعند عودتي — بعد شهرين أو ثلاثة — سأكون ممتنًّا من هذا الشعب، ولن أُقدِّم للشيوخ آنذاك سوى الثناء والجزاء الأوفى.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفي ثالث عشر أُشيع بأن كبيرَ الفرنسيِّين سافر إلى جهة بحري، ولم يُعلِم أحدًا أي جهة يريد. وسُئل بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية دعاه لضيافة بمنوف، حين كان متوجِّهًا إلى ناحية أبو قير ووعده بالعودة إليه بعد وصوله إلى مصر، وراح ذلك على الناس، وظنوا صحته.»
صوت
قبل أن يغادر ساري عسكر الفرنسيِّين مصر، ترك رسالة إلى الضابط كليبر، يُبلغه بأنه بعث رسولًا إلى إسطنبول يعرض الصلح، وإعادة الصداقة والتحالف الفرنسي العثماني، مقابل جلاء الفرنسيِّين عن مصر.
أرفق رسالته شرطًا أن يكون الجلاء مصحوبًا بالشرف والكرامة للجيش الفرنسي، طالب خلفه أن يواصل مهمته، ويستكملها، يظل كلُّ شيء سرًّا حتى تنتهيَ التطورات إلى نتائج يقبلها الجانب الفرنسي.
صوت
۷ يوليو ۱۷۹۹م.
عاد السيد عمر مكرم من يافا بعد غيبة ثمانية أشهر. مضَت أيام قليلة على انقضاء أيام العيد، بقايا الزينات في الشوارع والأسواق، وعلى واجهات البيوت. لم يُطِق البعد عن القاهرة. عاد إليها بدعوى الاعتزال في بيته، نهب الفرنسيون البيت، ناله ما نال المشايخ والعلماء الذين تركوا البلد فرارًا من الغزو. أحنق الغزاة رفض السيد عمر الانضمام إلى عضوية الديوان الكبير، اللواذ بالنفي بديلًا للإقامة تحت حكم الأجنبي. جعل فترةَ إقامته في فلسطين استراحةَ محارب، أنهاها بالعودة إلى المجاهدة، وصل جهادَه ضد المماليك والعثمانيِّين بجهاد — تُمليه اعتبارات الدين والوطنية — ضد الفرنسيِّين. تستَّر العلماء والوجهاء والتجار بالصداقة للقائه، لبحث ما ينبغي اتخاذه، حتى تخلوَ البلاد من جيش الفرنسيِّين. عُرف عنه أنه يدرس تصرفاتِه جيدًا، لا يُقدِم على الفعل إلا إنِ اطمأنَّ إلى نتائجه.
سمعت عنه أشياء كثيرة، هو — في إجماع الناس — الدليل والمرشد والموجِّه. تمنيتُ أن ألتقيَه، أُصافحه، أُناقشه في أمور مهمة، صدَّتني الهيبة التي تَسِم ملامح الشيخ، وكلماته القليلة.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفيه ورد من بونابرته ساري عسكر الفرنساوية كتابٌ من الإسكندرية، لأهل مصر وسكانها فأحضر قائمقام دوجا الرؤساء المصرية، وقرأ عليهم الكتاب، مضمونه: أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور إلى بلاد الفرنساوية، لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر، فيغيب نحو ثلاثة أشهر، ويقدم مع عساكره، فإنه بلغه خروجُ عمارتهم ليصفوا له ملك مصر، ويقطع دابر المفسدين وأن المولَّى على أهل مصر، وعلى رياسة الفرنساوية جميعًا كليبر ساري عسكر دمياط، فتحيَّر الناس وتعجبوا في كيفية سفره، ونزوله البحر مع وجود مراكب الإنجليز، ووقوفهم بالثغر، ورصدهم الفرنساوية من وقتِ قدومِهم الديار المصرية صيفًا وشتاء، ولكيفيةِ خلوصه وذهابه أنباءٌ وحِيَل لم أقف على حقيقتها.»
صوت
بونابرت ركب البحر في طريقه إلى بلاده.
الثقوب تناثرَت في حرصه على إخفاء تحركاته. أجاد الرجال المراقبة، منذ واجه حملة الأتراك عقب نزولها شواطئ أبو قير، تسعة أيام من القتال الضاري، انتهَت بانتصاره، عاد إلى القاهرة في موكب الفاتحين، وإن بدأ في التجهيز للعودة إلى فرنسا. ميَّزه الرجال في العباءة السوداء حول قامته القصيرة، واندساسه وسط الجنود. أيقنوا من شخصه لما ارتفعَت الأيدي إلى الجباه بالتحية.
ماذا تُخفي الأيام؟
صوت
تبيَّن كليبر — عقب مغادرة بونابرت المفاجئة لمصر — أنه لا يملك جيشًا حقيقيًّا، خسر الكثير من الجنود في وباء الطاعون، خسر كذلك أعدادًا كبيرة في مواجهة هبَّات الأهالي المتلاحقة، غالب القلق وهو يُعيد قراءة تقرير الكولونيل سيف، يُحذر من نقص الأسلحة والمؤن والعتاد، وأن الحاجة ملحَّة إلى عشرة آلاف جندي، حتى يمكن الصمود أمام التوقعات المحتملة. أشار التحذير إلى هجوم عثماني إنجليزي قد يشارك فيه الروس.
تساءل: لماذا نظلُّ في الخطر خارج الوطن، بينما وطننا يحتاج إلينا؟ اكتسبنا الكثير من الخبرة، والقدرة على القتال، لماذا لا نعود إلى حيث يجب أن نوجد في الميدان الأوروبي؟
من بيان القائد كليبر إلى الجنود الفرنسيِّين
«أيها الجنود، إن ظروفًا قاهرة اضطرَّت القائد العام بونابرت للعودة إلى الوطن، وهو يُعلنكم أنه من هناك سوف يستطيع توفير كل ما نحتاجه، ويعمل على عقد صلح مشرف، يليق بكم، ويُعيدكم إلى الوطن.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفيه ذهب أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة ساري عسكر الجديد للسلام عليه، فلم يجتمعوا به ذلك اليوم، ووعدوا إلى الغد، فانصرفوا، وحضروا في ثاني يوم، فقابلوه، فلم يرَوا منه بشاشةً ولا طلاقةَ وجه مثل بونابرته، فإنه كان بشوشًا، ويُباسط الجلساء، ويضحك معهم.»
من بيان الجنرال كليبر إلى أعضاء الديوان
«لقد استطاع القائد العام أن يكسب ثقتكم وإخلاصكم بنزاهته واستقامته، وسوف أسير على خطواته نفسها، أملي أن أحصل منكم على ما منحتموه له. لهذا قولوا لشعبكم الذي يلتفُّ حولكم: اطمئنوا أن حكم مصر انتقل إلى أيدٍ أخرى، لكن كل ما يتعلق بسعادتكم ورفاهيتكم سيكون مستمرًّا، متصلًا.»
صوت
تحدَّث نفرٌ من العلماء عن لقائهم ساري عسكر جيش الفرنسيِّين الجديد: الضابط كليبر، قامة طويلة، ممتلئة، ملامح تتسم بالقسوة. أبرزُ ما يختلف به عن السلطان الكبير طولُه الفارع قياسًا إلى قامة بونابرت القصيرة، يبدو أكبرَ منه بسنوات، سمَّاه الناس السلطان الطويل، تفرقةً له عن بونابرت، السلطان الكبير.
رفض الشيخ المهدي تصديقَ ما حدث، رفض حتى تصديق أن يكون كليبر خلفًا لقائده. يرى أنه ينقصه ما يتمتع به بونابرت من البساطة ولين الجانب.
بادر مشايخ الديوان بنبرة جافة: أورثني القائد ما لا أريده.
أومأ إلى نيته في أن يعهد بالمسئولية إلى مَن أزاحهم بونابرت.
صوت
كليبر يريد الرحيل عن مصر في أقرب حين. لا تُشغله زعامة بونابرت، ولا أحلام الإمبراطورية التوسعية. أقصى أحلام نائبه مينو أن يُصبح ربَّ أسرة، لم يجد في الفرنسيات القادمات مع الحملة ما يُعينه على تحقيق حلمه، أسلم — لمجاوزة ظروف اختلاف الديانة — وتزوج مصرية مسلمة.
صوت
أسعدني أن الناس في الأسواق يُردِّدون اسم السيد عمر مكرم. ساءهم هزيمةُ الجيش التركي المصري — عند المطرية — من جيش الفرنسيِّين، خشوا أن تُطيل المعارك بقاءَ الأجنبي على أرض مصر، تطلَّعوا إلى الزعامة التي تُنقذ البلاد مما تُعانيه، بدا السيد هو الأمل والمغيث. ما يرجوه الناس من تبدُّل الأحوال، تُصبح البلاد لأهلها، وليس للمجلوبين من بقاع الأرض.
عاد السيد عمر مكرم إلى موضع الرئاسة في مشيخة الأشراف، نحَّى السيد خليل البكري بعد فضيحة ابنته زينب، وأفعالها الشنيعة، في عهد الفرنسيِّين. السيد عمر مكرم الأسيوطي هو الآن زعيم البلاد.
عاد السيد عمر إلى موضعه، أحلَّه فيه ثناءُ الناس وإعجابهم، وأنه الزعيم الذي سيمضي بالبلاد إلى الأفق الذي تتطلَّع إليه.
من أوراق السيد عمر مكرم
غلب التأثُّر على المعلم حجاج الخضري وهو يسبقني في مغادرة جامع المحمودي، معظم أواوين الجامع بالقرب من باب زويلة، تهدَّمت، بدا الجامع بكامله آيلًا للانهيار.
رنا إلى مئذنتَي جامع المؤيد المتشابهتَين، الصاعدتَين، فوق بُرْجَي باب زويلة، وإلى الخِرَق المهترئة المعلقة على البوابة.
– أخفق الفرنسيون في الاستيلاء على البلد فخربوه.
أدركتُ ما حدث من نظرة عينَيه.
– لم يدخلوا إلا الأزهر، والجامع على ما كان عليه.
وشَى تقلُّص عضلات وجهه بالمكابدة التي يُعانيها.
– لماذا لا نحاسب أنفسنا؟!
سرح نظره في الأفق.
– قَدِموا إلى بلادنا لقتلنا، فلا بد أن نقتلهم!
استعاد الخضري العملياتِ التي قادها، وما زال، ضد الفرنسيِّين والعثمانيِّين والمماليك، يأخذه الغلُّ فيخلط بين معاركهم، جنود ساري عسكر هم جنود الأتراك والمماليك، وغيرهم من الأرناءوط والإنكشارية والدلاة، يتعاركون للسيطرة والسلب والنهب وقنص الغنيمة دونًا عن الآخرين، تَجْمعُهم الغربة عن هذا البلد، قَدِموا إليه لإخضاعه، حلب البقرة حتى يجفَّ ضرعُها.
افترقنا عند سبيل نفيسة البيضاء، داخل باب زويلة.
من أوراق السيد عمر مكرم
أيقظَتني طرقاتٌ على باب البيت.
كنت في إغفاءة عقب أدائي صلاة الفجر. طالعني — بملامح متجهمة — أحمد المحروقي كبير التجار، والشيخ الجوهري الصغير.
اعتذرتُ عن عرض ساري عسكر بانضمامي إلى الديوان الأول، لا قيمة للديوان، ولا أي مجلس يصنعه الاحتلال، ويخضع لأوامره، للمشايخ وجهات نظرهم في قبول عضوية الديوان، فضَّلتُ — بوجهة النظر الأخرى — أن أُغادر القاهرة، فلا أخضع لإرادة الفرنسيِّين. اعتاد أهل البيت تَرْكي له، والعودة بعد أن يُصبح التحرك ممكنًا.
تظاهرت — عقب العودة — بالاعتزال في بيتي. التقيتُ حجاج الخضري وحيدر العلاف ومصطفى البشتيلي والعشرات من العلماء والوجهاء والتجار والعوام، لم تعلُ أصواتنا عن الهمس، وإن تناولنا وسائل تبديل ما هو قائم، وطرد الفرنسيِّين من الأراضي المصرية.
طبيعي أن أمتثلَ لدعوات المصريين لي، هتافهم باسمي، جاوزتُ العزلة التي اخترتُها منذ عودتي إلى القاهرة، تفاقمَت الأخطار بما يحفز للخروج إلى الأحداث، لم تَعُد العزلة مجدية، ولا السكوت عن الأحداث مفيدًا.
هتفت بالثورة.
تلقَّف الهتاف السيد أحمد المحروقي وحسن بك شنن وحسن بك الجداوي وعثمان بك الأشقر والكتخدا إبراهيم السناري، وغيرهم من العلماء، والفقهاء، والقرَّاء، والمحدِّثين، والفضلاء، وأئمة المساجد، والخطباء، والمؤذنين، والمبلغين، ومُجاوري الأزهر، والتجار، والوجهاء، وعوام الناس.
لم يتأخروا في السعي للتخلُّص من بقايا الاحتلال. أجدنا نَسْج خيوط الثورة حتى تأكَّدَت متانتُها، خرجنا إلى الناس، تلقَّفوا دعوتنا إلى الجهاد، اشتعلت نيران الثورة حين انشغال كليبر وجنوده بحرب الأتراك والمماليك.
تعهَّد الفرنسيون في اتفاق العريش أن يغادروا مصر بأسلحتهم، عائدين إلى بلادهم على متن سفن تركية. نقض كليبر ساري عسكر الفرنسيِّين توقيعَه على الاتفاق، بعد أن أصرَّ الإنجليز على تسليم جنود الحملة الفرنسية أسلحتَهم وعتادَهم، باعتبارهم أسرى حرب، تجدَّدت المعارك بين الفرنسيِّين والأتراك.
صوت
لم تكن الثورة — مثل الثورة الأولى — مفاجئة، بدأ الإعداد لها منذ بداية القرن، أفادَت من كل أخطاء الثورة الأولى: غياب القيادة، سوء التخطيط، غلبة الفوضى، ميوعة الهدف، هل هو لصالح أبناء البلد، أو لصالح العثمانيِّين، أو لصالح الإنجليز، أو لصالح العثمانيِّين والإنجليز معًا؟
بداية الفعل خطوات الاستيلاء على العاصمة، وطرد الغرباء، لا مجال لتحرُّك محتمل من جيش الفرنسيِّين أو جيش العثمانيِّين، يتدخَّل باسم تحرير البلاد، لا معنى للتسمية إنْ حررها أبناء البلد. تشكَّلَت قيادة الثورة من السيد عمر مكرم، والشيخ السادات، والشيخ محمد الجوهري، والسيد أحمد المحروقي، والحاج حيدر العلاف، والمعلم مصطفى البشتيلي شهبندر التجار، والمعلم حجاج الخضري، قدَّم كلٌّ منهم ما في وسعه لإنجاح الثورة، شيخ الخضرية جعل الغيطانيةَ مبعوثين إلى أهل القرى، يشرحون لهم الأوضاع، يطالبونهم بما ينبغي فعله.
قسمت العاصمة إلى مناطق، لكلٍّ منها قيادته وقواته وسلاحه وعتاده، تأهُّبًا لهجوم مشترك، بلغ عددُ القوات المنضمة للثوار ما يقرب من خمسين ألفًا، خمسة عشر ألفًا من القاهرة، وعشرة آلاف من الدلتا والصعيد، والباقون من المتطوعين المغاربة والحجازيِّين، بالإضافة إلى المماليك وأسرى العثمانيِّين المتسلِّلين من الإسكندرية.
أشفق حجاج الخضري على السقا عشم، حمل قنابل سرقها أعوانُه من معسكرات الفرنسيِّين. قال عشم وهو يُومئ إلى القربة الملقاة على كتفه: هذه القربة من جلد الماعز، حملتُها — مملوءة بالرمال — ثلاثة أيام حتى يوافق شيخ الطائفة على ضمِّي.
تحدَّدت ساعة الصفر في ۲۰ مارس سنة ١٨٠٠م.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وأنشأ عثمان كتخدا معملًا للبارود ببيت قائد أغا بخط الخرنفش، وأحضر القندقجية والعربجية والحدادين والسباكين لإنشاء مدافع وبنبات، وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت، وعمل العجل والعربات وغير ذلك من المهمات الجزئية، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد، وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك، فصار هذا كله يُصنع ببيت القاضي، والخان الذي بجانبه، والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني.»
صوت
غابت احتمالات زوال الفرنسيِّين من البلاد، تهيَّأت النفوس لثورة جديدة، بدأت في الكثير من مدن الأقاليم وقُراها، ثم اشتعلت في بولاق نيران ثورة هائلة، امتدَّت إلى سائر الأحياء.
أشرف السيد عمر مكرم بنفسه على صنع آلات الحرب، خصص أهل القاهرة لذلك مصنعًا في بيت القاضي، ومعملًا للبارود في بيت قائد أغا بالخرنفش. قاد الحاج مصطفى البشتيلي جماعةً من التجار وأبناء الحِرَف، هاجموا معسكرًا للفرنسيِّين في حي بولاق، غنموا ما فيه من سلاح ومتاع. ترصَّد أتباع الخضري لعسكر الفرنسيِّين، بالقرب من معسكر لهم في شبرا، السكة خالية إلا من بضعة نفر، وبضع دواب، تُظللها أشجار الجميز والأكاسيا، تتبَّعوا ضابطًا خرج بمفرده، واتجه ناحية النهر. هجموا عليه، راحوا يضربونه، حتى مات، أوثقوه من كتفَيه بحبل، وعلَّقوه فوق غصن شجرة على ضفة النهر. لما تنفَّس الصبح، رآه الفرنسيون أعلى الشجرة، والطيور تنهشه.
صار بيت القاضي مصنعًا للسلاح، استعان الثوار بالحدادين في صنع القنابل، وتشغيل المدافع المعطلة، كانت ملقاةً في أحواش البيوت المهجورة، وفي الخلاء.
للشيخ مصطفى البشتيلي دورٌ في تهييج العامة، وتحريضهم على حمل السلاح. قادهم إلى وطاق الفرنسيِّين في ساحل بولاق، قتلوا الحراس، واستولوا على المخازن والودائع والأمتعة، حمل أهل بولاق ما وصل إلى أيديهم من البنادق والسيوف والسكاكين والرماح والعِصيِّ والنبابيت والمعاول والمجارف. اتجهت الجموع — تتقدَّمهم المشاعل — ناحيةَ قلعة قنطرة الليمون، تصدَّى لهم جند الفرنسيِّين قبل بلوغها، صرعوا العشرات من الثوار.
انعكسَت أصداء ما حدث في تحرُّك أبناء القاهرة من كافة الحارات إلى معسكر قيادة جيش الفرنسيِّين في الأزبكية، أحاط بالقيادة ما يزيد عن الخمسين ألفًا من حملة البنادق والنبابيت، يُخالطهم النسوة والأطفال.
قال مغاوري تليمة: يزعم أخونا الجبرتي أن الثوار من غير رئيس يسوسهم، أو قائد يقودهم. هل بلغه نبأُ قيادة السيد عمر مكرم للثورة؟
من أوراق السيد عمر مكرم
صَعِد الأهالي إلى مآذن الأزهر، وغيرها من المآذن، يدعون إلى الثورة، يطالبون أهل القاهرة بحمل ما تصل إليه أيديهم من السلاح، وأدوات القوة.
أول أفعال الثوار نزولهم من أعلى التلال، خارج باب النصر، إلى داخل المدينة.
انتقلت الأحداث من الحسينية، ساحة الثورة الأولى، إلى بولاق، حمل أهلها كلَّ ما وصلت إليه أيديهم من البنادق والرماح والسيوف والنبال والعِصي، امتدَّت الثورة إلى بقية الأحياء: العطوف والحطابة وعرب الإيسار والقرافة والحبالة والخليفة وقناطر السباع، ثم شملت أرجاء المحروسة.
تنقَّلنا بين الأحياء وأبواب المدينة، تبعنا الناس بالخروج والجهاد ومواجهة جيش الفرنسيِّين، طالبوا برفع المظالم، ورد الحقوق، والتوبة، والإقلاع عن الذنوب. حملوا الرماح والبُلَط والسيوف والخنجر والسكاكين والفئوس وفروع الأشجار، لم يقصروا جهادهم على القتال، أضافوا إلى خوض المعارك إنشاء معمل للبارود في بيت قائد أغا بالخرنفش، صنعوا آلات الحرب من مدافع وذخائر، مواضعها بيوت الأهالي في بيت القاضي وما حوله، شملَت الثورة كلَّ مكان. اختلطت ألوان البيارق والأعلام.
لم تَعُد المظاهرات — كعادة الأحوال — مقصورةً على طلبة الأزهر، شارك فيها — بأعداد هائلة — أربابُ الصنائع والكتبة والمدَّاحون وأهل الفلح والباعة والتجار، حتى الأُجراء وأهل الحِرَف السافلة والخدم واللصوص والسوقة والدهماء وذوو الحاجة والمسكنة والمتسولون، خرجوا لمشاركة الناس مظاهراتهم.
من حق زعماء المماليك الذين عادوا من الشام بعد فرارهم في معركة إمبابة: إبراهيم بك، محمد بك الألفي، حسن بك الجداوي، عثمان كتخدا، أن أُشير إلى مشاركتهم في مساندة الثورة، حاول الأمير حسن بك الجداوي أن يفعل شيئًا — على رأس مماليكه — لفك الحصار، ومهاجمة الفرنسيِّين، بما قلَّل من الخسائر المحدقة بالمحاصرين.
زاد الفرنسيون من حصارهم للقاهرة، منعوا الأقوات، وكل ما يُعين أهل المدينة على مواجهة قسوة الأحوال، لم يركن الناس إلى اليأس، ولا استسلموا، ظلُّوا على المقاومة، رفضوا التحذيرات المتكررة بالدخول في الطاعة.
تعدَّدت انتصارات الأهالي على كتائب الفرنسيِّين، وجَّهوا إليهم ضربات موجعة، كلما اشتدَّت مدافعةُ الفرنسيِّين في موقع ما، توالَت ضربات أهل مصر، لا تفتر، اتصلت المتاريس والحواجز بين أحياء القاهرة، حوصرَت قلاع الفرنسيِّين، أُقيمَت المتاريس، حُفرت الخنادق، أُغلقت أبواب القاهرة، أقام الأهالي حراسةً على الأبواب ليلًا ونهارًا، قاد الحاج مصطفى البشتيلي جماعةً من التجار والصناع، هاجموا بقايا الفرنسيِّين في القلاع المحيطة بالقاهرة، وفي داخل البيوت الكبيرة.
هاجم الثوار المشايخ الذين اتُّهموا بممالأة الفرنسيِّين، رشُّوهم بالماء النجس، ضربوهم بالطماطم والبيض النيِّئ، قذفوهم بالأوساخ، أحاط مجاورو الأزهر ببائع عطور من الحسين، عرفوا بخيانته للمتظاهرين، صفعوه بالنعال على رأسه حتى أوشك على الموت. أنقذه الحاج حيدر العلاف، وسلَّمه إلى مريديه.
حتى بيوت المشايخ الكبار والأعيان والسراة، هاجمها الحرافيش والسوقة، فعلوا ما أحزنني: نهبوا ما بها من أمتعة وأثاث وأموال، أقدموا على بيع أبوابها ونوافذها ورخامها.
نسيت العزلة والخلوة والنوم والراحة، أغناني العيش بين الناس عن ذلك كلِّه، يمنعني تقدُّم السن من حمل السلاح.
ما أملكه هو الدعوة إلى المقاومة والصمود.
من مذكرات ضابط فرنسي عن أحداث الثورة الثانية للقاهرة
«فجأة، تحوَّلت القاهرة إلى مدينة مقاتلة، نصبَت المتاريس في كل شوارعها، وانشغل المقاتلون بالبحث عن كلِّ ما يصلح للقتال، وأفلتت — من التفتيش — كمياتٌ كبيرة من الأسلحة كانت مخبَّأة، ودُرِّب الكثير من الحرفيِّين على صنع الأسلحة وإصلاحها، وسبك مدافع جيدة، نظم المقاتلون أنفسهم حسب الأحياء، ومضى الهجوم الرئيس نحو مقر القيادة العامة بالأزبكية، وأخفق الكولونيل فردان في صد الهجوم.»
«وكان أشد ما أثار الدهشة والألم أن الرجال الذين كانوا مرتبطين بنا، وطال عملهم في خدمتنا، صاروا في مقدمة المتمردين، وخاضوا ضدَّنا معاركَ شرسة، ورفضوا العروض المتكررة لساري عسكر بوقف القتال مقابل العفو العام.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«واستمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب، وشدة البلاء والكرب، ووقوع القنابل على الدور والمساكن من القلاع، والهدم والحرق، وصراخ النساء من البيوت، والصغار من الخوف، والجزع والهلع، مع القحط وفقد المآكل والمشارب، وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز، ووقوف حال الناس من البيع والشراء، وتفليس الناس وعدم جدوى ما ينفقونه إن وجدوا شيئًا، واستمر ضرب المدافع والقنابر والبنادق والنيران ليلًا ونهارًا، حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة، ولا جلوس لحظة واحدة من الزمن، ومقامهم دائمًا بالأزقة والأسواق، وكأن على رءوس الجميع الطير. وأما النساء والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات، تحت الأبنية، إلى غير ذلك.»
«أما بولاق، فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزَّم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله من دعاة الثورة، وهيَّجوا العامة، وهيَّئوا عصيَّهم وأسلحتهم، ورمحوا وصفحوا، وأول ما بدعوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيِّين الذي تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا مَن أدركوه منهم، ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد، وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس.»
من مذكرات ضابط فرنسي عن أحداث بولاق
«بدأ الهجوم على بولاق قبل شروق الشمس، ضربوا التحصينات بالمدافع، وردَّ الثوار من وراء المتاريس وكومات الحجارة، ومن داخل البيوت وأسطحها، لكن نيران المدفعية الفرنسية فتحَت ثغرة كبيرة، انطلق منها الجنود إلى شوارع الحي، وأضرموا النيران في البيانات، فالتهمت كلَّ ما بالحي من دور ومخازن ووكائل ومحال، ودفن الكثير من الأشخاص تحت الأنقاض.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«هجموا على بولاق من ناحية البحر، ومن ناحية بوابة أبي العلاء، وقاتل أهل بولاق جهدهم، ورموا بأنفسهم في النيران، حتى غلب الفرنسيون عليهم، وحصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل، وبلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق، وفعلوا بأهلها ما تشيب من هوله النواصي، وصارت القتلى مطروحةً في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصًا البيوت والرِّباع المطلَّة على البحر، وكذلك الأطارف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة، فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا مَن يخرج منها، واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات، ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز، والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور، ولا يحيط به كتاب ولا منشور.»
صوت
هل خاف المشايخ على البلد، أو على أنفسهم؟
ذهبوا — المشايخ الشرقاوي والمهدي والسرسي والفيومي — إلى ساري عسكر، يطالبونه بإيقاف الحرب، نزلوا إلى الناس بموافقة القائد الفرنسي على رجوع الأوضاع إلى ما كانت عليه، يعود الجميع إلى أعمالهم وبيوتهم، دون أن ينالهم العقاب.
قابل الناس ما عرضه المشايخ بالرفض، فهو يعني تثبيتَ وجود الاحتلال داخل المدينة، تعمقه موافقة المشايخ، ثار الناس، اعتدوا بالضرب والشتم على الشيخَين الشرقاوي والسرسي.
استمرت المعارك، قاوم أهل البلد شناعةَ الهجمات الفرنسية بدافع أمل الغوث من العثمانيِّين أو المماليك، لكن الأمل في الغوث ظل سرابيًّا. كان الأتراك يعانون الهزيمة من الفرنسيِّين، ولم يفاجئني ما اعتدتُ حدوثه حين تخلَّى مراد بك عن مساعدة الثوار، واتفاقه مع القائد الفرنسي، هو رجل لا يعنيه إلا صالحه، وسلامته الشخصية.
صوت
قبل أن يغادر المصريون جامع الأزهر، استوقفهم هتافُ الشيخ السرسي: دقيقة!
التفت الناس ناحية الشيخ، إلى جانبه المشايخ الشرقاوي والمهدي والفيومي.
قال الشيخ المهدي: طلب ساري عسكر إيقاف الحرب.
أردف للنظرات المتلفتة.
إذا عادت الأمور إلى ما كانت عليه فلا عقاب.
قال الحاج حيدر العلاف: نحن لن نُنهيَ ما بدأناه إلا بخروج الفرنسيِّين.
– هم يملكون القوة ونحن نملك الدعوات.
طق الشرر في عينَي الحاج: نحن نملك القوة أيضًا.
فاجأ الحشد بنزع عمامة الشيخ من رأسه، كأنها إشارة البدء لضربات الجموع الحاشدة وشتائمهم.
أدرك أهل القاهرة أن اللحظة الفاصلة حانت. الإنجليز في بحر الإسكندرية، والأتراك والمماليك على حدود القاهرة، تهيَّئوا لاختصار الأحداث، رفعوا ما وصلت إليه أيديهم من أنواع السلاح.
انطلق الناس من أبواب الأزهر إلى الشارع الضيق، الواصل بين الجامع وجامع محمد بك أبو الذهب، توزعوا في شوارع الجمالية والحسين والصنادقية والغوري. لجأ الفرنسيون إلى العنف، ارتكبوا شناعاتٍ كثيرة، أشعلوا النيران في الدور ما بين باب الحديد وبولاق، امتدَّ الضرب والقتل والتدمير إلى أماكن لم تبلغها الثورة من قبل. قذفوا البيوت بالنيران، سقطت القنابل على جامع الأزهر، وعلى خان الخليلي والجمالية والصاغة والغورية والفحامين والصنادقية والمشهد الحسيني والعقادين ورأس الوراقين والحمزاوي، تصاعد اللهب والدخان في معظم أحياء المدينة، بولاق، بركة الرطل، الحسينية، باب الحديد. تكاثر عسكر الفرنسيِّين، غادروا المعسكرات، تسلقوا الجدران، صعدوا الأسطح، اقتحموا الدور، نفذوا من الأبواب والنوافذ، تسللوا إلى الخرائب والبنايات المتهدمة. زاد من صعوبة تحرُّك الثوار، سقوط الأمطار والأوحال التي غطَّت الطرق.
حلَّت الصدمة في النفوس، لما أتَت أنباء انتصار الفرنسيِّين عند المطرية، دحروا المماليك والعثمانيِّين إلى عمق الصحراء. تلاشى كالسراب ما بدا قريبًا من قبضة اليد، ذاعَت الشائعات، تعالَت صيحات الغضب، والدعوات إلى مقاومة الفرنسيِّين.
هتف الناس باسم السيد عمر مكرم.
من أوراق السيد عمر مكرم
لم أضَع احتمالًا بأن تنضمَّ إلى الثوار طوائفُ المماليك والإنكشارية. قدرت أنها وراء الاعتداءات التي امتدَّت إلى المحافظ مصطفى أغا والشيخ خليل البكري. لم أتصوَّر أن الشيخ الجليل — رغم مخالفتى لما قضى به من أفعال — يواجه ما ناله من الأذية والشتائم والسباب، خرج عليه العوام، اجتمعوا عليه، نالوه بالشتم والسب واللعن، رجموه، ضربوه بالعصيِّ والمساوق، نتفوا لحيته، اتهموه بالخضوع لحكم الفرنسيِّين، قبوله — بالظلم — خلعة بونابرت عليه نقابة الأشراف، شراء الغلمان، إسرافه في شرب المنكرات. اخترق شماتة أهالي بر مصر في هزيمة بونابرت من الوالي الجزار، أهداه — عقب فشل غزوة الشام — جوادًا عربيًّا أصيلًا، له سرجٌ مطرز بالجواهر الكريمة، وعددًا من الهجن السريعة، ومجموعةً من الجواري البيض والسود، والأسلحة المذهَّبة المحلَّاة بالذهب والياقوت واللؤلؤ، بالإضافة إلى أنواع من الأقمشة والعطور والمسك والصندل.
حتى عمته — لها وقارها — نزعوها عنه، وتبادلوا قذفها، نهبوا ما كان بحوزته من مال ومتاع، سعَوا لتبديل الصورة إلى وجهة خطيرة، امتدَّت اعتداءاتهم إلى زعامات القبط.
صوت
لم تكن مشاركة أمراء المماليك في الثورة انتصارًا لها، بل كانت للحفاظ على أوضاعهم في مصر، فضلًا عن استلاب ما تبلغه أيديهم من المكاسب والغنائم. الخيانة هي الحرص على الغنائم أكثر من الحرص على ردِّ العدو.
ظل مراد بك في بيته بطرة، حتى لا تلحقه أعينُ الفرنسيِّين في قلب الأحداث.
إذا صح ما بلغني، فإن الخبل أصاب مراد بك، أو أنه خائن. لما أخفق أعوانه في تسليم القاهرة، نصح كليبر بإحراق المدينة، وبعث إليه — بالفعل — مراكبَ محمَّلة بالحطب.
صوت
لما ظهرت غلبةُ الفرنسيِّين اتصل مراد بالجنرال كليبر. دعاه إلى الصلح، وإلى وليمة هائلة بجزيرة الذهب.
اتفق كليبر ومراد على أن يكون الأمير المملوكي — باعتراف ساري عسكر الجديد — أميرًا وحاكمًا للصعيد، وطوعًا لأوامر الفرنسيِّين، بداية من بلصفورة بمدينة جرجا إلى أسوان في أقصى الجنوب، بالإضافة إلى حصول مراد بك على إيراد جمرك القصير وإسنا، يدفع مراد — في المقابل — خراجًا بأموال كثيرة، وكميات من القمح والشعير والحبوب. نصَّت المعاهدة على أن يُقيم مراد في بندر جرجا، ويُمثِّله في مفاوضات القاهرة أحدُ أتباعه، كما نصَّت المعاهدة على أن تحلَّ وحدة من الجيش الفرنسي في القصير، إلى جانب فصيلة من عساكر المماليك.
توزَّعت قوات العثمانيِّين بين القدوم من غزة إلى العريش، فبلوغ الصالحية، وبين النزول في ساحل الإسكندرية، توقفوا في انتظار الأمر بالزحف على القاهرة.
بدأت مفاوضات ساري عسكر مع الإنجليز والترك، لخروج الجيش الفرنسي من مصر، دون أن يُساءَ إلى شرفه العسكري.
يقول كليبر في مذكراته
«أرسل لي مراد بك عدة قطعان من الماشية، ليُبرهن على إخلاصه، لكنه — في الوقت نفسه — كان يكتب إلى الصدر الأعظم بأنه مقيم في طرة خصيصًا، ليمنعنا من جلب المئونة من الصعيد.»
من أوراق السيد عمر مكرم
غلبني الأسى لمَا صارت إليه الأحوال في القاهرة، الخراب والدمار والفوضى في كل شيء، الشوارع خالية إلا من القطط والكلاب.
قال لي الحاج حيدر العلاف: غبت عن أعين أرصاد الفرنسيِّين في أحداث الثورة، شغلتهم مشيختي للطريقة، وما يتصل بها من حضرات وأذكار وجلوات.
تأخذه الطريقة، وأحوال المتصوفة عمومًا، عن جلسات المصاطب والمقاهي والقعدات الخاصة، يعطيها وقته، ينفق عليها، يطمئن إلى ما تحتاجه حلقات الذكر والموالد والجلوات، وما يُعين المريدين على ظروفهم. إذا طالت مناقشة الأوضاع في البلد، فإن الصمت ينقله إلى جزر تصخب بالطبول والدفوف والأعلام والرايات والأهازيج والإنشاد.
واجهني بنظرة مشفقة: عرفوا بقيادتك للثورة!
ثم وضع يده على فمه، فلا يعلو صوته: أنصح بأن تغيب حتى تنجليَ الأمور.
الخروج من مصر للمرة الثانية، عدتُ إلى الهجرة، والبعد عن الوطن. صحبني إلى فلسطين السيد أحمد المحروقي والسيد حسين أغا شنن والكثير من العلماء والأعيان والتجار.
أبلغني الرسل أن الفرنسيِّين يعانون مأزقًا في ثورة أهل البلد. فرض القائد الفرنسي غرامةً هائلة، جرى تحصيلها بالقوة والعنف.
صوت
لولا أن الإنجليز نقضوا شروط المعاهدة مع الفرنسيِّين، لغادر الفرنسيون البلاد في المدى الذي حُدد لذلك. أدخلت قيادة الإنجليز عداوة البلدين في شأن يخص مصر، أعلنت اعتبار الجنود الفرنسيِّين أسرى، وأن عليهم تسليمَ أسلحتهم وعتادهم. أضاف إلى اتساع الشرخ، دخول قوات العثمانيِّين إلى داخل البلاد.
أمر القائد كليبر جنوده بالتحلل من المعاهدة، ومهاجمة العثمانيِّين. هزموا جيش الأتراك في موقعة بالقرب من قرية المرج. لما أنهى مطاردتهم، أمر جنده فأحاطوا بالقاهرة، أخمد الفرنسيون الثورة في بولاق، قتلوا معظم الثوار، وأحرقوا بيوت الحي تمامًا، دمروا أغلب دروب ودور ودكاكين الأزبكية والفوالة والرويعي وحارة النصارى وبركة الرطل وقاضي البهار وباب البحر، اندرس ما كان لها من معالم، وانطمست الآثار.
لم يكتفِ الفرنسيون بقصر خروجهم على المعاهدة التي نقضها العثمانيون والإنجليز، بل نقضوا عهدَ الأمان الذي أعطوه لأهل القاهرة، أضافوا إليه غرامات واعتقالات، شملت الكثير من العلماء والسراة والأشراف والأعيان والبكوات والكُشَّاف والمشايخ والعلماء والأغوات والقضاة وأكابر الدولة والمشايخ والملتزمين والعربان، حتى الحمارون والسقاءون وصغار الباعة والحِرَف المرذولة والحرافيش والجعيدية والغوغاء لم يُفلتوا من العقاب.
استغرقت الثورة سبعة وثلاثين يومًا.
لم يُحسن قياداتُ الثورة اختيارَ لحظة بدء الثورة، من الخطأ أن تُعارك منتصرًا، لن يأذن لك أن تسلبَه انتصاره، أو تُضعفه. لو أن موعد انطلاق الثورة تأخر قليلًا، ربما واتَت اللحظة المناسبة. حل الدمار بكل أحياء القاهرة. اضطر عمر مكرم وأحمد المحروقي إلى الرحيل مع أعداد هائلة من السكان.
صوت
ظلَّت أبواب القاهرة مغلقةً مدة سبعة أشهر، وأهل القاهرة على صمودهم، لم يؤثر في النفوس تقهقرُ جيش الترك إلى إقليم الشرقية، ومنه إلى الشام. فرغ الفرنسيون لمحاربتهم، أحاطوا بالمدينة، لا يأذنون بالدخول أو الخروج، يُعِدون لاقتحامها. النسوة حاسرات الوجوه، يوزعنَ الماء والطعام على الثائرين.
نفض الضابط كليبر يدَه من كلِّ ما وقع عليه، وأصرَّ على عقاب أهل القاهرة للثورة التي قاموا بها، في باله أمر بونابرت: نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأسًا!
عدا إغلاق الدكاكين وأبواب الدور، وتعطُّل الأسواق، فقد فرض على جميع الأهالي ما يصل إلى عشرين مليونًا من الفرنكات، وعشرين ألف بندقية، وعشرة آلاف سيف، وثلاثين ألف طبنجة. أمر كذلك بمصادرة أملاك السيد أحمد المحروقي، وغرامات على السيد محمد السادات مائة وخمسين ألف ريال، والشيخ مصطفى الصاوي مائة وخمسين ألف ريال، والشيخ محمد الجوهري، وأخيه الشيخ فتوح الجوهري خمسين ألف ريال. وزَّع بقية الغرامات على سكان المدينة، باختلاف طوائفهم وأوضاعهم الاجتماعية، كما فرض غرامةً أخرى، هائلة، على أهل الوجه البحري، واعتقل خمسة عشر من الوجهاء والأعيان، رهينة الغرامة.
منع المعلم حجاج الخضري صبيانه من التعرض للمعلم يعقوب. عهد الضابط كليبر ليعقوب بجباية الغرامات القاسية التي فرضها على الناس. إذا نال يعقوب أذًى من مسلم، فستكون شرارة حرب بين المسلمين والأقباط.
ذلك ما يريده الفرنسيون.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… فدُهيَ الناس بهذه الداهية التي لم يُصابوا بمثلها، ولا ما يقاربها، فإن الواحد من الناس، غنيًّا كان أو فقيرًا، لا بد وأن يكون من ذوي الصنايع أو الحِرَف، فيلزمه دفعُ ما وزع عليه في حرفته، وأجرة داره أيضًا سنة كاملة، فكان يأتي على الشخص غرامتان أو ثلاثة ونحو ذلك، وفرغت الدراهم من عند الناس، احتاج كلٌّ إلى القرض، فلم يجد الدائن مَن يدينه لشغلِ كلِّ فرد بشأنه ومصيبته، فلزمهم بيعُ المتاع، فلم يوجد مَن يشتري، وإذا أعطوهم ذلك لا يقبلونه، فضاق خناق الناس، وتمنَّوا الموت فلم يجدوه. ثم وقع الترجي في قبول المصاغات والفضيات، فأحضر الناس ما عندهم، فيقوم بأبخس الأثمان، وأما أثاثات البيوت من فرش ونحاس وملبوس فلا يوجد مَن يأخذه.»
من أوراق السيد عمر مكرم
فعل القائد كليبر ما لم يفعله القائد السابق بونابرت في حكمه لمصر، قهَرَ المتظاهرين بالعنف، قتَل العشرات، دمَّر البيوت، أغلق — للمرة الأولى في تاريخ الأزهر — أبوابَ الجامع، ومنع أداء الصلاة في صحنه، أهان العلماء الأجلاء، صادر كلَّ أموال الشيخ السادات، واعتقله، حتى يكشف أمواله المخبَّأة، عدا غرامة ثمانمائة ألف فرنك. اتهمه بتدبير الثورة الثانية، كما دبر الثورة الأولى، أذهل الناسَ نقلُ الشيخ السادات إلى القلعة، حُبس في مخزن، عوقب بالضرب مرتين كل يوم، حتى يُعلن ولاءَه للحملة الفرنسية وقائدها. استدعى كليبر زوج الشيخ لتُشاهد تعذيبَه على أيدي عسكر الفرنسيِّين.
تناسى الناس ما كانوا يؤاخذون عليه الشيخ السادات من مَيل إلى العز والأبهة، والسعي لإرضاء الفرنسيِّين، تناسَوا حتى ما نعتَه به الشيخ عبد الرحمن الجبرتي من القسوة والفظاعة والتآمر والتعطش إلى الثروات والتشريف، وجدوا فيه شيخًا ضعيفًا، أنهكَته السنون، لا يملك لنفسه، ولا للآخرين، ما يُعينه على التحدِّي. تذكَّر الناس أن الشيخ السادات كان إذا دخل على بونابرت، فإن ساري عسكر يُقبِّل يده، ويُقبِّل ركبته.
من أوراق السيد عمر مكرم
اعتقل الفرنسيون المعلم مصطفى البشتيلي قبل الثورة. وجدوا في وكالته قدورًا مملوءة بالبارود، لما أفرجوا عنه، خرج من الاعتقال إلى الثورة. قاد أعوانه في ثورة القاهرة الثانية. يعرف ما ينتظره من أخطار، لا أتصور أن قتْلَه بأيدي أعوانه كان من بين الأخطار التي أودَت بحياته. ذلك ما اشترطه القائد الفرنسي كليبر على المشاركين في الثورة، ليصدر أمره بالعفو العام. أضاف شرطًا ثانيًا بألَّا يترك المدينةَ أحدٌ من أهلها، حتى لا يلحقَ بجيش الأتراك.
قال كليبر: إني أحترم الإسلام كدين سماوي، لكنني أعتنق المسيحية!
أراد تأكيد قوله بمسامحة الشيخَين الشرقاوي والبكري في الضرائب الباهظة والمغارم التي فرضها على التجار وأصحاب الصناعات وملاك الأراضي. حرص الشيخان على مداهنة ساري عسكر الفرنسيِّين، ومداهنة السلطان الكبير من قبل، وممالأته، والعمل لصالح الفرنسيِّين.
صوت
كانت الأوضاع — عند تولِّي كليبر — في غير صالح الفرنسيِّين. شعور أبناء البلد يتعاظم ضدَّ وجود الاحتلال، والأنباء تأتي بقرب تحرير الأسطول العثماني أرض مصر، وأسطول الإنجليز يحاصر المواني المصرية.
مفاوضات الجلاء هي خيار الفرنسيِّين الوحيد، وقع اتفاق بالعريش في ۲۳ يناير ١٨٠٠م: يجلو الفرنسيون عن مصر في مدى خمسة وأربعين يومًا، دون تخلٍّ عن الأسلحة.
أُلصقت نُسَخ من فحوى المعاهدة في الأسواق والشوارع، أحدث إعلانُ الاتفاق ردَّ فعل مستبشرًا بين أهالي بر مصر. قاد الحاج حيدر العلاف طريقته في جلوة مخصوصة، اخترقت الطرق من الأزبكية، حيث قيادة الفرنسيِّين، إلى جامع الأزهر. تعدَّدت حلقات الإنشاد والابتهالات والذِّكر، قبل أن يأمر الحاج العلاف مريديه بالانفضاض.
لم يشارك السيد عمر في مفاوضات جلاء الفرنسيِّين عن مصر، وإن تابع تطوراتها منذ دخل العثمانيون غزة، وسيرهم إلى ما بعد العريش، حتى الصالحية.
بدا السيد عمر مهمومًا كما لم أرَه من قبل. فرض الفرنسيون شروطًا للرحيل، أولها أن تكون نفقة رحيلهم على أبناء البلاد، قصر السيد جهده — لظروفه المادية التي نعرفها — على الدعوة إلى المشاركة في إنفاق ما يُتيح للعدو ترك مصر.
هدأت نفسه لما بدأ السيد أحمد المحروقي في جمع الأموال اللازمة لإنهاء الاحتلال. له صلاتُه الطيبة بتجار القاهرة، تناسى المصائب التي أخذَت أمواله، عقب رحيله إلى الشام، وصل ما انقطع في انشغاله بقضايا الناس.
صوت
مات مراد بك بالمرض. كان في طريقه من سوهاج إلى القاهرة، بدعوة من الفرنسيِّين، دفن عند الشيخ العارف بسوهاج.
قال حجاج الخضري: ماذا جنى لآخرته بعد أن قضى سائر عمره في اكتناز الأموال والتنعم بالخيرات؟
لاحَت في عينَيه نظرة باردة.
– هل كان يُدرك أن النعيم — مثل الحياة — ليس أبديًّا؟!
ضرب كفًّا بكفٍّ.
– خسر نفسه، وخسر الدنيا، وخسر الآخرة!
استعاد الناس رؤية موكبه — على فترات متباعدة — يخترق شوارع القاهرة، فوق جواده، القفطان الحريري، العباءة الفضفاضة، على قميص من الموسلين، فوقه صديرية، يدسُّها في سروال فضفاض، والعمامة المزركشة، والسيف المتدلِّي في جانب الساق، مرصَّع بالذهب والجواهر الكريمة.
أكثر سيره في شوارع السيوفية والأمير طاز والركيبة، يسعى القواسة أمامه وحوله، بأيديهم العصيُّ، يميِّزه الجسد القوي، القامة العملاقة، النظرات القاسية، تُطلُّ من عينَين نفَّاذتَين، يعلوهما حاجبان عريضان، اللحية الكثَّة البيضاء تُضفي عليه قسوةً ومهابة، أضاف إلى قسوة ملامحه ندبة طويلة على الخد. أَلِف قول الأمراء عنه، لا يُغضبه، إنه يملك قوة ثور، مال إلى إنفاق الأموال الطائلة على السلاح والثياب الغالية والزوجات والسراري والخدم، بلغت عدةُ مماليكه أكثر من أربعة آلاف مملوك، يبذلون أرواحهم لقاء إشارة منه.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
كتب الجبرتي في تاريخه
«إنهم — الأتراك والمماليك — ارتحلوا بطريق بلبيس، وسار معهم زعماء الثورة من المصريين، أمثال عمر مكرم نقيب الأشراف، والسيد أحمد المحروقي كبير التجار، وهاجر من العاصمة آلافٌ ممن توقعوا انتقام الفرنسيِّين، فتفرقوا في البلاد، وكانوا محقِّين في مخاوفهم؛ لأن كليبر نقض عهده.»
من أوراق السيد عمر مكرم
نفى حجاج الخضري أن يكون ما حدث بتحريضه، أو أن الفعل بيد أحد أعوانه. ترصَّد شابٌّ سوري اسمه سليمان الحلبي لكليبر، ساري عسكر الفرنسيِّين الجديد، في دار القيادة العامة. تظاهر بطلب صدقة، ما كاد القائد يلتفت ناحيته حتى طعنه — في صدره — بخنجر. ما حدث جاوز التصور، اندفع عسكر الفرنسيِّين في الشوارع، يقتلون — بالسيوف والخناجر — مَن يلتقَّونه. تواصلت المذابح أيامًا متتالية، قُتل ما لا يُحصَى عدده، داسَتهم الخيل، اخترقهم الرصاص، قطعَتهم البُلَط والسيوف، تناثرَت أشلاء الجثث في الطرقات.
سيدة مسكينة أشارت ناحية السطح الذي قفز عليه الحلبي، هو من بلاد الشام، قَدِم إلى القاهرة لقتل ساري عسكر الفرنسيِّين.
لم أغضب لتصرُّف المرأة، غاب عن وَعْيها إن كان الحلبي وطنيًّا أم مجرمًا، قفز بين الأسطح فرارًا من المطاردة، ما استقر في وجدانها أملَى عليها الإرشاد لموضع اختفائه.
عرفت أن الحلبي لم يُشِر إلى مشاركة أحد في قتل كليبر، منذ بدأت فكرة، حتى تحوَّلت إلى فعل قطع عمر ساري عسكر الفرنسيِّين.
أحدثَ مقتلُ ساري عسكر الفرنسيِّين صَدْعًا في موقف جنده، بدَوا أقرب إلى السيطرة على الأوضاع بانتصارهم في موقعة المطرية، والقضاء على ثورة القاهرة، بدَّل خنجر سليمان الحلبي في جسد كليبر كلَّ شيء.
من أوراق السيد عمر مكرم
أحزنني إغلاق الأزهر. دُقَّت أبوابه بالمسامير حتى لا يدخلَه أحد، لم تَعُد الصلوات، ولا الدروس، متاحةً. القرار للمشايخ الثلاثة: الشرقاوي والمهدي والصاوي، خافوا الاحتمالات والعواقب.
هذه هي ثاني مرة تُغلَق أبواب الأزهر. المرة الأولى— فيما أعرف — عندما أراد صلاح الدين الأيوبي أن يجتثَّ ما خلَّفَته الدولة الفاطمية من الفكر الشيعي.
هل يظل الأزهر مغلقًا؟ هل يُدان علماؤه وطلبته بمقتل الضابط الفرنسي؟ هل تُعَد إقامة الحلبي في الجامع ثلاثين يومًا — قبل الحادثة — دليلًا على التواطؤ؟!
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وقصد المشايخ من ذلك منع الريبة بالكلية، فإن للأزهر سعةً لا يمكن الإحاطة بمن يدخله، فربما دسَّ العدو مَن يبيت فيه، واحتج بذلك على إنجاز غرضه، ونيل مراده، من المسلمين والفقهاء، ولا يمكن الاحتراس من ذلك، فأَذِن كبير الفرنسيِّين بذلك لما فيه من موافقة غرضه باطنًا.»
صوت
نقل له أصدقاؤه وتلاميذه ومريدوه ما جرى في محاكمة الشاب الحلبي، قاتل كليبر. شارك الناس متابعةَ المحاكمة، منذ أُلقيَ القبض على الحلبي، حتى اخترق الخازوقُ أحشاءَه.
حكمت المحكمة العسكرية بإحراق يد سليمان الحلبي، ثم إعدامه على الخازوق، وترك جثته لإطعام الطيور. يسبق تنفيذَ الحكم قطعُ رءوس أربعة من مجاوري الأزهر، اتُّهِموا بعدم التبليغ عن اعتزام الحلبي قتل ساري عسكر الفرنسيِّين.
أضافوا إلى عقوبة الإعدام غرامة قدرها أربعة ملايين من الفرنكات، تلَتها غرامة أخرى قدرها مليون من الفرنكات. لم تكن الغرامتان تعبيرًا عن الانتقام، بقدر ما كانتا وسيلةً لابتزاز المصريين، واستلاب ما يُعين الفرنسيِّين على ظروفهم الصعبة.
قُطعت رءوس الأزهريِّين الأربعة، بينما الفحم يحمي في المجمرة. ظل الحلبي صامتًا في لحظاتِ شيِّ يدِه على الجمر، وإن نبَّه القائم بعمل المشاعلي إلى أن الحكم قضى بإحراق اليد وحدها، دون المرفق. ظل الحلبي على الخازوق حتى مات.
قال حجاج الخضري: ما ذنب الناس حتى يفرض الفرنسيون عليهم هذه الغرامة الباهظة، خمسة ملايين فرنك ليست عقابًا على جريمةٍ قُتل مَن ارتكبها، لكنها للإنفاق على جند العدو.
بات جامع الأزهر موضعَ ريبة الفرنسيِّين وشكوكهم، وجدوا فيه المصدر لثورة أبناء البلد في الفترة الماضية. توجَّه قائدهم بنفسه إلى الجامع، معه عددٌ من قواده، فتَّشوا عن السلاح الذي استخدمه المتظاهرون، أخذوا كلَّ ما صادفوه من العصيِّ والشوم والنبابيت، حتى العكاكيز أخذوها من زاوية العميان. منعوا الإقامة في الجامع إلا للمجاورين، وحظروا على الطلبة الأتراك — والشوام من بينهم — دخوله، ربما عقابًا؛ لأنهم من البلد الذي ينتمي إليه سليمان الحلبي قاتل القائد كليبر. رأى شيوخ الأزهر أنه من الصواب إيقاف الدراسة في الجامع، وإغلاقه، حتى تهدأ الأحوال.
تلك أول مرة يُغلِق فيها الجامع أبوابه منذ أُنشئ في عهد الفاطميِّين، كما أخرج الطلبة الأتراك — في ظل نسبة الحلبي إليهم — من مدرسة محمد بك أبو الذهب، قبالة الأزهر، وأغلقت.
من ساري عسكر عبد الله جاك مينو إلى الجنود الفرنسيِّين بمصر
«باختصار، يجب أن تتسم كلُّ المعاملات بالصرامة والإنسانية، والأخلاق والنزاهة، وسأعمل على أن أُعطيَكم المثال، إني سأحذو حذوَ بونابرت.»
من أوراق السيد عمر مكرم
مينو، القائد الجديد للفرنسيِّين، أظهر النية في انتهاج سياسة جديدة تعمل لصالح أهل البلاد، ولا تُعاديهم.
فطنت إلى رفض الضباط الفرنسيِّين سياسةَ ساري عسكر الجديد، حين صدر مرسوم القنصل الفرنسي الأول، بإبقاء مينو في منصبه.
دعا أرباب العكاكيز للقائه، قال الجنرال في لهجة محذرة: أخشى أن المصريين يتذكَّرون أيام انتصارهم على أجدادنا قبل خمسمائة عام.
اكتفيتُ بالنظر إليه دون أن أتكلم.
أشاح بيده إلى الوراء: ذلك ماضٍ، لا سبيل إلى استعادته في غياب التكافؤ بين القوتَين!
انصرف المشايخ عقب اللقاء، وإن ظل رهائن لجيش الاحتلال في القلعة المشايخ الشرقاوي والصاوي والفيومي والمهدي.
نقل الجنرال للمعلم يعقوب ما رفعه إليه أهالي بر مصر من تحصيل الأقباط الضرائب بالغصب. عدا أبناء ملَّتهم، فإنهم يضاعفون الضريبة على التجار والمزارعين وملاك العقارات.
وفي لهجته المحذرة: صداقتكم بنا لها أجل، أما صداقتكم بأبناء ملة الإسلام فدائمة.
قال المعلم في نبرة مبطنة بدلالات: إذا جعلت فرنسا من الصعيد مكانًا آمنًا لأصدقائها، فإنها تضمن البقاء في مصر.
أعلن مينو — بعد إشهار إسلامه — زواجه من السيدة زبيدة، بنت السيد محمد البواب، التاجر برشيد.
ذاعت أخبار أنه ألزم موظفيه خفض الضرائب على تجار رشيد لعلاقات المصاهرة بينه وبين محمد البواب، وعلاقات الود التي أحدثَتها هذه المصاهرة بينه وبين أهل رشيد.
قال لنظرة الضابط عمر أبو لحاف المتسائلة: هؤلاء الناس يحتاجون بعض الخداع.
وأشاح بيده: قد يحتاج المرء إلى الخداع لغاية نبيلة!
أعاد تأليف الديوان، ووسعه، وإن قصر أعضاءَه على تسعة فقط، معظمهم من العلماء، وأمر باستئناف أنشطته. ألغى الاستثناءات الممنوحة للضباط الفرنسيِّين والأقباط والأوروبيِّين، أصلح نظام الرسوم الجمركية، أعاد استقرار موازنة البلاد، وتنظيم الترسانة البحرية بالإسكندرية، أجرى الكثير من أعمال التحصينات والدفاعات، أعدَّ لإصدار جريدة يومية، اختار لها اسم «التنبيه»، خطط لمشروعات يضمن بتنفيذها ثباتَ أوضاع الفرنسيِّين في مصر، طالب جنودَه بتفادي الاقتراب من الأزهر، حذَّرهم من أن يدخلوا حرم الجامع لمطاردة المتظاهرين.
فتحت معظم المحال أبوابها: معاصر الزيوت، مخازن الأخشاب، ورش تلميع النحاس، دكاكين بيع الأوعية الفخارية والسجاد الأسيوطي.
لكن الأحداث والمتاعب قوضت ما كاد يستقيم. تحركات الإنجليز والأتراك أفسدَت ما شغل به مينو نفسه، هزم الإنجليز قوات الفرنسيِّين في الإسكندرية، تابعوا الزحف إلى القاهرة. كان الجيش العثماني قد زحف — في الوقت نفسه — من العريش، وبلغ قرب القاهرة.
واجه مينو المتظاهرين بما لم يحدث في أيام بونابرت وكليبر، هدم المساجد والدور، ونهب جنودُه ما في الدكاكين والوكائل، وهدموا المصاطب، وقطعوا الأشجار من البساتين والمزروعات، واستعملوا الأخشاب في بناء القلاع والاستحكامات.
بدعوى توسعة الشوارع، هدمت المصاطب، وقطعت الأشجار والنخيل في أحياء الصليبة وقناطر السباع ودرب الجماميز ودرب سعادة وباب الخرق.
أدرك أهل القاهرة أن الغرض الحقيقي منع المتظاهرين من رفع العوائق التي تحول دون تقدُّم جنود الفرنسيِّين من ردِّ المظاهرات.
أُزيلت — باتساع الثورة — خُطَط بأكملها؛ مثل الحسينية والخروبي بمصر القديمة وبركة الفيل وبركة درب عجور بباب الشعرية، وكشفوا سور القاهرة القديم، وسدوا أبواب الفتوح والبرقية والمحروق.
قال مغاوري تليمة: هذا رجل أخفق في القيادة العسكرية … كيف ينجح في القضاء على ثورة بلد؟!
ولاحَت في عينَيه ابتسامة: مينو غبيٌّ يحاول علاج مشكلاته بالذكاء.
واكتسى صوتَه لهجةٌ مستخفة.
– أقدمية الرتبة العسكرية وحدها هي التي أهَّلت الرجل لمنصب ساري عسكر.
صوت
ظهر الأسطول الإنجليزي — لمرة لا أذكرها — أمام مدينة الإسكندرية.
شاهد أبناء الإسكندرية والضواحي القريبة آلاف الجنود الإنجليز ينزلون بالقرب من المدينة، قُدِّر عددهم بخمسة آلاف جندي، ربط الناس بين هذا الإنزال، والآلاف الثلاثين من عسكر الأتراك قدموا من الشام — منذ فبراير الماضي — في طريقهم إلى القاهرة.
انتهت المعركة في ۲۱ مارس، بين البحرية الفرنسية والبحرية الإنجليزية، بتدمير الأسطول الفرنسي.
صوت
توالت الأحداث بما قرَّب زوال الوجود الفرنسي في مصر. هُزم القائد مينو في شرقي الإسكندرية، عاد — مضطرًّا — إلى المدينة، وتحصَّن بها. بدأ حصار الإنجليز له منذ آخر مارس.
أظهر ضباط مينو سخطهم على قيادته، سكوته عن توقيع القنصل بيليار بحصول إنجلترا على حجر رشيد، درَّة اكتشافات العلماء الفرنسيِّين.
امتدَّت العمليات بين الإسكندرية والقاهرة، أخفقَت محاولات الفرنسيِّين في الصمود، حتى بدءوا التفاوض في التسليم، أسفرت المفاوضات عن خروج الفرنسيِّين من القاهرة، بسلاحهم وعتادهم وأمتعتهم الشخصية. وقَّع الجانبان الإنجليزي والفرنسي اتفاقيةَ جلاء الفرنسيِّين عن مصر.
لسداد تكاليف العودة، أصدر القائد مينو أمرًا بفرض ضرائب باهظة على طوائف الحرفيِّين.
أوكل السيد أحمد المحروقي إلى نفسه جمعَ ما فرضه الفرنسيون من أموال، قدَّم الجميع، المسلمون والقبط واليهود والشوام والتجار الأجانب، ما يفوق قدراتهم للإسهام في عودة الفرنسيِّين إلى بلادهم.
صوت
لزم أهل مصر صمتًا إزاء توالي الأحداث. لم يعودوا إلى الثورة ضد مينو كما فعلوا مع بونابرت وكليبر. ربما لميله إلى عقيدتهم، وحرصه على تحقيق العدالة، بالإضافة إلى أن الجيش الذي يقوده بلا حول ولا قوة.
صوت
ظل مينو على دفاعه، ثم مثل لضغط الحوادث، استجاب لمفاوضات الانسحاب، وقعت المعاهدة الجديدة بالصيغة التي كُتبت — من قبل — بها: يجلو الجنود الفرنسيون — بأسلحتهم وأمتعتهم — عن قلعة الجبل، وبقية الحصون، انتقلوا إلى قلعة الروضة، ثم انسحبوا من الأراضي المصرية، تركوا مصر تمامًا.
خلَت البلاد من أيِّ أثر لجنود الفرنسيِّين.
من بيان للجنرال مينو، قبل رحيله من مصر
«وداعًا لمصر، وداعًا للمسلمين. خرجنا نحمل من الذكريات القاسية من بلدكم الذي يحوي أجمل الآثار، ولنا ذكريات مؤلمة في الصحراء، لكن المجد لنا، لأننا سبَّبنا لكم القلق، وأرقنا الدماء فوق ضفاف نيلكم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
رحل الفرنسيون بعد أن أمضَوا ثلاث سنوات وثلاثة أشهر في احتلال مصر. عادت مصر إلى دولة الخلافة العثمانية.
تمنيتُ لو أن متعلمين من أهالي بر مصر تعرَّفوا إلى ما أخذه الفرنسيون من أوراقهم وصورهم وخرائطهم، ربما أفادَت المصريِّين في تيسير أحوالهم، والأخذ بأسباب العمران والتقدم. أعرف أن هذه اﻟ «لو» ستظل حرفَ شرط غير جازم. قيل إن الإنجليز عدلوا عن شرط تسلُّم الأبحاث والصور لمَّا هدد العلماء الفرنسيون بإلقائها في البحر.
آلمني — عقب رحيل الفرنسيِّين — هجومُ أبناء البلد على بيت الشيخ البكري. صادق الفرنسيِّين على حساب أهل بلده، خصَّني بمعاداةٍ بلغَت حدَّ الوثوب على موضعي في نقابة الأشراف، لكن التعامل مع العلماء له أصوله وقواعده، فلا يبلغ حدَّ الاعتداء بالشتم والضرب، قطموا رقبة زينب، ابنة الرجل، تحت عينَي أبيها، واجهوه بأفعالها.
قال: افعلوا ما شئتم.
أقدموا على قتلها، ثم ثنَّوا على الشيخ، فنالَته ضرباتهم، جرُّوه — كما علمت — إلى بيت عثمان كتخدا. لولا تدخل الرجل، ما ظل البكري في دنيا الأحياء.
قتل المصريون زينب البكرية لضياع حياتها بين بونابرت وجنوده، أما زبيدة — زوج مينو آخر القادة الفرنسيِّين — فقد دفعَته ظروفه الصحية إلى الرحيل المفاجئ، أوصى — عند وصوله إلى طولون — قائد الأسطول الإنجليزي، فأذن لها بالسفر مع قوات الحملة.
حزنت لمَا انتهى إليه حال الشيخ البكري، أفعاله وشَت بما بلغه من حال الخضوع. صار الواسطة بين ساري عسكر الفرنسيِّين وأهالي بر مصر، من له حاجة يخاطب بونابرت لتلبيتها، مَن يُخطئ يتشفع له عند قائد الفرنسيِّين.
أخطر الأفعال لمَّا جعل الطابق الأول في بيته سجنًا للثائرين من أهل القاهرة. لم أتصور أنه يجعل من بيته سجنًا لمقاومي الاحتلال، يُقتادون إليه، يَجْري سؤالُهم تحت التعذيب، أعفاه الفرنسيون من الضرائب والمغارم التي فرضوها على أبناء البلاد، صار يقين المتعاملين مع الشيخ أنه لا يصلح لسجادة البكرية.
قلت — حينها — لجلسائي: على الشيخ البكري أن يُدرك أن أبا بكر الصديق كان مثلًا للخليفة العادل.
صوت
اختار الشيخ خليل البكري حياةَ الانزواء والعزلة، حتى انتهَت حياته في الظلمة. مال الشيخ إلى برزخ الخيانة حين وضع يده في يد الفرنسيِّين، ألبسه السلطان الكبير عباءةً بنيَّة، وأعلنه نقيبًا للأشراف، بدلًا من السيد عمر مكرم الأسيوطي الذي ترك مصر إلى الشام.
لم يصرف اهتمام السيد عمر أفندي بأحوال السياسة عن الميل إلى الاعتكاف، تكرر خروجه في الصباح الباكر، يتعرف إلى تأثيرات الأحداث في ملامح الناس، تصرفاتهم، كلمات الاتفاق والاختلاف، ينزل إلى الأسواق والشوارع المحيطة بالجامع الأزهر، يجلس إلى شيوخ الجامع، يقرأ في مكتبته الهائلة، أكثر من قراءة الأخبار، وتاريخ الدول، وسير الملوك. القراءة حياته، لم يتحول عنها إلى الكتابة. كل ما يصادف في نفسه هوًى يقرؤه، لا يتركه حتى يُتمَّه، يصبحان — بتمام القراءة — صديقَين، يُعيد الكتاب الذي استعاره إلى موضعه داخل مكتبة الأزهر، تطيب له الحياة في الأزهر، يجول بين الأروقة، يلتقي الأساتذة والمجاورين، يتابع — عن مقربة — دروس أحد المشايخ لطلبته بجوار الأعمدة، يختار الجلوس إلى شيخ مذهب الحنفية في رواق الشام، صداقتهما الشخصية لا شأن لها باتفاق المذاهب الفقهية واختلافها. اختار الصوفية طريقًا، لبساطتها، وليس لتعقيداتها وألغازها وتهويماتها.
ورث نقابة الأشراف، لكنه رفض تكوين طريقة، أو الانضمام إلى فرقة، وقصر وقته على العبادة، والسعي لصالح الناس.
ربما تردَّد على جامع محمد أبو الذهب، قبالة الجامع الأزهر، يُطالع ما تضمُّه خزانة الكتب، وإن حرص على شراء الكتب لمكتبة بيته التي أحسن اختيارها. يميل إلى اقتناء النادر والنفيس من الكتب، لا يقصرها على نوع محدد، هو يُعنى بالمعرفة، وما قد لا يصادف في نفسه هوًى، ربما وجده من يحرص على استعارته للإفادة منه.
أنفق على مكتبته مبالغ كثيرة، ترك لمريديه تصنيفها، وترتيبها، جعل معاونين يساعدون المشرف على إعداد الكتب، وإحضارها لمن يرغبون في المطالعة. أسقطها من وقفياته كى يتاحَ الاطلاع على ما بها لمن يريد الاستزادة من العلم.
داره مفتوحة لكل طارق، لا يسأل عن الاسم، ولا المكان الذي أتى منه الضيف، ولا الهدف من الزيارة، أو المقصد بعد انتهائها.
حين ضبط المريدون زائرًا نسب نفسه إلى إقليم الفيوم، وضع في سيالته ثلاثة مؤلفات. التمس له السيد عمر العذر بأنه ربما أخذها للدرس، وخشي تعب المسافة.
منحه مالًا، اشترى به بضاعة، وضع على رصيف خانقاه الظاهر برقوق في بين القصرين، فرشة لأوعية الفخار، الأطباق والقلل والأزيار.
صوت
اتصل به الأميران مراد بك وإبراهيم بك، حين وجودهما في الصعيد. طالباه بالتفاوض مع حزب الأمراء الذي خلف القائد التركي حسن باشا الجزايرلي. تلاشى ما كان يوفره لهما من حماية، اعترفت الآستانة لأحدهما باسم شيخ البلد، واعترفت للثاني باسم أمير الحج. صار الحكم اسمًا على غير مسمًّى، لجأ الأميران إلى عمر مكرم، كي ينوبَ عنهما في مفاوضات تعود بهما إلى القاهرة، يشاركان — مثلما كان الأمر من قبل — في حكم البلاد.
ردَّ الرجل اتهامه بالعمل لحساب الأميرَين بأنه سعى لخدمة صديقَين خارج الحكم. لم يكن الحكم يختلف عن المشهد السياسي آنذاك، بل كان أشدَّ قسوة من العهود التي سبقته. جلس إلى الأميرَين في منفاهما الجنوبي، حدَّثهما عن الأوضاع القائمة، وما يجب اتخاذه حتى تعود الطمأنينة إلى الناس حيث يعيشون.
بدا الأمل غائبًا إلا من كُوَّة صغيرة، ينفذ منها ضوء الوعود الشاحب، لتعود البلاد إلى ما كانت عليه في عهد علي بك الكبير، ثم — من بعده — محمد بك أبو الذهب.
صوت
ارتفعت رءوس أمراء المماليك بعد زوال الفرنسيِّين، شغلهم أن يعود كلُّ شيء إلى ما كان عليه، يستردوا مكانتهم الغائبة.
أَلِف الناس إيقاع حوافر الجياد في سيرها بين القاهرة وقلعة الجبل، أهل البلد مهمومون بلقمة العيش، أما المماليك فحياتهم مقتصرة على تعلُّم فنون الحرب والقتال والصيد والفروسية وأنواع الرياضة، رأيتهم في ميدان الرميلة وميدان باب الخلق يلعبون رميَ النشاب، قذف الرمح، لعب الكرة، القنص، الصيد، حياة تحتاج إلى مَن يُنفق عليها، فهم يحصلون على نفقاتها من أولاد العرب.
تبدَّلت الأحوال، تواصلت المنازعات والمنافسات والمعارك والفوضى، كثرَت مظالم العسكر العثمانيِّين والمماليك: السطو على البيوت، إفراغها من الأثاث، وما يسهل بيعه، سرقة الأطفال، اختطاف النسوة والغلمان، إحراق المزروعات، فرض المغانم على تجار القاهرة، السطو على أرزاق الناس، نهب الوكائل والدكاكين.
احتمى الناس بأبواب الحارات والمساجد، لاذوا بداخل البيوت، أغلقت الدكاكين أبوابها، فرَّ الكثيرون إلى قُرَى الأرياف القريبة، خلَت الشوارع من المارة. لكن الفتن والقلاقل والمعارك ظلت قائمة، سقط العشرات بين قتلى وجرحى، تناثرت الدماء والجثث والأشلاء.
من ناحيتها، فرضت أحوال عسكر العثمانيِّين نفسها على القعدات، شاركوا التجار وأربابَ الحِرَف أعمالَهم، حتى البيع بالتجزئة في الخضر والسلع الغذائية، مَن يُبدي الاعتراض، فإن بضائعه تُواجه المصادرة بأسباب يخلقونها، أو بلا أسباب.
قال الحاج حيدر العلاف وهو يُسلم رأسه لاندلاق ماء الإبريق: لو أن بونابرت نفذ مشروعه بتشجير المقطم لحمانا من ردم التراب الذي يُنغص حياتنا.
ران على وجهه أسًى: الناس في الأسواق يقارنون بين الأحوال أيام الفرنسيِّين، وما صارت إليه الآن.
ووشَى صوته بالتهيؤ للبكاء.
– المعاملة الحسنة في عهد بونابرت تبدَّلت إلى ما نراه من أذى الناس، حتى على ما في ضمائرهم.
روى أن تعليمه لم يقتصر على ما حصله الصبية الصغار، ولا على ما حصله الكبار من حفاظ القرآن الكريم، حفظ الحديث، وتفقه في الدين. جعل قراءة القرآن ورْدَه وذكْرَه. قرأ على علماء الأزهر. جلس إلى الشيخ الجليل حسن العطار، أطلعه على كتب الفقه والتاريخ والسيرة النبوية. فرغ لقراءة عشرات المخطوطات، ناقش، نقح، صحح، استخلص الصواب من الخطأ، أدرك ما أيقن أنه هو الرؤية الصحيحة.
مال إلى الصوفية، تبحر فيها حتى اعتنقها، زاول شعائر المتصوفة ورسومهم، صرف حياته إلى أداء الصلوات، وتلاوة القرآن، وقراءة الكتب والأذكار والدعوات، ومجالس الذكر والأوراد والمجاهدة، اشتهر بحرصه على تنقية نفسه من المعاصي الظاهرة والباطنة، لا يأكل حرامًا أو شبهة. تدرَّج في مقامات الصوفية حتى أقرَّ له المشايخ بالولاية، ترك من العلم والمعرفة في نفوس مريديه ما لا يستطيع أحد أن يمحوَه. سما به المريدون إلى مرتبة الإمامة في العلم والنسك.
تبعه الآلاف من السالكين والمريدين والأتباع، لا يعصون له أمرًا، أو يردُّون طلبًا، أو يناقشون ما يفعله. يفسر للمريدين ما يُشكل عليهم، يُفيدهم ما يجهلون من الإفادة. إن سُئل عن أعداد مريديه، يكتفي بإشارة من يده، تعني أنهم فوق الحصر، أقبل على دروسه عشرات من الملائكة والجان، وجدوا فيها ما يرقى بهم إلى الأجواء العلوية.
عمل — في بداية الطريقة — على التلميح بما يشغله من قضايا البلد، صمت المريدون عن الإنصات، وإلقاء الأسئلة، أعاد ما قاله، ظل المريدون على الصمت، أو تناثرت أسئلة أجاب عنها بما يوضح المعنى.
فاجأه السيد عمر مكرم بالقول: إذا أردت التغيير في البلد، فغيِّر مريديك أولًا.
لم يكن عزلُ والٍ، وتنصيبُ والٍ جديد، مما يشغل مريدي الطريقة، اقتصرَت حياتُهم على الصلاة والذكر والتواشيح والإنشاد والموالد والجلوات، لا يعنيهم ما وراء ذلك، أَلِفوا الظلم وغياب العدالة.
لا يختلف أحد على مكانته، من فرقته، أو من الفرق الأخرى. يشترط على مريديه طهارةَ القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب، يعتمد في تصريف أمور الطريقة على كبار مريديه، لا أوتاد ولا نقباء، الكل مريدون، مَن يخلص للطريقة يخصه بثقته وودِّه، يعهد إليه بما هو من صميم عمل الشيخ. إن أخذ التحير مريديه، أو ضاقوا بالغموض، بعث إليهم المدد، دلَّهم على الطريق. تمضي الساعات والمريدون يُصغون إلى كلماته. لا يطرد من أخطأ، أو مَن تجاهل النصائح والتحذيرات، يعتبره — في أقواله وتصرفاته— كأنه لم يكن، يدفعه إلى ترك الطريقة من نفسه.
مرة وحيدة غلبه انفعاله، أخذ على مريديه أنهم ينزلون للاستحمام في النيل، ولا يبدلون ثيابهم إلا إذا بليت، ويشغلون أوقاتهم فيما لا يفيد.
وضع على رأسه — منذ حجته الأولى — عمامة أهل مكة. لم يدَع القطبية، اخترعها القلة من أتباعه، سعَوا بها إلى الكسب. سمَا به مريدوه إلى مرتبة الإمامة في العلم والنسك. رفض ما نُسب إليه من رفع التكليف، والبراءة من النار.
قال في لهجة رافضة: أنا مخلوق ناقص، الكامل هو الله.
جاوز ظروف تجارته، وطريقته الصوفية، إلى إنشاء علاقات وصداقات مع رجال لهم مكانتهم الهائلة في البلد، وإن عُنيَ بمخالطة الناس على اختلاف معارفهم وطبقاتهم.
تمتدُّ جولاته بين أسواق الحدادين والنجارين والعطارين والنحاسين والعقادين والمغربلين والصاغة وميدان الرميلة، يرفض أن يشغله التصوف عن قضايا الناس، للناس مشكلاتهم التي يساوي إهمالها الكفر. إذا جلس في أي مكان، اجتمع عليه الناس. إذا سار في شوارع القاهرة، التمُّوا حوله، حاولوا ملامسته. حسن المجالسة، عُرف عنه صدق المشورة، وصواب الرأي، يُجيد الحديث والإنصات، يتمتع بقدرة طيبة على الإقناع، وبقوة الحجة في الجدل والمناظرة. يُهمل الكلمات الرديئة، يختار المعاني الطيبة. له هيبةٌ تؤثر في المريدين، فهم يكتفون بالإصغاء الهادئ، دون أن يعبروا عمَّا قد يثور في خواطرهم من المشكلات. روى عنه المريدون بعض خواطر العادات.
ساءه أن تمضيَ غالبية أيام القاطنين في بيت المريدين بلا عمل، عهد إلى مَن تسعفه عافيته بوظيفة بيع بضائع الوكائل إلى باعة الأسواق. قد لا تُسعف ظروف البائع على الشراء من الوكالة، وظيفة المريد بيع البضاعة بالأجل، يتقاضى الثمن بموعد متفق عليه. للمريد نسبة تُعينه على العيش، فلا يقضي حياته متبطلًا. يسَّر العمل نفسه لأقباط يصعب انضمامهم إلى الطريقة.
جذب المريدون — بتردُّدهم على الأسواق — مريدين، شاركوا الطريقة حضراتها وموالدها وجلواتها، زادوا في أعداد المريدين، ينتمون — بتجارتهم وحِرَفهم — إلى أسواق النحاسين وخان الخليلي والحمزاوي والصاغة والتربيعة.
لم تَعُد الطريقة قاصرةً على أهل البلد، انضم إليها — بترغيب المريدين الدلالين — تجار من الشام وبغداد وطرابلس والمغرب والحبشة، ترقَّوا — بإخلاصهم — إلى المراتب العليا.
أنفق على المسجد الجامع تكاليفَ منبر مصنوع من أكرم الخشب، مرصَّع بالصندل المجزع بالعاج، والأبنوس المتألق بصفائح الذهب والفضة. خصص ما يلزم المسجد من الحصر والأزيار وأدوات الإنارة من القناديل والتنانير، ومواد التبخير من العود الهندي والكافور والمسك، ومصاريف فرشه وتجميله وكنسه، وإعداده بصورة لائقة للمصلين والطلبة، ورواتب العمال والخدم. أضاف إلى المسجد مدرسةً وحمامًا وملجأً للفقراء.
فتح في ناصية المغربلين خانقاه برسم الفقراء الصوفية الواردين، وللغرباء وعابري السبيل، يرتب لهم ما يحتاجونه من الطعام واللحم والخز، ثم استبدل بالخانقاه تكايا، وجد أنها أجدى لخدمة الصوفية. وكان يتصدق على الفقراء وعابري السبيل والمجاذيب، ويُنفق على مواراة الأموات.
كوب قهوة سادة، آخر ما يحتسيه عند تقدم الليل، يُعينه على السهر، وقراءة الأوراد.
صوت
دارَت المعارك بين أعوان مراد بك وحسن بك الجداوي، امتدَّت إلى أحياء القاهرة وميادينها وشوارعها. عاثوا في الأرض فسادًا، أوقعوا الرعب في قلوب الأهالي.
قصر الناس مشاركتهم على الاختباء والمراقبة والتأمل، اجتهدوا أن يظلَّ الخطر بعيدًا. يُغلقون بيوتهم ودكاكينهم، وتخلو الشوارع والأسواق من المارة. لم يَعُد أمام الناس إلا السيد عمر مكرم ملجأ من عسف المماليك، وسرقاتهم، ومعاركهم التي لا تنتهي.
قلت: أمراء المماليك يسمون أنفسهم الأمراء المصرلية، أي أنهم من الشعب المصري. إذا سايرنا التسمية فهي تُطلق على مَن فرضوا أنفسهم حكامًا للشعب، ولأنهم منه فإن من حق الشعب عزلهم، واستبدال غيرهم.
قال الحاج حيدر العلاف: الحاكم الظالم يُعزل بمعرفة الشعب.
في لهجة تحاول امتصاص غضبه.
– ما عانيناه على أيدي أعوان مراد وإبراهيم يجعل من القبول بحكم محمد علي سبيلًا للخلاص من قبضة المماليك.
قال ابن شمعة شيخ الجزارين: أخشى أنك أخطأت عندما زكيت عودة إبراهيم ومراد من الصعيد إلى القاهرة … قادَا عساكرهما إلى فوضى مدمرة.
أمَّنت على قوله: دعوتهما لمناصرة أبناء البلد ضد ظلم الوالي، ففعلَا من المظالم ما لم تعرفه البلاد في تاريخها!
قال حجاج الخضري: لماذا لا يكون الأمر بيد أبناء البلد؟
نظرَت إليه بعين الإشفاق، بدا في حال غير التي عهدتها، كانت قامته الفارعة، الممتلئة، تهتزُّ، وعيناه تُصدران شررًا، وكلماته كأنها القذائف في دفاعه عن الباشا، قبل أن يجلس على كرسيِّ الولاية، وبعد أن صارت الأمور في يديه.
قلت: لو أننا طلبنا مصريًّا لزكَّى نفسَه كلُّ الرجال المصريين!
لاح القلق في وجهه: محمد علي هو الرابح الوحيد من معارك المماليك والإنكشارية.
اتجه ماهر أبو الأنوار الخياط بسوق العقادين ناحيتي بنظرة مشفقة: أنت بهذا الكلام لم تُثبت شيئًا!
وخالط نظرتَه ضيقٌ: تُحسِن الظن برجل يغزل نسيج التآمر للوثوب على الحكم.
ونفض الفراغ براحته: لا أصدق محاولات تقربه إلى الناس، إنها مثل تلاعب القط بالفأر قبل أن يلتهمه.
لست أذكر بواعث تذكري انزعاج بونابرت، حين أطلَّ من المقطم، أظهر انزعاجه من البيوت المغسولة بالتراب، المتناثرة بين المقابر، بدَت القاهرة مدينة للمقابر. حظر دفن الموتى في خلاء البيوت، وفي الأزبكية والرويعي وغيرها من الأحياء، أمر بسنِّ قانون لدفن الموتى في أماكن خاصة. ألزم التجار وأرباب البيوت أن يضعوا القناديل على الأبواب، ويُزيلوا الأوساخ من أمامها.
قيل إن بونابرت قَدِم إلى مصر بمشروع لتشجير المقطم، أعدَّه علماء الحملة، إزالة سحابة التراب من سماء القاهرة، تؤذي الناس في أبدانهم.
صوت
دخلَت قوات العثمانيِّين بلا حصر، لم تقتصر على العاصمة، وإنما امتدَّت إلى مدن الوجه البحري وقُراها حتى الإسكندرية، وإلى مدن الصعيد حتى أسوان.
بلغني أن العثمانيِّين — بعد أن دخلوا القاهرة — أخذوا رهائن، أربعة مشايخ من أعضاء الديوان. لم يتركوا سوى البكري والسرسي والجبرتي، طالبهم مينو أن يكون نظرهم على البلد.
لماذا اعتقل الأتراك المشايخ الآخرين؟
فرضت أحوال عسكر العثمانيِّين نفسها على القعدات، شاركوا التجار وأربابَ الِحرَف أعمالَهم، حتى البيع بالتجزئة في الخضر والسلع الغذائية. مَن يُبدي الاعتراض، فإن بضائعه تُواجه المصادرة بأسباب يختلقونها، أو بلا أسباب.
زاد اقتحام جنود الأتراك للأسواق، يجلسون على المصاطب، وفي داخل الدكاكين والوكالات، يحصلون على كل ما يريدون من بضاعة، دون أن يدفعوا الثمن، مَن تقلُّ قيمةُ بضاعته عن المبالغ التي يتصورونها، ألزموا صاحب المكان أن يدفع القيمة نقدًا.
صوت
أدخل حيدر العلاف في طقوس الطريقة أدعيةَ الاستغاثة من جور المماليك، أبيات شعر منغمة، كتبها شعراء مخفية أسماؤهم، فلا يواجهون أذى الأمراء.
لم تكن هذه أول معاناة الخلق ضد ظلم الحاكمين المماليك، يدعون المصرلية، لكن أوطانهم الحقيقية حيث جلبوا منها ليصبحوا جنودًا وأمراء في بلادنا، المماليك من جنسيات متعددة، ليس من بينها جنس المصريين أولاد العرب. ثمة اليونانيون والجراكسة والأتراك والأرناءوط، وما لا يعرف أصله.
ما أعرفه، ويعرفه أهل البلاد، أن المماليك عبيد أُعتقوا. حتى من بلغ مكانة البكوات: الأغا، والكتخدا، أو ظل متواضعَ المكانة مثل الأوده باشي، هو خادم، تحوَّل — في بلادنا — إلى قائد عسكري، أمير، يُملي على أهل البلاد إرادته، يسهل له أمره ما يتبعه من البكوات والكُشَّاف والأوجاقات والأجناد.
قاد السيد عمر أفندي أهل القاهرة إلى هياج ضد إبراهيم بك ومراد بك، رفعوا لواء المطالبة بالشريعة، واعتبارها مصدر الحكم، وطالبوا برفع الضرائب عن كاهل الفقراء، وإقامة العدل في الرعية.
صوت
تحوَّلت البلاد — بعد خروج الفرنسيِّين — إلى مناطق تتبادل العداء. صارت مصر بلا والٍ، الحروب الصغيرة تنتشر في الشوارع، قوامها الأتراك، والمماليك، والإنجليز، أهالي بر مصر يدفعون ثمنَ جرائم يرتكبها سواهم. اضطرب الأمن، عمَّت الفوضى، غاب الاستقرار. لزم الناسُ البيوتَ خوفًا على حياتهم. استعاد السيد عمر أفندي ما رواه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي عن تمنِّي الناس زوال العثمانيِّين، ورجوع الفرنسيِّين على حالتهم التي كانوا عليها.
في أيام الفرنسيِّين، عرض شيوخ الديوان على ساري عسكر الفرنسيِّين — حتى لا تعود أيام المماليك — أن يطلبوا جنودًا من دولة الخلافة، للمشاركة في مطاردة أمراء المماليك الفارين في الجنوب. لم تهدأ صراعاتُهم، ولا معاركهما، منذ وفاة محمد بك أبو الذهب. حافزُ كلٍّ منهم طلبُ المال والسلطة، لا تشغله تأثيراتُ الأحداث على حياة الناس. العسكر يقطعون الطرق، ينهبون الأسواق، يقتحمون الدور والدكاكين والوكائل، ينهبون محتوياتها، تمتلئ السكك بالجثث، والرءوس المقطوعة، والأعين المفقوءة، والأطراف المبتورة، والبطون المبقورة، مَن نالهم نثار الدم، أو غرقوا — بلا ذنب — في مستنقعاته، لجئوا إلى المتاح في التعبير عن الرفض، أزالوا ما كان معلَّقًا على باب زويلة من قِطَع القماش والمناديل. قالوا: أين آل البيت وأولياء الله؟
توالت الثورات ضد الطاغيتَين إبراهيم ومراد، قوامها العلماء والتجار والحرفيون والعامة، طالبوا بإبطال كلِّ الزيادات، أعاد الأميران نظام المستقطعات الضريبية لصالحهما، لم يكفَّا عن ابتزاز الأهالي، والتجار خاصة، واقتطاع أجزاء كبيرة من أراضيهم وعقاراتهم، وفرض القروض والرسوم والضرائب الفادحة، رفض أهل الأسواق دفعَ أيِّ شيء يزيد على ما هو قائم.
لا أذكر مَن نقل هذه الكلمات عن محمد بك الألفي، هل هي صحوة ضمير، أو أنه أقنع نفسه بانعدام مسئوليته فيما صنعَته ممارسات الأمراء المصرلية ضد أبناء البلد. يقول الألفي: «انظري يا مصر إلى أولادك وهم حولك مشتَّتين، متباعدين، مشرَّدين، واستوطنك الأجلاف، والأراذل، يقبضون خراجك، ويحابون أولادك، ويقاتلون أبطالك، ويقاومون فرسانك، ويهدمون دورك، ويسكنون قصورك، ويعبثون بولدانك وحورك، ويطمسون بهجتك ونورك.»
كتب الجبرتي في تاريخه (أوراق قديمة)
«عندما اشتدت مظالم مراد بك وإبراهيم بك في فرض الإتاوات وجمع الجبايات، فاجتمع علماء الأزهر، أغلقوه، وأبطلوا الدروس، وأمروا الناس فأغلقوا الحوانيت والأسواق، وتجمَّعوا في بيت الشيخ السادات، وحضر إليهم مندوب إبراهيم بك، فطالبوه برفع المظالم، وإبطال المكوس والضرائب، والحكم بمقتضى الشرع والعدل، فأبي وقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كلِّه، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش. فقال له المشايخ: إن هذا ليس بعذر عند الله، ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك، والأمير يكون أميرًا بالعطاء لا بالأخذ. وتجمهر الناس، وركب المشايخ إلى الأزهر، وبات الجميع بالمسجد، وانتشرت الثورة في كل مكان، فخشيَ مراد بك، وإبراهيم بك عاقبةَ الأمر، ولاطفَا المشايخ والتمسَا منهم الصلح، واجتمع الوالي والأمراء بالمشايخ، وأعلن الأمراء أنهم تابوا ورجعوا، والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وتعهدوا برفع المظالم والضرائب والمكوس والكشوفات والتفاريد، وأن يكفُّوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويسيروا في الناس سيرةً حسنة، ولم يقتصر الأمر عند حدِّ الوعد، بل إن القاضي — وكان حاضرًا — كتب وثيقةً بهذه المبادئ الدستورية، وقَّعها مراد بك وإبراهيم بك، وفَرْمَن عليها الباشا.»
من أوراق السيد عمر مكرم (أوراق قديمة)
رافقني المشايخ الشرقاوي والسادات والبكري والأمير، التقينا إبراهيم بك ومراد بك، تكلمت فيما استقرت عليه آراؤنا، دارَت كلمات العلماء حول المعنى نفسه، تباينَت اللهجات والنبرات، لكنها ظلَّت في إطار المطلب بضرورة حصول الناس على حقوقهم.
أُتيح لي المشاركة في وضع ما سُمِّي وثيقة الأمراء، أعلنوا فيها أنهم يتعهدون بالعدل والتوبة عن المظالم، والقيام بالواجبات التي يفرضها عليهم القانون والعرف، من صرف الأموال على مستحقيها، وإرسال غلال الحرمين إليهما، ورفع الضرائب المستحدثة، عدا الضرائب المحصلة في ديوان بولاق، والتكفل بمنع أيدي أتباعهم عن أموال الناس، وأن يسيروا في الحكم سيرةً حسنة.
إذا أهمل الوالي أمور الناس فقد عزل نفسه.
أمراء المماليك يلبسون أرديةَ التقوى والورع، يُفيدون من غلبة الشعور الديني في ترويع الناس، استلاب ما ليس من حقهم من الأموال والمتاع، والحكم بما يخالف الشرع، يُدركون أن استئثار أحدهم بالحكم انطلاقة حرب بين الأمراء تبدأ وتنتهي بدمار الجميع، الوالي، الباشا، واجهة تغطي سيادتهم الفعلية على البلاد، ريما يلجئون — عند اشتداد الصراع — إلى الباشا، يرجون غوثَه للإنقاذ، لو أن الصراع تواصل فسينتهي إلى إضعافهم، وتلاشِي قواهم، وربما اختفائهم من حياة الناس.
يجد الأمراء في المصير الذي انتهى إليه علي بك الكبير، بتآمر دول النصارى، ومكائد أقرب أعوانه، ما يُقنعهم بالإبقاء على والي الخليفة.
الوالي لا يملك من أمر نفسه، ولا من أمر البلاد شيئًا، الولاية الحقيقية لأمراء المماليك، يأمرون، فيُلبِّي، وإن صدرَت القرارات بخاتمِه، حتى استمراره في منصبه يخضع لسلطة الأمراء، إذا شاءوا إسقاطه فإنهم يكتبون أمر العزل، يمضي به الأودة باشي، بقبَّعته ذات الحواف العريضة، يَشِي ركوبه الحمار وفي يده الأمر، بالمهمة التي أوكله له شيخ البلد والأمراء والعلماء. يهرع العامة وراءه، يتزايدون باختراقه الأسواق والميادين والشوارع، حتى يبلغ القلعة، يصعد إلى حيث يجلس الوالي، ينحني بما يفرضه اهتمام المكانة، يعلو صوته: انزل يا باشا، ويطوي السجادة. يتيقن الوالي من نهاية حكمه.
إزالة الباشا التركي أول الطريق لإزالة المماليك أنفسهم.
حين أمسك علي بك الكبير في يدَيه شأن البلاد، فإنه بدأ السير في طريق النهاية، أسلم نفسه لغواية الحكم والاستقلال والتوسع، لم يفطن إلى الأطماع والتدبيرات والمؤامرات، حاصرته منذ البداية، ظهر ما كان مخفيًّا، حتى العوام أخذوا عليه الخروج عن دولة الخلافة، السلطان التركي خليفة المسلمين، مَن يخرج عليه يلقَى مصير الخائن لدينه، ولسلطانه.
خان محمد أبو الذهب أستاذه علي الكبير، لكنه لم يشغل الحكم إلا ستة وعشرين شهرًا ومات. آلت الأمور من بعده إلى مراد وإبراهيم، شهدت البلاد في أيامهما من الصراعات والحروب ما لم تشهده في سِنِي العثمانيِّين.
للمماليك أسلوبهم في الكر والفر، السيطرة على المناطق الآمنة، والفرار من المناطق التي تُعاني تأثيرات المعارك. المواطنة ليست مما يشغلهم، هم من الترك والمغول والتتار والصقالبة والإسبان والجراكسة والألمان، وإن جلب غالبيتهم من القوقاز ونواحي بحر قزوين والقرم وبحر أزوف، الوطن الذي يدافعون عنه ينفيه اقتصارُ حروبهم ضد أنفسهم، يخوضون المعارك حتى يستوليَ كلٌّ على ما في حوزة الآخرين، حتى صعودهم إلى الوالي التركي، وإنزاله من قلعة الجبل، لأنه يُهمل مطالبهم، لا موضع — في الصورة — لمطالب أهل البلد، هم — في انعكاس تصرفاتهم — عبيد محكومون، لا يأتلف أمراء المماليك إلا للقضاء على الثورات التي تريد لأهلها النصفة، سموا أنفسهم المماليك المصرلية، لكنهم لم يحاولوا الاندماج في المصريين، تفقهوا في الشريعة واللغة، وظلوا خارج حياة الناس، امتلكوا السلطة، وفرضوا الوصاية والقهر على أبناء البلد.
عانى أهل البلاد من أفعال الأمراء ما يصعب تحمُّله: المشاركة — بالغصب — في أنشطة التجار، وفرض السطوة والحماية وارتكاب ما غضب الدين والتعذيب والقتل والإعدام والنهب والابتزاز والمصادرة والطرد من الأرض والسكن وفرض الضرائب والمعاملات الظالمة.
لا أذكر أني احتفظت لأمراء المماليك بمودة حقيقية، يفصل بيني وبينهم حاجزُ الغربة عن البلاد، وعن أهلها، لا يعنيهم إلا الوثوب على المصالح، وحلب لبن البقرة حتى آخر قطرة، يُحزنني رفض الكثير من الناس محاربةَ العسكر العثماني لهما، يرونهما من أولاد العرب، الشعور نفسه يُميتني لمَّا يسير المملوك في شوارع القاهرة، على راكبي الحمير والبغال أن ينزلوا عن دوابهم، ويُخلوا له الطريق، لا يأمنوا — إن تباطؤا — أذى القواسة أمامه وحوله، أو أذاه هو شخصيًّا.
الأمير المملوكي فرج زين الدين، قصرُه بالقرب من بيتي في مصر القديمة، يُطلُّ على النيل، أمام جزيرة الروضة والمقياس المؤدي إلى أثر النبي، يمتطي جوادًا عربيًّا، سَرْجه من القطيفة المزركشة بالفضة والذهب والأحجار الكريمة، يرتدي ثوبًا من النسيج الهندي، فوقه قفطان حريري ذو أكمام متدلية حتى أطراف الأصابع، وجُبَّة من الفرو الثمين. يتمنطق بثلاثة أزواج من الطبنجات، يضع على رأسه ريشة من قطع الماس الكبيرة.
قيل لي إن مَن يمثُل بين يديه من أهل البلد يقبِّل الأرض، حتى يأذن الله له بالوقوف، يكتفي بالإنصات فلا يتكلم إلا إجابة عن سؤال.
قيل إن الأمير يُولي الوظائف لقاءَ رِشًا يحصل عليها من ذوي الحاجات، يستولي على محاصيل المزارعين وأموالهم بدعوى حمايتهم من جند الوالي، يشارك التجار والباعة فيما يتقاضَونه من أسعار البضائع. أباح للعديد من التجار أن يعملوا باسمه، يتقون بذلك شرَّ عقاب المحتسب والشرطة.
مَن يأذن له الخدم بالوقوف في مجلسه ينحني في وضع الركوع، يعرض ظلامته، أو شكواه، أو يتذلَّل بالاستجداء. يتراجع بظهره — بعد أن يقضيَ الأمير حاجته — إلى نهاية القاعة، ثم يستدير إلى الخدم والحراس والردهات المفضية إلى خارج القصر.
عدا طلاب الحاجات، شرط على زوَّاره أن ينحنوا إذا دخلوا مجلسه، يقبِّلوا الأرض بين يدَيه، يكتفوا بالإنصات فلا يتكلمون إلا إجابة عن سؤال.
مصر تخضع لدولة الخلافة، لكنها تخضع — فعليًّا — لسيطرة المماليك، يفرضون على أهلها ما لا يقوى على احتماله البشر. حلقات لا تنتهي من سلسلة الدسائس والمؤامرات وعمليات القتل. قوام حياتهم الثراء والترف والنساء والفروسية والتحدي والتآمر والخديعة والغدر والبنادق والطبنجات والسيوف والرماح والبُلَط والبراز والصراع على السيادة، على حساب القتل والتدمير وسلب أقوات الناس.
كنت رسول مراد وإبراهيم إلى القائد العثماني حسن باشا الجزايرلي حتى يُعيدهما إلى الحكم، أردت أن أُجنِّب البلادَ ويلاتِ حرب دامية، صارت مصر دارهم، فحاولتُ المداراة، حتى أُجنِّب أهل البلد أذاهم، واعتداء مماليكهم على حياة الناس وحريتهم، تصورت أنهما سيبدِّلان ما اعتاداه من أساليب، ظلت صلتي بهما على توثقها، قدَّرت تزكيتهما إسناد نقابة الأشراف لي، منصب أعتز به، استمرت أساليبهما البشعة، فأعدت النظر في الأمر جميعًا.
تعددت ثورات المصريين في الحسينية وبلبيس ورشيد وغيرها من الحارات والمدن ضد ظلم الأميرَين، وما ألحقاه بالبلاد من دمار، حتى الأجانب عانوا مصادرات المماليك، ومضايقاتهم.
انتهى زمن الأميرين فعليًّا بقدوم الحملة الفرنسية، فرَّ أحدهما من ناحية إمبابة، وفرَّ الثاني إلى بلاد الشام.
لو أن العثمانيِّين تركوا للمصريِّين إدارةَ أمورهم، بدلًا من أن يعهدوا بها إلى أمراء المماليك، ربما اختفت المظالم تمامًا.
صوت
حسب للسيد عمر صفوة أهل القاهرة من العلماء والمشايخ والوجهاء وكبار التجار، وثيقة بيت إبراهيم بك، أعلن فيها الأميران مراد بك وإبراهيم بك تعهُّدَهما بالعدل، ورفعِ الضرائب الظالمة، المستحدثة، والتوبة عن المظالم، ومراعاة القانون والعرف، وكفِّ أتباعهم وجنودهم عن إلحاق الأذى بالناس.
إذا كان الأميران قد تناسيا تعهداتهما، فإن السيد عمر فعل ما أملاه عليه ضميره.
اعتادَت مصر صراعاتِ الحكام والزعامات، والتدبيرات التي تُزيح مَن يخذله أعوانُه، ليحلُّوا بدلًا منه. أذكر ومضاتٍ من عهد علي بك الكبير، ما بلغته البلاد من مكانة وازدهار، تحقق لها الأمن والاستقرار، طاب العيش لأبنائها، غابت توقعات الخطر. بدا المشهد على حاله في عهد محمد بك أبو الذهب، لكن الشحوب غمره عقب وفاة الرجل.
اقتحمت صراعاتُ المماليك حياةَ الناس، أعقبَت وفاةَ محمد بك أبو الذهب، عاد إلى القاهرة جثمانًا من بلاد الشام، معاناة المصريين الحقيقية عقب إزاحة محمد بك أبو الذهب سيدَه علي بك الكبير، ووفاة أبو الذهب بعد سنتين وبضعة أشهر. آلاف من جند المماليك خلفوه في ولاية أقام نفسه عليه بعد أن قتل بالسم سيده وقائده. تعدد الورثة، وكثر الصدام بين المتطلعين لكرسي الحكم.
يقودهم — كلٌّ بطريقته — إسماعيل بك وإبراهيم بك ومراد بك، عبيد للوالي محمد أبو الذهب، أفلح الأخيران في إزاحة الأول، امتلكَا السلطة: إبراهيم شيخًا للبلد، ومراد أميرًا للحج وقائدًا للجند. تبدَّل المشهد تمامًا، عانت البلاد ما يصعب نسيانه، جعلَا من طلب الانفراد بالحكم خصومةً دائمة، ومعاركَ لا تنتهي، ارتكبَا من الجرائم ما لا يخطر على البال. ظلت البلاد مزرعةً يحرثانها، ويبذران فيها المؤامرات والظلم والتدمير والسلب والنهب. نشبت المعارك داخل القصور، وفي الأسواق، لا صلة لأبناء البلد بصراعات المماليك، ولا معاركهم، تغلق المشربيات والنوافذ وأبواب الدكاكين والخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، تتناثر البضائع في الطرقات، تعلو أصوات حوافر الخيل على التأوُّهات والصرخات، تتطاير الرءوس والأذرع، تدوس حوافر الخيل على الأشلاء، تتواصل احتجاجات المصريين، ومقاومتهم، وثوراتهم. آلت أحوال البلاد إلى الخراب.
ملَّ العلماء وعودهما أن يعودا إلى الإصلاح والاعتدال، أَلِفوا استقبالهما — حين اشتداد الغضب، وتهديد الآستانة بالعقاب — يُظهران الخضوع، ويتذللان، حتى تهدأ الأمور، فيعود كلُّ شيء إلى ما كان عليه.
وقوف كلٍّ من الأميرَين للآخر — قبل سنوات قليلة — على ضفَّتَي النيل أفضى إلى تعذُّر الملاحة، وانقطاع الصلة بين القاهرة والوجه البحري، وبين الصعيد. ندر وصول الحبوب للأسواق، فحلَّ القحط، وتفشَّت المجاعات، لم يرجع الأميران إلا بعد أن بدَت ثورةُ الناس وشيكة، أحدث الغضب غليانًا في القِدْر المغلي، هدَّد بانفجار الأوضاع.
لم تهدأ الأمور إلا بوصول الفرنسيِّين.
ظل إبراهيم بك ومراد بك هما الحاكمان الفعليان للبلاد، حتى قدوم بونابرت، أخفقت في مخاطبتهما لدفع عساكر المماليك في ردِّ عدوان الفرنسيِّين، يسَّرت صراعاتهما دخوله البلد، قادَا المماليك كقوًى متخاصمة، منفصلة، في مواجهة قوة واحدة يقودها ساري عسكر، ثم فرَّا من وجه جنوده.
مضى مراد إلى ناحية إمبابة، وفر إبراهيم إلى الشام. تركَا المصريِّين في مواجهة الغزو الأجنبي.
صوت
عُرف عن السيد عمر مكرم أنه لا يختار أصدقاءه، ولا جلساءه، وإن بدَا بيتُه حرمًا لا يأذن لغير أقاربه بزيارته.
ثمة الفقهاء والصوفية، ومَن يجمعون بين الفقه والتصوف، بالإضافة إلى مَن يقتصرون على فرائض الدين. له صداقات طيبة مع أهل مصر القديمة من المسلمين والأقباط، لا يُشير — في مجالسه — إلى مَن يختلفون معه، ويسيئون إليه، لا يذكر حتى الأسماء؛ فالعداوة ليست دائمة، طلب عودة الصداقة يلزم انفراجة الباب، لا يوصد على ما كان باعتباره منتهيًا، إنما هو تواصل معه. له قبول لدى الخاص والعام، غالبية الناس من أولي النجدة والزعارة والشطارة، يحلُّ المنازعات بين تجار الحي وسكانه، يُلقي أوامره دون أن يبدوَ أنه يأمر، قليل الكلام، يفضل الإشارة على العبارة، التلميح على التصريح، فإذا تكلم قال ما يجتذب انتباهَ المريدين.
أراه في زيِّ علماء الأزهر: يرتدي العمامة البيضاء، والقفطان فوق القميص والسروال والصديري الجوخ، يَصِل إلى القدمين، ربما ارتدى فوقه الجبة، تبطَّن — في أيام البرد — بالفرو. الرهبة والهيبة تفيضان حوله. لكنه يحرص على الحياة مع الناس، يخالطهم، يناقش أحوالهم، يُبدي النصح فيما يعانون، حتى مشكلاتهم الشخصية يُنصت إليها، ويُشير بما يراه صوابًا، يُحيِّي كلَّ مَن يلتقيه، حتى لو لم يكن يعرفه. يطمئن إلى جلسته جانب دكان المعلم داغر بائع الحبوب، ساعة أو أقل، يتناقشان، يتعرف من داغر إلى أحوال السوق. يجالس أصحاب الدكاكين، يسأل عن أحوالهم المعيشية. يميل إلى التقشف في المأكل والملبس والمركب والمسكن، وغير ذلك مما يجد فيه المرء نعيم الحياة، يغيظه إدخال تجار في السوق كلمات بالفرنسية ضمن فصال البيع، يريدون التقرب إلى الزبائن من عسكر الفرنسيِّين.
يعيب ممالأةَ العثمانيِّين، ومن بعدهم الفرنسيِّين، رطانة اللغة، على تجار في الأحياء المتصلة بالجامع الأزهر: الجمالية والحسينية وباب الشعرية والموسكي والسكة الجديدة والغورية وحارة الروم ودرب سعادة إلى باب الخلق، ربما — غربًا — إلى النيل، يختطفون كلمات، يمزجونها بلغتهم، فيغيب المعنى. عُنيَ بتزويد النَّسَّاخ مغاوري تليمة بالورق والمداد والأقلام، يجد في ذلك توسعةً للمعرفة، وإذاعة للغة العربية.
حين داخلت كلماتِ المنشد أبياتٌ في مديح السيد عمر، أشار السيد إلى المنشد بالصمت، الإنشاد لله ورسوله، نحن عبيد الله، ومحبو الرسول.
أجاد تلقِّي علوم الشريعة والحقيقة. تلقَّن الذكر في شبابه الباكر، وإن رفض دومًا أن يلبس خرقة الصوفية، لا شأن للصوفية بترويج البدع، والانحراف عن صحيح الدين. حدَّد مهمةَ العلماء بأنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الخطأ تجاوزها إلى مشكلات تُبعد المرء عن صحيح الدين. يتأثر لمشكلات الناس، ويحاول فضَّها، وإن شغله ما وهبَه له الله من العلم، يحرص أن ينقله إلى الناس، يُفيدهم مما يشتمل عليه من مبادئ العبادة الزهد والتقوى والورع والتصوف. يرى في صلاح العلماء صلاحًا لأمر الأمة. عُرف عنه أنه لا يزيغ عن الشريعة في أحكامه، ولا يأخذ مالًا من أحد بغير حق.
قال المعلم داغر في تصعب: أيام أقسى من أيام الفرنسيِّين!
هزَّ السيد عمر مكرم رأسه بالنفي: لا تَساوي بين الغزاة وأبناء ملة الإسلام!
– لولا أن رسول الله رضيَ عنه ما هزم فرسان المماليك، هذا ما قاله خطيب جامع الأقمر.
واصطنع ابتسامة: علمت أن الشيخ الشرقاوي طالبه بأن يُعلن ما أخفاه من إسلامه.
وملأت الابتسامةُ وجهَه: لو أن ذلك حدث لاستعادَت أمةُ الإسلام قوَّتَها.
قال السيد عمر: ادعاء الإسلام لأن الرجل أراد أن يخفِّف من وطأة المقاومة!
صار المعلم داغر شيخًا للتجار، له علاقات بالتجار الشوام والمغاربة في ابن طولون، وفي سوق الفحامين، امتدَّت علاقته بالتجار المغاربة في الإسكندرية، أكثر نشاطهم في تجارة البحر.
بنَى لنفسه ثلاثة بيوت، أحدها في الصنادقية، والثاني في بولاق، أما البيت الثالث فهو قصرٌ بالقرب من بيتي في مصر القديمة، يُطِل على النيل، أمام جزيرة الروضة والمقياس المُفضي إلى أثر النبي.
في آخر أيام الفرنسيِّين عُنيَ بإنشاء قصر على النسق الإفرنجي، في خطة باب اللوق. اختار موضعَ القصر لطيب هوائه، وإطلاله على الزروع والأشجار التي يحدُّها النهر. تأنَّق في طلائه، وتزيينه، وزخرفته، وترخيمه.
في الساحة الصغيرة المؤدية إلى داخل القصر، نافورة كبيرة، تنبثق منها المياه. أُلحق بالقصر مساكنُ للخدم والعبيد، وغُرَف للضيوف.
قال السيد عمر: لا أُبرِّئ المماليك من تسهيل دخول الفرنسيِّين مصر.
ورفَ على شفتَيه طيفُ ابتسامة: دحر الفرنسيون، واقتربت — بإذن الله — نهاية المماليك.
قال المعلم داغر في نبرة ساخرة: مصر لمن غلب.
اشتعل وجه عمر مكرم: لو أنها لمن غلب ما قامت هذه الثورات ضد الفرنسيِّين.
جمد خاطر المعلم، وانعقد لسانه، فلم يجد ما يقوله.
جعل السيد عمر لصلاة الجمعة مسجدًا يختلف عن المسجد الذي أدَّى فيه صلاة الجمعة الماضية: الأزهر، السيدة زينب، المشهد الحسيني، السيدة نفيسة، عمرو بن العاص، أحمد بن طولون، سارية، الإمام الشافعي، المحمودية، الماس.
ربما غادر القاهرة أول الصباح، يلحق صلاة الظهر في المسجد الأحمدي بطنطا، الجامع الكبير بالمحلة، إبراهيم الدسوقي بدسوق، الجامع البدري بدمياط. يستقلُّ عربةً يجرُّها جوادان، يقف في صفوف المصلين، يترك الوعظ والإمامة لشيخ الجامع، هو الأعرف بأحوال المترددين على المسجد، ومدى تعبير خطب الجمعة عن المشكلات التي تشغلهم، واستيعابهم لما يتناوله من حقائق الدين والدنيا.
يسير في شارع الغوري، من أول شارع التبليطة إلى شارع العقادين، يعبر دكاكين العطارة والعلافة والمانيفاتورة والفراشة والمنسوجات والمصنوعات الخشبية والمعدنية والعاجية، والأكلمة والسجاجيد، والأواني الخزفية والزجاجية، والأدوات المنزلية، وصُنَّاع المناخل والغرابيل، يزاحم العمائم السوداء كثيرة الطيات والملاءات اللف والباعة والسقائين والمجاذيب والدراويش والجياد، حاول تفادي عربات اليد والدواب، والعربات التي تجرُّها الحمير، والجِمال المحمَّلة بقش الأرز وحطب القطن والبوص والأخشاب والتبن والأتربة.
ساوره قلقٌ لرؤية وكالة حجاج الخضري مغلقة، كانت المصطبة أمام الدكان خالية، والأبواب — من حولها — موصدة.
خرج الفرنسيون، فهل اصطدم بالمماليك؟
حدَّدَا أماكن اللقاء: المدخل البحري لجامع أحمد بن طولون، الركن الأيمن في صحن جامع الصالح طلائع، ربما التقيا في جامع الحاكم، خارج باب الفتوح، أو ارتقيا الدرجات الأربع إلى داخل دار الحديث الكاملية، يأخذهما الكلام في قبو قرمز، يسعيان إليه منفردَين من جامع الأمير متقال الذي يعلوه، يُجيل السيد عمر عينَيه — بعفوية — في أرجاء المكان، يرنو في وقفته داخل صحن الأزهر كالمتأمل إلى مئذنتَي الغوري وقايتباي والبواكي المحيطة بالصحن الواسع، المكشوف، والقفاطين والجلابيب والعباءات والعمائم واللبد والبُلَغ والأقدام الحافية.
ينتبه إلى صوت حجاج الخضري.
يُنصت في استغراق إلى روايات الخضري عن تطورات الأحداث، يُشير بما ينبغي فعله، يغادر حجاج الخضري المكان، يتجه السيد عمر إلى القبلة لأداء الصلاة.
صوت
تولَّى الولايةَ خسرو باشا، أول الولاة العثمانيِّين عقب خروج الفرنسيِّين، أَمْيل إلى القِصَر، بَدِين، خطواتُه تُبِين عن عرج واضح.
بدَت فترةُ حكمه بشيرًا بتحولات مهمة في حياة المصريين، نفض الظلم، قطع دابر الظالمين، أنزل العقوبات الصارمة بالباعة والتجار الذين خالفوا وأساءوا الفعل، عاقب بالسجن والضرب والقتل مَن زيَّنت له نفسُه السرقة والابتزاز، وتقاضي الرشوة والفساد والإفساد، أغدق الصدقات على الفقراء وأهل العلم وطلبة الأزهر، أبطل البدع والمنكرات، استتاب الخواطي، وزوجهن.
أَمِن الناس في عهده، ساروا — رجالًا ونساء — في الطرقات، لا يخشَون شيئًا، انتعشَت أحوال البيع والشراء، ظهر ما كان مختفيًا من أصناف الأطعمة، شاع عدلُه وإنصافه، حتى ردَّد الصبية في الأسواق:
كنت في قلب المدينة، لمَّا توزَّع المنادون في الشوارع والأخطاط والميادين والعطوف والحارات، يُعلنون أمان محمد باشا خسرو بطَمْأنة الناس، وتوخِّي العدل، وإيقاع العقوبات المشددة على كلِّ مَن تُسوِّل له نفسُه تعكيرَ صفو الأهالي.
قال ابن شمعة: هل عرفت ما جرى؟ … عزل الوالي محمد خسرو باشا الشيخ خليل البكري من نقابة الأشراف، وأعاد السيد عمر مكرم الأسيوطي إلى منصب النقيب، ثم عزل البكري من مشيخة البكرية نفسها، وألبس الخلعة شيخًا مجهولًا من البكرية، هو السيد محمد أبو السعود، حذَّره خواصُّه وحواشيه من فقر الرجل. قال: الفقر ليس عيبًا، وأنا أُواسيه وأعطيه.
استحق نقابة الأشراف، لمَّا أُسندت إليه، لا شأن لوساطته القديمة بما حدث. هو من النسل الشريف، لكن الشيخَين البكري ووفا أفادَا من عراقة عائلتَيهما منذ زمن بعيد، توارث بيتَا البكري ووفا رئاسةَ أسر آل البيت، وتعاقبَا عليها، وتنافسَا فيها. مات السيد محمد البكري، نقيب الأشراف وشيخ السجادة البكرية. لأنه كان يمشي في الشباب، أو لأن ذلك ما أراده قائد ساري عسكر الفرنسيس؛ فقد ورثه — في مشيخة البكرية — خاله السيد خليل البكري، وأُسندت إلى السيد عمر مكرم نقابة الأشراف.
زار الشيخ البكري في بيت عثمان كاشف كتخدا الحج، استبدله بالبيت الذي دمره المتظاهرون في أحداث الثورة. أَلِف زيارة الشيخ البكري في بيت الجودرية، القريب من جامع الحاكم بأمر الله، ثم أوقف زياراته بعد أن قطم الناس رقبةَ زينب بنت البكري. عرفوا اتصالها بالفرنسيِّين، فأقدموا على قتلها، عاب عليه الناس حكاية الغلام الجميل من ألفها إلى يائها، أراد الشيخ أن يحتفظ بالغلام لنفسه من أغا الإنكشارية، قضى الضابط الفرنسي — موالسة للبكري — بأن يحتفظ الشيخ بالغلام، لقاء تنازلِه للأغا عن بناية بديعة.
أظهر السيد عمر استياءَه حين اعتدى العوام على الشيخ خليل البكري، سبُّوه، ضربوه بالنعال، اتهموه بنعوت الخونة.
عرف الناس عن السيد عمر أنه لا يميل إلى شيء من شهوات الدنيا، يستغني عمَّا في أيدي الآخرين، يمنع نفسه من اللغو، أو الخوض في سيرة الناس، يكره الوقيعة، يرفض غيبةَ أحد في مجلسه، أو مَن يذكر الناس بسوء، ينبِّه المتكلم إلى خطئه، وينهره. لم يشتغل — كعادة العلماء خرِّيجي الأزهر — بالتدريس في الجامع، ولا الجلوس إلى أحد أعمدته. حسبه الناس صاحب حرفة، أو جابي وقف، كما زعم أحد المشايخ المتصلين بالوالي.
صوت
نزل محمد علي ساحل الإسكندرية ضمن قوات العثمانيِّين، على ظهر سفينة ألبانية. عيَّن — عند وصوله — نائبًا لقائد الكتيبة الألبانية. كان الفرنسيون يُعِدون للرحيل عن مصر، فلم تدخل كتيبتُه معاركَ من أيِّ نوع.
وصل وقتَ تعيين محمد خسرو واليًا جديدًا. الهيبة هي التصور الذي خايل ذهنَ محمد علي قبل أن يلتقيَ الوالي خسرو، الخفة التي بدَا عليها ألغَت ما في ذهنه، لم يرَه واليًا يمثل خليفة المسلمين. لو أنه في الموضع نفسه، فلا بد أن يتقنع بالهيبة التي تُخضع الرعية.
صوت
أحاديث الناس في الأسواق: جيش قوامه الآلاف، أرسله خسرو باشا لقتال الأمراء في الصعيد.
الانتصار يُغري بالانتصار.
ذلك هو معنى الهجمات المتتالية لجيش المماليك ضد عسكر العثمانيِّين، ومواصلة الزحف إلى أسيوط، وما بعدها من مدن الصعيد. عرف الناس أن الأمراء لم يطمئنوا إلى إعلان الأمان، خاضوا معركةً دامية في أرمنت، انتهت بانتصار الأمراء، وانسحاب العثمانيِّين — منهزمين — إلى القاهرة. ذاعَت الأنباء بالترحيب الذي لَقِيَه جيش المماليك في تقدُّمه، أساء جند العثمانيِّين — بظلم الناس — إلى خسرو باشا، فتمنَّى الناس زواله.
صوت
عساكر خسرو باشا هم الذين جرُّوا عليه سخطَ الناس، ثاروا لعجزه عن رفع رواتبهم، وثار الناس للضرائب الباهظة التي فرضها عليهم.
سار العساكر إلى الصعيد لمطاردة المماليك، مطالباتهم بالرواتب المتأخرة أفضَت إلى تنحيته، مالوا بغضبهم — كالعادة — إلى الناس، توقَّفوا في المنيا، حاصروها، أحدثوا فيها من المظالم ما يصعب تصوره، اقتحموا الدور والأخصاص، سلبوا ما بها من أموال ومتاع، سبَوا النساء، افتضُّوا الأبكار، لاطُوا بالغلمان، خطفوا الماشية، نهبوا الزراعات، صادروا الجمال والحمير، خربوا المدن والقرى، دعواهم المطالبة برواتبهم المتأخرة. المثل يتحدث عن الذي عجز عن ضرب الحمار، فضرب البردعة. لم يستطع خسرو باشا — بعد فترة قصيرة — أن يستمرَّ على ما كان عليه، ضغطُ العساكر والمماليك منع الاستقرار.
حنَّ الناس إلى أيام الفرنسيِّين.
صوت
ظلَّت الأحداث في تصاعدها الغريب.
قاد طاهر باشا عساكر الأرناءوط والترك والدلاة بطراطيرهم الجلدية الطويلة، تحوَّلت القاهرة إلى ساحات قتال، انتهَت المعارك بغلبة جند طاهر باشا على عساكر خسرو باشا. فرَّ خسرو إلى دمياط، وأعلن طاهر باشا قائد الألبان نفسَه سيدًا للمدينة. حلَّ واليا مؤقتًا، حتى يصدر فرمان الباب العالي بالوالي الجديد.
استغرقَت ولاية خسرو باشا خمسة عشر شهرًا، بدا فيها قاسيًا، ظالمًا، متعطشًا للدماء. ظل سادرًا في غيِّه، حتى انقلب عليه عساكره، نزل — مرغمًا — من القلعة، استضافه في قليوب شيخ العرب الشواربي، رحل منها إلى دمياط، ثم إلى خارج البلاد.
كتب الجبرتي في تاريخه
«قاد طاهر باشا عساكره للاستيلاء على القلعة، يعرف أن السيطرة عليها تعني الاستيلاء على القاهرة والمدن المصرية … وصلت بعض الرسائل البارحة، وهذا الصباح، من القاهرة، تؤكد أنه من اليوم العاشر وحتى اليوم الثاني عشر من الشهر الجاري، هاجم الألبان منزل الباشا، وأن القذائف والقنابل لم تكفَّ عن التراشق، وتمَّ استخدام البنادق والسيوف أيضًا، وكان النصر حليفَ الألبان، في حين احترق بيتُ الباشا الذي أقام فيه الفرنسيون مقرَّ قيادتهم العامة، هذا وتأذَّت كلُّ المباني الجديدة، وأُرغم الباشا على الفرار لدمياط، وتمَّ التخلِّي عن بيته، إلا من بعض الجنود الفرنسيِّين الذين تُركوا بعد رحيل الجيش الفرنسي، وبعض الضباط الأتراك، تطوَّرت الأمور بما لم يكن في الحسبان.»
صوت
قرن طاهر باشا انتظارَه بتصفية أعوان خسرو، أمر بالقبض على السيد أحمد المحروقي شهبندر التجار، اتهمه بأنه يساعد خسرو على التخلص منه بتصور اغتصابه السلطة.
لم يهنأ طاهر باشا بالولاية، تمرَّد عليه جند الإنكشارية، يقودهم أغا، الذي يختار أفرادها. أخذوا عليه أنه أنفق الأموال الطائلة على الأرناءوط، ولم يُعطِ الإنكشارية شيئًا، قاموا عليه، وقتلوه بضربة سيف، وأُلقي رأسه من النافذة، أمضى في القلعة ستةً وعشرين يومًا، لا أحدَ يعرف مَن دبَّر قتله، ولا الفاعل، ولا إن كان للمصادفة دورٌ فيما حدث.
اختار الإنكشارية أحمد باشا بدلًا من الوالي المقتول، صار الرجل — العابر لمصر في طريقه إلى المدينة المنورة — واليًا لمصر.
بعث أحمد باشا — فور تولِّيه الحكم — رسالةً إلى محمد علي الذي صار قائدًا للأرناءوط، يعرض صداقته، ويستميله.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفي وقت الشروق من ذلك اليوم وصل طائفةٌ من الأمراء إلى ناحية المذبح، وكسروا بوابة الحسينية، ودخلوا من باب الفتوح في كبكبة عظيمة، وخلفهم نقاقير كثيرة وجمال وأحمال، فشقوا من بين القصرين حتى وصلوا إلى الأشرفية، وشخصَ لهم الناس وضجُّوا بالسلام عليهم، وبقولهم نهار مبارك وسعيد، والحمد لله على السلامة، وشخص الناس وبهتوا، وخمَّنوا التخامين. فلما وصلوا عطفة الخراطين افترقوا فرقتين، فدخل عثمان بك وحسن وشاهين بك المرادي وأحمد كاشف سليم وعباس بك وغيرهم كشاف وأجناد ومماليك وعبيد كثيرة نحو الألف، وخلف كل طائفة نقاقير وهجن، وبأيديهم البنادق والسيوف والأسلحة، ومرُّوا بالجامع الأزهر، وذهبوا إلى بيت السيد عمر والشيخ الشرقاوي فامتنع السيد عمر عن مقابلتهم، فدخلوا إلى بيت الشيخ الشرقاوي، وحضر عندهم السيد عمر، فطلبوا منهم النجدة، وقيام الرعية، فقالوا لهم: هذا لا يصح، ولم يكن بيننا وبينكم موعد، ولا استعداد، والأولى ذهابكم، وإلا أحاطت بنا وبكم العساكر، وقتلونا معكم، فعند ذلك ركبوا، وخرجوا من باب البرقية.
صوت
رأى محمد علي فوضى الأحوال، فأطمعَته نفسُه في الولاية، انتهز تطوراتِ الأحداث، صَعِد إلى القلعة، أقام فيها مع جنده، استبدل بدعوة أحمد باشا اتفاقًا مع عثمان البرديسي وإبراهيم، دخل المماليك القاهرة، وطردوا الإنكشارية. اعترف أحمد باشا بهزيمته، غادر البلاد ماشيًا، بعد أن أمضى في حكم البلاد يومين، فرَّ إلى مقر حكمه في بلاد العرب.
كما أرى، فإن السيادة للماليك ظاهرًا، لكن الخيوط كلها في يد محمد علي، يُحرِّكها كما يتحرك قراقوز الأتراك. أعلن المشايخ والعلماء والأعيان ثقتَهم في محمد علي، قبض البرديسي على خسرو، وأودعه القلعة. فُتحت المخازن — بأمر من محمد علي والبرديسي — ووزِّعت الصدقات على الفقراء. أخرج محمد علي خسرو باشا من سجنه، وضعه قائمًا بالولاية حتى يصدر فرمان الباب العالي. لما احتجَّ الألبان على تعيين الحاكم الجديد، تظاهر محمد علي — الذي كان قد أعدَّ للأمر جيدًا — بالامتثال للعسكر، دفع بخسرو إلى رشيد، أقلَّته سفينة إلى إسطنبول.
ظل الوالي — الذي صدر قرار الآستانة بتعيينه في الإسكندرية — يخشى القدوم إلى القاهرة، طالت المراسلات بينه وبين المماليك، فقَدِم — على رأس جنوده — إلى القاهرة، لكنه قُتل في الطريق.
محمد علي وراء كلِّ الانقلابات: خسرو، ثم طاهر، ثم أحمد، ثم على. تحالف مع خسرو باشا ضد العثمانيِّين، خانه بمساعدة طاهر باشا، منح صداقته الكاملة للمملوك البرديسي، حمله على القتال واغتيال الجزائري، استخدم البرديسي ضد الألفي الذي أُجبر على العيش في بلاد الإنجليز.
صوت
فرض البرديسي ضرائبَ جديدة، ثار الجند الألبان والأرناءوط والأتراك والسجمان طلبًا لرواتبهم، طلَى الرجال والنساء أيديَهم باللون الأزرق دلالة الحداد، أُغلقت المساجد والزوايا والدكاكين والمقاهي، اتجهت الجموع إلى الأزهر يُردِّدون الهتاف: إيش تاخد من تفليسي … يا برديسي؟!
تظاهر محمد علي بالحيدة، والبعد عما يجري من صراعات وقتال، ذلك ما خاطب به البرديسي والألفي وإبراهيم وغيرهم. أحال شكايات الناس إليهم، جعلهم في الصدارة، وظلت الخيوط في يده.
لمَّا خشيَ محمد علي أن يَحيكَ المماليك مؤامراتِهم حوله، كما فعل هو بهم، نفض يدَيه من تشابك الخيوط، وطالع الجميع بملامحه الحقيقية، أرسل جندًا إلى بيت البرديسي، وآخرين إلى بيت إبراهيم بك.
خرج المماليك — مع زعمائهم — من مقاتلة محمد علي.
جعل من فرمان توليته على جدة طريقًا إلى حكم البلاد. طلب العسكر رواتبهم، صارحهم بأنه ليس بيده شيء، أشار عليهم بالبرديسي، هو مَن يملك الفعل، أباح البرديسي للعسكر ما لا يملكه في قُرَى القليوبية، حصل من الخراب والدمار ما لا يُوصَف.
وجد أهل القليوبية في ابتعاد محمد علي بجنوده من المعارك ما يُزكِّي ترشيحه للولاية، هذا ما طلبوه، وما دعا إليه بقية أهل البلاد.
دفع البرديسي ثمنَ ثقته بمحمد علي، بدلًا من أن يتَّحد مع أمراء المماليك. دانَت الأوضاع لمحمد علي بمفرده.
لم يَعُد إلا انتظار فرمان الباب العالي بتعيين محمد علي واليًا على مصر.
فرمان من الباب العالي
«تُسلَّم الحكومة في مصر إلى أحمد خورشيد باشا، وقد اهتدينا في اختيارنا هذا إلى ما نعرفه عنه من أهلية للتصرف، ومن استقامة وذكاء، وحكمة إدارته.»
صوت
سارع خورشيد — عقب صدور الفرمان بتعيينه واليًا على مصر — بالسفر من الإسكندرية إلى القاهرة. محمد علي هو الذي كان يُدير الأمور، يُدبرها لصالح ارتقائه ولاية مصر، هو الذي أوصى الباب العالي بتعيين خورشيد باشا حاكم الإسكندرية حاكمًا لمصر. لزم القلعة من قبل أن يتسلَّم مفتاحها.
صوت
لم تكن مصر— حين وصول محمد علي — في باله، ولا حتى القوَى التي تتصارع على سيادتها، وما إن كان سيجد لنفسه موضعًا في الصخب المتلاغط. لم يكن يتصور أنه سيصبح حاكمًا لمصر، قَدِم إلى البلد وهو جاهل بأحوال الناس، لا يَعِي سوى طموحه الشخصي، نقل عنه الشيخ سعدني الشريف، نقلًا عن صديقه بورنج: لا تعجب إذا رأيتني — في بعض الأوقات — عجولًا، قليل الصبر. كان الحظ حليفي في معظم حياتي. لا بد أني وُلدت، والطالع سعدي، والنجم يبتسم. وقال محمد علي لجورنج: حسن الطالع أشبه بالريح العاصفة، تتجه الباخرة نحو الشاطئ بسرعة، فإذا لم يُحسن الربَّان قيادتها، فإنها قد تصطدم بالصخور.
بدَت الظروف مهيأةً لطموح ضبابي الملامح، ربما شغله في بلدته، لو أنه استخلص الجوهرة من الأيدي التي أُدميَت في معارك الاستئثار بها: الإنجليز، الفرنسيِّين، الأتراك، المماليك، الآلاف القليلة من الإيطاليِّين والقبارصة والأروام.
أخفى نيَّتَه وتدبيراتِه عن الجميع، ماذا يريد أن يفعل؟
دفع جنده لمطالبة الوالي خورشيد برواتبهم المتأخرة. أراد أن يضع خورشيد في قلب المنغصات، يُثير عليه جماعات أخرى، غير جند محمد علي.
في يوم التاسع من أبريل ١٨٠٥م تقدَّم محمد علي جنودَه إلى قلب القاهرة، نزل في بيته بالأزبكية، وجَّه إنذارًا — في اليوم نفسه — إلى خورشيد بدفع رواتب الجند الألبان التابعين لقيادته.
قام العساكر على الباشا، عارضوه فيما يُصدره من أوامر، ورفضوا طاعته، كَثُر تجرؤهم على الناس، أسرفوا في السلب والنهب بالدور والأسواق، خطفوا الأولاد والبنات، فتكوا بالمارة دون تبيُّن هويتهم، أغلقوا باب الفتوح وباب النصر، صارت البلاد فوضى، لم يَعُد للباشا من الولاية إلا الاسم.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وفيه نزل الدلاتية إلى بولاق، وكذلك الكثير من العسكر، وحصل منهم الإزعاج في أخذ الحمير والجمال قهرًا من أصحابها، ونزلوا بخيولهم على ربب البرسيم والغلال الطائبة بناحية بولاق وجزيرة بدران، فرعَتْها وأكلَتها بهائمهم في يوم واحد، ثم انتقلوا إلى ناحية منية السيرج وشبرا والزاوية الحمراء والمطرية والأميرية، فأكلوا زروعات الجميع، وخطفوا مواشيَهم، وفجروا بالنساء، وافتضوا الأبكار، ولاطوا بالغلمان، وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم، حتى باعوا البعض بسوق مكة وغيره، وهكذا يفعل المجاهدون.»
صوت
إذا كانت ضريبة العقارات هي التي أثارت المصريين ضد بونابرت، فها هي ضريبة مشابهة تُثيرهم ضد خورشيد، الوالي العثماني بعد رحيل خسرو. أمر الوالي بمشروع قرض، فردة، على بنايات القاهرة، أغلقت المحالُّ أبوابها، اتجه الناس ناحية الأزهر بالبيارق والطبول والزمور، طلبوا توسُّطَ مشايخ الجامع لإلغاء الفردة التي لا يقوون على الوفاء بها، ومنع أفعال جنده لجباية الضرائب، والتضييق على الحياة.
جرَت من الجند أفعالٌ شنيعة لا مثيل لها، أحدثوا التخريب في الدرب الأحمر والمحجر وعرب اليسار والرميلة والصليبة والخليفة والقرافة وعرب اليسار والحطَّابة والحبَّالة والدروب الموصلة إلى القلعة. أعملوا القتل، عاثوا بالمصادرات والحرائق والسلب والنهب، وكثر الفتك والسفك، استعملوا قذائف الرصاص والسيوف والنبال والحراب. أقسى الهجوم وقت انشغال المصلين بصلاة الجمعة، اقتحموا البيوت والأسواق، تهجموا على الدور والدكاكين، نهبوا منها الأموال والبضائع والأمتعة والأثاث، حتى الأبواب والشبابيك نزعوها، سَبَوا النساء والسراري، افتضوا الأبكار، سقط العشرات قتلى، أسرفوا في القتل والتمثيل بالجثث، جزُّوا الرءوس، رُميَ الكثير من الأجساد في الطرقات، تنهشها الذئاب والضباع والكلاب والطيور الكاسرة، مَن نجا من أيدي الجند فقد كُتبت له حياة جديدة، غاب الأمن عن الطرقات، وافتقدَت القوافل حريةَ المرور، كادت القاهرة أن تخرب، تُدمَّر عن آخرها.
استثارَت أفعالُ العسكر غضبَ أهل القاهرة، قاموا قومةً واحدة، وفدَ الآلاف إلى الجامع الأزهر، يُظهرون السخط لأفعال عسكر خورشيد، مضَوا إلى ساحة الجامع يصخبون، ويهتفون، دعَوا على الوالي من فوق مآذن الأزهر.
تواصلَت الحشود أيامًا متتالية.
أبطل العلماء دروسهم بالجامع الأزهر، أخلَوا الصحن، وتحت الأعمدة، أغلقوا الأبواب، أبطلوا الأذان والصلاة، خلا المكانُ من العلماء والمريدين والطلبة، توسَّطوا الآلاف من رافضي أوامر الوالي وأفعال جنده، أمر الحاج حيدر العلاف مريدي طريقته، أحاطوا بحشود المتظاهرين، يمنعون محاولات التسلل من جواسيس الوالي والمماليك والأرناءوط والشراكسة.
أغلقت الدكاكين أبوابها، وخلَت الأسواق من الباعة والشارين، أُغلقت حتى الأسواق القريبة من الجامع، البيوت والدكاكين والوكائل، خلَت المشربيات من النظرات المتسللة، أقفرت الشوارع من الناس، حلَّ فيها السكون والوحشة، أغلقت جوامع الأزهر والحسين والحاكم ومحمد أبو الذهب، ومنعت عنها الخطبة. وقف المتظاهرون بالنبابيت والأسلحة على أبواب الشوارع والحارات. مضَوا ناحية القلعة، يحملون قِطَع الحديد والأخشاب والحجارة والبنادق القديمة.
أخفقَت التجاريد التي سيَّرها الوالي في ردِّ المتمردين.
لم يُظهر محمد علي عداءً للباب العالي، ولا أمر جندَه بردِّ المتظاهرين، ظل على وُدِّه، وتقرُّبِه من العلماء والقضاة والنواب والشهود والمدرسين والأئمة والخطباء والمحدثين والشعراء وأرباب السجاجيد وشيوخ الطرق والتجار وعظماء الناس ورؤساء المهن وطوائف الحِرَف ورؤساء الصناعات والأقباط الكتبة والنصارى والأروام، جعل كل الأبواب موارية، تظنُّ كلُّ جماعة أنها هي الأولَى بالرعاية والعطف.
من أوراق السيد عمر مكرم
أُفضِّل — حين أشعر في نفسي عافية — أن أنزل من بيتي في مصر القديمة، أول فعلي قراءة سورة الكرسي، أُلحِقها بالدعاء: لا إله إلا الله، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ربما دخلتُ في مناقشة سريعة مع خفير الحارة، أطمئن إلى أحواله، وأحوال الناس.
البغل وسيلتي في التنقل بين البيت والأسواق. أكتري بغلًا من الموقف على رأس الشارع، يعروني تأثُّر للهفة المكارية في إسراعهم ناحيتي، أُشفق لمعنى تأكُّد المكاري من تغطية ظهر البغل بسجادة، مقدمتُها مغطاة بالجلد الأحمر، ومقعدُها مزيَّن بشرائط صغيرة، ملونة. ربما استغنيت عن ركوب الحمار، وفضلت السير ماشيًا، أقطع الطريق سيرًا إلى الحسينية والغورية والمغربلين والأزهر والصنادقية وغيرها من النواحي.
هذه ليست القاهرة.
قبل أن أُغادرها، فعل فيها الفرنسيون ما يُثير الألم، ويصعب وصفُه، هدموا الكثير من البنايات والأسواق والمساجد والمدارس والحمامات.
أُحِب المدينةَ في لحظات استيقاظها، فتح الشبابيك، صرير أبواب البيوت والدكاكين، تلاغُط النداءات والسعال وأصوات البهائم، لكن الأبواب والشبابيك — كما أراها — مغلقة، تَشِي بالخوف، الصمت سادر، عدا تمتمات الذاهبين لصلاة الفجر بآيات القرآن والأدعية.
الشوارع الضيقة، تحفُّها — على الجانبين — بيوتٌ قصيرة، على واجهاتها مشربيات، أو كُوَّات صغيرة، أو مصمتة. تمتدُّ نظراتي إلى المشربيات، والنوافذ ذات الزجاج الملون، والمآذن، والقباب، وآيات القرآن بالخط الكوفي، والقناديل المدلَّاة من الأسقف، وعلى الجدران.
أخترقُ شوارع الحِرَف ودروبها: النجارين والحدادين والصباغين والصاغة ودباغي الجلود، أُلقي السلام على أرباب الحرف والتجار في جلساتهم على المصاطب، يدخِّنون الشُّبُك أمام دكاكينهم الصغيرة، أُحاذر البِرَك الآسنة والماعز والبط والإوز. حتى السوق، غاب عنها ما أَلِفتُه من زحام.
القلعة مرتفعة تحوطها الظلمة، تعكس ظلَّها في الليل والنهار على القاهرة في ترامي جنباتها، تمارس الحكم والتسامح والغدر والعفو على رجال الدولة والمشايخ والعلماء والوجهاء والأعيان وكبار التجار، والساعين في الأسواق من الصناع والفلاحين والدراويش والجعد والزعر والحرافيش.
صَعِدتُ إلى القلعة، أبطأتُ خطواتي ليُلاحقَني العلماء المرافقون لي. شكا الوالي خورشيد باشا من رفض محمد علي سماعَ أوامره. رفض أمر الوالي أن يُعيِّن واليًا على جرجا.
قال الوالي: معي أمرٌ من السلطان، أعزل من أشاء، وأولِّي من أشاء، وأمنع من أشاء.
ساءني معنى الغرور: الله وحده هو الذي يمنح ويمنع، ما جئناك إلا لتُنصت لصوت الناس الذين فاض بهم الكيل، فإذا بك تُحدِّثنا عن صراعك مع محمد علي.
اغتصبتُ ابتسامةً لأُعفيَه من الحرج: ما لنا نحن وهذا الصراع؟ خذ الناس إلى جانبك، فيكونون عونًا لك على كل عدو.
ارتجَّ على الوالي، وإن دارَى ارتباكه بالنداء على خادم القهوة.
تحاشيتُ النظر إليه، حتى لا أزيدَ من ارتباكه.
الأفق ملبَّد بالغيم، الأوضاع القاسية ستظل قائمةً في وجود الوالي خورشيد داخل القلعة.
سيكون اختياري الجديد آخرَ عهد القلعة بالتدبيرات والتآمر والسجن والتعذيب.
كتب الجبرتي في تاريخه
«حضر أهالي مصر القديمة إلى الجامع الأزهر، يشكون، ويستغيثون من أفعال الجند الدالاتية واعتداءاتهم؛ حيث احتلوا دورهم ونهبوها، وسَبَوا نساءهم، فركب مشايخ الأزهر إلى الباشا، وخاطبوه في الأمر، فكتب فرمانًا بخطِّه للدلاتية بالخروج من الدور، والكفِّ عن الاعتداء، فلم يمتثلوا، فغضب المشايخ، وتركوا الجامع، وأوقفوا الدراسة، ولزموا بيوتهم، وأقفل غالب الأسواق. ولمَّا تفاقم عدوان الدالاتية في القارة والأقاليم القريبة، واشتدَّت الأزمة، طلب الباشا القضاة والعلماء، فأبَوا الذهاب إليه، ثم ساروا بصحبة السيد عمر مكرم إلى محمد علي، فطلبوا منه أن يقبل الولاية.»
صوت
أربعة أشهر شملت الثورة أحياء القاهرة، أضرب علماء الأزهر عن الدروس، خلَت الأسواق، أُغلقَت الدكاكين والمقاهي والوكالات، حتى مَن اعتادوا الصلاة في المساجد والزوايا تقاطروا على الأزهر للمشاركة في حشود الثورة، امتلأت الميادين والشوارع بالمظاهرات الصاخبة، تُطالب بإبطال جميع المظالم والحوادث والمكوس، والعودة عن تصرفاته الظالمة.
لم تكن الولاية مطلقة، ألزمنا خورشيد باشا بمبدأ الشورى، وقَبِله. وعد بالرجوع إلى ممثلي الشعب، العلماء والوجهاء والأعيان، الإنصات إلى آرائهم ومشورتهم، ومشاركتهم في تدبير الأمور. أهل مكة أعلم بشعابها، ونحن — أهل مصر — أعلم بظروفها، وما ينبغي وما لا ينبغي الأخذ به من قرارات تهمُّ حياة الناس. وعدَ بأن يسير بالعدل، ويُقيم الأحكام والشرائع، ويُقلع عن المظالم، ولا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، رضيَ بالعزل إن خالف الشروط.
حرصنا ألَّا نبلغَ ما أراده الناس بخلع الوالي. رفع العلماء وذوو الرأي شكواهم إلى المحكمة الكبرى، تُصدر حكمها بألَّا يفرض الوالي ضريبةً على المحروسة إلا إذا أقرَّها العلماء والأعيان، يجلو العسكر عن القاهرة، لا يُؤذن لأيِّ جندي بدخول المدينة، حاملًا سلاحه.
لما بدَت الطرق مسدودة، أخذ العلماء قرارًا بعزل الوالي خورشيد باشا، وتعيين محمد علي واليًا بدلًا منه. أصدرَت المحكمة فتواها الشرعية بهذا المعنى، فنجحت الثورة.
يقول الجبرتي في تاريخه
«حضر ديوان أفندي وقال إن الباشا يسلِّم عليكم، ويسأل عن مطلوباتكم فعرَّفوه بما سطروه إجمالًا، وبيَّنوه له تفصيلًا. فقال ينبغي ذهابكم إليه، وتخاطبونه مشافهةً بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يردُّ شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب لأنه شابٌّ مغرور جاهل وظالم غشوم، ولا تقبل نفسُه التحكم، وربما حمله غرورُه على حصول ضرر بكم، وعدم إنفاذ الغرض. فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها، وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله، رجعنا اليه، وتردَّدنا عليه كما كنَّا في السابق، فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور. فقال لهم ديوان أفندي: وأنا قصدي أن تُخاطبوه مشافهة، ويحصل إنفاذُ الغرض. فقالوا لا نجتمع عليه أبدًا ولا نُثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، وأخذ ديوان أفندي العرضحال، ووعدهم بردِّ الجواب.»
صوت
بدا الأفق ملبَّدًا بالغيوم، تَشِي ببقاء الأوضاع القاسية في وجود الوالي خورشيد، داخل القلعة.
تنقَّل حجاج الخضري بين الأحياء، يُشرف على ردِّ هجمات الجنود، باب الشعرية، والحسينية، والعطوف، والرميلة، والحطابة، وباب القرافة، والحصرية، وطريق الصليبة، والمحمودية. انضم إلى رجاله المئاتُ من العياق والزعر والحرافيش وأوباش العامة والجعيدية، في أيديهم النبابيت والمساوق والسيوف والبُلَط والخناجر والعِصِي والشوم، والنساء يحملنَ الطعام والماء والحلوى إلى المحتشدين، بنى الخضري حائطًا وبوابة على الرميلة عند عرصات الغلة، اتسعت المعارك في الرميلة وباب الوزير والصليبة وحدرة البقر، تعطَّلت أسواق القاهرة، وأُغلقَت الدكاكين. اجتمع أسفل القلعة خلائقُ لا حصرَ لها. كسَّر الثائرون باب حبس القلعة، أطلقوا مَن كان فيه من المحابيس.
تفاقمت الأحوال، خرجت عن سيطرة الوالي. ترك العلماء عمر بك مستشار الوالي لغضب الناس، قَدِم لاسترضائهم، وتقديم ما أَلِفوه من وعود، كأنه يطوي صفحةً من أوامر الوالي وأفعال جنده، لتبدأ صفحة جديدة.
رفضوا اللعبة من أساسها.
قال عمر بك في لهجة استرضاء: كيف تُنزلون مَن ولَّاه السلطان عليكم، وقد قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟
قال السيد عمر النقيب: أولو الأمر: هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل. وهذا رجل ظالم، حتى السلطان والخليفة إذا سار في الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه.
قال عمر بك: وكيف تحاصروننا وتمنعون عنَّا الماء والأكل وتقاتلوننا؟ … أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟!
قال حجاج الخضري: أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم لأنكم عصاة.
قال السيد أحمد المحروقي كبير تجار العاصمة: أنت تنوب عن الوالي في تهدئة الناس، فأنت إذن تنوب عنه في تلقِّي الحجارة التي يقصدون بها الوالي.
قال الشيخ عبد الله الشرقاوي: ينتهي الأمر لو أن الجنود الدلاة خرجوا من القاهرة.
أردف الحاج حيدر العلاف قوله: لا بد أن يكون لخروجهم موعد.
قال حجاج الخضري: نحن الآن في الخامس من الشهر الخامس للفرنجة، مهلة سكوتنا عن بقاء الجند تنتهي في الخامس عشر من الشهر.
مضى الناس في صبح الثاني عشر من مايو إلى بيت القاضي. أعلنوا اختصام الوالي، طالبوا العلماء بإعلان حكم الشرع.
عشرات الألوف من المتظاهرين، تفرَّعت حشودهم إلى جوانب الميدان، إلى ما بعد باب الفتوح وباب النصر والمغربلين والغورية والصنادقية والموسكي، تردَّدت أصداء هتافاتهم في بولاق وشبرا ومصر القديمة.
غضبُ الناس أملَى على المشايخ والوجهاء والأعيان صياغةَ المطالب التي دعوا الوالي لتلبيتها، حررها السيد عمر مكرم بخط يده، وقرأها على الملتفِّين حوله: لا تُفرض ضريبة على القاهرة إلا إذا أقرَّها العلماء والفقهاء.
لم يُدرك الوالي خطورة الأحداث، توهَّم في لزومه القلعة، وحراسة الجند لها، ما يمنع حتى هتافات المتظاهرين من أن تَصِل إليه. ظل المتظاهرون على احتشادهم، وامتدَّ الصخب والهتافات إلى ميادين وشوارع أخرى في المدينة.
بدَت اللحظة مواتيةً لطلب خلع الوالي، وتولية والٍ غيره.
تَبِع الكثيرون عمر مكرم إلى دار الحكمة، قضاة المذاهب الأربعة ومشايخ الطرق الصوفية وأئمة المساجد والعلماء، وشيوخ الحِرَف والمهن، وجماعات الدراويش والبيارق والأعلام الملونة. اختاروا مَن يمثِّلهم لزيارة بيت محمد علي.
وجد الناس في السيد عمر مكرم ملاذًا من الأخطار التي اقتحمت حياتهم، طلع السيد عمر القلعة، تكلم مع الوالي خورشيد، واصل تردده على مجلس الباشا، شرح له تفاقم الأحوال، واجه الوالي إلحاح كلمات السيد عمر النقيب بإبداء الحيرة، والعجز عن رد الجند، نصح أن يترك الناس سلاحهم فترة النهار لتجنُّب أذى الجند، يحملون السلاح ليلًا للدفاع عن أنفسهم.
رفض الناس — بتعدد طوائفهم — أن يُهملوا السلاح، رفضوا تصديق قول الحاكم إنه لا يستطيع أن يوقِف المعارك بين فصائل جنده، تصور في صداقته للوالي الجديد ما يُعينه على نقل شكايات الناس، يجد منه الإنصات، والفهم، والدفاع عن طمأنينة الناس.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدَّعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس، وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية.»
من أوراق السيد عمر مكرم
لم تَعُد صورة الحياة إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، تبدَّلت الأوضاع والتكوينات والأضواء والظلال، حدث ما يصعب تصديقه، علَت الأصوات الهامسة من ناس الحارات والعطوف والدروب، تحوَّلت الكلمات المدغمة إلى تعبيرات واضحة، تدين، وتدعو إلى الثورة.
تفرَّق الجميع — عقب رحيل الفرنسيِّين — عن المائدة التي جلسوا إليها وحدهم أكثر من ثلاث سنوات. ثمة مَن ظل على ولائه للعثمانيِّين، ومَن طلب مناصرة الإنجليز، ومَن سعى إلى مهادنة الفرنسيِّين، ومَن اتجه إلى الشرق، ومَن فرَّ إلى الجنوب، في بالهم ضمانُ حكم البلاد، لم تشغلهم الوسائل، ولا الحلفاء المساندون. ظل حكم البلاد هدفًا لا يتحولون عنه، في توزع الاتجاهات.
سرتُ في شارع المعز لدين الله، أُلقي التحية على أصحاب الوكائل والدكاكين، ومَن ميَّزتُهم من المارة، أخلاط من عابري السبيل والسقائين والمكارين والباعة وطلبة الأزهر والجياد والحمير والأبقار والأغنام. البزَّات العسكرية تداخلَت في الجلابيب والقفاطين والعباءات وملاءات اللف، الأبواب — عند باب الفتوح — مغلقة بلا مصاريع خشبية، نزعها الجند ليسهل كشفُ أفعال العوام ومطاردتهم. قفز السؤال إلى ذهني وأنا أرقب حركة الطريق: متى تعود أبواب القاهرة إلى أداء مهمتها؟
امتدَّ سيري إلى المغربلين وسوق السلاح والمحجر والرميلة وقلعة الجبل: أميل إلى السير — متباطئًا — في الشوارع التي تحدُّها الجوامع والمدارس والزوايا، ما تأنس إليه النفس من البنايات ذات النسق الديني، الأسوار والقلاع والمساجد والمآذن والقباب والأبراج المستديرة والرُّبُط والخانات والأبواب والميادين والساحات والأسواق والقصبات والقيساريات والخانقاوات والحمامات والمارة والقعود على الأرصفة وزحام المارة.
تفاديت عربة، يحثُّ الراكبُ دابتها — بضربات العصا المتلاحقة — الإسراع في السير، اعتاد الناس عربات الجر منذ أيام الفرنسيِّين.
أعدت التلفُّت، أتأكد إن كان سائق العربة مصريًّا، أم جنديًّا من العثمانيِّين. ضاق الناس باختراق عساكر الأتراك زحام الأسواق، دون مبالاة بأرواح عابري السبيل.
راعني قعود قطة شنن أمام باب الدكان المغلق، أمامه صندوق خشبي، وقفص من الجريد، امتلأ بثياب وأوعية. اشتهر بصناعة الحلوى المنسوبة إليه، عجينة من القمح والعسل المحلَّى بالسكر واللوز وجوزة الطيب وماء الورد.
قال لنظرتي المتسائلة: استولى جندُ العثمانيِّين على حجرتي في بيت الحسينية.
تخلل صوتَه نشيجٌ: قالوا إن الفرنسيِّين فعلوا الأمر نفسه ليسكنوا جنودهم!
قاومتُ الغضبَ: هل يُحاكون الفرنسيِّين؟
قال: يرون إن حاجة الجنود إلى السكن حتى يدافعوا عن أهل البلاد.
سلطة الوالي تقتصر على القلعة وما حولها، معارك المماليك والعثمانيِّين في الميادين والشوارع ومدن الأقاليم، صار لهم أعوانٌ من الزعر والحرافيش، يعترضون عابري الطريق، يستولون على نقودهم ومتعلقاتهم الشخصية. مارسوا الحبس والتعذير والضرب، اضطربت الأحوال، أُغلقَت الأسواق، حتى المساجد عجز الناس عن التردد عليها. أخفى الناس واجهاتِ بيوتهم، غطُّوها بالصناديق الفارغة والأجولة وكومات الزبالة، حتى لا يراها أوباش الحرافيش، فيُخرجون السكان، وينزلون بها.
عمَّت الفوضى، شهدَت شوارع القاهرة هجماتٍ متتاليةً من عسكر الأمراء المصرلية والأرناءوط والدلاة والتكرور والمغاربة. رفض أمراء المماليك فقْدَ امتيازاتهم، تحوُّلهم إلى التبعية لمن يحكم البلاد.
لم يَعُد الرعب يفرق بين وضوح النهار وظلمة الليل. طلقات الرصاص تنحرف عن أجساد الجنود المتقاتلين إلى نوافذ البيوت، تخترقها، أو تقتل مَن تصادف وقوفه لمتابعة ما يجري. انتشرَت عمليات فرض الإتاوات والسرقة والنهب والسلب والقتل والإحراق والتعذيب وسَبْي النساء والأطفال، وتعالي الأنين والصرخات والتأوُّهات والرءوس المقطوعة والأطراف المبتورة وأشلاء الجثث.
مِلْت إلى وكالة الحاج حيدر العلاف، في نهاية شارع الغوري.
صعدتُ إلى جواره على الدكة، اعتذرتُ عن عرضه لي بالنارجيلة.
أومأ برأسه موافقًا: كوب العنَّاب هو أجمل ما نبدأ به يومنا.
شرَّقَت بنا الأحاديث وغرَّبَت عن حالة الجو والأسعار ومواكب الصوفية في مولد الحسين وهجمات عساكر الوالي خورشيد باشا. نزلوا المدينة، اقتحموا البيوت والأسواق والدكاكين، عربدوا في الأسواق، ارتكبوا قبائحَ كثيرة، اعترضوا النساء، سَبَوا الأغنام والنساء والأطفال، خطفوا أمتعة الناس، وبضائع المساجد والحوانيت، فرضوا على أصحاب الدكاكين والوكالات ما سُمِّي حماية، فرضوا لذلك إتاوات باهظة. مَن تُوضع على متجره علامة يقاسم الجند أرباحها. لو أنه تردَّد، أو تقاعس، فإن الحماية ترفع، وقد يناله الجند بالأذى. ربما فرض الجند أنفسهم على رئاسة حرفة، يبتزُّون طائفتها. سدوا الطرق في مداخل القاهرة، لا يأذنون بالمرور للقوافل أو الأفراد إلا بفردة، أو التنازل عن بعض ما في أيديهم، أو مصادرة ما يحملونه.
دخل كنعان كحالة التاجر بالحمزاوي في خناقة مع العساكر، رفض أن يدفع ما فرضوه من إتاوة، ناصره التجار من زملائه في الطريقة الهاشمية، ومشايخ الطرق الأحمدية والرفاعية والسعيدية والقادرية وغيرها، أسكتت الهراوات بنادق العساكر قبل أن تنطلق، طاردوهم في خلاء الدراسة.
تزايدت إتاوةُ حقِّ الطريق، يفرضونها على الفلاحين أجرًا على الانتقال بين قُرَاهم والقرى المجاورة، لا قيمة محددة للإتاوة، هي وفق ما تُمليه شراهتهم، وما يفوق قدراتِ الفلاحين. رفض الفلاحون تقديمَ الوجبات التي لا يغادر العسكر دون تقاضيها، قد تشمل كلَّ ما يملكه الفلاح من ماشية أو طير، يُلحُّون على شَيِّها أو طبخها، فلا يواجه العقاب.
بلغت أفاعيل عساكره من الدلاة مدينة قليوب، قتلوا الرجال، سَبَوا النساء والأطفال.
توافدت جموع الناس من خارج القاهرة إلى ساحة الأزهر، يحتشدون على أبوابه، تعلو أصواتهم بالشكوى والاستغاثة.
أرقب محمد علي منذ حلَّ على بلادنا جنديًّا في جيش الدولة العثمانية، سبقه صيتُه فيما فعله — على رأس جنوده — في دمنهور، وفي مواقع أخرى من البلاد، قضى فيها على عمليات قطع الطريق والسلب والنهب والتنغيص على الناس.
أضاف إلى اطمئناني وقفاته ضد عساكر المماليك. لم يضع نفسه في موضع أمراء المماليك، ولا حاول التقرب إليهم.
الأرناءوط والإنكشارية والتكرور والعساكر العثمانية. حتى عسكر الوالي — خورشيد — تحولوا إلى قوًى تفوق قوة الوالي نفسه، إنهم يُنفذون أوامره بقدر ما يهبهم من أموال.
عانى الناس إرهاق الحروب والصراعات والمنازعات، كثرت الصدامات بين عساكر الوالي خورشيد باشا من الإنكشارية والأرناءوط وبين طوائف المماليك. يقطعون الطرق على الناس، تدور معاركهم في الشوارع والميادين والأزقة، أسرفوا في التنكيل والقتل، قتل الآلاف من أهل البلد، والمئات من جنود الوالي خورشيد.
داهم الجند شارع السلطان الغوري، سبقَتهم إليه طلقات الرصاص، أعملوا السيوف في المارة والقعود داخل الدكاكين، نهبوا الأموال والثياب والأمتعة، خطفوا بضاعة الباعة، مَن أبدى التذمُّر، أو رفض، أحاطوه بالأذى، تركوه مثخنًا بالجراح، أو مقتولًا، اقتحموا البيوت، نزعوا نوافذها وأبوابها، مضَوا بها مع ما سلبوه من الأموال والأمتعة والأثاث، بدَت البيوت — بعد رحيلهم — كأجساد بلا أفواه ولا أعين، كأنه لم يسكنها أحد.
أرادوا أن يجعلوا من أذية تجار الشارع عبرةً لكل تجار القاهرة، حطموا الأبواب والأرفف، ألقَوا البضائع في أرض الطريق، واختطفوا النسوة والصبيان المُرْد من داخل البيوت، ومن الطرقات، اقتحموا حمام قيسون خارج باب زويلة، في اليوم المخصص للنساء، هتكوا الأعراض، سلبوا الثياب والأموال والحلي.
وقف الحاج بلال جمال الدين في انحناءة تحت الربع إلى بوابة المتولي، قبل أن يعلوَ صوته بالنصيحة، أسكتَته ضربة سيف شطرَت الوجه، ونثرَت الدماء، أوثقوا قدمَيه بحبل، ربطوه في حصان. عندما أوقف الحصانُ ركضَه في خلاء الدراسة، كان رأس بلال جمال الدين قد تهشم تمامًا، وتحوَّل جسده إلى أشلاء متقطعة.
عندما حاول مدكور — خادم جامع السيدة فاطمة النبوية بشارع زرع النوى بالدرب الأحمر — أن يسدَّ طريقهم بذراعَيه، وينصحهم بالابتعاد عن بيت الله، طعنوه في صدره، وداسوا عليه، سحلوه في شارع سوق الغورية، استحال جسده كومة من اللحم والدم يصعب تمييزها، فصلوا الرأس المهشم، وضعوها على طرف نبوت، رفعوها على شجرة إلى جانب ميدان الرميلة.
فقد الوالي سطوته وهيبته، تحوَّل إلى متفرج على صراعات الدماء في مجلسه، أعلى القلعة.
صوت
اعتبر المماليك عزل الوالي شأنًا يخصُّهم، هم الذين يسحبون السجادة من تحت قدمَيه، يطالبونه بالنزول. بدا موقف العلماء غريبًا، أربعة أشهر لم تُفلح في دفع المشايخ إلى مساندتي في قيادة المصريين.
بحلقت بالدهشة لقول الشيخ عبد الله الشرقاوي: أن ينزل خورشيد من القلعة، فتلك مسئولية الوالي الجديد.
لماذا لا يصبح الأمر: انزل يا باشا، شأن المصريين؟
صوت
التقى العلماء والقضاة والأعيان في بيت محمد علي، في مقدمتهم السادة أحمد بدوي نقيب الأشراف، أحمد الخضري مفتي الشافعية، محمد غرا مفتي المالكية، الشيخ محمد صديق مفتي الحنابلة. فطنوا إلى محاولات الوالي خورشيد إزاحتَهم من طريقه.
قال الشيخ حمودي الأشقر: للشعب حقوقه، لكن عزل الحاكم الذي عيَّنه السلطان يتعارض مع مبادئ الدين.
وفي صوت هامس كمَن يكلِّم نفسه: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
قال السيد عمر النقيب: أولو الأمر في معنى الآية هم العلماء وحماة الشريعة والحاكم العادل الذي يُعنى بتنفيذ الشريعة.
قال ابن شمعة: فاض الكيل … نريد أن نخلع الوالي خورشيد باشا.
قال حجاج الخضري: من واجبنا أن نخلعَ الوالي ونأتيَ بغيره.
تفرَّس فيه محمد علي من زاوية عينه: مَن تريدون أن يحلَّ محلَّه؟
وأعاد السؤال: مَن تريدونه واليًا؟
قال السيد عمر: لا نرضى إلا بك.
وهو يغالب انفعاله: أنا لا أصلح لذلك، ولست من الوزراء ولا من الأمراء، ولا من أكابر الدولة.
بدا طيبًا، متواضعًا، ودودًا.
قال حجاج الخضري: بالنظر إلى الكرم والعدل اللذَين أظهرَتهما أعمالكم نحو الناس، فإننا لا نفكر في غيركم.
أردف ابن شمعة في نبرة محرضة: ستكونون الحاكم، وسنخضع لشروطكم.
قال السيد عمر: اخترناك لهذا برأي الكافة، والعبرة برضا أهل البلد.
قال حيدر العلاف: ستكون واليًا بشروطنا. السيد عمر مكرم يتوسم فيك العدالة والخير. نحن نثق في رأيه، ونأمل ألَّا تخذلَنا.
– ربما تنقصني الكفاءة لهذا المنصب.
استطرد لعبارات المبايعة من العلماء والقضاة والمدرسين والأئمة والخطباء وأرباب السجاجيد وشيوخ الطرق: ما دمتم قد اخترتموني، فإني أعدكم بالعدل واحترام حقوق الناس، وألَّا أتخذ قرارًا دون العودة إلى العلماء.
واحتضن الحضور بنظرة امتنان: إذا أخلفتُ شيئًا مما وعدت به، فإن لعلماء البلد الحقَّ في عزلي.
وارتعشَت ملامحه لقول حجاج الخضري: لو حِدتَ عن الحق فسنعزلك.
امتدَّت المعارك في الأحياء والميادين والشوارع. حتى البيوت دار فيها التقتيل. ما يربط العساكر بمصر هو السطو والسلب والنهب وسلخ جلود الناس.
صمت السلاح والهتافات بسقوط الوالي، لما ورد فرمان الباب العالي بعزل الوالي خورشيد باشا، وتثبيت محمد علي الذي اختاره المصريون.
صوت
حضر أعداد من أهل مصر القديمة إلى جامع الأزهر، يشكون أفعال الجند الدلاة من ضرب وإيذاء وسلب للأموال والمتاع وسبْي للنساء. ركب مشايخ الأزهر إلى الباشا، خاطبوه في الأمر، كتب فرمانًا بخطه للدلاتية، يأمرهم بالكف عن الاعتداء.
سكت الجنود الدلاة عن فرمان الوالي، وأهملوه، لكن أهل مصر القديمة يشاركهم جماعات من أهل المحروسة، ظلوا على أفعال الغضب. أوقف المشايخ الدراسة في الأزهر، وأُغلقت الأسواق، وخلَت الشوارع إلا من المتظاهرين.
لما بدَت كلُّ الطرق — أمام الوالي خورشيد — مسدودة، دعا العلماء والقضاة إلى القلعة، لكنهم رفضوا الذهاب، ومضَوا — يتقدمهم السيد عمر مكرم — إلى بيت قاضي القضاة. استمع إلى الآراء والشكايات وهتافات الغوث، عبر قاضي القضاة عن ذلك كلِّه في رسالة إلى الوالي خورشيد. قال: حضر إلى نحو الأربعين ألفًا من الناس يطالبون بعزلكم، أو حربكم.
دعا السيد عمر مكرم أهالي بر مصر إلى حمل السلاح، والتوجه إلى قلعة الجبل لإجبار الوالي خورشيد على التنحِّي، والنزول.
تألَّب الفلاحون والباعة والسوقة والسفلة والغوغاء. حملوا المجارف والمناجل والرماح. نزعوا عن البيوت أبوابها.
توافدَت الجموع من الحسينية والعطوف والأزهر والقرافة والصليبة والقلعة، ومن خارج القاهرة، يحملون السلاح والبيارق والطبول، أحكموا حصار القلعة، وأقاموا المتاريس في الميادين والشوارع المتصلة بها.
ظل الحصار قائمًا، ومحكمًا، تأزمت الأحوال داخل القلعة، تواصلَت ما يقرب من الشهرين. أطلقَت مدافعُ القلعة قنابلها على المحاصرين، والأماكن التي يقفون فيها، أو يحتمون بها، لكن الحصار ظل بلا انفراجة.
هلل الناس لقدوم بشير أغا رسول السلطان، دفع بفرمان من السلطان بعزل الوالي خورشيد. أربعة أشهر على بدء قيام الثورة، قبل أن يُعلن حقَّ الشعب في تقرير مصيره، واختيار حُكَّامه.
انتقل خورشيد من القلعة إلى بيت السيد عمر أفندي الأسيوطي، حَظيَ بضيافة كريمة، لقيَ ما خفَّف عنه قسوة الحصار، ثلاثة أيام خرج بعدها الوالي المعزول إلى مركب في النيل ببولاق، مضَت به إلى الإسكندرية.
من أوراق السيد عمر مكرم
قبل أن يتكرر صعودي القلعة، تقدَّمتُ أهل مصر للمطالبة بعزل خورشيد باشا، ورفع المظالم عن الناس، ومنع جباية أموال جديدة، وفتح طرق المواصلات بين القاهرة وخط الصعيد.
ناصرني الشيخ عبد الله الشرقاوي وأحمد المحروقي وحيدر العلاف وحجاج الخضري، تقدموا الصفوف معي. أضفنا إلى ما طلبناه أن يُقيم العسكر بعيدًا عن القاهرة، لا يُؤذَن لهم بدخولها حاملين أسلحتهم.
استقرَّت آراء الوجهاء والأعيان على خلعه، والإتيان بغيره، يصعدون إلى قلعة الجبل، يدخلون القاعة الفسيحة، يسحبون السجادة من تحت قدمَي الوالي، يهتفون: انزل يا باشا!
أجمعوا على عزل الباشا، وإنزاله من القلعة. حقَّ عليه العزل، لأنه لم يَعُد ينظر في أحوال رعيته، ولا يلبِّي احتياجاتهم، ولا يعاملهم بما يجب من معاملة لمواطنيه.
إذا لم يحكم الوالي أمره، عُزل، يتفق في ذلك العلماء والوجهاء والتجار وكبار رجال الدولة.
سبق محمد علي تطورات الأحداث، واختيار الوالي الجديد. استولى جنوده على القلعة، وتحصَّنوا فيها. طاهر باشا عيَّن نفسه واليًا على مصر، دون إذن السلطان، فأباح للناس قتله، صاروا وسيلةَ محمد علي إلى الحكم.
ثورة الناس أشد تأثيرًا في نفس السلطان من صعود العلماء إلى القلعة، يسحبون السجادة من تحت الوالي.
عرفَت قدماي الطريق — من يومها — إلى قلعة الجبل.
يمضي بي قائد العسكر من باب السر الكبير. لم يكن يدخل فيه إلا أمراء المماليك، فسَّرتُ ذلك بما أرضاني. أَلتقِي محمد علي، أُناقشه، أُنصِت إلى أسئلته، أُجيب بما أعرفه، لا يعجزني عدمُ فهم الكثير من مفرداته، ولا التفاته إلى مَن حوله في هيئة مَن يطلب فهمَ بعض ما أقوله، أعرف أنه تعلَّم — متأخرًا — مبادئ القراءة والكتابة.
له قامة قصيرة، ممتلئة، وذراعان قصيرتان، ولحية كثة بيضاء، وعينان بنيَّتان دائمتَا التلفُّت، تُومضان ببريقٍ حادٍّ. عمامته البيضاء من الموسلين، تختلف عمَّا يعتمر به علماء الدين، أو الطواقي والطرابيش التي يرتديها بقيةُ الناس، أقرب إلى الطربوش الأحمر، القصير، يحيط بالرأس، يغطي الجبهة، وأعلى الأذنين، ويرتدي لباسًا من القماش الأزرق، يحيط وسطه بحزام من الكشمير، وتغطَّت رجلاه بجورب من الحرير الأبيض، ودسَّ قدمَيه في حذاء أصفر. لم يتدلَّ من جانبه — عكس ما يفعله أمراء المماليك — سيف ولا خنجر، ولا أيُّ سلاح.
مال بصدره وهو يمدُّ يده بالسلام.
كان ممدَّدًا على الكنبة التركية الطابع، ويستند بكتفه إلى وسادة ذات نقوش جميلة، وفي يده اليسرى غليون دقيق الصنع، محلًّى بالماس.
فتَّشتُ عن كلمات مجاملة: السنوات العشرون التي تفصل بيني وبينك، تُتيح لي اعتبارك ابنًا لي!
أطلق ضحكة متقطعة: لا شأن لتباعد العمرَين في صداقتنا، أعتبرك صديقًا أُفيد من علمه ونصائحه!
تأثرتُ لمَا رواه عن طفولته: الأب حارس الطرقات، والظروف القاسية، والدروس التي أفادَته في تجارة التبغ، والبحر الذي تمنَّى أن ينقله إلى بلد يجد فيه نفسه.
داخل صوتَه مباهاةٌ في قوله: وُلدت في العام نفسه الذي وُلد فيه بونابرت، الطفل الوحيد، اليتيم من بين سبعة عشر طفلًا، لم يبقَ من أبنائه الثلاثين إلا عشرة فقط، مات معظمهم وهم أطفال. الأولاد من الزوجة الأولى والجواري، الثانية لم تُنجب.
أخلى فمه من الغليون، أطلق ضحكةً قصيرة، هادئة: لكي أضع حسابًا لاحتمالات الوفاة الباكرة فقد زدتُ عمَّا أنجب أبي.
في نبرة حزينة: أن تفقد أبناءك، أقسى من ألَّا تُنجب أبناء!
روى عن الظروف التي أملت عليه العمل في تجارة الدخان، اكتسابه العقلية التجارية التي أتاحت ما بلغه من نجاح في إدارة الحكم.
العينان اللامعتان، وهالة الشعر الذي تداخل البياضُ في سواده، حول الوجه الأبيض المُشرب بالحمرة، والصوت الخفيض، ذلك كلُّه يَشِي بصدق ما رواه الباشا عن مولده وطفولته وصباه، يداه الناعمتان تعكسان ترفًا يختلف عمَّا يرويه في حياته. حتى ما يُسربله الغموض، أو تغيب عنه الحقيقة، صدقته لما رأيته من هدوء ملامحه، وبساطة تصرفاته، وإنصاته.
التقيت محمد علي — للمرة الأولى — في بيتي.
لم يكن يعرف لغتي، وأعرف لغته جيدًا، لا تصدر عنه قهقهة، ضحكته قصيرة خافتة، كأنه يحرص على كتمها، وعلى كتم مشاعره الحقيقية.
أغناه مُرافقه عن جهل القراءة والكتابة، ينقل ما يقوله بلغته إلى لغة أهل البلد، يظل هادئًا، صامتًا، حتى ينقل له المُرافق ما يقال بالعربية، ينعكس فهمُه في تعبيرات ملامحه.
ألغى — بمبتدأ كلماته — ما شغلني عن بواعث طلب اللقاء. قال إن العلماء هم أجدر الناس بالحديث عن أحوال البلد. عدَّد أسماء المشايخ الشرقاوي والسادات والمهدي وغيرهم من العلماء الكبار، لهم — في تقديره — اتصالاتهم، وأصواتهم المسموعة بين أهل البلد.
يلجأ إلى يدَيه في التعبير عمَّا يقول، وإن فاجأني بتخلل كلماته ما يُشبه الشهقة، ثم لا يلبث أن يواصل حديثه.
داعبَت يده — بعصبية — أطراف لحيته: الناس يهتفون باسمك في الشوارع، أنت قيمة لا بد من توقيرها.
استطرد قبل أن ينتظر قولي: هذا الذي تشهده القاهرة أفعال شياطين، ضحاياها العامة والفقراء.
وفي نبرة خفيضة: أحرص في قيادتي لجندي أن أدفع الظلم عن الناس، أمنع المتعاركين من أن يُلحقوا الأذى بمن لا حيلة لهم.
واتجه ناحيتي بنظرة مشفقة: لو تأمرني بشيء يجب فعله.
قلت: ما يهمُّ أهل البلد أن يوجِّه المتعاركون رصاصاتهم بعيدًا عن أجساد الناس.
خفض رأسه وهو يعبث بأزرار العباءة: أتدخل كذلك لتأديبهم.
استطرد في نبرة متأثرة: ليس للناس ذنب في هذه الصراعات.
بقي حرصه على أرواح الناس، لزم نفسي فلم يتركها، أيقنت أن هذا هو الرجل الذي يستطيع قيادة الحياة المصرية.
عُرف بأن يُحيط بالكتمان ما سبق من حياته، مولده ونشأته في مدينة تابعة لدولة الخلافة. أدركتُ أنه ارتاح لمجلسي عندما امتدَّت رواياته إلى زمن العيش في قولة، ما لقيه من تعب ومشقة، مشاركة أسرته في بيع الدخان، وظيفة جباية الضرائب، موت والديه دون أن يُخلفا ما يُعينه على الحياة، ودون أن يحصل من التعليم على ما يُتيح له عملًا مناسبًا.
أذَّن لي، فأديت صلاة المغرب في مسجد الناصر محمد، داخل القلعة، قبل أن أعود إلى القاهرة.
صوت
خرج السيد عمر الأسيوطي في لقاءاته محمد علي عمَّا عُرف عنه من عدم الميل للتردد على أصحاب السلطة. لاحظَ ثباتَ شخصية محمد علي في نفوس الناس، ساوت — بالعدل — أو كادت ما بلغه صيت أمراء المماليك — بالظلم — في نفوس الناس.
وعد بأن يدفع عن الناس البلايا والمحن والظلم والجور، لا يُقدِم على فعل شيء إلا إذا اطمأن إلى صواب التصرف، وحسن العاقبة، لا يغلب عليه حُجَّابه ووزراؤه وحاشيته، يستبدُّون بالأمر دونه.
لم يمضِ على مجيئه مصر سوى سنين قليلة، المآخذ على تصرفات جنوده كومات تراب، إلى جانب جبال الظلم التي صنعها المماليك.
قال السيد عمر: نحن أهل بداية جديدة، ما جرى قبل ذهاب الفرنسيِّين لا يهمُّنا. مَن فعل الصواب أُثيب. ومَن أخطأ نال عقابه.
صوت
الوالي خسرو باشا هو الذي رقَّاه إلى رتبة بمباشي، وجعله رئيسًا للفرقة الألبانية، أسند إليه مهمةَ إنهاء النزاعات بين الأتراك والمماليك، قابل محمد علي ذلك كلَّه بالعمل على الإطاحة بخسرو ليحلَّ — فيما بعد — مكانَه على كرسي الولاية. اهتز كرسيُّ الوالي تحت ضربات المتعاركين، تمنَّى أن يؤديَ التنافس بين الأمراء إلى إضعافهم، فيزيد ضعف الوالي، يقوى محمد علي على امتلاك زمام الأمور.
لم يتصور الحاج حيدر العلاف أن يرفض محمد علي قائد الفرقة الألبانية، فرمان الباب العالي بتعيينه واليًا على جدة.
– هل يريد ولاية مصر؟
فاجأه السيد عمر بنبرة هادئة: هو أجدر الناس بحكم البلد.
تصاعدَت نبرةُ صوته: لو أن الوالي الجديد استطاع أن يقضيَ على الفوضى، فهذا يكفي.
قال الحاج حيدر: أموت وأجد إجابة عن السؤال: لماذا الوالي دائمًا من غير المصريين؟!
استطرد بصوت ذاهل: لماذا هذا الألباني؟ لماذا لا نحكم أنفسنا بأنفسنا؟
قال ابن شمعة فيما يُشبه الاستنكار: حتى بائع الدخان دان له حكم المصريين.
ثم في نضح سخرية: أولى به دكان مع تجار الدخان في باب الزهومة.
له مكانته في أسواق اللحوم والماشية ببولاق والإمام الشافعي وزين العابدين، عُرف بتأثيره القوي على طائفة الجزارين، يفصل في مشكلاتهم الشخصية، وخلافاتهم في الطائفة، قادهم ضد أفعال أمراء المماليك، إلى الثورة على الفرنسيِّين، ثم على الباشوات. يلتقي كبار طائفته في زاوية شمعة بالحسينية، تضيق الزاوية الصغيرة بالساعين للجلوس إليه، وسماع كلماته.
رفض ما ذهب إليه الشيخان السادات والبكري، من أن بونابرت أحسن إسلامه. هل أخضعهما التهديد، أو أقنعهما الفرنسيُّ فصدِّقاه؟
تفحصه حجاج الخضري في ارتياب: الرجل لا يعرف العربية.
قال عمر مكرم: لكنه مسلم، وهو كذلك عسكري يُجيد القيادة وفنون القتال، هذا ما نحتاج إليه.
بدا أن الكلمات أثارَت استياء حجاج الخضري، لامس — بإصبعه — آثارَ جرحٍ في جبهته.
– هل خلَت مصر من مثل هذا الرجل؟
– أُحدِّثك عن بواعث اختياره.
وأرعش الانفعالُ شفتَيه: نريد مسلمًا لا يدَّعي أيَّ شيء، ولا نريد كافرًا يدَّعي الإسلام!
همَّ الخضري بالرد. قاطعه السيد عمر مستطردًا: أذكر قول شيخنا ابن عربي: إن كل سلطان لا ينظر في أحوال رعيته، ولا يمشي بالعدل بينهم، ولا يعاملهم بالإحسان الذي يليق بهم، فقد استحق العزل.
وشرد بنظراته: الأمة هي التي تولِّي الحاكم، وهي التي تعزله إن رأت في أدائه ما يعيب.
يوقر الخضري السيد عمر مكرم، ويحبه. يجد في آرائه ما يستحق الإنصات، ربما سأل أو ناقش، لكنه يجد الصواب في قناعة السيد.
صوت
قبل أن يُؤذن للعصر، ألبس السيد عمر — يساعده الشيخ الشرقاوي — الوالي الجديد قفطانًا وعباءة مبطنة بالقرو.
نُوديَ محمد علي واليًا على مصر. صار الوزير المعظم، كافل المملكة الشريفة الإسلامية بالديار المصرية والثغور المحمية والأقطار الحجازية.
قال السيد عمر: الرجل في السادسة والثلاثين، أمامه معنا — بإذن الله — عمر طويل.
استغرب الناس معارضةَ الجنود الألبان لولاية محمد علي. كانوا تحت قيادته منذ قَدِم إلى مصر.
مَن حرَّضهم ضده؟!
صوت
هذه أول مرة يختار كبار الناس حاكمًا للبلد.
طالب أهالي بر مصر — من الشارع — الوالي خورشيد بالتنحِّي.
لم يحمل قرارهم — كما كان يفعل المماليك — أوده باشي، أبو طبق كما يُسميه العوام، بعباءته السوداء، وقبعته السوداء، يخترق — بحماره — مواكب المتفرجين من أبناء القاهرة، يحيط به جند المماليك، يصعد القلعة، يدخل على مجلس الوالي، يطوي طرف السجادة التي يجلس عليها، يقول: انزل يا باشا. يرضخ الوالي لإرادة المماليك، ينزل من القلعة بلا حول.
أعلن خورشيد باشا رفضه لقرار عزله، وقرار تولية الباشا محمد علي مكانه. قال لمن ظلوا على تصور بقائه في الحكم: إني وُلِّيت بأمر السلطان، فلا أخرج بأمر الفلاحين.
واجه العلماء والأعيان رفضَ الوالي بدعوة الناس إلى حمل السلاح، وحصار القلعة. نزل السيد عمر مكرم شوارع القاهرة، يدعو الناس إلى فرض إرادتهم؛ عزْل الحاكم الظالم، وتولية مَن يرعى شئونهم. حملوا السلاح والعِصِي والنبابيت والفئوس، حتى النساء والصبية حملوا قِطَع الحجارة، وتأهبوا — من داخل الشرفات والنوافذ — لملاقاة جنود خورشيد.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وخرج كتخدا محمد علي، وأكابر الأرناءوط، وطائفة من العسكر كبيرة، والوجاقلية، وكثير من الفقهاء العاملين رءوس العصب، وأهالي بولاق ومصر القديمة، والنواحي والجهات؛ مثل أهل باب الشعرية والحسينية والعطوف وخط الخليفة والقرافتين والرميلة والحطابة والحبالة وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيفٌ مسلول، وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعهم طبول وزمور، والمدافع والقنابر والبنبات نازلة من القلعة، فلم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى الأزبكية فنزلوا بيت محمد علي باشا، وحضر المشايخ والأعيان، وقرءوا المرسوم الذي معه، ومضمونه الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقًا ووالي مصر حالًا من ابتداء عشرين ربيع أول حيث رضيَ بذلك العلماء والرعية.»
صوت
توافدت الجموع على ميدان الأزبكية، حتى امتلأ بالعلماء وشيوخ الطرق وأرباب السجاجيد وطوائف المجاورين ورؤساء الصناعات وأولاد العرب.
لما بلغت التطورات حدَّ التهيؤ لإشعال النيران، قَدِم الشيخ صالح عابدين من ناحية ميدان الرميلة.
قال لنظرات الناس المتسائلة: وافق الباشا على التنازل.
وشاب لهجتَه تحذيرٌ: شرط على السيد عمر مكرم ألَّا يطالب بكشف ذمته المالية.
كتب الجبرتي في تاريخه
«اجتمع الناس وطوائف العامة، وخرجوا آخر الليل، وهم بالأسلحة والعدد والطبول، إلى خارج باب النصر، وكثير من الفقهاء العاملين رءوس العصب، وأهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات، وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول، وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين، وخلافه، ومعهم طبول وزمور، إلى أن وصلوا إلى الأزبكية، فنزلوا بيت محمد علي باشا، وحضر المشايخ والأعيان، وقرءوا المرسوم.»
فرمان تعيين محمد علي
«إلى محمد علي والي جدة سابقًا، ووالي مصر منذ العشرين من شهر ربيع الأول. يوافق الباب العالي على اختيار العلماء لشخص محمد علي، ويُعلن أحمد خورشيد باشا مقالًا من مهامه، وإلى ذلك يتعين عليه السفر إلى الإسكندرية مع كل الاحترام الواجب له، وهناك عليه انتظاره التعليمات التي ستُوجَّه له، وتعيينه في حكومة أخرى.»
من محضر عزل الوالي خورشيد باشا
«إن للشعوب — طبقًا لما جرى به العرف قديمًا، ولمَا تقضي به أحكام الشريعة الإسلامية — الحقَّ في أن يُقيموا الولاة، ولهم أن يعزلوهم إذا انحرفوا عن سنن العدل، وساروا بالظلم، لأن الحكام الظالمين خارجون عن الشريعة.»
من أوراق السيد عمر مكرم
قلت: اعتدنا قيام الصفوة بسحب السجادة من تحت الوالي. هذه أول مرة يُعزل فيها الوالي بإرادة الشعب.
قال حجاج الخضري: الفوضى لن يقضيَ عليها غيرُ حاكم قوي.
وسط فوضى الجماعات المتصارعة، غاب الاطمئنان إلا إلى محمد علي. لم يعرض نفسه حاكمًا على مصر، بل وافق — بعد تردد— على عرضنا أن يتولَّى حكم البلاد.
حرص — في أوقات عيشه بيننا — على البعد عمَّا أَلِفه الناس من انشغال المماليك بالمنازعات والمعارك. يرقب الحوادث في حذر. يطلب الناس غوثَه للعدل ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعها الوالي وأمراء المماليك. وحين دخل الفرنسيون البلاد، عُنيَ بأن يظلَّ بعيدًا عن المعارك، وتطورات الأحداث. سمَت منزلتُه، وتضخَّم نفوذه، تغلَّبت مكانته على ما كان يحظَى به الأمراء من نفوذ.
ظلت معارك المماليك مثل شقَّي الرحَى، يموت الناس في احتكاكها الدائم، في المعارك التي لا تنتهي. يحملون السيوف المذهَّبة، أو يتحسَّسونها في أغمادها، يرتدون اللباس المزركش.
سرَت في صوت الخضري نبرةُ تأسف: كنت أعتبر المماليك من المصريِّين.
– ربما رضيت عن تصرفاتهم لو أنها اتجهت إلى استقلال البلاد، لكنها استهدفت المكاسب الشخصية.
أخلى ماهر أبو الأنوار الخياط بسوق العقادين وجهَه لنظرة متسائلة: عرفت بترشيحك محمد علي للولاية … هل هو الأجدر بالحكم؟
قلت: إذا استعدنا ما فعله المماليك فسنجد أن الرجل أصلح من غيره.
نطق تعبير — يصعب إدراكه — على ملامحه.
قلت: هو البديل لفوضى أمراء المماليك. ما وعدنا به من استقرار أمل طال انتظاره.
قال ابن شمعة: طال انتظار الناس للحاكم الذي يرفع عنهم ما يعانون.
قال صميدة الخواص التاجر الملاصق لجامع الأقمر بسوق الشماعين: نحن نعرف أن الوالي لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
ومرَّر كفَّه في شعره المهوش: يكفي سحب السجادة من تحته، والهتاف: انزل يا باشا، فينزل من القلعة.
قلت: كان الاسم لطوبة والفعل لأمشير، الباشا يحكم باسم الباب العالي، لكنه لا يقوى على فعل ما يرفضه أمراء المماليك.
وغالبت طعم المرارة في الشفتين: الباب العالي لا يعنيه من حكم مصر إلا الجزية.
من أوراق السيد عمر مكرم
ما الذي أوغر صدر محمد بك الألفي؟ لماذا استنكر عزلنا الوالي خورشيد، واختيار محمد علي مكانه؟ هل كان يتطلع إلى الولاية؟ هل كان قصره في الأزبكية لحكم البلاد بدلًا من قلعة الجبل؟ إذا كان قد أخفق في الدفاع عن القصر الذي أعدَّه لنفسه، ثم حُرم من دخوله، فهل يستطيع الدفاع عن البلاد والعباد؟ هل صارت مصر مرتعًا للغزاة والمتآمرين؟
كنَّا نكتفي بإغلاق المحال، والفرار من وجه المتعاركين، والتعبير بالنكتة والدعابة والموال.
تبدَّلت طريقة إقالة الوالي، صار القرار بيد الناس، أصرُّوا على إزالة الوالي، فاستجاب السلطان.
صوت
دخل جامع السلطان الغوري من الباب المفضي إلى شارع المعز لدين الله، صَعِد الدرجات إلى الدركا المربعة، أرضيتها من الرخام الملون، يعلوها سقفٌ من الخشب المزيَّن بزخارف ذهبية، طالعه اتساعُ صحن الجامع. سار — بخطوات متمهلة — ناحية المنبر.
اللمحة الوامضة تلَتها ابتسامة معتذرة: تعثر الواعظ بعد إلقاء خطبة الجمعة.
الجبة الخضراء المفتوحة، القفطان الشاهي، الحزام الحرير الملتف حول الوسط، يعتز بالشال الذي يحيط به رأسه، غمسه في ماء زمزم قبل أن يعود من الحج.
عرف المعلم حجاج الخضري — من مخالطته الحاج حيدر العلاف — ما تفيض به نفسه من التقوى. سُمي العلاف لتجارته في العلافة، وسُمي الحاج، وشيخ الطريقة، وشيخ السجادة، وصاحب السجادة.
ورث تجارة العلافة عن أبيه، تخلَّى عن حلمه في أن يدخل الأزهر، يتلقَّى العلم تحت أعمدته، يدرس على أيدي شيوخه حتى يصبح له العمود الذي يجلس فيه إلى الطلبة. ظل على إخلاصه للعلم، تردَّد على علماء الأزهر، وعلى العلماء خارجه.
اتسعت أعماله، صارت له مكانة بين تجار زمانه، خصَّص حواصلَ للحبوب في رحبات ساحل بولاق. زاد مخزونها عمَّا في رقعة القمح والعلف والغلال بالحسينية والجمالية وبولاق وأسواق وميدان الغلال جنوب باب الشعرية. بضاعته الفول والقمح والذرة والشعير واللوبيا والترمس الجاف. فاقَت شهرتُه ما بلغَته شهرةُ تجار الغلال في أحياء القاهرة.
أضاف إلى مهنته تجارة الخشب، اشترى مخازن لبضاعته من سوق الخشب، القريب من باب الشعرية، لجأ إلى مجموعة من الحطابين والخشابين يجلبون له الأخشاب من قُرى خارج القاهرة، يقطعها، يُعِدها لنجاري الأبواب والشبابيك، وتعاطي تجارة حاصلات زراعية إلى بلاد الإفرنج. اشتغل بتسيير القوافل، يستورد من بلاد المغرب الشيلان والطرابيش والأحذية والزيت والعسل والشمع وملح النطرون، تأتي القوافل من أفريقيا محملة بالرقيق والعاج والصمغ والفلفل واللبان والبخور والزعفران وريش النعام والتمر هندي والزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخرنوب. زاد، فصدَّر إلى الشام المنسوجات القطنية والكتان، واستورد من الشام التبغ والصابون والأقمشة. كوَّن ما يُشبه الرابطة بين تجار رقع القمح بشارع السيدة عائشة النبوية، وشارع بولاق بالسبتية، وشارع باب الخرق، وشارع الأزهر، وشارع بركة الرطل، وجهة العدوي بشارع الزعفراني بباب الشعرية، بالإضافة إلى عشرات الدكاكين التي تقتصر على بيع القمح.
يغادر القاهرة مرة كل ثلاثة أشهر، يعود بقافلة محملة ببضائع من أرض الحجاز، أهمل اتهامًا بأنه يجد في قوافل الحج فرصة لاستيراد البضائع من الحجاز، يُعينه حتى فقراء الحجاج على نقل ما اشتراه، ينقله إلى حواصله في القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط. اتهمه خصومه من التجار بإخلاء حواصل القاهرة من البن، وتخزينه في حواصل المدن الأخرى، يدَّعي نقصه، فترتفع الأسعار بما يسعى إليه.
تعود عليه رحلاته المتكررة بالنفع من بيع ما تحمله قافلتُه من الخيل والدواب والأصواف والأقمشة والجلود الخام والشمع واللبان والبن اليمني والبهارات ونبات المر والبخور والهيل وزهر الليمون والنارنج. شغله أن التجارة مع الحجاز قاصرة على التجار المسلمين، حتى يشارك التجار الأقباط في قوافل الحجاج، وفي المراكب بين الحجاز ومصر، جعل قيسارية التربيعة موضعًا للقاء التجار الأقباط، يأتون من مصر القديمة والصاغة والظاهر ومدن الريف، تنشأ بينه وبينهم تجارة مشتركة، يقضي ما يحتاجون في البيع والشراء، يعهدون إليه ببضائعهم، تُقلُّها قافلتُه إلى الحجاز، أو يوصونه بما تعود به القافلة.
لما زادت الأعداد، قاسم المعلم أحمد المحروقي بجمال في قوافل العلاف، حمولاتها للتجار الأقباط، تنقل بضائعَ لهم بين أرض الحجاز والأرض المصرية.
حصل من تسيير القوافل على ثروات، تكفيه، وتكفي إنفاقه على الطريقة، والصدقات على الفقراء والمعوزين. جعل منظمًا لجلوات الطريقة، ومتقدمًا لها، وطبيبًا لعلاج المريدين المرضى، وحاملين للمشاعل، ومريدًا للسقاية، وآخر للمطبخ، وفرانًا.
أوقف أموالًا على أوجه البر، وعلى أراضٍ وعقارات، أقام أسبلةً صغيرة في شوارع القاهرة، تسقي عابري السبيل والزوار، يدفع للمزملاتي إبراهيم الحموي مصروفه فينقل الماء إلى السبيل، وتسبيل الماء، وتوزيعه على السقَّايين وحاملات الأوعية من سكان الغورية وما حولها.
خصص رباطًا في شارع النحاسين لفقراء المسلمين من غير المتصوفة، لا يطالبون بخرقة الصوفية، ولا طقوس فِرقها.
اشترى رَبْعًا أعلى وكالة قديمة في الشارع الأعظم، جعله ملاذًا لمريدي الطريقة القادمين من مدن الداخل، يُقيمون الصلوات والأذكار، ويقرءون القرآن والحديث، ويدرسون العلوم الشرعية.
أوكل الإشراف على الرَّبع، وتسيير أموره، إلى ناظر ومعاون وكتبة، يساعدهم الكثير من الخدم. خصَّص طبيبًا لتطبيب المرضى وعلاجهم. عدا الصلاة في مواقيتها، لم يُلزم المقيمين في الرَّبع بأي شيء، يحيا المريدون والفقراء والأغراب عن القاهرة بالطريقة التي يريدونها.
عهد إلى المعلم عبد الله البرديني ترميم سبيل وكتاب قايتباي في شارع شيخون. استبدل بالمتهدم من قطع الحجارة والرخام والخشب، أعاد صبغها بالألوان المذهَّبة والملونة، زاد من النوافذ المطلة على الشارع، أعاد تبليط الأرضية، نُقشت بلوحات الفسيفساء الملونة.
حدج — بنظرة متشككة — الرجل ذي الجلباب المتسخ، الممزق، من ورائه أسرته، ثلاثة تلاصقوا في لباس السواد، واتجهت أعينهم إلى الأرض.
– هل تركت زراعتك في الفيوم لتنضم إلى الطريقة؟
بدا الرجل كأنه يغالب البكاء.
قال الحاج حيدر: إقليمكم له شهرة في وفرة الخيرات.
ظل الرجل صامتًا. أشار إلى المتلاصقين خلفه، داخلَ صوتَه نشيج: هجرنا القرية لانعدام القوت!
فسَّر العلاف ما حدث بعكس ما طلب الرجل، يدَّعي التصوف ليأذن له العلاف بالإقامة في بيت مريدي الطريقة.
يوزع على المريدين أصناف الخبز واللحم والحلوى، ويُنفق على إطعام الفقراء والمعوزين، وإغاثة المساكين والأيتام والأرامل والمنقطعين وذوي العاهات وأبناء السبيل، وعلى توفير الكسوة الواقية من حر الصيف، وبرد الشتاء، لمن يعانون الحاجة إليها. أفرد للكثير من الأُسَر والعائلات أرزاقًا، أوقف عليها معصرة زيت، أو طاحونة، أو بقرة تُدر لبنًا، خصَّص أوقافًا أخرى للفقراء والمعدمين وأبناء السبيل والأيامى واليتامى.
يأمر بتوزيع الصدقات في ليلة عاشوراء، وليلة أول رجب، وليلة النصف من شعبان، وليالي الجمع من شهر رمضان. أكثر صدقاته في شهر الصوم، مقتضيات التوسعة تحثُّه على تقديم رواتب إضافية من اللحم والتوابل والخبز والحلوى والحطب، وعلى ذبح الأضحية — عقب صلاة عيد الأضحى — على أبواب المساجد والمزارات والمدارس والتكايا والخانقاوات، تُوزع قطع اللحم على مجاوري الأزهر وأرباب الوظائف والدراويش، وعلى الفقراء من أهل الحي، والوافدين للتبرك بجوامع آل البيت، وأولياء الله الصالحين. يُخرج أموالًا للصلحاء والزهاد ومشايخ الطرق الصوفية، يوزع الأطعمة والحلوى على مجاوري الأزهر. يوزع القفاطين والعباءات على أئمة المساجد، يُقيم ولائم الإفطار للفقراء في رمضان، يشارك في مناسبات الزواج والختان والعزاء والعودة من الحج، يتدخل بالنصيحة لحل ما ينشب من خلافات بين تجار السوق، أو جيران الحي، يعطي للفقراء الراغبين في أداء فريضة الحج ما ييسر لهم مصاريف السفر، يتولَّى الإنفاق على الميت من لحظة فراقه الدنيا، غسله، وتكفينه، وتشييعه إلى المقابر، ودفنه على السنة النبوية.
جعل أوقافًا على تجهيز بنات الأُسَر التي تعجز عن سداد التكاليف، وأوقافًا للأيامى واليتامى واللقطاء وفاقدي البصر والمقعدين، أوكل إلى ثلاثة من الأطباء رعايةَ المرضى الفقراء، يفحصونهم، يَصِفون لهم ناجعَ الأدوية، لا يُعاني المريضُ مشقةَ التردد على الطبيب، بل يتوجَّه إليه الطبيب حيث يُقيم.
ينزل شيوخ الطرق في بيته، يُنفق عليهم الحاج حيدر العلاف من أمواله، يبذل الوساطات لينظموا الحضرات وحلقات الذكر والموالد والجلوات وليالي الإنشاد الديني، لا يضايقهم عساكر الوالي، ولا أمراء المماليك. يقيمون الحضرات، منذ سنوات بعيدة — الذكر، الإنشاد، قراءة الأوراد والمدائح والابتهالات — لكن الملل ظل بعيدًا عن النفوس، يتجدد الأمل في بادرة غير متوقعة، أو حادثة، فاجأت الناس مثلما فاجأت الوالي.
بلغ به اجتهادُه الساحة العليا، مقام رفيع لا يرقى إليه إلا مَن عرف المقامات الصوفية، وأحسَّها. حرص على تزويد مكتبة الأزهر بالمجلدات والوثائق والمراسلات، وجد في ذلك كلِّه إثراءً لذاكرة الناس.
لم يقصر نفسه على حضرته وحدها، ولا ابتعد بمريديه عن بقية الفرق، عُرف بتردده على الحضرات وحلقات الذكر، يؤدي صلاة الجمعة في الجوامع، يشارك في احتفالات النصف من شعبان، وأول رمضان، وليلة القدر، وصلاة العيدين، وموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين، يسير في الموالد والجلوات، يحرص على حضور دروس المغرب في الحسين وعلى الاتصال بشيوخ الفرق الأخرى، الأحمدية والرفاعية والبراهيماتية والقادرية والسعدية والشعيبية والشعراوية والرفاعية.
حكى عنه مريدوه الكثيرَ من الكرامات. يبدو بعضُها أقرب إلى الصدق، وبعضها يَشِي بالكذب، أو الاختراع. رفض أن يشتغل بالرخص والتأويلات، فرغ قلبه، انشغل بذكر الله وطاعته. يجد في الذكر علاجًا للروح، وتقويةً للنفس. يُطيل وقت صلاته وصومه وقراءة أوراده، لا يحمل سوى مصلاته وإبريقه وشوقه إلى عبادة الله.
عُرف عنه عدم السعي إلى السلطان، وعزوفه عن المشي في الركاب، ورفضه إحناء الرأس، بمعنى قبول الذل.
صوت
البيت بلا أبواب في الخارج، أو في الحجرات، حتى الحمام أُسدلت على بابه ستارة قماشية تستر مَن بالداخل. يقرأ المريدون — بعد الصلاة — سورة الإخلاص، والمعوذتين، وفقراتٍ من أحزاب الشاذلية، وما تيسر من الأذكار ويُكررون الصلاة على النبي.
أول ما تعنيه الحضرة حضور النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد من توقيرها واحترامها، وإيفاء ما تقضي به من طقس، لا تُهمل حتى التفصيلات الصغيرة. يُجيد التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر. الذكر ليس مجردَ تطويحات في الهواء. يُطوح أعلى جسده، بينما صوته يعلو بالإنشاد والتسبيحات والتهليلات والتكبيرات. يُضفي على اللحن تشويقًا، يجذب انتباه الحضور بما يخترعه من كلمات وأنغام تُخاطب الوجدان. يستدعي في إنشاده أولياء الله الصالحين. يرافق الإنشاد بالكثير من الإشارات والإيماءات والحركات المعبرة. إن عصَته كلماتُ الإنشاد، حاول التعويض بالإشارات المعبرة، ختام الحضرة بالذكر والتأمين على الدعاء.
بعد أن تخلوَ الحضرة، يميل الحاج حيدر العلاف إلى التعبد بعيدًا عن مراقبة الناس. يخلو إلى قراءاته وأوراده وأذكاره في حجرة مظلمة، لا يراه فيها أحد. يقوم الليل، يسبح لله، ويتهجد، ويتضرع إليه. يلجأ إلى قوَّته الباطنة في تصرفات كثيرة. يضع أهل البيت صينية طعامه أمام الخلوة التي أغلقها على نفسه، على يمين القاعة الفسيحة، تتوزع في أركانها أضواء القناديل، يتناثر المريدون، قعودًا ونيامًا، ممر مسقوف، أشبه بالقبو يؤدي إلى خلوة الشيخ، حجرة خالية، إلا من حصير، وكومة ثياب يستبدلها بالوسادة، ومنضدة صغيرة يضع عليها كتبه وأوراقه، وعلى الجدار ثبَّت مسمارًا يُعلق فيه ملابسه.
يفتح الباب في الوقت الذي يختاره، تتلفَّت نظراته قبل أن يأخذ الصينية إلى الداخل، ويُغلق الباب.
يصمت مريدوه عن سؤاله منذ يغادر الخلوة، حتى يؤم الصلاة، هو في تلك اللحظات يُسلم وجدانه إلى الذات العلية، يأخذه الله من نفسه، لا ينتمي إلى الدنيا المعاشة، لكنه يستغرق في النور والبهاء، وملازمة العبادة والذكر والتسبيح.
باع الكثير من أملاكه، وقف أجزاءً منها على وجوه الخير. صارح مريديه باعتزامه تخصيصَ نصيبٍ لكلٍّ من ابنَيه، وتقاسَم ما بقيَ من أموال وعقارات، ما بحوزته يجب أن يكون شركةً بينهم وبينه. مع أن العبادة شغلَته عن أملاكه، وعن حرفة يتكسب منها، فإنه حين يريد النقود كان يرفع يدَيه إلى السماء، يلقف فيهما ما يدفعه لقضاء حاجة. أيقن أنه لا يدعو بشيء إلا تحقَّقَت الاستجابة الإلهية.
يختار الأربعاء للقاء مريديه، هو اليوم الذي برَّأ فيه الله النبيَّ أيوب من الابتلاء. حفظ عنه مريدوه أقوالًا، أعادوا ترديدها. عوَّد مريديه أن يقصروا أفعالهم على ما يأمرهم به، لا يتكلمون، ولا يتصرفون، بوازعٍ من أنفسهم.
فكَّر لو أنه جعل ميدان الحسين موضعًا لخيام طريقته، يتصل الميدان بالشوارع المفضية إلى الجمالية والدراسة، نقطة انطلاق لمريدي الطريقة، وشعائرها، وأعلامها، يَفِدون من أم الغلام والموسكي والصنادقية والباب الأخضر والأزهر.
من أوراق السيد عمر مكرم
زرت المعهد المصري في قصر حسن كاشف بالناصرية. أنشأه بونابرت للتغلب على الحصار الإنجليزي، عقب تدمير أسطول الفرنسيِّين في أبو قير، ولوضع دعامات تُتيح له العيش في بلد لا يحبهم أهله، هو امتداد — كما عرفت — لوظائف علماء وصف مصر. تابعت إنشاء حسن كاشف للقصر. أطال الجلوس في الحديقة الواسعة أمامه، يُشرف، ويوجه، ويُبدي الملاحظات، ويعطي الأوامر. بدا أن الفرنسيِّين استولوا على القصر قبل أن تُطلَى واجهتُه.
البناية تركية الطراز، عالية النوافذ والشرفات، تُحيط به حديقة واسعة، تُظللها الأشجار، وتمتدُّ فيها الأعمدة الرخام، المشجرة بتعاريج الصدف، تتوسطها نافورات تنبثق منها المياه.
غمرني التأثر لحسن استقبال القائمين على المجمع، يرحبون بالزوار، لا يردونهم عن الوقوف أمام المعروضات، أو السؤال عن طبيعة المعامل، والتجارب التي يفرغون لها.
شاهدتُ المعدات العلمية والمعامل وأدوات الاستطلاع والقياس وآلات التقطير والقدور الهائلة والأوعية والقوارير والبرطمانات والزجاجات والكئوس ذات الأشكال الطويلة والمستديرة، وعُلَب الطب الكيماوي والمكتبتين الحافلتين بالوثائق والمخطوطات والمجلدات، تشمل علوم الدين والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والسياسة والأخلاق ومؤلفات القصة والشعر والفنون والرحلات. تذكرت قول الشيخ حسن العطار: ذلك — يقصد علوم الفرنسيِّين — ما لا تسعه عقول أمثالنا من تلك العلوم السحر والتنجيم وادعاء ما ليس صحيحًا.
يدرس القائمون على المعهد جغرافيةَ البلاد وتاريخها، وأنواع النبات والأعشاب والحيوان والطير والزواحف والحشرات ومخلوقات البحر، وعادات المديريات والقبائل والعائلات والمدن وقرى الريف، وتنمية موارد البلاد، وتوزيع أعباء الضرائب.
تعرفتُ — للمرة الأولى — إلى المطبعة الجديدة، تطبع باللغات العربية والفرنسية واللاتينية والسريانية. لم تكن المطبعة — حتى قدوم الفرنسيِّين — تعرف اللغة العربية.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وتركوا فيه جملةً كبيرة من كُتُبهم، وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويُحضرونها للطلبة، ومَن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم، فتجتمع الطلبة منهم كلَّ يوم قبل الظهر بساعتين، يجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسٍ منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة، فيطلب مَن يريد المراجعة ما شاء منها، فيُحضرها الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون، حتى أسافلهم من العساكر، وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة، لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقَّونه بالبشاشة والضحك، وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا فيه قابليةً أو معرفة أو تطلُّعًا للنظر في المعارف، بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويُحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير، وكرات البلاد، والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسِيَر الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم، وحوادث أممهم مما يحير الأفكار. ولقد ذهبت إليهم مرارًا، وأطلعوني على ذلك. فمن جملة ما رأيته كتابٌ كبير يشتمل على سيرة النبي ﷺ، ومصورة به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم، وهو قائم على قدمَيه ناظرًا إلى السماء كالمرهب للخليفة، وبيده اليمنى السيف، وفي اليسرى الكتاب، وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف، وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي الأخرى صورة المعراج والبراق، وهو ﷺ راكب عليه من صخرة بيت المقدس، وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني، كذلك صورة الأئمة المجتهدين، وبقية الخلفاء والسلاطين، ومثال إسلامبول، وما بها من المساجد العظام؛ كآيا صوفية، وجامع السلطان محمد، وهيئة المولد النبوي، وجمعية أصناف الناس لذلك، كذلك السلطان سليمان، وهيئة صلاة الجمعة فيه، وأبي أيوب الأنصاري، وهيئة صلاة الجنازة فيه، وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد، والصور والأشكال والأقلام المرسومة بها، وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور عن الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم، ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض، ويُعبرون عنه بقولهم: شفاء شريف، والبردة للبوصيري، ويحفظون جملةً من أبياتها، وترجموها بلغتهم، ورأيت بعضهم يحفظ سورًا من القرآن، ولهم تطلُّع زائد للعلوم، وأكثرها الرياضة، ومعرفة اللغات، واجتهادٌ كبير في معرفة اللغات، واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق، ويبدءون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتبٌ مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها، بحيث يسهل عليهم نقلُ ما يريدون من أية لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت.»
من أوراق السيد عمر مكرم
عرفت أن الباشا أوفد موظفيه إلى المعهد المصري بالناصرية، سجَّلوا رؤاهم لما يضمُّه المعهد من معداتٍ ومعاملَ وكتبٍ واختراعات. ارتحتُ للتصور بأن الرجل أجاد الإنصات لنصيحتي أن نقرب الهُوَّة، إن لم نستطع رَدْمها بيننا وبين الفرنجة.
رفض السلطان الغوري أن يستعمل سلاح البمب ضد عساكر السلطان سليم. أصرَّ على المقاتلة بالسيف، هو السلاح الذي شرعه الإسلام في حروبه. حلَّت الهزيمة بالعديد من مدن الإسلام، ودخل العثمانيون مصر، بداية لما عاناه أهلها من التأخر. ستظل بلادنا نهبًا لأطماع المستعمرين، ما لم تنفض غبار التخلف.
قلت: إذا كنت أدعو إلى النظر لما أتى به الفرنسيون من تقدُّم، فإني أسبق هذه الدعوة بالنظر لما أسداه العلماء العرب إلى العالم.
أثنيت — بيني وبين نفسي، وأمام العلماء — على إنصات الباشا لنصيحة الشيخ حسن العطار بإلحاق الشاب الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي مرشدًا دينيًّا لأولى بعثات الطلبة المصريين إلى باريس.
من أوراق السيد عمر مكرم
بدأ الباشا في مراجعة الأمور، بما يكفل اتخاذ القرارات التي تصون الحكم والهيبة، هو الذي يقرر القواعد والضوابط.
وعد بإحكام إغلاق باب الظلم، وإقامة الشرائع، والحرص على إعلاء كلمة الله، وتنفيذ أحكام الشريعة، وحفظ الحقوق، ورعاية الواجبات، لا يظلم الرعية، ولا يجدد مظلمة، ويُبطل ما أحدثه الولاة السابقون من المظالم والمصادرات، والحكم بين الناس بالعدل، ورعي شئونهم بالرفق، وتوفير الغذاء، والحد من ارتفاع الأسعار.
أول ما قطعه الباشا على نفسه أن يُقلص سلطة الجند، لا يتحكمون إلا في مساحة المهام التي يُوكلها الوالي إليهم، بدأ بأمر جنده أن يكفُّوا الأذى عن الناس، ولا يرهقوهم بالتشويش، لا يرابطون في القاهرة، ولا يدخلونها بالسلاح. يقتصر وجودهم على مواضع في الجيزة، لا يترددون على الحانات وأماكن اللهو، عدا المحال المخصصة لهم في جزيرة الروضة، الكف عن فرض ضرائب، أو إتاوات، جديدة، إعادة المواصلات مع مناطق الصعيد.
منح الأمان للناس بعامة، وللأمراء المصرلية بخاصة، وأنه لا يظلمهم ولا يخذلهم، أمر الجباة ألَّا يتعدوا حدود الله في تحصيل الخراج والمغارم.
جعل لنظام التجسس أولوية على ما عداه من أنظمة الحكم، يكشف تدبيرات الجرائم قبل وقوعها، مَن يسلب الناس أرزاقهم، يفضحه، ويُنهي أيامه. يتنصت على أقوال الساعين إلى الشر، ينالهم عقاب المفسدين، حظر حمل الأسلحة على أي شخص، ما لم يكن من أعوان الشرطة، أو من خدم الوالي.
وعد بسد الثغور، وبإعداد الجيوش، وقهر المتغلبة والمتلصصة، وقطَّاع الطرق، وقطع المنازعات الواقعة بين الخصوم، والانتصاف للمظلوم من الظالمين. وحقن دماء المصريين، وحفظ أموالهم، وحفظ مصالح الناس الدينية والدنيوية، والعمل على رفاهية أحوال العباد، وعمارة البلاد. أمر بنفي الكثير من العمال إلى قُراهم. اتهمهم بالميل إلى برزخ التكاسل واللامبالاة، وتعطيل مصلحة الأهالي. عزل القضاة المتعنتين في أحكامهم، أوقف الخيرات على معاهد الدرس ودور العبادة. أوقف على المساجد إضاءتها بالشموع والقناديل، رفض الاعتداء على الأوقاف والرزق. حرص على احتواء المشايخ، والإنعام عليهم، والتقرب منهم. أعاد إليهم رزقهم وأراضيَهم. صارت بينهم وبينه مصافاة ومحبة. أكثر من الخلع والرواتب والمسامحات وإقطاع الأراضي، وتفريق النقود والهبات، فرق — باسم السلطان — مبالغَ ماليةً على مجاوري الأزهر، دعاهم إلى قراءة صحيح البخاري، والدعوة للسلطان بالنصر، رتَّب لهم في كل يوم ما بين مائة وثلاثمائة نصف فضة. خصص أموالًا للمسنين وذوي العاهات والنساء المعيلات والقاصرين، عمَّ برُّه وإحسانه فقراءَ المسلمين.
عَهِد إلى عمَّاله بإقامة السياسات في أقاليمهم، وفرض العقوبات الزاجرة. أبطل الرشوة ظاهرًا وباطنًا. عُنيَ بالقضاء على ظاهرة المحاسيب التي تتكوَّن حول كبار الموظفين. شدَّد على رقابة المتلصصين والمترصدين وشيوخ المناسر. أمر بإغلاق الكثير من المقاهي، حظر تناول المشروبات المسكرة والقهوة، وإن أبقى على تدخين التبغ. دعا إلى إقامة الدعوة بالحجة، وإماتة البدع والأهواء، وقبائل الفرق المارقة. شدَّد على إخراج ما في المخازن والوكائل من البضائع المحجوزة، تمتلئ بها الأسواق، يلقَى الناس — في يسر — حاجاتِهم من الطعام.
عُنيَ بإزالة تلال الأتربة والردم المحيطة بالمدينة، سيَّر العربات في الشوارع، تحمل الردم والأتربة والقمامة إلى مواضع بعيدة عن العمران. أزال الكثير من المصاطب لتوسعة الشوارع. أمر بنظافة الشوارع من الأوساخ والقمامة وفضلات البيوت، سيَّر في الطرق عربات الرش، وانتشر الكناسون.
أمر الحاج حيدر العلاف أتباعه، اخترقوا شوارع المحروسة، تهتز الرءوس، وتتمايل الأجساد، وتسري النشوة في النفوس، يرافقهم قرعُ الطبول والدفوف، وعزف العود والنايات والمزامير، وضجيج الموسيقى النحاسية، والإنشاد، ورقصات المولوية، والتغنِّي ببردة البوصيري.
كتب الجبرتي في تاريخه
«إن السيد عمر النقيب توسَّط لدى الباشا لرفع الغرامات عن الحرفيِّين، واستجاب الباشا، وأصدر فرمانًا برفع الغرامة عنهم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أزمعتُ ألَّا أُفارق الباشا محمد علي في الدنيا، وعند الوقوف أمام العرش الإلهي في الآخرة. انتقلَت عدوى اطمئناني إلى حجاج الخضري في نيات محمد علي. أعلن ثقته في تقديري للأحداث.
شاركني الشيخ الشرقاوي إلباسَ محمد علي خلعةً تهبه الولاية، خرجنا — من بيته بالأزبكية — يحيط بنا العشرات من العلماء والوجهاء والتجار والعوام، علَت النداءات والهتافات بعزل الوالي خورشيد، وتولية محمد علي بدلًا منه.
لاطفَ حجاج الخضري، وبذل الأمان له، ولأعوانه. سكت عن قول الخضري: لو حدتَ عن الحق، فسنعزلك. يتكلم بما في قلبه من غير تعمد، ولا تدقيق، يلجأ إلى بديهته لاختيار الكلمات التي يُمليها الموقف، لا يتعمد الاختيار، يطرح التكلف، يميل إلى المباسطة.
فسَّرت تقلص ملامح الوالي بعكس المعنى، ثم صمته، إلى ارتباك لحظات الاختيار، الخطوة التي تُعيده إلى الخلف، أو تدفع به إلى الأمام، فيصبح حاكمًا.
صوت
لماذا لم يَسِر السيد عمر مكرم في الطريق إلى نهايتها؟ يجني ثمار ما زرعه أهل البلاد، وحصدوه؟
لم يكن سعيُ محمد علي بين المشايخ والوجهاء لصالح الناس، بقدر ما شغله تأكيدُ مكانته في النفوس.
خاطب قلوب المصريين، فدعا السيد عمر مكرم الأسيوطي إلى تولِّيه حكم البلاد. صارت البلاد بعد رحيل الفرنسيِّين نهبًا للعثمانيين والمماليك، ومناطق يحتلها الإنجليز.
عرفت أن معظم المعارك بتدبير من محمد علي نفسه، استعان — في بدايات حكمه — بالجند الأتراك والأرناءوط والدلاة من جند الشام. لم يقصر نفسه على قيادتهم، إنما عمل على إثارة الخلافات والإحَن بين تنوع فصائلهم، هو الذي ألَّب الفصائل بعضها على بعض، وهو الذي سرَّب الأقاويل والأنباء الكاذبة، وحرَّض، وقدَّم السلاح لكل الأطراف المتصارعة. يرمي بين الناس بالعداوة، تتحفز كلُّ جماعة، تترصد للأخرى، تنشب معارك ومذابح.
مضى على قدومه إلى مصر ثلاث سنوات، جعل لنفسه الحق فيها — أو بعدها — أن يظفر، دون أمراء المماليك، حكم المصريين.
صوت
أحب ريحانة، بنت هنومة الكودية.
أول رؤيته لها، وهي مقبلة على الوكالة، تحمل حقيبة من القماش، تُسدل على جسدها — من العنق حتى القدمين— عباءةً من النسيج الدمشقي، عدلت — بما يُشبه العفوية — من البرقع ذي القصبة المذهَّبة، جذبه وجه مثل فلقة القمر.
تابعها في تنقلها بين الأجولة والأقفاص في الدكاكين المجاورة، حتى توقفت للشراء، فاصلت، واشترت، لم تُفلتها عيناه حتى عبرت الطريق إلى داخل الجمالية.
تكررت رؤيته لها، في غبشة الفجر، أمام مقام الحسين. يتابع خطواتها المتثنية، حتى تغيب عن نظره.
حرص — في الأيام التالية — أن ينتظر مجيئها، راقبها في ترددها على السوق لشراء حاجة الكودية هنومة، أزاحت النقاب في ميلها لتفحص البضاعة، نظر إليها حتى امتلأ، كأنما أفرغت في قالب الجمال.
يُغلق باب الوكالة عند حلول الليل. يعقب أذان المغرب اتجاه الخفير لقمة ناحية الباب، ربما ساعد السكان لقمة على إغلاق الباب، تظل الوكالة مغلقة طول الليل.
العادة أن يَصِل التاجر إلى دكانه، أو وكالته، في السابعة صباحًا، أو بعدها بقليل. يَصِل الحاج حيدر إلى الوكالة عقب صلاة الفجر، من بيته المقابل لجامع ابن طولون، يخترق شارع طولون، ومنه إلى الشارع الأعظم، يخلف السيوفية والسروجية والمغربلين والخيامية، حتى باب زويلة. يتجه إلى الوكالة في شارع السلطان الغوري، يحرص أن يفتحها بنفسه، يأذن للخفير لقمة بالنوم — عقب صلاة الفجر — في جامع الحاكم القريب.
المدخل يُفضي إلى فناء كبير، من حوله حواصلُ لتخزين الصناديق والأجولة والأمتعة، في الطابق العلوي رواق، به حواصل وغُرَف للسكنى، قصرها على حفظ أنواع العلافة والعطارة، في أوسط المدخل كرسيٌّ للمصحف الشريف، زُيِّن بفسيفساء بديعة التكوين.
يطمئن إلى هدوء الداخل، يجلس في مدخل الوكالة بمفرده، يرقب حركة الطريق، يتلو آياتٍ من المصحف، يُتمتم بما يسعفه به لسانه من الذكر والأوراد والإنشاد الهامس والابتهال والدعاء …
شيء لا يتبيَّنه — غير الجمال الرباني — جذبه إليها.
يتردد على الوكالة الكثير من النساء، يتعدد ما يرتدين بين العباءة والنقاب والملاءة اللف والبرقع، يروق ذهنه عقب مغادرتهن الوكالة، لكن تلك المرأة شيء آخر، أنثى، من نوع لم يلتقِ به، يقصده النسوة في وصفات العلاج، واكتساب السمنة والجمال، ربما سار الكلام في أرض شائكة، لكن اللحظات تنتهي بنهايتها، لا يوجد ما بعد، بذلت المرأة في حياته كلَّ شيء.
حاول أن يمنع عينَيه من لقاء عينَيها، أدارت وجهها ناحيته، وابتسمت.
راعه أنها تُطيل إليه النظر دون أن تطرف عيناها.
انزلقت نظراته من العينين المطلَّتَين خلف البرقع، إلى الثديَين المتكورين تحت الملاءة اللف.
استبدلت الملاءة بالعباءة السوداء، تكور الأجزاء البارزة، تعرَّى أعلى الصدر والساقين والقدمين الواقفتين على أطرافهما في قبقاب خشبي ذي كعب عالٍ.
فطن إلى أن هناك سرًّا تحاول إخفاءه. تمنَّى أن يُتاحَ له سبرُ أغوارها.
طارده الإحساس بأن المرأة تنظر إليه، نظرات صامتة، تقول فيها أشياء كثيرة، تتابعه نظراتُها في حركاته وسكناته، واتَته رغبة في أن يُزيح البرقع عن وجهها، العينان تتصلان بمحاسن الوجه. فكَّر في أن يُبادلها النظرات، ثم عدل، يكتفي بالأخذ والرد، دون أن يحاول الاتجاه بنظراته نحوها.
ظن أن وفاة زوجته أنهَت علاقته بالنساء، انغمس في الحضرات والأذكار والجلوات وسماع الإنشاد والتسابيح. أشد ما كان يُشعره بالارتباك حين تغلب صورتها في وجوه الذاكرين.
أحدثَت المرأة تحوُّلًا في حياته، أخفق في الفرار من ملامحها، لم تَعُد تُفارقه، تتبعه، تُلاحقه، صوتها في أُذُنَيه، صورتها أمامه، ما تبادلاه من كلمات قليلة يجترُّه، يلحُّ على ذاكرته، يُخايله وجهها في المرئيات حوله. لا تغيب صورتها، طيفها، تلازم أحلامه، يصحو على ما كان قد استغرقه في المنام، يبتسم، ويسعد، ويحزن، لمواقف يتخيلها في أوقاتِ خلوِّه إلى نفسه، وفي أوقات الجلوس في الوكالة، حتى في أثناء رسامته للذكر تُطالعه ملامحها في الدفوف والطبول، تُغريه بشفتها المتدلية. فاجأه وجهُها في كوب الماء وهو يُدنيه من فمه.
أقسم السقا عبد الغفار الدشطوطي أنه رآها تنزل النهر، من ناحية الخليج، بثوب نومها، تدعك جسدها بطمي النيل، وتتقافز في مياهه. اتهمها كنعان كحالة التاجر بالحمزاوي بأنها ترددت على حمامات الفرنسيِّين، خلف ميدان بركة الفيل. وثمة مَن التقاها في مواقف، أو بيوت الخواطي.
أضاف كنعان قوله بنبرة واثقة: هي تعيش من انفراجة ساقَيها.
لم يتردد على بيوت الخواطي، وإن عرف — من روايات صبيانه — أنها أبنية على هيئة مخصوصة متنزهة، يجتمع بها النساء ورجال اللهو والخلاعة، في أوقات مخصوصة، جعلوا على كلِّ من يدخل إليها قدرًا مخصوصًا، يدفعه، أو يكون مأذونًا، وبيده ورقة.
ما تكاد تميل إلى أول الشارع، حتى تتطلع الأعين، ترنو، تُحدق، تُهمل حتى ملاحظته لاتجاه نظراتهم، وما تنطوي عليه.
حين حكى ما رآه للشيخ محرم الخادم مؤذن الجامع، قال المؤذن في جدية، لم يعهدها، إن إطالة النظر إلى هذه الفتاة عبادة، لأن جمالها من صنع الله!
ووضع أصابعَ مضمومةً على شفتَيه: الوالي محبٌّ للنساء، لو أنه شاهد هذه المرأة ربما ضمَّها لحريمه!
قال الحاج حيدر: هو محبٌّ للنساء، لكنه أبقى على زوجته الوحيدة.
قال مغاوري تليمة: أمينة هانم سيدة محترمة.
وانتزع ابتسامة باهتة: الباشا يحترمها.
لم يُزايله التفكير في المرأة، استدعاء الملامح التي فتنته: كلماتها وإيماءاتها، وتحريض عينَيها، وشفتها المتدلية، والابتسامة الداعية التي تُواجهه بها. ربما التفتَ إلى صوت كصوتها، يتنبَّه إلى أنه في البيت، أو في موضع بعيد عن الغورية.
عرف أنها يتيمة الأب، تعيش مع أمها، تُشاركها حفلات الزار، دورها يقتصر على المشاركة في ترديد الأغنيات.
حكى حجاج الخضري عن رؤيته لها ضمن فرقة المحبظين في جلسته بالمقهى، حدَّثه مغاوري تليمة حديث العارف بأحوال بيت هنومة في ناحية سوق السلاح. أمضى فترة طويلة من لياليه، في التردد على البيت. بعد أن كانت مفرداته هي الرياضة والمجاهدة والتجلِّي والكشف وغيرها مما اعتاده من تعبيرات الصوفية، استبدل بها مفردات يجد فيها ضيوفَ هنومة ما يروقهم، العود والوتر والسماع والغناء والشطح والرقص وغيرها من التعبيرات التي تحتمل معانيَ صوفية، وتحتمل — في ظنون أخرى — معانيَ تسعد بها حياة الناس، فاجأ أصدقاءه بقصائد وموشحات، ألَّفها، أو نقلها. يحفظ الكثير من قصائد الغزل، حتى ما قد يعتذر عن تلقيه الحفَّاظ والرواة، ويعتذر الوراقون عن نَسْخه.
منذ رحلَت زوجته، بدأ الانسحاب من الحياة، حزن عليها، بما حرك الإشفاق في نفوس أهل القاهرة، غاير رجال وقته في أنه لم يخلص إلا لزوجته، لم يتزوج عليها، ولا اقتنى جارية، بنَى لها عند مسجد السيدة فاطمة النبوية قبرًا، أقام عليه مقصورة، وعلَّق القناديل، وفرش أرضيته بالسجاد والحصير، خصَّص له قُرَّاء يتلون القرآن في أيام الأسبوع، وكان يتردد عليه، يخلو إلى ما في مكتبه، ويتلو القرآن، ويتأمل.
طرد يوسف هنداوي الدقاق بالوكالة لعرضه أن يتردد على بيوت الخواطي. هل شكوت لك؟ هل تُحرِّضني على غضب الله؟
تمنَّى — بعد أن عاد إلى نفسه — فتاةً، امرأة، تُومئ له، فينتبه.
يخرج من البيت عقب أذان الفجر، يخترق الشوارع والدروب والحارات، يتلفت في وقفته على باب الوكالة، مغطًّى بالأجولة المتراصة، تفوح منها روائح العلافة.
اعتاد رؤية الفتاة في الموعد نفسه كل صباح. لامسَت نظراتُه عينَيها النجلاوَين، احتواه بريقُهما.
اتجه بنظرته إلى أسفل، خشيَ أن تفطن إلى توتره: القمر يظهر أول الليل، ويغيب في الفجر، قمرنا يظهر في الفجر!
لفَّت الملاءة حول جسدها ووجهها، زمَّت بها الخصر والردفَين، أسدلت على وجهها البرقع، ترتدي خفًّا من القماش.
بدَت — في وقفتها — كأنها تنتظر شيئًا ما، ينعكس على ملامحها بالقلق. ثبَّتَت عينَيها الواسعتين في وجهه، لها نظراتٌ داعية، وإن حيَّره تفسيرُها، لم يدرِ إن ظل على هدوئه، أم يُقدم على ما يُسيء إليه.
عكسَت نظرتُه المحدقة في الأرض، انشغاله بالمرأة الواقفة أمامه، تَشِي نظراتُها بما يُشبه الخوف، أو طلب الغوث، ليست نظرةً عابرة، لكنها نظرات متلاحقة، تحاول البحث عن شيء تريده، أو تتمناه.
ثبَّتَت عينَيها عليه لتدفعه إلى مواجهتها، لكنه اتجه بنظراته إلى الناحية المقابلة. تشاغلَت بالتأكد من موضع العروسة فوق أرنبة الأنف.
رفع رأسه من إنصاته الهادئ، ونظراته الشاردة، أطال النظر إليها، يبحث في ملامحها عن علامات تَشِي بما تُخفيه.
نزعَت البرقع، وأدارت وجهها.
أربكَته نظرتُها المحدقة.
أعاد تأمُّلَها كأنه يراها للمرة الأولى: عينَين سوداوَين، واسعتَين، مرسومتَين بالكحل، تَشِيان بجرأة، بشرة خمرية ناعمة، أنف دقيق، شفتَين بلون الفراولة. شعر أسود، ضفَّرته في ضفيرتَين طويلتين، أسدلَتهما على كتفَيها.
تردَّد على الدكاكين الملاصقة للوكالة نساءٌ كثيرات، بِعْنَ واشترَينَ، قصدنَه في العون، وشاركَت نساءٌ في إعداد الطعام للطريقة، لم يَشْغله إلا هذه المرأة، هي أجمل امرأة رآها في حياته.
لَزِم طَيفُها مخيلتَه، يستعيد خطواتِها المتثاقلة، وابتسامة عينَيها، وانفراجة شفتَيها عن دعوة صامتة، يحاول أن يطرد الطيف، يقرأ المعوذتين كمَن يطرد الشيطان، لكن الملامح الشاحبة تنبثق — واضحة — في ذهنه.
ينتظر — كل فجر — طلَّتها عليه. تتمثَّل لعينَيه بمجرد جلوسه في الوكالة، تجول نظراتُه بآلية في المكان، ثم تستقر على أول الشارع. تسكره ارتعاشةُ فرح عند قدومها، تُتابعها النظرات العطشى في تنقُّلها داخل السوق، تنتقي، تُفاصل، تشتري، تُلقي ناحيتَه بالإيماءة التي تلقَى استجابة.
تختلط في نفسه مشاعرُ الارتباك والخوف واللذة، تملؤه الرغبة في استبقائها، يتناسَى أنها لا بد أن تنصرف من الوكالة، يتمنَّى أن يُطيلَا الكلام، صوتُها ملك عليه نفسه، تسأل ويجيب، تبذل كلماتها ببساطة، يبحث عن التعبيرات المضمرة، الواعدة.
صوت
أخذ على العلماء والوجهاء عهدًا ألَّا يُحرضوا الناس للثورة، يصعدوا القلعة، يسحبوا السجادة من تحته، تعلو أفواههم بالقول: انزل يا باشا. هذا عهد، مَن ينقض العهد فإن عليه أن يتحمَّل مغبةَ فعلته.
صوت
مال قلب الباشا إليه بالود، وجد فيه نفسًا طيبة، يفتقدها في الكثير من المشايخ والعلماء. حرص على أن يكرمه، يشاوره في الأمر.
أظهر السيد عمر النقيب محبته للباشا، ودخل تحت طاعته. أتاح له موقعه في نفس الباشا أن يحصل على ما يقصده من خدمة للفقراء وطالبي النصفة. أكثر الباشا من قبول شفاعة السيد عمر أفندي في الكثير من البسطاء والغلابة. يقينه أنه يرفع الظلم عن الناس قدر طاقته. اعتقد محمد علي كأنه شيخه، صار يمتدحه في المجالس، يروِّج له بين العلماء والتجار والوجهاء والناس العاديِّين.
صار مأوًى للمظلومين وذوي الحاجات. يقصده الناس كلما اشتد بهم الكرب، أو وقع الظلم. يرفع الظلامات — بما له من هيبة ونفوذ — إلى مقام الوالي. شفاعته في الناس لا تُرَد. لا يتقاعس في الشفاعة عند الباشا لامرئٍ يتيقن من وقوعه ضحيةَ ظلم. وكان يتحمل هموم الناس، يرى أن الله أقامه في قضاء حوائج الناس، ورفع الظلم عنهم. يُحسن الظن بهم، حتى لو ارتكبوا من الأخطاء ما يدعو إلى المؤاخذة والعقاب.
يعرف أن ما قدَّره له الله، لن يستطيع أحد أن يمنعه، أو يُبدله. يدفع عن نفسه وسوسات الشيطان بالخلوة والصمت والصوم وقلة النوم وقراءة القرآن والأوراد، يؤدي الصلاة في أوقاتها، يُضيف إليها النوافل، ريما استغرق في صلاة الشفع والوتر حتى ينسى أهلُ بيته ومريدوه لزومَه حجرته، تستغرقه أحوال ومشاهدات ورؤى. اشتهر بالرسائل التي تبادلها مع الولاة والأعيان والوزراء والأقطاب في مصر، وفي إمارات الإسلام.
قال الشيخ شوقي أبو شامة مداعبًا: لو أن الباشا دخل الصوفية، ربما أفلح الشيخ حيدر العلاف في جذبه إلى طريقته، يصير من أتباعه، فيفرض عليه الشيخ سيطرته.
من أوراق السيد عمر مكرم
حرصت على القرب من مجلس الوالي، تشغلني صحبته، لا لأجل الدنيا، وإنما لتبصيره بحساب الآخرة. بدَت كلمات الباشا وعدًا مؤكدًا بالإصلاح الوشيك. طاف رجاله شوارع القاهرة، يُعلنون إلغاء المظالم، ومعاقبة مَن يحاول سلب حقوق الناس.
توقَّعنا أن يفيَ بما وعد به قبل ولايته من أفعال الخير والغوث، يرعى المظلومين، يُعنَى بإزالة ما يعانونه من المظالم، يحفظ دماء الرعية وأموالهم وحريمهم، يحرص ألَّا يزيغ عن الحق في أحكامه، يخشى أخذةَ الحق سبحانه وتعالى، يقوم للعلماء إذا دخل أحدهم عليه. لم يكن خورشيد، ولا مَن سبقوه يفعل ذلك. أراحني — بقصر مجلسه على علماء يطمئن إلى مجالسهم — من التعب في ملاحظة تصرفاته وأفعاله، ونُصْحه بما قد يكون مخالفًا لصحيح الدين. مَن يُزيِّنون الباطل للحاكم، فإنهم يتحمَّلون معه تبعاتِ أفعاله في الدنيا، يشاركونه بفتاواهم وتحريضاتهم، وتبديل صور الباطل، تبدو كأنها العدل.
قلت: الناس يحبونكم، يدعون لكم بالتوفيق.
حضَّني — بنظرة صامتة — على الاسترسال.
– ما مضى ترك الناس في حال الفقر والبعد عمَّا يجري في الدنيا.
وجدت منه إنصاتًا. قلت: كان آباؤنا قادرين على الاختراع وتقديم ما لا تسعه عقول الفرنجة.
حدستُ أنه يعرف مقصدي: نحن لا تنقصنا العقول المفكرة ولا الرغبة في التقدم.
لمحت الشرود في عينَيه، قلت: لو أننا اختصرنا المسافة بإرسال مبعوثين إلى بلاد الفرنجة لتحصيل العلوم التي تُفيد حياتنا.
كلمت الباشا عن تلبيتي دعوةَ ساري عسكر الفرنسيين بزيارة الديوان الفرنسي.
أراد الفرنسيون مدارةَ تدبيراتهم، بإدهاش المصريين، غرس التيقن في نفوس العلماء المصريين أن عقول أمثالهم لا تسع — على حدِّ تعبير الشيخ العطار — ما يصنعه الفرنسيون.
أحترم ما يصدر عن الشيخ حسن العطار من آراء عالم جليل، تفقَّه في دينه، وأحسن الإفادة من علمه في تبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم، لكن القول بأن الفرنسيِّين لديهم ما لا تسعه عقولنا يستحق المراجعة.
هل خلَت حضارتنا من علماء الجبر والهندسة والكيمياء والتشريح والفلك والأدب؟ ألم تسبق الحضارة الإسلامية — بما قدمت لصالح الناس — ما تُقدِّمه حضارتهم البازغة من اختراعات؟
كتب الجبرتي في تاريخه
«وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع في الأمور الكلية الجزئية.»
صوت
قرر سليم الثالث عزل محمد علي. استبدل به يوسف باشا والي سالونيك، وعيَّن محمد علي واليًا على سالونيك. رفض محمد علي، فرأى سليم الثالث إرساله إلى الحجاز لقتال الوهابيِّين. حدثَت بعد ذلك مؤامرة لطيف باشا عقب قدومه من إسطنبول.
لم يكن محمد علي مطمئنًا إلى ولايته. كان يحتاج إلى القوة والتآمر. أدرك أن السلطان رضخ لإرادة أهل مصر بتوليته. حين صدر فرمان نقله إلى ولاية سالونيك، فلأن السلطان تصور مناصرة المصريين لمحمد علي هبَّة من تلك التي تخلَّلت تاريخهم.
صوت
ردَّد الناس — في الأسواق — شائعةً غريبة، هي هجوم جنود الباشا على قوافل حجاج الصعيد ليلًا، والسطو على ما بها من أموال ومتاع. أخطر ما تناقلَته الأفواه أن ما جرى كان بتدبير الباشا وأمره.
من أوراق السيد عمر مكرم
علمت أن محمد بك الألفي عاد من عاصمة الإنجليز، كانوا قد اصطحبوه عند مغادرتهم البلاد، علَّموه السياسة الإنجليزية، ووسائل إنشاء حزب يحكم به مصر، ما أخفق في صنعه علي بك الكبير يعهدون إلى الألفي بإتمامه، قيل إنهم وعدوه بالسعي لدى الباب العالي، حتى يوافق على تسلُّمه ولاية مصر. نزل من سفينة إنجليزية إلى قارب شراعي، يُرفرف عليه العلَم الإنجليزي، ترصَّد الألبان من عساكر محمد علي لقافلته في سيرها إلى القاهرة، نهبوا ما فيها من أموال وأمتعة قَدِم بها من بلاد الإنجليز، قيل إنها لا تُقدَّر بثمن.
قال محمد علي لخواصه: مراد بك مملوك، لكنه الآن حرٌّ، الألفي عبدٌ لمراد بك، لم يتغير وضعه.
صوت
عمل الألفي على منع تولية محمد علي ولايةَ مصر، قدَّم لقائد الأسطول التركي هدايا كثيرة، أخفق القائد العثماني في فعل شيء لصالح المماليك. كانوا في حال من الشقاق يتعذر معه أيُّ إصلاح، لما رفض البرديسي أن يشترك مع الألفي في الاستغاثة بالإنجليز، بدَّل مناصرته للمماليك، كتب بذلك إلى السلطان. أضاف محمد علي إلى طلب القائد تعهدًا بدفع كل ما طلبته الآستانة من المماليك. صدر فرمان السلطان بتثبيت محمد علي في حكم مصر.
نقل المشايخ من خواصه قوله: لقد استوليت على القاهرة بحدِّ السيف، ولن أُعيدَها إلا بالقوة، هو لم يستولِ على القاهرة بحدِّ السيف، ولا بأيِّ سلاح، إنما بُويع بإرادتنا، نحن الذين أعلنَّا ولايته على مصر.
خرج الصراع بين محمد علي وأمراء المماليك من سراديبه وأقبيته وغُرَفه المغلقة، تربَّص بالأمراء، وتربَّصوا به، استغاث الألفي بالإنجليز، أرسلوا حملةً من ستة آلاف جندي، لمساعدة المماليك، تواصلت المعارك بين أرناءوط محمد علي وجند المماليك. حين مات الألفي فجأة، ومن بعده مات عثمان البرديسي بالحمَّى الصفراء، صارَت مصر ملكًا لمحمد علي.
نقل إلى ثقاة ما قاله الألفي — لحظات احتضاره — لأعوانه: قُضي الأمر، وصارت مصر لمحمد علي، بيده الحل والعقد، هو الذي يدبر، ويدير، ويأمر بالتنفيذ، لم يَعُد هناك مَن ينافسه، ولا يملك القوة للوقوف في وجهه، ربما أعاد محمد علي لنفسه ما سبق أن قاله: لن أنعم بالسلام ما دام الألفي حيًّا، نحن نشبه راقصين على حبل مشدود، مع اختلاف أن له عكازَين في رجلَيه.
بعد فترة قصيرة، مات عثمان بك البرديسي، أعاد الباشا قوله: الآن ملكت مصر.
من خطاب شاهين بك إلى قائد القوات البريطانية في البحر المتوسط
«أتذكر المزايا والتشريفات التي مُنحت — وبسخاء — من الحكومة البريطانية لسلفي المرحوم الألفي بك، وإنني لأميل — بشكل طبيعي — إلى اقتفاء أثره، راجيًا أن تمنحوني التعاطف نفسه الذي لقيته من الوكيل البريطاني الذي عرَّفته برغباتي، وهذا ما شجعني على أن أتقدَّم بهذا الالتماس، متمنِّيًا الحصول على حماية بريطانيا القوية لدعم طلبي، خاصة أن الاقتراحات التي يتضمَّنها التماسي تتوافق مع مصالحنا المشتركة. من الطبيعي أن يبحث كلُّ الرجال عن استرداد ملكية ثرواتهم التي نُهبت، وليس خافيًا عليكم أنه منذ أمدٍ بعيد والمماليك يحكمون مصر، وعلى ذلك، وبصفتي الوريث الشرعي لهؤلاء المماليك، فإنني أعتقد أن لي الحقَّ أن أتطلَّع إلى ولاية مصر، بيد أنه في الوقت الحاضر لا يمكن أن ننتزع ذلك من بين يدَي المالك الفعلي لهذه الحكومة، حتى لو أمكنني تحقيق ذلك، فلن أستطيع الحفاظ على سلامة وأمن البلاد من دون حماية بريطانيا التي طلبت حمايتها، ومساعدتها، بالشروط التي تريد أن تُمليَها عليَّ، والناس في جانبي، مع العلماء، يتطلعون إلى نعيم العودة إلى إدارتهم القديمة، لأنهم متأكدون أنه مع هذه الإدارة المملوكية ستخف عنهم — حالًا — كلُّ الأعباء الثقيلة، وكل أنواع المظالم التي يعانون في ظلِّها … إذا دعمت بريطانيا العظمى وجهةَ نظري بتقديم المساعدات التي طلبتها منها، فإنني في هذه الحال، سأقاوم أعداءها بقوة كل الماليك الذين سينضمون — بلا شك — في حزبي، ويمكنني — فضلًا عن ذلك — أن أستميل بالمال جميع القوات الأخرى، سواء ما كان منها بمصر نفسها، أو ما كان يخص قوات الألبان والأتراك الموجودين بالحبشة … خلافًا لذلك، فإن الباب العالي لن يمكنه إلا أن يكون راضيًا تمامًا في أن يرى مصر قد انتقلت إلى يدَي رجل سيدفع لها الضريبة كاملة.»
صوت
علت أصوات الناس من خارج بيت القاضي، إلى ما بعد باب الفتوح، ضجوا من الضريبة الجديدة التي فرضها الوالي: هل يُعينون الجند على الأذى بدفع رواتبهم؟
خرج إلى الطرقات ذوو الضياع والعقار والوجهاء والعلماء وكُتَّاب الدواوين والفقهاء والتجار وشيوخ الحارات وشيوخ طوائف الحرفيِّين والفلاحين والعوام والأرازل والسوقة وأهل المياه والغوغاء والعلوج والزعر والصعاليك والعيارين.
عكست الهتافات ما تحمله النفوس من السخط على الضريبة الجديدة، توحَّدت في هتاف رددوه بصوت منغَّم: يا رب يا متجلي … اهلك العثمانلي.
أحنَى السيد عمر مكرم رأسه، كمن ينتظر هدوء الصخب من حوله.
قال لجماعة المشايخ في نصف الدائرة المحيطة: أتينا لنبحث رفع الظلم عن الناس.
قال الشيخ شوقي أبو شامة في لغة تطغى عليها لكنةُ الصعيد: لا بد من إعمال شرع الله في هذا الباشا الظالم.
قال عمر مكرم: يصعب الكلام في هذا الضجيج.
مدَّ الشيخ شوقي أبو شامة بورقة في يده: ربما لن نحتاج إلى الكلام. هذه الورقة تحمل وثيقةً حرَّرها أهل القاهرة، يتوقعون أن نُوقِّع عليها.
ونقر على الورقة بإصبعه: الوثيقة تمنع الوالي من فرض ضرائب جديدة.
تناهى السؤال من زاوية القاعة: وإذا رفض الوثيقة؟
قال حجاج الخضري: نكرِّر ما اعتاده المصريون حين يشتدُّ بهم الغضب، يصعدون إلى القلعة، يرافق سحبهم السجادة من تحت الوالي هتافهم: انزل يا باشا!
واتجه ناحية السيد عمر بملامح متسائلة: عرض عليك محمد علي أن تكون نائبًا له.
قال عمر مكرم: اختارني الشعب زعيمًا، لم يخترني حاكمًا. الزعامة أبوة، والولاية وظيفة.
ثم وهو يحاول كتمَ قلقه: لعلي أستطيع أن أُحاسبَه من خارج الحكم.
قال الخضري متصعبًا: لم يحدث أن وَليَ مصريٌّ منصبَ الحاكم، هذه وظيفة الأتراك والمماليك.
وعلا صوته: لماذا لا يَثِق زعماؤنا في أنفسهم؟ لماذا لا يَثِقون بقدرتهم على إدارة الأمور العامة؟
صوت
يسعى — محمد علي — إلى كسب رضا شيخ الإسلام في الآستانة، ومساندة مشايخ الصوفية في مصر. يُدرك أنه في حاجة إلى مناصرة الصوفية، إلى دعمهم فيما يُقدم عليه من خطوات ربما تُغضب الناس. لم يكن المعتقد الديني يشغله، إنما هي طقوس تُمليها ظروفُ حكم شعب يخضع لدوافع الدين.
صوت
بدَت في وقفتها أمام دكان بهلول البقال كأنها تنتظر قدومه، استبدلت بالعباءة الفضفاضة ملاءة لف حبكتها حول جسدها.
سبقته إلى المكان، ربما تأخر، أو أنها خشيت أن يدخل الوكالة دون أن يراها.
سقطت الملاءة اللف عن كتفَيها، طوَت أعلاها حول الساعدين.
أحس بليونة يدها وهي تُصافحه. حين مالَت على يده، عرف أنها تريد أن تقبِّل شيخوخته، فتراجع، ما بنفسه يختلف عمَّا يجول بخاطرها.
رنَت إليه بملامح ملهوفة: دلُّوني عليك … حاج فاضل، تعرف الله.
ثبَّت عينَيه في وجهها، يحاول التعرف إلى ما يشغلها، ما تُفكر فيه.
مات زوجها الثاني قبل ثلاثة أعوام، في الليلة الختامية لمولد الحسين. عاد إلى البيت آخر الليل. اعتذر — بالتعب — عن عدم تناول العشاء، ومضى إلى حجرة النوم. استكملت ما كان يشغلها، نادَته حتى يُفسح لها موضعًا إلى جانبه. رافقت دفعة يدها توالي نداءاتها الخافتة. لم يصدر عنه أيُّ صوت، وظل ساكنًا. علَت النداءات، فصارت صراخًا. عرفت أنه مات.
قالت: زوجي يؤذيني بما لا تستطيع أيةُ امرأة تحمُّلَه.
وهو يُظهِر تأثُّرَه: مَن زوجك؟
– إنه زوجي الثالث.
وهي تنتر تراب الطريق من باطن قدمها: جابر زلطة … صاحب ورشة بسوق السلاح.
أثارها — بعد زواجها بأشهر قليلة — سوءُ معاملة جابر زلطة، لا لتغيُّر في طبعها، وإنما للمشكلات الكثيرة التي عانَتها تجارتُه: قلة الصادرات، غياب الصنَّاع، تعنُّت المحتسب، قسوة الشرطة. حاولت التسرية عنه، واسترضاءه، لكن المشكلات خارج البيت انتقلت إلى داخله.
أظهرَت ضيقها من استضافته — معظم وقته في البيت — صُنَّاعَ الأسلحة وتُجَّارها من القواسين والشيبية والقندقجية والبندقية والبارودية. تطول قعداتهم إلى آخر الليل، لا تشغله وحدتها، ولا يعني منها بالأخذ والرد. لم تُبِح لأمِّها بأذيَّتِه لها، وإن لاحظَت هنومة تورُّم جفنِها.
خشيَت هنومة انعكاسَ توتُّر علاقتهما على مقاسمتها الحياة في بيت حارة القبورجية، اطمأنَّت إلى موافقته على طلب الطلاق. صدمها اعتذارُه بالمشكلات التي تُحاصره، لا يجد وقتًا لموافقتها، ولا حتى للأخذ والرد في تنبيهه إلى أفعاله.
التقطَت موافقةَ أمِّها على الذهاب إلى الحاج حيدر، تلتقيه، يَهَبُها إنصاتَه، يتدخل، يُفرِّق بينها وبين زلطة، تترك للظروف تدبيرَ قادم الأحوال.
لا تدري سبب ذهابها — في غبشة الفجر — إلى وكالة حيدر العلاف: لموافقة أمِّها على طلب الطلاق، بتدخل الحاج حيدر، أم لأن الحاج هو الفارس الذي دخل قلبها، منذ رأته — في الجلوة — على صهوة الجواد؟
– اتركي الأمر لي.
فاجأَته بمدِّ يدِها، تردَّد لثوانٍ، ثم مدَّ يدَه، تسلَّلَت سخونةٌ إلى جسده.
أثاره حلمتا الثديَين، منتصبتان خلف القميص الحريري. تمنَّى لو أنه أحاط خصرَها بساعدَيه، وهصر ثديَيها بصدره، إن حاولَت التملُّص من حصاره، استدعى ما كان نسيه، زاد من ضغط ركبتَيه على فخذَيها، وأسلم نفسه لغاية التمنِّي.
قالت في انصرافها: لا تُخبره بأني شكوته.
– خيرًا إن شاء الله!
ثنى — في ابتعاده — ملامح متسائلة: ما اسمك؟
– ريحانة.
همس كمَن يناجي نفسه: أنت ريحانة بالفعل!
تعدَّدت إطلالاتها من أخصة المشربية، تخترق الجلوات الشارع الأعظم من باب زويلة إلى المشهد النفيسي، تتفرع في تقاطعات الشوارع والدروب والحارات، كأنها أغصان الشجرة الهائلة. ترنو من الزاوية المطلَّة على حارة القبورجية إلى مواكب الصوفية في شارع سوق السلاح، وتوزعها داخل الشوارع المتفرعة من الغورية، تتوقف يدها بالقلة في موضعها وراء المشربية، يجتذبها صخبُ الجلوة، تتسلل بنظراتها من تداخل خرط الخشب المعشق إلى زحام الصوفية، يركب جواده في قلب المريدين، يحملون السيوفَ والقسيَّ والنبابيت، يرفعون البنود والأعلام والرايات، يتمسحون بالجواد، يقبِّلونه، أو يقبِّلون ساق الرجل المتدلية، تعلو الهتافات والتهليلات لكلماته الداعية، وإشاراته، وإيماءاته، كأنه — بقامته العملاقة، والهيبة في ملامحه وتصرفاته — ينتمي إلى دنيا أخرى، يختلف عن الدنيا الصاخبة حوله، له هيئة وأبهة، كأنه عنترة الذي يحكي الراوي — في ساحة المشهد النفيسي — بطولاتِه.
بدأت الأحلام تُخايلها، تتخيَّل نفسها قريبةً منه، تشرد في رؤًى وتصورات، تمنَّت أن يتكرر معها ما تشاهده، تقتصر الأوقات على الرجل المهيب وعليها، يضمُّهما مكان لا يشاركهما فيه ثالث.
جذبَته من خلف البرقع — قبل أن تخلي المكان — غمزة عينها، أعجزه الارتباك عن رد الفعل، تابعها حتى مالت ناحية السبيل راعه أنها تُطيل إليه النظر دون أن تطرف عيناها. ظلت — طيلةَ الأيام التالية — في ذهنه، يجترُّ اللحظة، ويحلم.
وجد في غمزة العين المفاجئة وعدًا، فانتظر تحقيقه، تيقظ في داخله ما نسيه، وأسقطه من باله. لم يَعُد في مفردات تفكيره، ولا انشغاله، ولا حياته، جعل من مغالبة الميل إلى النساء امتحانًا يتكرر في حياته كلما التقى امرأة، حتى المترددات على الوكالة للبيع والشراء وعابرات الطريق، حرص أن يبقينَ خارج نفسه.
أدركَت مغزى نظراته وما يدور في نفسه.
أجادَت حصاره بتوالي ترددها على السوق، لا تشغلها الأسئلة التي ربما راودَته، تحرص أن يراها، يدعوها لزيارة الوكالة، أو يكتفي بالتحية.
سرقت قلبه. لم يَعُد في دنياه سواها، هي الشاغل والأمل والشوق واللهفة، لا يفارقه وجهها في قعوده وسيره وصحوه ونومه، يراها حتى لو أغمض عينيه، كأنها سكنت فيهما، يتنفس في حجرته رائحةَ أنفاسها، لاحَت له على الطبلية وهو يتناول طعامه، تمتم بالاستغفار لما خايله وجهها وهو يقود الذكر، أخلى مكانه لربيع عبد الراضي، وعاد إلى البيت.
اعتاد تجار الغورية، وسكان الشارع، رؤيتها في عودتهم من صلاة الفجر، تقف — متلفتة — أمام وكالة حيدر العلاف، نشط الفضول والأسئلة والتقصِّي، تشكَّلت من فسيفساء الكلمات ما يوضح طبيعة سعيها للقائه، فشَت الملاحظات والمؤاخذات والهمسات، جاوزت الآذان المنصتة، إلى مواجهة الحاج حيدر العلاف، من خواصه، بالخيوط العنكبوتية التي نسجَتها العالمة هنومة لاصطياده.
قال مغاوري تليمة في لهجة مداعبة: هل استهوَتك سمرة المرأة؟
قال الحاج حيدر: إن تكن المرأة بيضاء، فليس معنى ذلك أنها جميلة. للجمال مواصفات أخرى.
أهمل النصيحة بأن الشيطان ربما وضع المرأة في طريقه لغوايته. أهمل كلَّ ما استمع إليه عن أصلها وفصلها، كتم غضبَه لهمسة شوشة جاد الكريم تاجر العطور بوكالة العنبريِّين إن المرأة تردَّدت على أسرَّة الكثيرين من تجار الغورية والحسينية. قال عبد ربه سنجق محرر العقود إنه تعرَّف إلى المرأة في ماخور بالأزبكية. لذَّتْه مضاجعتُها، فنسيَ نفسه، وعرض أن يتزوجها، رفض المتناثر من الروايات: إن المرأة طلقت زوجها، وأقامت فترة — أيام الفرنسيين — في غيط النوبي بالأزبكية، أهَّلها حسنُها لمصادقة الضباط، لم تغادر المعسكرات إلا بعد رحيلهم عن مصر. رضيت بأن تكون محظيةَ الأمير المملوكي حمود جلبي، رافقَت أمَّها إلى حفلٍ دعا إليه، غنَّت، ورقصت، لقيَت في نفسه هوًى، أضافها إلى جواريه ومحظياته. تتهيَّأ لليلة التي يحدِّدها، يشلحها، يخترقها، تشعر — تحت بطنه الهائل — بالاختناق، تتعجل إفراغ شهوته ليقوم عنها، يميل على جنبه، ويعلو شخيره، لا تذكر أنه تحسَّسها بمداعبة، أو ذاقَت قُبلة من شفتَيه، يكتفي بالإيلاج، ينتهي، فيتمدد إلى جوارها، دون كلام.
هو واحد من المماليك الذين نزلوا من الطباق في القلعة، خالطوا أبناء البلد، تزوجوا بنسائها، لكنه ظل على علاقته الصامتة بها، محظية على فراشه، لا يأخذ منها ولا يعطي، ولا يشغله إن استمتعت بمضاجعته.
لما أبدَت ضيقها، قالت هنومة: اقنعي بدور المحظية ولا تتطلعي إلى فوق.
ورمَتها بنظرة استياء: الأمراء لا يتزوجون من بنات العرب.
هتفت بالغضب: لا أريده زوجًا، لا أريده أيَّ شيء!
أخذه الموت، فتبدَّلت حياتها، سكتَت الأم عن ترددها على الأزبكية وحمامات بركة الفيل.
الدكان ورثه جابر زلطة عن أبيه، عن أجداده منذ سويقة العِزِّي، قبل تسمية سوق السلاح، اجتذبَته التفافةُ جسدها بالملاءة في ترددها على حمام سوق السلاح. وعد ريحانة بما لم تحلم به، أشهر قصيرة، أنفق على الأم، أهداها الملابس والطعام والأثاث، توسَّط لدى الكثير من أولاد العرب والعائلات التركية وعائلات المماليك، حتى تدعوَ هنومة إلى حفلاتها. ثم تبدَّلت أحواله.
نظر حيدر العلاف في مرآة التسريحة، تأمَّل التجاعيد التي لم يكن لاحظها في وجهه من قبل.
وضع أصابعه على جانبَي رأسه: لا زلت أحتفظ بعقلي!
صوت
لم تكد تنقضي ثلاثة أشهر على تولية محمد علي حتى طلب مصادرة أموال تحملها قافلة الحج المتجهة إلى الحجاز، رضي — بعد رفض التجار ونصيحة خواصه — أن يكتفيَ بجزء منها.
فرض — بعد أيام — ضريبةً جديدة، للإنفاق على عسكره، ثم توالَت مطالبه.
صوت
مثَّل الألفي بك خطرًا على الباشا، احتشد جنده حول مصر، عقد اتفاقًا مع الإنجليز ليُتيحوا له المكانة العليا في حكم البلاد. واجه محمد علي في قتال جند الألفي ما لم يتصوره، انتقلت إليه — في أحيان كثيرة — روحُ التخاذل التي أصابت جنده، تهيَّأت النفوس لدخول الألفي القاهرة على رأس جنده، والصعود إلى القلعة، لولا وفاة الرجل المفاجئة عند دهشور.
لما بلغ محمد علي نبأُ الوفاة، غمغم بالقول: الآن ملكتُ مصر.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وبموته — محمد بك الألفي — اضمحلَّت دولتهم، وتفرَّقَت جمعيَّتهم، وانكسرَت شوكتهم، وزادَت نفرتهم، وما زالوا في نقص وإدبار، وذلة وهوان وصغار، ولم تَقُم لهم بعده راية، وانقرضوا، وطُردوا إلى أقصى البلاد في النهاية. وأما مماليكُه وسناجقُه فإنهم تركوا نصيحته، ونسوا وصيته، وانضموا إلى عدوهم وصادقوه، ولم يزَل بهم حتى قتلهم، وأبادهم عن آخرهم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
صعدتُ إلى الباشا في قلعة الجبل، صحبني السيد أحمد المحروقي وجماعة من المشايخ. شغلنا ما أتينا من أجله عن العبارات المرحبة، حدَّثْنا الباشا عن الخطر الماثل، نقلنا له رسائلَ أهل رشيد بطلب مساندة الباشا في تصدِّيهم لحملة القائد الإنجليزي فريزر، رجَونا مساندةَ عساكرِه، أفزعني — ولعله هو الشعور نفسه الذي تملَّك الحضور — قولُ الباشا: ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر.
أضاف في لهجة معتذرة: تعلم أن جندي يطاردون المماليك في الصعيد.
قال السيد المحروقي: لماذا لا يجند المصريون فيدافعوا عن وطنهم.
نطقَت ملامحه بالتوجس: يكفي الناس أن يدفعوا الضرائب.
لم يكن ثمة ما أستطيع أن أقوله، فصمت.
ربما كانت كلمات الباشا عن رشيد ستتبدل لو أن الألفي بك لم يَمُت، ربما راجع مواقفه، وما ينبغي اتخاذه. حدس أن الغزوة الإنجليزية ليست إلا استعراضًا للقوة. رحل الفرنسيون، وظلت تحالفات العثمانيِّين والإنجليز قائمة. مات الألفي، وفرمان الآستانة هو الذي عيَّن والي مصر.
ألتقي — في صحن الأزهر وأروقته — آلافَ الطلبة القادمين من خارج القاهرة، ومن أبناء المغرب العربي، وبلاد أفريقيا وآسيا. قَدِموا إلى الأزهر لتعلُّم فقه الدين على أصوله، كل واحد يختار الرواق الذي يناسبه، الشيخ الذي يتوقع فائدةً في علمه، حتى العميان لهم رواق يجمعهم — أحرص على زيارته — وإن تلقَّوا العلم على شيخ مبصر، ربما أدخل في مناقشات فقهية، لا أُعنَى إن كان محاوري من العلماء، أم من الطلبة؟ تجتذبني المعلومات الوفيرة، والقدرة على الأخذ والرد.
الشيخ محمد المهدي من حي بحري بالإسكندرية. بني دارًا عظيمة في ناحية الموسكي، على الخليج. تحول الشيخ محمد المهدي من النصرانية إلى الإسلام، تصرَّف بالكثير مما يؤاخذ عليه، كان يتشفع عند الفرنسيِّين، ظل في عضوية الديوان حتى رحيل الفرنسيِّين. ظل على مكانته بعد زوال الفرنسيِّين، سرب شائعة بأن الباشا محمد علي لا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورته.
فرض الضرائب الفادحة على بعض التركات، فلم يبقَ للورثة ما يحصلون عليه. حتى مشيخته للأزهر تحوطها ظلال، لكنه — أشهد — يمتلك ذاكرةً حافظة، وفهمًا لأمور الدين، أسأل في مناقشاتنا بأكثر من أن أُجيب.
صارت كل الحوارات من الماضي، حلَّت كلماتُ التنبه إلى خطر نزول الجيش الإنجليزي مدينة رشيد.
كتب الجبرتي في تاريخه
«نبَّه السيد عمر النقيب على الناس، وأمرهم بحمل السلاح، والتأهُّب لجهاد الإنجليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس.»
صوت
موقف الوالي من حملة الإنجليز على رشيد يَشِي بما لا يطمئن، كأنه وجد في دخول الإنجليز ما يصعب مواجهته. طلب مفاوضة الإنجليز على ما يريدون، رفض أهل رشيد تخاذله، رفضوا دخول قوات الإنجليز، أعدوا لها كمينًا شارك فيه كلُّ أبناء البلد، الإشارة من جامع زغلول ذي المئذنتَين والقباب الصغيرة، تعالَى الصوت: الله أكبر، ثم فتح الأهالي أبواب البيوت والدكاكين المغلقة، اندفعوا بما كان في أيديهم من سلاح، اختلطوا بمن استتروا — حتى انطلاق الصيحة — بالشوارع الجانبية والحارات. انفتحَت مصاريع النوافذ، قذف منها الماء المغلي، كما قذف من فوق الأسطح. صار جنود الإنجليز بلا حيلة، وفقدوا القدرة على فعل شيء.
صوت
دخل الجنود إلى شوارع خلَت من المارة، تصوروا فرار أهلها، استرخى الجنود في مداخل البيوت، وتحت المشربيات والأشجار، شكَّلوا حلقات للنقاش والسمر. ما كادوا يسيرون إلى وسط المدينة حتى أشار الحاكم علي بك السلانلكلي إلى مَن علا صوته بهتاف: الله أكبر.
انطلقت النيران من النوافذ والأسطح، ومن وراء الأسوار، وداخل الغيطان. تبع إطلاق الرصاص والأحجار والماء المغلي من النوافذ والأسطح وخلف المشربيات خروج العشرات من حاملي السيوف والهراوات والسكاكين، انقضُّوا على عساكر الإنجليز من أبواب البيوت والدكاكين والشوارع الجانبية والغيطان، أعملوا التقتيل في العساكر، فأخذتهم المفاجأة، لم تُسعفهم القدرة على المواجهة، تساقط الأفراد والخيل والسلاح، أخذه مَن يُجيد استخدامه، انحشر عساكر الإنجليز في حواري المدينة، وأزقَّتها، مَن لامسَته أيدي أبناء رشيد مات لتوِّه، ومَن نجا لاذ بالفرار.
انتهت المعركة بإبادة غالبية جنود الحملة، وأَسْر الباقين.
في التاسع عشر من سبتمبر سنة ثمانٍ وثمانمائة وألف، أعلن الانتصار على الإنجليز. حُمِل الأسرى ورءوس الجنود المقطوعة على الرماح إلى القاهرة، وقف العامة يُهللون للمشهد في طريقه إلى الأزبكية.
من أوراق السيد عمر مكرم
هل غاب عن الباشا أن حملة الإنجليز على رشيد استهدفَت طرده من مصر، ومعه جنوده الأرناءوط؟
ذلك هو الهدف الذي سعَت الحملة — إن احتلت البلاد — لتحقيقه. يعلم الباشا أن الإنجليز أعدوا محمد الألفي لحكم مصر، ناصر الإنجليز الألفي على عثمان بك البرديسي وإبراهيم بك اللذَين اتفقا مع محمد علي، وتمكَّنا من قهر الألفي.
الحملة على مصر حيلة أخيرة، لم يفطن محمد علي إلى إرهاصاتها، ولا نتائجها المحتملة.
تخلَّيت — للمرة الأولى — عن لهجة التعاطف، قلت للغضب في عينَي المعلم داغر: ساءني تخاذل الباشا في الدفاع عن رشيد.
وغالبت العجز عن فهم أمور كثيرة.
– زاد شعوري بالأسى لمَّا نسب انتصار أهل البلد إلى نفسه.
ونطقتُ الحروف في تأكيد: إذا كنَّا — بالاعتماد على أنفسنا — قد أخرجنا الفرنسيِّين من مصر، فإننا نستطيع كذلك أن ندحر غزو الإنجليز.
قال المعلم داغر: لأننا اخترنا أجنبيًّا لحكم البلاد، فقد استغنى في بلاطه عن المصريين، عيَّن الأجانب من الأرمن والإيطاليِّين والأروام والفرنسيِّين.
قال الشيخ شوقي أبو شامة: أعلم أنه سكت عن جمع أموال الأروام في مصر لصالح استقلالهم عن دولة الخلافة.
صوت
نحن نعلم أنه لولا انتصار المصريين في رشيد، ما بقي محمد علي في قلعة الجبل. أتاح له أهل رشيد استقرارًا في الحكم لم يكن يأمله في الأفق القريب، قلَّ نفوذ العساكر، لم تَعُد كلُّ طائفة تُصارع الأخرى، وامتدَّت سيطرته إلى الإسكندرية التي لم تكن في مجال حكمه. تصورنا أنه سيكافأ أهل رشيد على انتصارهم، لكنه فرض عليهم من الضرائب والغرامات ما يجعل العيش جحيمًا. عمل على توطيد ولايته، وتنظيم شئونها، وتنمية مواردها. رفعت القوات العسكرية مطالبَ اتسمَت بالمغالاة لسداد رواتبها، لجأ إلى فرض ضريبة استثنائية على أقاليم الوجه البحري، أضير بتأثيراتها آلاف المزارعين الفقراء، رفع ضريبة فدان الأرض من اثنَي عشر قرشًا إلى خمسين قرشًا، تقررت ضريبة لحق الطريق، وأخرى لمرور القوات، لنفاد النقود من أيدي الفلاحين، أمر الباشا بجبايتها عينًا. واستبدل الحبوب بجباية الضرائب العقارية، فرض ضريبة على الحبوب والأطعمة التي تُباع في الأسواق والشوارع، حتى الأوقاف الخيرية، فرض عليها الأحباسيات المقررة للمساجد والأسبلة والتكايا، وجهات البر والصدقات وأطيان الوسية.
غالب السيد عمر مكرم تأثره: ولَّيناه ليرفع عنَّا الضرائب الظالمة، فضاعفها!
رفض الذهاب إلى محمد علي رفضًا للضرائب، بينما مياه النيل في انخفاض. حاول محمد علي استمالته بمنحه ثلاثمائة كيس كل يوم، لكن النقيب ظل على موقفه.
كتب الجبرتي في تاريخه
«حضر ديوان أفندي، وقال إن الباشا يسلِّم عليكم، ويسأل عن مطلوباتكم، فعرَّفوه بما سطَّروه إجمالًا، وبيَّنوه له تفصيلًا، فقال: ينبغي ذهابكم إليه، وتخاطبونه مشافهةً بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم، ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تُلاطفوه في الخطاب، لأنه شابٌّ مغرور جاهل وظالم غشوم، ولا تقبل نفسُه التحكم، وربما حمله غرورُه على حصول ضرر بكم، وعدم إنفاذ الغرض. فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها، وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله، رجعنا إليه، وتردَّدنا عليه كما كنَّا في السابق، فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور. فقال لهم ديوان أفندي: وأنا قصدي أن تخاطبوه مشافهة، ويحصل إنفاذ الغرض، فقالوا: لا نجتمع عليه أبدًا، ولا نُثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقصر حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، وأخذ ديوان أفندي العرضحال، ووعدهم بردِّ الجواب.»
صوت
تناثر في ساحة الأزهر، وأمام أبوابه، عشراتٌ من الباعة والتجار، أغلقوا حوانيتهم، ولجئوا إلى العلماء، يطلبون غوثهم لرفع ما فرض عليه من ضرائب وغرامات.
شحَّ النيل، تناقصَت الموارد والمحاصيل والبضائع في الأسواق، أفضَت الأحوال إلى منع الباشا من البدء في تنفيذ ما وعد به. خلَت الإسكندرية ورشيد من عساكر الإنجليز، وخلَت البلاد إلا من العنصر الوطني. أخذ من الإجراءات ما يُعينه على تدبير الموارد، والبدء في تحقيق ما قطعه على نفسه. استولى على خيول الطواحين لجرِّ المدافع والعربات، فرض الضرائب على القبانية والحطابة وباعة السمك القديد.
حين طالبه الشيخ الشرقاوي أن يترفق بالناس، ويرفع الظلم عنهم. قال الباشا: أنا لا أفرض ضرائبَ لخزانتي، إنها تُنفق على تغيير أحوال البلد وإيجاد ما ليس فيها.
وعلا صوتُ الباشا بنبرة تحذير: الضرائب على الأطيان، يأخذها المشايخ من الفلاحين.
وهزَّ رأسه بالنفي: لا أتصور أن العلماء الأجلَّاء يميزون أنفسهم عن بقية الناس!
وذكَّر الشرقاوي بما فعله: أنا لست بظالم وحدي، أنتم أظلم مني، ما تقرر على أطيانكم من ضرائب جديدة حصلتم عليها — بالعنف — من الفلاحين.
وحدجه بنظرة محمَّلة بالاتهام: أنا أعلم بما فعلتم.
كان العلماء قد وجدوا في إعفائهم من الالتزامات، وإعفاء مَن ينتسب إليهم، أو يحتمي فيهم، ما يدفعهم إلى الإكثار من شراء الحصص، بأقل من قيمتها، خصَّص لهم الكثير من الخيرات، الأراضي، العقارات، الزراعات … جميعها معفاة من الضرائب، كما يُعفَون من ضرائب الرواتب والإعانات والمنح والعطايا ونظارة الأوقاف.
صار العلم على هامش المتن وهو الانشغال بالدنيا، واستلاب ما يُتاح لهم من مكاسبها، اتخذوا الخدم والأعوان والحراس، ولجئوا إلى أرباب الجرائم، واستبدلوا أنفسهم بالحكومة في أمور العقوبة البدنية والحبس.
يوافقون الباشا في رأيه عن خوف ونفاق، ما يُظهرونه في العلن غير ما يُبطنونه في النفوس.
قال الشيخ الشرقاوي: هل تأذنون لنا بإقامة صلاة استسقاء؟
– هذا شأنكم، أنتم أعرف بما ينص عليه الدين.
تملَّك الشرقاوي شعورٌ بقلة الحيلة، فصمت.
حتى يُفلتوا من المواجهة، فقد نزلوا إلى القاهرة بوعد إقامة صلاة عامة للاستسقاء، ما أَلِفه الناس حينما يجفُّ النيل، يدعون الله لرفع الكرب، وجريان الماء.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فلما كان يوم سبت ۲۷ جمادى الثانية سنة ١٢٢٣م وخامس عشر مسرى القبطي نقص النيل نحو خمس أصابع، وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم؛ فضج الناس ورفعوا الغلال والعرصات والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شحِّ النيل في العام الماضي، وهيفان الزرع، وتنوع المظالم، وخراب الريف، وجلاء أهله، واجتمع في ذلك اليوم المشايخ عند الباشا، فقال لهم اعملوا استسقاء وأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء ودعوا الله.
فقال له الشيخ الشرقاوي: ينبغي أن ترفقوا بالناس، وترفعوا الظلم.
فقال: أنا لست الظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكرامًا لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفترٌ محرَّر فيه ما تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفَي كيس، ولا بد أني أفحص ذلك، وكل ما وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة عن فلَّاحيه أرفع الحصة عنه.
فقالوا له: لك ذلك، ثم اتفقوا على الخروج والسقيا في صحبها بجامع عمرو بن العاص لكونه محلَّ الصحابة والسلف الصالح يصلُّون به صلاة الاستسقاء، ويدعون الله ويستغفرونه، ويتضرعون إليه في زيادة النيل.
وبالجملة، ركب السيد عمر والمشايخ وأهل الأزهر وغيرهم والأطفال، واجتمع عالمٌ كثير وذهبوا إلى الجامع المذكور بمصر القديمة. فلمَّا كان في صبحها، وتكامل الجمع صَعِد الشيخ جاد المولى على المنبر، وخطب به بعد أن صلَّى صلاة الاستسقاء، ودعا الله، وأمَّن الناس على دعائه، وحوَّل رداءَه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر، وبات السيد عمر هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء إلى محل الزيادة الأولى، واستتر الحجر الراقد بالماء، وفي يوم الإثنين خرجوا أيضًا، وأشار بعض الناس بإحضار النصارى أيضًا، فحضروا، وحضر المعلم غالي ومَن يصحبه من الكتبة الأقباط، وجلسوا في ناحية من المسجد يشربون الدخان، وانفضَّ الجمع أيضًا. وفي تلك الليلة التي هي ليلة الثلاثاء، زاد الماء، ونُوديَ بالوفاء، فرح الناس، وطفق النصارى يقولون إن الزيادة لم تحصل إلا بخروجنا، فلمَّا كانت ليلة الأربعاء طاف المنادون بالرايات الحمر، ونادوا بالوفاء، وعمل الشنك والوقدة تلك الليلة على العادة، وفي صبحها حضر الباشا والقاضي، واجتمع الناس، وكسروا السد، وجرى الماء في الخليج جريانًا ضعيفًا.»
صوت
حدث اختلاف في أحقية الإشراف على أوقاف الأزهر بين الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ محمد الأمير، لكلِّ شيخ مؤيدوه، صخبوا، وضجُّوا، وتعاركوا، ثم هدأت الأمور بتدخُّل العلماء.
اتهم السيد عمر أفندي غالبيةَ المشايخ بأنهم يدعون العلم والصلاح، ويتزيَّنون بالدين، دون أن يكون تديُّنُهم عن يقين، كأنهم أخلصوا في شعائر الله — تعالى — وتنفيذ أوامره ونواهيه. يبغون — أيًّا تكون الوسائل — إرضاءَ الباشا، والتقرُّب منه.
عملوا على تأويل بعض آيات القرآن الكريم لخدمة سياسة الوالي، نسبوا إليه الكثير من الأقوال، وألَّفوا الأشعار التي تُعلي من مكانته، وترفع من شأنه عند الناس. أسرفوا في الاستجداء والتطلع للأكل على ولائم الأغنياء والفقراء، وإن ادَّعوا التعفف عن أموال الخلق، والأكل من الحلال.
صبر السيد على تلوينات المشايخ، حتى تغيَّرت نفسه، سخَّروا علمهم لخدمة الباشا، لا قيمة لهذا العلم عند الناس.
ابتعد — مغيظًا — عن مجلس الباشا، لا يتردد عليه، ولا يسأل أصدقاءه إن ترددوا عليه. فرغ إلى التعبد والتنسك والاستغفار.
ارتضى لنفسه عقيدةً تعزله عن أفكار الآخرين وتصرفاتهم.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم، إلا بمقدار حفظ الناموس، وصار بيتُ أحدهم مثلَ بيت أحد الأمراء، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجرَوا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج، واستخدموا الكتبة من الأقباط وقطاع الجرائم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
قد تضطرُّني الظروف إلى مسايرة محافظ مصر المحروسة في سياسته، لكن مخالفة أحكام الدين مما لا أستطيع قبوله، ما صحبت الباشا للدنيا، إنما صحبته لأُتيحَ له ثواب الآخرة. أخذت على نفسي عهدًا ألَّا أساعد الباشا في شيء من أغراض الدنيا، ولا إنْ أظهرَت أفعالُه ما يَشِي بالمعصية.
أرقبه في حركاته وسكناته، متى يتكلم؟ متى يُنصت؟ ماذا يقول؟ لماذا يعاقب؟ لماذا يعفو؟ متى يقبل الشفاعة؟
مَن يُفسح له الحاكم مجلسه، عليه أن يحذره من شهوة الحكم، والوقوع في المعاصي. أجزل الهدايا والصدقات للمشايخ، أطعم البطون، فاستحَت الأعين من الرؤية، والآذان عن السمع، والأفواه عن الجهر — أو حتى الهمس — بالمؤاخذات. أذكر قول إمامنا الليث: إذا دخلت الهدية من الباب، فإن العدالة تخرج من الشباك.
حين أدى العلماء واجبهم في قيادة الناس، فزنا على الفرنسيِّين، وعلى الإنجليز، في أقل من عشر سنوات. لأنهم انشغلوا عن واجبهم، فنحن لا نستطيع أن نردَّ الحاكم الظالم عن ظلمه، حتى الزعر والجعيدية كان يبش الكلام في وجوههم، ويُحسن الكلام إليهم، لا يُشير إلى ما اعوجَّ من أفعالهم، مالوا إليه بالمحبة، وضعوه في موضع التقدير.
كتب الجبرتي في تاريخه
«قاموا منصرفين، وانفتح بينهم باب النفاق، واستمر القال والقيل، وكلٌّ حريصٌ على حظِّ نفسه، وزيادة شهرته وسُمْعته، ومظهرٌ خلاف ما في ضميره.»
صوت
نفر من صحبة محمد علي.
تعدَّد لجوء الوالي إلى سياسة الدس بين الأمراء المصرلية، بالوقيعةِ بينهم، وتحريضِ كلٍّ منهم على الآخرين، الوقيعة أسلوبه بين مَن يخالطهم، المماليك وجنود الوالي، العلماء وبعضهم البعض، يلقى الجميع بابتسامة مرحِّبة، وكلمات تقطر ودًّا، يتقبلون هداياه، ويأكلون من سماطه، يُظهر الإعجاب والامتنان، يَعِد بما لا يعتزم تلبيته.
جعل همَّه أن يشوِّه صورَ ولاة الأمر في أعين الناس، ينقمون عليهم تصرفاتهم، وتصرفات الجند والأتباع.
تداخل جنود محمد علي مع جند المماليك، يضيِّقون على الناس حياتهم، لكن غضب الناس يتجه إلى المماليك، طال عسفهم، وظلمهم، ومعارك أمرائهم التي لا تنتهي، بما أَلِفه الناس، وامتلأت النفوس بالتهيؤ للثورة عليها.
أوعز لموظفيه أن يجمعوا أكثر ما يمكن جمعه من أموال الضرائب: الأرض أو الخراج، زكاة الدولة، الجوالي، المكوس، الرسوم الجمركية، موارد الديوان الخاص، ضريبة التركات، وغيرها. قسم جهات تحصيل الأموال إلى دواوين: ديوان النظر، ديوان الخاص، ديوان الإنشاء، ديوان الأهراء، ديوان الطواحين، ديوان المرتجعات، زاد، فدعا رجاله إلى المغالاة في تقدير الضرائب، وإلى القسوة في تحصيلها.
لم يَعُد محمد علي الذي وعد بالخضوع لإرادة الناس، تبدَّلت آراؤه بعد تولِّيه الحكم، رفض قيام المظاهرات، أو إثارة الناس.
قال في لهجة باترة: إذا قام أولاد العرب، أو حتى علية القوم، بالتمرد، فإن ما أملكه. هو السيف والانتقام!
صوت
لولا أن الفرنسيِّين من ملة مختلفة، ربما أيَّد السيد عمر أفندي النقيب حملتهم على مصر، يقضون على المماليك والعثمانيِّين، يُعيدون البلاد إلى أهلها.
صوت
علَت هتافات الاستنكار من قرارات الباشا: فرض الضرائب على الأرض المعفاة والوسايا، الاستيلاء على نصف ما يحصل عليه الملتزمون، تكليف مسئولي المديريات بحصر الأوقاف والرزق، ومطالبة نُظَّارها والمستفيدين من ريعها، بتقديم المستندات القانونية لأفعالهم. جلسنا إلى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، قرأ لنا ما سجله في أوراقه عن أحداث الفترة، حين اجتمع الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي عند محمد أفندي طبل ناظر المهمات، ثلاثتهم في نفوسهم للسيد عمر مكرم ما فيها، تبادلوا الهمسات والتدبيرات، حتى رفع أذان العصر. كتب الجبرتي في أوراقه إن الشيخَين المهدي والدواخلي زارا السيد عمر الأسيوطي، وأخبراه أن طبل ذكر لهما أن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، كذب مَن نقل ذلك عنه. ردَّ عليهم السيد عمر أفندي بالحجج الدامغة، وأقسم ألَّا يرى الباشا إلا إذا عدل عن مشروعه في فرض ضرائب جديدة، وقال: إذا أصرَّ الباشا على مظالمه، فإننا نكتب إلى الباب العالي، ونُثير عليه الشعب، وأُنزِله عن كرسيِّه كما أجلستُه عليه.
من رسالة لدروفتي قنصل فرنسا إلى الوزير
«كان البكوات هم المبادرون دومًا بالهجوم بصورة أسرع من العثمانيِّين الذين اقتربوا من حدود الصحراء، تمخض عن ذلك وقوع العديد من المعارك، وتصارع الفريقان ببسالة كبيرة أيام ١١، ١٨، ٢٤ من أغسطس الماضي، واستبسل كلٌّ منهما في القتال بضراوة شديدة، لكن الباشا نجح في اختيار الساحة التي قاتل فيها بسلاح المدفعية الأكثر وفرة لديه، والأحسن خدمة من نظيره عند الخصم، فقد دعم قواته بسلاح المشاة الكفء، ليُحرز طيلةَ الوقت انتصاراتٍ مهمة، وبدا واضحًا أن قوة المشاة هي التي حسمت تلك المعارك.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«أخذ يدبر تفريق جمع المشايخ، وخذلان السيد عمر لما في نفسه منه من عدم إنفاذ أغراضه، ومعارضته له في غالب الأمور، يخشى صولته، ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره، إن شاء جمعهم، وإن شاء فرَّقهم، وهو الذي قام بنصره، وساعده، وأعانه، وجمع الخاصة والعامة حتى ملَّكه الإقليم، ويرى أنه إن شاء فعل نقيض ذلك، فطفق يجمع إليه بعض أفراد من أصحاب المظاهر، ويختلي معه، ويضحك إليه، فيغتر بذلك، ويرى أنه صار من المقربين، وسيكون له شأن إن وافق ونصح، فيفرغ له جراب حقده، ويُرشده بقدر اجتهاده لما فيه من المعاونة.»
من أوراق السيد عمر مكرم
بدَت لي كلمات الشيخَين المهدي والدواخلي مغايرةً لما كنَّا قد اتفقنا عليه من رفع عريضة إلى الباشا، تعترض على الضرائب والمغارم الجديدة، يتبعها الصعود إلى القلعة للقاء الباشا، والحصول منه على وعد بإلغاء المظالم التي أحدثها في الناس.
نسب الشيخان إلى محمد أفندي طبل ناظر المهمات قوله إن الباشا لم يطلب مال الأوسية، ولا الرزق، وقد كذب مَن نقل ذلك.
أضاف ناظر المهمات — على لسان الشيخين — أن الباشا لم يرفض ما يطلبه الناس، فإذا التقَوا الباشا أجابهم إلى ما طلبوه.
أشحتُ عنه في استياء: أما إنكاره طلب مال الرزق والأوسية فها هي أوراق المباشرين عندي لبعض الملتزمين، مشتملة على طلب الضريبة، ونصف إيراد الملتزمين ومال الأوسية والرزق، وأما الذهاب إليه، فلا أذهب إليه أبدًا. وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا، فالرأي لكم.
تبادل الشيخان النظرات في صمت، ولم يُعقِّبا.
قلت: من ناحيتي، لن أُقابل الباشا إلا إذا عدل عن فرض الضرائب الجديدة.
وابتسمتُ لأداريَ ارتباكهما: أما إذا أصر الباشا على مظالمه فإننا نكتب إلى الباب العالي، ونُثير عليه الشعب، نُنزله من على كرسيِّه، كما أجلسناه عليه.
إذا فَهِم كلٌّ منَّا ما يريده الآخر، فلا حاجة للتظاهر بعكس ما يُبطنه.
كتب الجبرتي في تاريخه
«قاموا منصرفين، وانفتح بينهم باب النفاق، واستمر القال والقيل، وكلٌّ حريص على حظِّ نفسه، وزيادة شهرته وسمعته، ويُظهر خلاف ما في ضميره.»
صوت
قال الباشا: هل بلغ له أن يزدريَني ويأمرَني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس؟!
وعلا صوتُه بما لم يحدث من قبل: كما ترَون ففي كل وقت يُعاندني ويُبطل أحكامي، ويخوفني بقيام الجمهور.
قال الشيخ المهدي في لهجة مهونة: السيد عمر ليس إلا بنا، وإذا خلا عنَّا فلا يُسوى بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة، أو جابي وقف يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين.
انشغل المشايخ بحيازة الأراضي والزراعات وبناء القصور واقتناء الجواري والخدم والعبيد، على حساب الدراسة والتعليم، هجروا أعمدتهم في الأزهر، ولم يعودوا يلتقون — إلا نادرًا — بالطلبة، ولا يصعدون على المنابر، ويلقون العظات. استبدلوا بذلك تملق الباشا ومداهنته، وتزيين مظالمه للناس، ربما أنابوا أنفسهم عن الباشا في التعامل مع الفلاحين، يستولون على أراضيهم، ويضربونهم، ويُلقون بهم في السجن.
أكل الحسدُ قلوبهم لمَا حَظيَ به السيد عمر من مكانة عند الباشا. وقعت في حقه وشايات. دسُّوا له الدسائس، أوغروا عليه صدر الباشا.
عندما تعلو النخلة القوية، وتكبر، فإن ما حولها من نخل صغير لا يلبث أن يذويَ، ويموت.
هذا هو مستقبل هؤلاء المشايخ.
صوت
تبعها الولد حمامة خادم الحاج حيدر في شوارع قريبة من ميدان الحسين. تأكد من البيت الذي دخلت إليه في حارة القبورجية، وواصل السير.
فطنت إلى أن الحاج حيدر تناسى مكانته، وما ينبغي أن يتصرف به أمام فتنة المرأة. لم يَعُد يعرف تمامًا ما يشغله، ولا ماذا يريد.
من أوراق السيد عمر مكرم
هان الشيخ الدواخلي في عيني، ما يتنعم به من الرفاهية، يلغي ما يدَّعيه من النسك، عمل — منذ بداية الوظيفة — على كسب رضا الحكام، ومخالطتهم، والسير في ركابهم، يمتلك قدرةً على تدبير أموره مع الباشا، لا شأنَ له إن مال الحاكم إلى العدل أم إلى الظلم، أحبَّه الخلق أم كرهوه.
أذكر وصف الشيخ عبد الرحمن الجبرتي له، بأنه يتدخل في القضايا، ويأخذ الأراضي التزامًا، ويؤجرها للفلاحين، بما حقق له من ثروات هائلة.
ظهر الثراء في أمواله وأمتعته ومأكله ومشربه وما يمتلكه من أطيان وعقارات، وإن زالت حرمته وهيبته من القلوب، وضعه الناس في إطار المنتفع من أموال الحاكم، والمزين لأفعاله وشروره.
لكل امرئ وقته الذي يشاء الله إظهاره فيه.
صوت
أعاد ابن شمعة ما سبق أن رواه عن الدجاجات الكثيرة، يشرب الشيخ الدواخلي عصيرها — في كوب ماء — كل صباح.
هو تلميذ للشيخ عبد الله الشرقاوي، جلس إلى طلبته تحت عمود في الأزهر، يُدرِّس لهم الفقه والمنقولات، وجد في اختيار الفرنسيين له عضوًا بالديوان سبيلًا للحصول على ما كان يصعب بلوغه لو أنه اكتفى بالجلوس تحت عموده في الأزهر. انصرف إلى حياة الرغد واللهو والنعيم. الأبواب من صفائح الحديد المذهَّبة، القاعة الكبيرة في البيت المطل على شارع الغوري، تشتمل على صفوف متقابلة من الرخام، فوقها بواكٍ مقوصرة. أثاثها من الحرير الدمشقي، خشب الأبنوس، السجاد الشيرازي، البرونز اللامع، المصقول، تناثرت في الزوايا وسائدُ صغيرة، يجلس الزوار عليها، أو يسندون إليها سواعدهم، الحمامات من المرمر والرخام والجرانيت الأسواني، الأرضية والجدران من الفسيفساء، يتضوع فيها، وفي القاعات والردهات بخور الصندل والمسك والعنبر والعود. يستكثر من الجواري والإماء والفتيان والعبيد، ونفائس الخيل والبغال. له في القليوبية مزارعُ شاسعة، تحفل بالزراعات والأشجار والنخيل.
كان جمعُ المال شاغلَ حياته، لا يقصِّر في وسيلة يراها نافذة إلى الهدف الذي يطلبه. أفلح في أن ينال ثقة السيدة نفيسة المرادية، جعلَته وكيلًا في إدارة أعمالها، صار من أغنى أهل زمانه. حتى صهره الحاج مصطفى البشتيلي، تناسَى صلة القرابة بينهما، وتحايل — بعد أن قتل البشتيلي بأيدي الفرنسيِّين — حتى حاز لنفسه ما خلفه البشتيلي من أموال طائلة.
للفرار من الضرائب الباهظة والمصادرات، نشر مظلة الرعاية على الكثير من المزارعين، يكتبون أراضيَهم باسمه، يعود إليهم ريعها الكامل، لقاء نسبة يحصل عليها.
فسَّر أرصاد الباشا تردده على يهود حي الصاغة والصيارفة، بأنه لاستثمار الأموال التي يحصل عليها من فلَّاحي القرى.
يمتلك مساحات هائلة من مراعي الأبقار وقطعان الخيل، يميل إلى الترف في ملبسه ومأكله ومشربه، إذا لم يكن نسيج الحرير من إخميم، فهو يحرص على استجلابه من الهند، أو من دمشق وحلب، يرتدي عمامةً يعلوها ريش مالك الحزين، عُرف بولعه بالشراب والمنادمة والمؤانسة والمسامرة والضحك، وحبه سماع الشعر والزجل والغناء والطرب والموشحات، ومهارته في الضرب على العود، يجزل العطايا والهبات لمطربي الوقت.
أَلِف التردد على أسواق الرقيق، عينُه على المرأة التي تصلح للمضاجعة، ذات المواصفات التي تُثير حسَّه، إذا اختار واحدة، فإنه لا يدخل في فصال، لا يشغله ما يطالبه به الجلبي. الجارية جارية، خُلقت لمتعة سيدها، وتسليته.
عُرف بميله إلى الجواري الحبشيات، يُظهرن المسكنة والخضوع، يرفض التردد على دور الخواطي، يجد في شراء الجواري ما يغنيه عن ارتكاب الفاحشة، القزلار من الخصيان السود يتولون رعاية الجواري.
جعل من قاع البيت محبسًا يؤدب فيه مَن تطاولوا عليه، أو جاهروا بعداوتهم، أو تصرفوا بما يُسيء إليه، أو رفضوا دفع الغرامات، أو تغيرت عليهم نفسه لمخالفتهم أوامره. يُصادرهم في أموالهم، يُخضعهم قواسته للضرب في الفلقة، أو يجلدونهم بالكرابيج.
صوت
لم يكن يذكر أحد المشايخ — ولو كان في غير وفاق معه — أمام الباشا، الشكوى إلى الحاكم أشبه بوضع جدار بينه وبين مَن آذَته كلماته. وبَّخ مَن نقل له القول: عمر مكرم مجرد جابي وقف. استعان المشايخ بمحتسب الباشا، شهد بالزور في عمر مكرم، قيل إنه تقاضى من المشايخ مائة ألف جنيه، ورجحت روايات أخرى أن الباشا هو مَن دفع المبلغ. زاد الباشا، فأسند إلى المحتسب نظارتَي وقف كانتا للسيد عمر.
يقول الجبرتي في تاريخه
«إلى أن بدَت الوحشة بين الباشا والسيد عمر مكرم فتولَّى كبير السعي عليه سرًّا، هو وباقي الجماعة حسدًا وطمعًا، ليخلص لهم الأمر دونه حتى أوقعوا به.»
صوت
لاحظ انقطاع الباشا عن التودد إليه. لم يَعُد الوالي يبشُّ في وجهه، لا يعطيه انتباهه، ولا يُبادله الرأي، غضب من نصحه وإرشاده، ربما أنكر عليه القول، تغيَّر عليه في الباطن، استغنى عن نصحه وملاحظاته، وجد في إلحاح السيد عمر مكرم في هذا الأمر ما لا يُطيق، غرق في ظلمة نفسه.
كأنه جبل المقطم قد سد السبل أمام السيد النقيب.
من أوراق السيد عمر مكرم
لا أذكر متى بدأ انشغالي بمفارقة الباشا.
صار يتكدر ممن يعرض عليه شيئًا من أحوال الناس، مَن يبني بلدًا لا تهمُّه التفصيلات الصغيرة. أخذتُ عليه الكثير من التصرفات التي يُسيء بها إليه خواصه وحاشيته وقادة جنده، عرفتُ — متأخرًا — أنَّ ما كان يرويه عن الفوضى التي أحدثها الباشا خورشيد في الأسواق والميادين والشوارع، إنما كانت من اختراعه، اطمأننت إلى وعوده بأن جنده ينزلون الشوارع لحماية الناس. قلت: ما عهدنا منه غفلةً ولا غشًّا، ونحسبه أمينًا علينا.
لم يتجه تصوري إلى أن الرجل هو مَن خطط، ودبر، ودفع جنده للتنفيذ، وأشرف على المتابعة. أخذوا ما يرفضه الشرع من الفرد والغرامات، فرضوا الضرائب على التجارة، أخذوا من الباعة والفلاحين ما يملكون من بضائعَ ومحاصيل، وفرضوا ضريبة تمغة على المنسوجات والمصوغات والأواني. تعددت المصادرات والاستيلاء على الأموال والعقارات والأراضي. شيء ما في داخلي ألغى شعور التعاطف، ما حدث جرائم تستحق العقاب.
من أوراق السيد عمر مكرم
نكث الباشا بعهده، وأبي تنفيذ ما وعد.
زادت الضرائب على نحو غير مسبوق. فرض من الغرامات والضرائب ما يصعب تصوره: قوائم البشارات، أوراق تقبيل اليد، حق الطريق، لبس القفطان، وغيرها من المسميات التي يشغلها ابتزاز الأهالي، جدَّد ما كان أبطله هو نفسه من الضرائب والغرامات، فرض ضريبةَ المال الميري على الأراضي الموقوفة، شملت المساجد والأسبلة والخيرات، امتدَّت إلى أطيان الوسية. كانت كلها معفاةً من الضرائب، حدَّ من سلطة المشايخ، استولى على الالتزامات والأوقاف.
زاد فخصَّ أطيان الرزق والأوقاف، شدَّد في طلب الحجج ممن يتولَّون نظارتها، إذا لم يقدم أصحابها أو نُظَّارها حجج إنشاء الوقف، أذن للكشافين بالاستيلاء عليها، يعرف أن العهد تقادم على هذه الأوقاف، تغيَّرت المعالم، أو دخلت في خصومات، فلم تَعُد الحجج تنطبق عليها. أضاف إلى المشكلة إطلاق أيدي الكشافين في إلغاء ما لم يقتنعوا بصحته من الأوقاف. كذلك أضاف إلى سلسلة فرماناته فرض الضريبة على الأطيان الموقوفة وأطيان الأوسية، قاسم الملتزمين في أرزاقهم، ألزمهم أداء نصف فائض الالتزام.
حدث تذمُّر من الملاك ونظار الأوقاف والمستحقين والملتزمين، أثارَت المغارم في نفوسهم ما لم يقوَوا على تحمُّله، بادروا إلى المشايخ تعلو أصواتهم بطلب الغوث.
ألزمهم الانقياد والطاعة. صار له الحلُّ والربط في كل القضايا. يسيِّر الأمور حسب إرادته. هو صاحب الأمر والنهي، القادر على الترغيب والترهيب، وعلى المنح والمنع، وإنزال العقوبات الصارمة بمن تأذن له نفسه أن يخرج عن الأوامر والقوانين والقرارات.
دسَّ أعوانُه في جلسات العلماء والوجهاء والأعيان، يُعطون انتباههم للتعبيرات المفاتيح في أفكار المتكلمين، وما يشغلهم، وما يُعدون لإنجازه، يتعرفون إلى دخائل الشخصية بما يسهل على الحاكم استمالتها، أو الحذر منها، أو عقابها.
لم يَعُد يتردد في صلب ولاة الأقاليم، ولا جلد المحتسبين. حتى مَن ظهروا بالأمان، أمر بتعليق أجسادهم على جذوع الأشجار، وضربها بالسياط، أو وخزها بالسيوف، قتل مشايخ وعلماء كان قد أعطى لهم الأمان. تغمره نشوةٌ لرؤية عمليات الإعدام، إيماءة الرأس تقضي بالحياة أو الموت، ينتهي العمر بما لا تقوى عليه إلا إرادة الله. خابت ظنوني فيه، تلاشى رجائي.
حذر الشيخ شوقي أبو شامة مما يحدث من النوائب والعجائب والقلاقل والوقائع المتناقضة. قال إنه من أشراط الساعة.
صوت
خشي الباشا من سوء الأحوال، فأحدث ما أنكره القلة.
إذا أسرف في جمع الضرائب فلأنه يُنفق عوائدها على إصلاح البلد. يسَّر للناس أمورهم المعيشية. منع الوظائف والألقاب عن الكثير من غير ذوي الكفاءة، قضى على بوادر الفتن والقلاقل، وسكنت الفتن، وأمَّنت الطرقات.
صوت
لم يغفل السيد عمر مكرم عن تحويط الباشا عمَّا يكون قد نسيه، أو أهمله، من علاقة الحاكم بمحكوميه، وما ورد في آيات القرآن وأحاديث الرسول وأقوال الخلفاء والصحابة من العبادات وسائر الطاعات، ورفض ما يخالف تعاليم السلف الطاهر.
قال: لا أبيع ديني بشهوة الدنيا!
تطلع أمامه بنظرة هادئة: صحبته للدنيا حتى أدفع عنه شرور فتنة الحكم.
نصحه بألَّا يوافق أن يدخل بيت المال ما فيه شبهة، وما يخلو من الحلال. أفلح في إقناع الباشا أن يُخليَ مظلومين من الحبس، يُعيد إلى باعة ما صودر من بضاعتهم، يمنع الضرب في الأخذ بالشبهة، يتقي دعوات علَت عليه بالعزل وخراب الديار.
صوت
بطل نفع السيد عمر للباشا.
تغيَّر خاطر الباشا عليه. صار قلبه باردًا عنه، لم يَعُد يُحسن استقباله، ولا يُقبل عليه بكلمات الود، ولا يسمع له نصحًا، أو يقبل له شفاعة.
أيقن أن الباشا لا يصبر على سماع نصحه، تغيَّر عليه، وأدبر بقلبه عنه. برر له موظفوه لزومه القلعة، هو إمام خفي، مستور، على الجميع أن يُطيعوا أوامره، وليس من حق أحد أن يناقش ما يفعل.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فحلف السيد عمر أنه لا يطلع إليه، ولا يجتمع به، ولا يرى له وجهًا، إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات، وقال: إن جميع الناس يتهمونني معه، ويزعمون أنه لا يتجارَى على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أحرص — في دنياي — على فعل ما يرجِّح كفةَ حسناتي في الآخرة، هل أُغضي الطرفَ عن مظالم الحاكم، فترجح كفة ميزاني ذنوبه؟!
لا أصاحب الباشا على حساب الناس، إنما صحبته لأُسديَه نُصْحي. أعلمتُه بحرصي عليه، فلا يُواجه عقاب الآخرة.
آيستُ من نصحه، فأزمعتُ مفارقته، نفضتُ يدي منه، أدركت أن خاطره ينفر من قبول النصح. مقامي الجلوس في حضرة الله تعالى، وليس في مجلس الحاكم.
صوت
الأسواق مزدحمة بالباعة والمارة والحمير والجياد والجمال، تشغي بالمنتمين إلى ديانة الإسلام، أخلاط من أجناس الناس، أتراك وشوام ومغاربة، ومَن يحلون ضيوفًا عليهم من النصارى واليهود والديانات الأرضية، اختلاف في العادات والتقاليد والأزياء ورطانة الكلام.
البيوت والأرباع والحواصل والوكائل والخانات ودكاكين البقالة والعطارة والعلافة والفخار والأقمشة والمانيفاتورة والجلود والعطور والأخشاب، التجار يستوردون ما يملأ الأسواق من الدروع والسيوف والجلود والفرو والبخور والعطور والتوابل والحلي النفيسة والصوف والمنسوجات الحريرية والفروش والستور والخيم والسروج والأواني النحاسية ومصنوعات الخزف والحصر والتحف الخشبية المطعمة بالسن والأبنوس والتحف العاجية والأخفاف والحقائب الجلدية والسجاجيد وأنواع الحلي والزينة والأمتعة والفُرش والثياب والذخائر، وأقمشة الحرير المطرزة بالقصب. أهل الحِرف، والباعة، على أبواب الدكاكين، وعلى المصاطب، تكومت الأجولة والصناديق والزكائب والبلاليص والعلب والأحقاق والكيزان والصابون والسكر والقماش وزجاجات المصابيح.
مال بعيدًا عن شيالين، يصلون خطاف الونش بصندوق خشبي كبير، بعد أن أحكموا لفَّ الحبال المجدولة حول الصندوق.
المكارون إلى جانب دوابهم، والجمال محمَّلة بالماء والبضائع، والسقاءون والحمالون والباعة. خلت الشوارع من الوجوه البيضاء المشربة بحمرة، والشعر الأصفر الناعم، والعيون الزرق، واللباس العسكري المميز.
ما كان يؤلمه أن نظرات الرجال تخلو من الدهشة عند سير الفرنسيات العاريات الأذرع والظهور في شوارع القاهرة، أَلِفوا المشهد فلم يَعُد يستلفتهم. لمح عرسة تمرق بسرعة من داخل بيت إلى أسفل دكان مغلق في الناحية المقابلة.
اخترق الشوارع الضيقة، المتربة، على جانبَيها البيوت القديمة والدكاكين المصنوعة من الخشب والأسبلة والزوايا، السويقات متناثرة للجواري، في الميادين، وعلى نواصي الشوارع. تعلو نداءات الباعة والمتسولة، وهتافات الزعر والجعيدية والحرافيش، الروائح تترامى من دكاكين الزلابية والجبن المقلي والبيض المقلي، ربما أشاح بيده لسماع عبارة نابية، أو شتيمة، لا يرد القائل، الظروف تطحن الناس، تدفعهم إلى ما قد يخالف طبائعهم.
بادل عشم السقا تحية الصباح.
ميَّزه بمشيته، يوسع ما بين ساقَيه ليقوى على حمل قربة الماء، راعه خلو ظهره من القرية، جعل له مسئولية ملء أزيار من السقا من الأسبلة المنتشرة في الغورية، وما حولها من الأحياء. وضعها في الشوارع المزدحمة لسقاية عابري السبيل، وداخل البيوت.
قال عشم: صادرها عساكر العثمانيين، أفرغوا لأنفسهم ما بها، ولم يُعيدوها فارغة.
قال الحاج حيدر مهونًا: سأعوضك — بإذن الله — عمَّا فقدته.
وفي نبرة مشفقة: أَعِدك بشراء حمار ينقل ماء النهر إلى البيوت.
ارتفع الأذان من موضع قريب، تلفَّت فلم يعرف مصدره.
مال إلى حارة القبورجية، متفرعة من شارع سوق السلاح، خلف جامع السلطان حسن، على جانبَيها بيوت متلاصقة، يَصِل بينها طرق ترابية، على حوافِّها أشجار الجميز والسنط والصفصاف والتوت واللبخ. على مداخل البيوت، نسوة يتجاذبنَ أطراف الأحاديث. تترامى من الداخل روائح البهارات والتوم والشواء والسمك المقلى والبخور.
اقتنى — وهو يترك الغورية — شيلانًا من الكشمير، وأثوابًا من الحرير، والأتيال. سبقه بها الولد حتاتة إلى بيت المرأة هنومة.
نظر بجانب عينه إلى الجسد المتدثر، المتكوم على المصطبة، جانب الباب.
علا صوته وهو يهمُّ بالدخول: يا أهل الدار.
لم ينتظر الرد، القاعة في الطابق الأول، يصل دهليز بينها وبين الباب الخارجي، ثمة بابٌ صغير جانبي، تصعد منه السلالم إلى الطابق العلوي. الزير أيمن الباب الخشبي، رُصَّت إلى جانبه قلل فخارية صغيرة. خلع حذاءه، وسار على الحصير الملون حتى الباب المفتوح.
فصله المدخل عن الحياة في أسفل، وفي زحام الطريق. احتوَته الردهة الواسعة المبلطة بالرخام المنقوش. عزله مدخل أعلى البيت عن الحياة في أسفل، وفي زحام الطريق. احتوته الردهة الواسعة المبلطة بالرخام المنقوش.
تأمل — بعينَي الشرود — أشعة الشمس المتسربة من المشربية، ترسم زخارفَ وتكويناتٍ وتداخلاتِ الضوء والظل على الأرض والجدران، والقنديل الهائل، المطفأ، المتدلِّي من السقف. تغطَّت الأرضية بالسجاد الكاشاني، ذي النقوش الجميلة، في الوسط موقد نحاسي، فوقه مجمرة يتضوع فيها بخور هادئ الرائحة، ويُضفي ضبابية شاحبة، تناثرَت في الأركان أرائكُ خشبيةٌ مطعمة بالصدف، عليها وسائدُ وزرابيُّ، ولصق الحائط خزينة خشبية مستطيلة، عليها نقوش صدفية، أُغلقت بقفل يضوي ببريق الذهب.
ظلت الخادمة الفطساء الأنف في وقفتها، حتى جلس على زرابية لصق الجدار، وأومأ لها برأسه.
تسلَّلت إليه نسائم باردة، أدرك إجادة اختيار المنافذ في البيت، وتيارات الهواء.
عرف أنه لن يستطيع التقدم إلى المرأة — رغم طلاقها — إلا عن طريق أمها. كانت أمُّها تأذن لها بالخروج إلى الأسواق، لكنها كانت تَعِي أن زواجها، وانتقالها إلى بيت جديد، مرتهن بموافقةِ أمِّها. لم يكن لها رأيٌ في اختيار زوجها، الرأيُ لأمها، هي التي تلتقي مَن يطلبون نكاحها، توافق — إن أرادت — أو ترفض، لا راد لمشيئتها.
بلغَه صيتُ الأم الكوديا هنومة، لما وافق أسعد داغر أن تُقيم زارًا لإخراج الجن من جسد حفيده، أمَّن على قول زوجته إن الجن والسحر مذكوران في القرآن الكريم. أهمل قول السيد عمر مكرم في نبرة غاضبة: الخرافات لا شأن لها بالدين.
تحرص هنومة على ركوب هودج للانتقال إلى موضع الزار، حتى لو كان في بيت قريب، ربما أزاحَت ستارة الهودج تُطلُّ على الطريق، تستعيد مشاهدَ عاشت فيها، أو رأتها، على أبواب الدكاكين وخلف المشربيات وشبابيك البيوت.
حياتها في تضوُّع البخور ودقات الدفوف، تتصاعد، ترافقها أغنيات الزار والرقصات العنيفة والصرخات، حتى تسقط المرأة التي تُعاني المسَّ بعد أن يخرج الجن من جسدها، تقضي وقتًا في استعادة تنفُّسها، وهدوئها.
قضَت فترةً من صباها في عروض المحبظين، تؤدي أدوارًا تليق بسنِّها وجنسها، قدرتها على أداء ما تتطلبه العروض من رقصات عنيفة اجتذبَت المعلمة حسنة كودية الزار في ناحية الأزبكية، قالت هذه راقصة زار. ظلَّت في فرقة المعلمة، حتى اعتزمت أن تستقلَّ بفرقتها الخاصة.
زاحمها — في السنوات الأخيرة — كوديات سودانيات، يرتدين الملابس الملونة، يُتقنَّ إسدال الشعور، والتطوح، والرقصات العنيفة، والأغنيات، ونفخ الناي، والضرب بالدف والدريكة، وإيقاع الطبلة والطار والآلات الموسيقية.
أخذَتها ليالي العوالم، فتباعدَت حفلات الزار، وإن ظلَّت صفة الكودية ملتصقةً بها. أقامت الحفلات في بيتها لسماع الأغاني وآلات الطرب والملاهي والقيان، وجمع النقوط من سُمَّار الليالي. اشتهرت بين أرباب الملاهي والغناء والطرب، وعازفي العود والناي والكمان والقانون، تردَّد على بيتها إبراهيم الوراق أشهر فناني العصر، أفلحت في دخول قصور المماليك وعلْية القوم، أقامت للزوجات والجواري — مع فرق المحبظين والعوالم — حفلات زار، وسهرات طرب.
جاوزَت فرقتها بيوت الأكابر والأعيان إلى مواضع يتردد عليها متوسطو الحال من أرباب الحِرف والصناعات: قصر الأمير بشتاك، بيت العيني، بيت الست وسيلة، وكالة الغوري.
ساعدها على التقرب إلى ذوي المكانة العالية إضافة القدرة على أفعال السحر، ورصد النجوم، واستطلاع الغيب، وفتح المندل، وقراءة الفنجان، وضرب الرمل، والتنبؤ بالطالع، وتفسير الأحلام، وإجادة السحر والحيلة، إلى حفلات الزار، تجتذب مَن تشغلهم النظرة إلى المستقبل.
عرف الكثير من أخلاق ريحانة.
قيل إنها بنت أمها، اقترنَت سيرتُها بالمكر والدهاء والخبث ودوام الشجار مع باعة سوق الغورية.
روى أنه كان لها موضع في قعدات الرجال، يتحدثون عن رشاقتها، وحلاوة صوتها، وجمال عينَيها، والشفة السفلي الوردية، المتدلية، والإيماءات التي تُثيرها في نفس مَن ينظر إليها. عرف من ماضي حياتها ما لم يكن يعرفه، لكنه نفض رأسه.
قالت ريحانة: أنت الرجل الذي أحلم به.
حدقت نظراته في وجهها، كأنما ليتثبت مما قالت. عانى التردد بين الاحتفاظ بنفسه، والاستجابة لدعوتها.
ابتسم ليداريَ ارتباكه: لماذا أنا؟!
– أية فتاة يتصور خيالها رجلًا تتمناه زوجًا لها.
ربما لم تُفلح صبغة الشعر، ولا العناية بملامح الوجه، في إخفاء إيغاله في العمر، وإن أضفى عليه تقدُّم السن مهابة.
– ماذا تُفيدين من الشعر الأبيض؟
– لم أسعد بالشعر الأسود!
– وفارق السن؟
– كان زوجي في مثل عمري!
بدَت الطرق — بعد رحيل الفرنسيِّين — خطرة، أو مسدودة.
أجبرتها الأم على الزواج من جابر زلطة، دكانه بالقرب من البيت في سوق السلاح، يبيع أدوات الحرب: السيوف والرماح ومواسير البنادق والسهام والأقواس والرماح والقسي والنشاب والزرديات والدروع والبلط والخناجر والسكاكين وأدوات الصيد وصناعة السفن وجمائل السيوف واللجم والسروج والأسلحة النارية وتجارة البارود وغيرها، يعهد بصنع الأسلحة التي يبيعها مصنعُه إلى صناع في طَرْق النحاس والخراطة والقطع والحفر والتخريم والصهر والصقل والتبريد.
كان مشغولًا بملذاته وشهوات نفسه، يقضي أغلب وقته في تدخين الشُّبَك، صداقاته تقتصر على حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية والناس الدون والأسافل.
لما أبدَت ملاحظة، رمقها بعينَي الغضب: كل شيء مباح لقضاء المصلحة.
حاولَت أن تُبدِّل في طبعه، لكنه ظل على سوء المسلك والسيرة، سادرًا في طريقه، يبيع الخلق لأمراء المماليك. لم يخرج عن الطبع الذي تربَّى عليه.
عجز الحاج حيدر عن فهم مشاعره الحقيقية نحوها، يعرف أنها تصغر أصغر أبنائه بسنوات، لكنها — ربما — خُلقت لإمتاعه. لم يناقش طبيعة العلاقة التي تشغله: هل تصبح المرأة عابرة في حياته، أو زوجة تُنسب إليه؟
أشار إلى نفسه: تستطيعين الفوز بزوج مناسب، شاب مثلك … لماذا أنا؟
– القلب وما يريد!
– إجابة غير مقنعة.
عضَّت جانب شفتها السفلي، وظلت صامتة.
– ذُقت في حياتي ما يكفي من لذة الجنس. أحيا الآن في لذة العبادة.
أسبلت عينيها: لستُ شيطانًا فأشغلك عن عبادتك.
تنبَّه إلى انشغاله بالتطلع إلى شفتَيها، يتخيل أنه يعتصرهما في فمه.
– لم أقرب امرأة منذ رحلَت أم العيال قبل خمس سنوات.
ووضع يده على فمه، فلا يعلو صوته: ليس عندي ما أخشى فقده، لكنني أُشفق على صباك أن تُضيِّعيه في فراش شيخ عجوز!
أردف وهو يتحاشى النظر ناحيتها: لا أستطيع حتى أن أتخيل نفسي في علاقة.
– السرير وحده لا يصنع علاقة بين الزوجين.
عمَّق الصمتُ إحساسَه بالتوتر. حرك شفتَيه بكلمات هامسة، مدغمة، وسكت.
اكتفَت بالنظر إليه دون أن تتكلم.
قال في لهجة مستسلمة: إذا أدركني الإخفاق فإني أعدك بحب يعوضك عن كل شيء.
مدَّت يدَها بالمصافحة، أبقى كفَّها في كفه، فلم تسحب يدها.
لم يُخفِ ضيقه لقول هنومة: عقد الزواج يجعل ممارسة الجنس شرعية.
– تناسيتِ شرع الله.
ووشَت لهجته بضيق: كما تعلمين … الملافظ سعد.
تعالَى هسيس الأساور الذهبية في تشويحة يدها: ليس كل مَن يتزوجون يعرفون شرع الله!
– قد تُرحبين بعرضي الزواج منها.
عادت الأم إلى الخلف بظهرها، أطلت السخرية من عينيها: هل يقتصر زواجكما على الصداقة.
– لا أفهم.
وضعَت المرأة يدها في خصرها: أظن أنك نسيت علاقة السرير!
فوت الملاحظة: أعدك بأن أُسعدَ أيامها.
المرأة تقاربه في العمر، وإن صبغت شعرها بالحناء، وتغطي وجهها بأصباغ ثقيلة، يغلب عليها اللون الأحمر، تهدُّل الشفة السفلى يعطيه تأثيرًا مناقضًا للأثر الذي تُحركه في نفسه شفتا ريحانة، تنفرجان عن فمٍ خالٍ من الأسنان.
أسبلَت عينَيها المكحولتين، ومصمصَت شفتَيها: تريدها على سنة الله ورسوله أو لإرضاء شهوتك؟
كوَّنت علاقات بكبار الأعيان والوجهاء وذوي السلطان، أتاحَت لها العيش في طمأنينة، لا تخشى المضايقة، ولا تردُّد العساكر على بيتها. أفلتَت ريحانة من مصير البغايا اللائي قُطعت رءوسهن، خُيِّطنَ في أجولة، وأُلقين في النيل.
أظهرَت دهشتها لتعلق ريحانة بالشيخ، إلى حد الصمت عن سماع رأيها، أو حتى الرد على ما تُثيره من أسئلة. وشَى نزول ريحانة اليومي بما أقلقها، هل تعيد ما كان أيام الفرنسيِّين؟ مَن يساوي بنت هنومة في أيام مختلفة؟!
لمَّا تكرر خروجها، أهملَت الأم ما كانت تُوَجِّهه لها من أسئلة: أين ذهبت؟ مَن التقَت؟ التاجر الذي قصدته للشراء؟
لم تخرج ريحانة من البيت، منذ ترك الفرنسيون ميدان الأزبكية. ثم أَذِنت الأم لها بالنزول إلى السوق.
اطمأنَّت — بتوالي خروجها — إلى اعتياد هنومة غيابها عن البيت. لم تَعُد تسألها: إلى أين؟ ولا أين كنت؟
لماذا؟
ذكرَت أسبابًا كثيرة، انعكست في عينَي هنومة بعدم التصديق.
قالت في نفاد صبر: أريد أن أشمَّ الهواء.
حاولت الأم أن تردَّها عن الزواج من رجل يكبرها بسنوات كثيرة، وسبق له الزواج: أخشى عليك من خيبة أمل أخرى!
واتجهت ناحيتها بعينَين متسائلتَين: صبرتِ لتأكلي بصلة؟!
– الحاج حيدر ليس بصلة … مئات المريدات في الطريقة يتمنَّين ودَّه.
شهقت الأم وهي تضرب صدرها براحتها: إذا تصوَّرنَ فيه شيئًا غير أنه يعطي البركة، فهن مخبولات!
طارَت كلماتُ أمِّها في شرود تأملها للجلوة، الفارس على جواده الأبيض، ولمة المريدين من حوله تعلو بالأعلام والبيارق والسيوف والأهازيج والابتهالات.
– تريدين الزواج من طريقة الحاج حيدر لأنكِ وزَّعت الماء على المريدين؟
ذكَّرتها الأم بما تعتزُّ أنها شاركت فيه، انضمت إلى النسوة — في ثورة القاهرة الأولى — وزَّعت الطعام والماء على المحتشدين في ميدان الحسين.
حدجَتها بنظرة تحاول تبيُّن ما وراء كلماتها: أريد أن أتزوَّجَه. لن أتزوج الطريقة!
غالب استياءه: أتيت للزواج على سنة الله ورسوله.
تفحَّصته هنومة بعينَيها المكحولتَين: إذا قَبِلت ريحانة زواجك فستظلم زوجتك، وستأتي — فيما بعد — مَن تظلمها!
منع نفسه من القول: هي التي عرضت الزواج، قال: لا زوجة لي. ماتت منذ سنين.
انحسر كمُّها، كشف عن ساعد ممتلئ محلًّى بأساور ذهبية: لماذا صبرك كل ذلك الوقت؟
– تزوجتُ الطريقة.
– ستصبح زوجًا لاثنتين.
قال في حدة: الزوجة للبيت … والصوفية للدين!
كتب الجبرتي في تاريخه
«اجتمع الشيخ المهدي والشيخ محمد الدواخلي ومحمد أفندي طبل ناظر المهمات، والثلاثة في نفوسهم للسيد عمر ما فيها، وتناجَوا مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصرها، وتفرَّقوا، وحضر المهدي والدواخلي إلى السيد عمر، وأخبراه أن محمد أفندي المذكور ذكر لهم أن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، وقد كذب مَن نقل ذلك، وقال إنه يقول لي لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم به ومواجهته يحصل كلُّ المراد.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أبشع الخلافات هي التي يُدبرها الآخرون، يضعونك فيها دون أن تكون على صلة بها. وضعني الباشا في موضع العدو، ما لم يخطر في باله ولا اعتقاده أني أشد إخلاصًا له، وحرصًا عليه، من المشايخ الذين زيَّنوا له الباطل، وحرَّضوه على المظالم.
وصفوا الباشا بالزهد والورع والصلاح، ليقبلوا هداياه وصدقاته، ويأكلوا من سماطه. كثرة مديح الباشا للمشايخ بهدف اجتذابهم إلى صفِّه، يخضعون لأوامره، مَن خصَّه الله بعلم، عليه أن يُفيد بما حصَّله في حماية الحاكم الذي قرَّبه إليه من الآفات التي قد تُصيب عقيدته، وترجِّح كفة الباطل في ميزان حسابه.
صوت
تزلزل اعتقاده في الباشا: كيف يصفونه بالعادل وهو يظلم الخلق؟!
أدرك أن صحبة الباشا للمشايخ ليست لوجه الله، وإنما لأسباب كتمها في نفسه، وإن ظهرت في كلماته وأوامره.
لم يَعُد يتردد على الولائم التي يُقيمها للمشايخ والعلماء. عاب على المشايخ عدم نصحهم الباشا، والوقوع في مداهنته وتملُّقه وتزييف الباطل أمامه، كلما أظهر المشايخ شرَّها لما في يد الباشا، واجههم بكلمات لا تنطوي على الاحترام. أخذ عليهم عدمَ الوفاء بما عاهدوا الناس عليه. ذهب ما لهم من هيبة، صاروا عنده كآحاد الناس، آيس من الباشا وتصرفاته وقراراته، نفض نفسه منه.
صوت
قاطعه السيد عمر أفندي النقيب، وخرج من صحبته، لا يبادره بعداء، إنما يكتفي بالتحية عند اللقاء في مناسبة كصلاة الجمعة، أو أثناء السير في الأسواق. رفض الموافقة على ما لا يعلم أسبابَه وعِللَه، والهدف في نهاية الأفق. خشيَ من نفسه أن تحملَه على ما لا يرضى به دينه، ولا ضميره، ولا مروءته.
صوت
تغيَّر اعتقاده في محمد علي.
رفض أن يكون من عيال الباشا، يخضع لأوامره، وينتقدها حتى لو خالفت قناعاته. أراد الابتعاد عنه دون أن تنشأ بينهما خصومة. أساء في حقوق الناس، وكلَّفهم ما يصعب تحمُّله. اعتبر السيد عمر ما حدث ابتلاء يمتحن الله به عباده الصالحين، الله هو الذي يملك إصابة العين بالعمى، واللسان بالخرس، والأذن بالصمم، والجسد بالمرض.
من أوراق السيد عمر مكرم
هل الباشا أعمى عن هذا كلِّه؟ هل فقد السمع والبصر؟ ألَا يوجد في خواصه وحاشيته مَن يخبره بأحوال الناس، وما يعانونه على أيدي أعوانه؟
حين تقربت إليه، فلأنه كان يقبل شفاعتي، ويأمر بقضاء حوائج الناس. تباعدتُ عنه لظلمه. تبدَّلت الظروف، لم يَعُد من الميسور أن يصعد العلماء والوجهاء وعلية الناس إلى القلعة، يسحبون السجادة من تحت قدمَي الوالي. نحن الآن نسأل الله تعالى في عزله، هو أعلم بما يُعانيه عباده، وهو القادر على تفريج كرباتهم.
صوت
هل قُرئ على محمد علي تاريخ الأندلس؟
هل قُرئ تدبير أبو محمد عبد الواحد الرشيد للقضاء على مسعود بن حمدان؟
غاظ الرشيد ما بلغه شيخ الخلط مسعود من قوة، وسعة نفوذ. تحايل ضد ذلك باستدعاء مسعود إلى حضرته، تردَّد مسعود في قبول الدعوة، لخوفه من نيات الرشيد، ثم مضى نحو القصر برفقة عدد من جنده، لمَّا توسط المكان، أحاط به الحراس والعبيد. اقتحم جندُه الأبواب تلبيةً لصياحه، لكن الأبواب أُغلقت عليهم، كلما أفلتوا من باب حوصروا داخل الأبواب الأخرى، تلقَّفَتهم السيوف، تساقطوا واحدًا وراء الآخر، حتى أخذهم العدم.
احتزَّ الحرسُ رأسَ مسعود، حملوه إلى الرشيد، بدايةً للقضاء على عرب الخلط، طوردوا في كل الأمكنة، حتى غُيِّبوا عن الدنيا.
هل قُرئت على محمد علي هذه الحكاية الأندلسية؟
هل أفادَته أحداثها في المذبحة التي دبَّرها وراء أسوار القلعة لأمراء المماليك؟
أمِن أمراء المماليك — في بداية تولية محمد علي — ليأمن جانبهم، لكنه بدأ في نسج خيوط المؤامرة التي أوقعهم في شباكها داخل القلعة. تغدَّى بالمماليك قبل أن يتعشوا به، رفض أن ينتظر سحب السجادة من تحته، وعزله. تحرَّكت عليه أحزاب المماليك، تطلَّع الأمراء إلى الكرسي الذي جلس عليه. أخفق في استمالة قادتهم. كلٌّ يتوجس من صاحبه، ويتربص به. تناوبت الانتصارات والهزائم بينه وبين المماليك في معارك سابقة. كان يكتفي بمراقبة الأحداث، لكنه الآن في قلب كل شيء، ما كان بعيدًا هو في قبضة اليد، فرق بين السعي إلى الامتلاك، والتنازل عن الملكية. في خاطره قصة قطز وبيبرس، وحكاية علي بك الكبير وتابعه محمد أبو الذهب، يقتله أمير مملوكي، ويطلب له الرعاية الكريمة.
جعل إقامة المماليك محددة، وحركاتهم محصورة، راقبهم مراقبة صارمة. أزمع الإيقاع بهم، واجتثاث شأفتهم. خشيَ أن يعجز جنده عن هزيمة المماليك، أزمع اللجوء إلى الحيل والتدبيرات حتى يُخضعَهم. إذا استطاع، فإنه يستأصل شأفتهم، يُغيِّبهم عن الحياة.
سهَّل من مهمة محمد علي ما فعله القائد التركي قبطان باشا في نوفمبر سنة واحد وثمانمائة وألف، عندما استدعى أمراء من المماليك إلى مقر قيادته في أبي قير، للاحتفال بما أعلنه الباب العالي في فرمان — هو اختراع للقبطان باشا — من عفوٍ عامٍّ عن أمراء المماليك. لم يكَد الحفل ينتهي حتى أُطلقت النيران على مراكب المماليك، قُتل خمسة، وأُصيب البعض، وأُسر آخرون. في الحين نفسه، دعا الصدر الأعظم أمراء المماليك المقيمين في القاهرة وحولها إلى حفل مماثل، ما إن دخلوا عليه، حتى قبض عليهم، وأُودِعوا سجن القلعة.
إذا كان الإنجليز قد تدخَّلوا في عملية أبي قير للإفراج عن المتبقين من الأمراء، فإن أصابع محمد علي غير خافية آنذاك كما هي واضحة الآن، وجرَت تحت نظره.
طاف الجاويشية في الأسواق، قبل إقامة الحفل بساعات، يوزعون المنشورات على الأمراء وكبار العسكر والأعيان والتجار والناس العاديِّين، قصرت دخول الحفل عند المجيء على أمراء المماليك، بدعوى مكانتهم الرفيعة.
صوت
لم تكن مذبحة القلعة أول ما دبر ممثلو السلطان لاجتثاث الأمراء. استعاد الناس أحداثَ مذبحة المماليك الأولى، سبق فعلة محمد علي وليمة القبطان العثماني حسين باشا لكبار المماليك. دعاهم إليها في سفينة بميناء الإسكندرية. تنبَّه الأمراء إلى الخطر، قبل أن تأخذهم المفاجأة، دافعوا عن أنفسهم، واستغاثوا بالسفن الإنجليزية الراسية في الميناء. أدرك القبطان خطأَ فَعْلتِه، سلَّم القتلى والأسرى، واعتذر عمَّا اقترف.
كاد الصدر الأعظم يوسف باشا يقضي على عديد الأمراء في القاهرة. دعاهم إلى الديوان، ثم ألقى القبض عليهم، أسفرَت عن أَسْر إبراهيم بك الكبير والبرديسي، ومَن يخضع لهم من جند المماليك، بالإضافة إلى عديد القتلى والجرحى. تدخَّلت فرقة من جيش الإنجليز، كانت بالقرب من المكان، أجبرت الوزير العثماني على إخلاء سبيل الأمراء. بدا المستحيل نهاية أفق العلاقة بين العثمانيِّين والأمراء المصرلية.
كادت المذبحة تنجح — مرة ثانية — في عهد خسرو باشا، أوعز إلى قبطان باشا بالقضاء على أمراء المماليك، فطنوا — عند نزولهم غليون قبطان باشا بالإسكندرية — إلى ما يُراد بهم، سلُّوا السيوف، وخاضوا معركة الحياة، مات منهم عدد كبير، ولاذ الباقون بأسطول الإنجليز.
لما مات محمد الألفي بك، قال الباشا لخواصه: طابت لي مصر، وما عدت أحسب لغيره حسابًا.
كلمات مغامر، يجد معنى ما يُدبره في غياب خصومه. كأن موت الألفي إشارةُ البدء للوالي حتى يصفِّي المماليك.
أعاد ملاحظاته على ابنه طوسون: لا تتركوا لأمراء المماليك فرصة للقتال أو الفرار.
وفي نبرة حاسمة: لا قيمة لأي شيء ما لم نقضِ عليهم تمامًا.
كتب الجبرتي في تاريخه
«ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم، لنهب العسكر بقية المدينة، وحصل منهم غاية الضرر.»
صوت
ما حدث كان نَهَمًا، يفرغ بعده إلى القوة الثانية التي يخشى مناوأتها. انتصر الباشا على أمراء المماليك نصرة عظيمة. قُتل بقايا الأمراء، مات زعماؤهم، أو تركوا البلاد.
قبل أن يُتمَّ الوالي مذبحته. تعدَّدت مؤامرات الأمراء لإسقاطه. صبر الباشا كما لم يصبر عوام الناس على مؤامرات المماليك وتدبيراتهم. كان عليه أن يُصفِّيَهم قبل أن يُصفُّوه، أظهر لهم الوُدَّ والمباسطة واللين، حرص على مهادنتهم حتى تسنح له فرصة إزالتهم، حتى الضرائب قصر تحصيلها على الأهالي من المماليك.
أقبلوا على دعوته يرتدون أفخر ما لديهم من الثياب الفضفاضة من الكشمير والحرير، تصيدهم الجند في دحديرة باب القلعة. لم يستطيعوا الخروج من الباب المغلق، ولا استطاعوا العودة. بعث جنده، يصفون أصاغر المماليك، تخلص من كبارهم في مذبحة القلعة، أمر أن تخلوَ المحروسة تمامًا من أيِّ أثر لهم. لَحِقهم الجند في الحارات والشوارع والأزقَّة والخلوات والزوايا والخانقاوات والتكايا والإسطبلات والأسبلة والمقابر ومساقي الموتى، أخلصوا في البحث عن أمراء المماليك، مَن عثروا عليه قتلوه، وقع فيهم القتل من كل النواحي، أطاروا أعناقهم حيث وجدوهم. لم يجدوا منفذًا يعودون منه إلى ما اعتادوه من مظالم، ردَّت طلقات الرصاص على طلب الأمان.
قُتل أكثر من ألف من الأمراء والأجناد والكشاف والمماليك، تلاشى أتباع بيت الألفي، مَن امتنع عن تلبية دعوة الباشا، أو حالَت ظروفٌ دون تلبيتها، واجه الموت حيث يُقيم داخل المدينة، وتعرَّضَت بيوتُ كلِّ الأمراء للنهب والسلب، ومصادرة إقطاعياتهم الزراعية.
لم يُفلت من قدامى أمراء المماليك سوى إبراهيم بك وعثمان بك حسن وسليم بك والمنفوخ بك وعبد الرحمن بك، فرُّوا — بصحبة مماليكهم — إلى ما بعد جرجا، واختار بعضهم الإقامة في أسوان.
أصدر الباشا أمرًا إلى ولاته في الأقاليم بأن يقبضوا على كلِّ المماليك في المناطق التي يحكمونها. تمنَّى أمراء المماليك الناجون من المذبحة، أن يُتيحَ لهم الباشا اقتطاعَ إقليم في الصعيد، يعيشون فيه. إذا لم يوافق الباشا على مطلبهم، فإنهم يلجئون إلى عيشة البدو، تتواصل أيامهم بالسلب والنهب وقتْل مَن يغالبهم.
لم يَعُد يخشى انتقام الأمراء: أمر بضبط جميع أطيان الصعيد، حتى الرزق الأحباسية المرصودة على المساجد والخيرات، المبثوثة في البلاد. كما أمر بالحجر على جميع حصص الالتزام. لم يَعُد في حوزة أصحابها إلا القليل.
قال الحاج حيدر العلاف: قضى الباشا على المماليك تمامًا، مَن أفلت من باب العزب لحقه الجند في المدينة، تلاشَوا كسحابة غبار في وجه الريح.
قال ابن شمعة: دعاهم إلى حفلٍ قُتلوا فيه بأوامره، دون أن يرمش له جفن!
قال الحاج حيدر: أنهى محمد علي ما بدأه بونابرت.
قال ابن شمعة: لعل ما حدث نذير تصفية مَن يتصورهم الباشا خصومًا.
وفي استغراب: نحن — أهل البلد — مَن وليناه.
– أخشى أن الوراثة واردة، أزمع الرجل أن تحكمنا أسرته!
استطردت في صوت مكدود: إذا أراد الباشا المكانة فلن يشغله إن ارتفع على جثث أهل البلد.
من أوراق السيد عمر مكرم
لا أعرف إن كنت أسعد أم أحزن لمصير أمراء المماليك. ارتكبوا من المظالم ما يدينهم، لكن الوسيلة القاسية التي اجتثَّتهم تستدرُّ الإشفاق. اعتمد على أمراء المماليك في الإطاحة بالوالي خسروا باشا، ثم أزال المماليك في مذبحة بشعة.
بالقضاء على المماليك استغنى الباشا عن الجميع، خلا الجو، وخلص له حكم مصر، اطمأن — بزوالهم — إلى استتباب الأمور، واستقامة الأحوال، بما يُعينه على الحكم، صار صاحب الطول في أمور البلاد.
صوت
زال ظل المماليك، الظروف متاحة لإلغاء الأوضاع القديمة، ما أَلِفه المماليك من سلاحٍ وزيٍّ وتقاليد قوامها الكرُّ والفر، وإنشاء جيش مصري يُجيد فنون القتال الحديثة.
فتحوا أبواب مصر بالاقتصار على القتال بالسيف، وعدم استعمال سلاح مماثل للبمب الذي انتصر به السلطان الغوري على الجيوش المصرية. واصل عساكر محمد علي — في الأيام الثلاثة التالية — حصدهم للمماليك، لم يُفرقوا بين متبوع وتابع، قتلوا، فصلوا الرءوس، نهبوا البيوت.
كان نزول محمد علي إلى شوارع القاهرة إعلانًا بسيطرته على الحكم، لم يبقَ له في الحكم مزاحم.
صوت
لم يكن قرارُ تصفية المماليك وليدَ ذاته، ولا مصادفة، طالَت المناوشات والمعارك بين عساكر الباشا والمماليك ناحية الصعيد. خرج المماليك على الاتفاق بين الباشا وبينهم بتحديد إقامتهم في الجيزة وضواحيها، هم الآن في حال المكابرة، وحين تتأكد الوفاة، لا سبيل إلى إعادة الحياة.
صوت
لم يخاصمه المماليك، فيزمع الانتقام، ما أعدَّه لهم من حفل اغتيال لا لأنهم أساءوا، وإنما لأنه أراد الانفراد بالحكم. استقر على كرسيِّ الولاية بين آلاف الجثث والجماجم والأشلاء، لجنوده وجنود المماليك، أيام قاسية هي — في السيطرة على البلاد — من الماضي.
من أوراق السيد عمر مكرم
أحزنني ما عرفته من الاعتداءات التي شنَّها عساكر الباشا — عقب مذبحة أمراء المماليك — ضد قبائل أولاد علي بالبحيرة، نهبوا الدور والخيام والقرى والنجوع، سبوا النساء والأطفال، سرقوا الماشية.
صادر الباشا جميع أموال أمراء المماليك وأملاكهم، أقطع قادةَ جنده وكبار موظفيه دورَ أمراء المماليك وأتباعهم، أقطع لهم أراضيَ تتعب الجياد في طول اختراقها.
هدمت البنايات التي كان يسكن فيها المماليك داخل القلعة، أو يستخدمونها لأغراضهم، أُعيد تخطيط القلعة، وتغيَّرت مواضع أسوارها.
صوت
عرفت بزواجه من ريحانة مطلقة جابر زلطة صاحب ورشة بسوق السلاح، أهملت ما أُثير من شائعات واتهامات، ما فعله يُحسب له، ولا يُحسب عليه. له مآثرُ ومناقبُ شَهِد بها الجميع. أمر بعمارة مسجد المحمودية بميدان صلاح الدين، أمام باب العزب، عَمِل عليه أوقافًا، وألحق به مطبخًا للفقراء المتعلقين بولي الله، وجعل للأوقاف ناظرًا يجمع غلَّتها.
عُرف بصداقاته الكثيرة للعلماء وأهل الصلاح والتقوى، وبحرصه على استضافة الدراويش والفقراء، يُحسن نُزُلَهم، ويُكرم مثواهم. اشتهر بما يُجريه على الفقراء من رواتب الخبز، وما يرتبه عقب صلاة كل جمعة من طعام لأبناء السبيل من طعام مؤلَّف من اللحم والخبز والأرز وأصناف الحلوى، لم يكن يتأخر عن إغاثة الملهوف، أو المنكوب. لا يسمع عن ضائقة ألمَّت بجار من الدور القريبة، أو دكاكين المغربلين أو الغوري، أو الدرب الأحمر، حتى يبادر بالإغاثة، والإعانة على الضائقة، إن لم يجد ما يعين به الناس، لجأ إلى تجار الحي ووجهائه، يرجوهم التبرع بالقليل مما في حوزتهم من مال وأشياء يحتاجها الناس. عُرف بالورع، والزهد، وحفظ الأوقات، والتورع عن الشبهات.
أبرز ما يحفظ عليه أخلاقه عدم ميله إلى النساء.
صوت
قال الباشا محمد علي بنبرة تزاوج بين الإشفاق والسخط: فقراء الرعية وديعة عند الحاكم، عليه أن يُحسن رعايتهم.
وضغط على كلماته: الفلاح هو وليُّ نعمة الجميع.
تقدُّم الفلاحة لا يتحقق بإلقاء البذور، وترقُّب الثمار. ازدهار الفلاحة يحتاج إلى فتح الترع، وعمل المساقي، والحوش، وأعمال المصارف، وتطهيرها في أوقاتها، وتقسيم المياه بوجه العدل في أوانه، دون امتياز بين الأمير والفقير.
وعد بالأخذ على يدَي القوي، وإنصاف المظلوم، وضبط الأسواق، ومنع انفلات الأسعار. حرص على إقامة السنة، وإماتة البدعة، وتعزيز الشريعة. أمر بالتوسعة على الفقراء، استكثر من بناء المساجد والزوايا والأسبلة والدور والكتاتيب والمدارس والمستشفيات والحمامات والمدارس والجوامع والربط والأسبلة ومساقي الدواب، والقبور.
أمر، فأُنشِئ الكثير من أحواض سَقْي الدواب، زادَت الزوايا والتكايا والخانقاوات بما يفوق الحد. حدَّد النفقات للحرمَين الشريفين والمساجد والأرامل واليتامى والفقراء والأوقاف والأرزاق. ألزم اتخاذ الطرق المؤدية لمنع تجارة الرقيق، وتخصيص الجزاء الصارم عبرةً للغير، ولا بأس من إحالة المخالف إلى العسكرية. شدَّد على الولاة والموظفين ألَّا يتكبروا على الناس، أو يترفعوا عليهم.
نفَّذ التجار تعليمات المحتسب بوضع قناديل على أبواب دكاكينهم، ووضع أصحاب البيوت قناديلَ على أبوابها، كما وُضعت أزيار مليئة بالماء على أبواب المساجد والبيوت والمحال.
كنس الأهالي أبواب الدور وأمام الدكاكين والشوارع والأزقة، وعُنُوا برشِّها عند الحاجة إلى إسكات الأتربة، حظر على الناس إلقاء مخلفاتهم في النيل، وفي الخليج، درءًا لتلوث المياه. عُنيَ بتوسيع العديد من الشوارع، فتح شوارع جديدة، طلاء واجهات البيوت والدكاكين، إزالة الحصر، بدء تسمية الشوارع، وترقيم الدور.
عوض الباشا بولاق ما فقدته في ثوراتها ضد الفرنسيِّين، أبطل ما كان على التجار وباعة الدكاكين من المشاهرة والمجامعة، وأبطل الخمارات وبيوت البوظة والخواطي، شدد في إزالة المنكرات ومواضع الفساد، جعل السيف حدًّا لتعاطي المسكرات ومذهبات العقل. نقل الشيخ هادي مصطفى من وظيفته كواعظ لجامع الحاكم إلى وظيفة القاضي، يقضي بالعدل بين الناس، ويُنصف المظلومين.
انتظم معاش أهالي بر مصر، قضى على قطع الطرق والسلب والنهب، انتشر الأمن في البلاد، أمَّن السكان في أنفسهم، وتعلقوا به، أَذِن لهم أن ينقلوا ما يستطيعون حمْلَه من أموالهم. زاد في إكرام العلماء، أنزلهم منازل حسنة، أغدق عليهم الأموال والصلات والأرزاق والهبات، أهدى إليهم الجواري والعبيد والغلال والسمن والعسل والسكر. وصلهم في الأعياد والمواسم بالهدايا الثمينة، جعل لكل شيخ بلد خمسة أفدنة عن كل مائة فدان، سماها مسموح المشايخ. رتَّب لهم رواتبَ شهرية تُعينهم على ظروف الحياة، ورتب الرواتب للمجاورين، وفَّر أماكن لإقامة المجاورين وإعاشتهم، تجمَّع حوله العلماء والفقهاء والقضاة والأمراء والعسكر والكُتَّاب والأدباء والشعراء ومشايخ الطرق الصوفية والزوايا والخانقاوات والرُّبُط وخدمة الأضرحة. تحققت له صلاتٌ وثيقة بالتجار وأرباب الحِرف ورؤساء الصناعات ومالكي الضياع والأعيان وعظماء الناس والنصارى والأروام والأقباط الكتبة وتجار الإفرنج.
لتأكيد أمن القاهرة، أصدر الأوامر بنزع بوابات الدروب والعطوف والحارات، وإزالة المصاطب لتوسعة الطريق والوكالات، وإن أرجع عبد ربه سنجق محرر العقود في سوق الموسكي، أن إزالة المصاطب، وما سبَّبته من ضيق لتجار الأسواق، إلى خوف الوالي من تمرد أولاد العرب، تتحول إلى متاريس يواجهون — من ورائها — جند الوالي.
اختفت — أو كادت — سرقات الدور والوكائل والدكاكين، حتى المساجد عانَت حوادث السرقة، المنابر والدكك والقناديل والسجاد والحصير والتعاليق، العقوبات القاسية ألزمت مراجعة النفس، لا يرتكب المرء ما يؤاخذ عليه، مَن ينسى متاعًا، يعود فيجده حيث تركه.
وافقت على أن الأمور عادت إلى طبيعتها، وأن كل شيء على ما يرام، لكن الخطر بدَا لائحًا في نهاية الأفق.
صوت
عهدَت هنومة إلى مساعدتها تهاني بإعداد ريحانة لزفافها. جرَت بقطعة الحلوى على جسدها، أزالت الشعر من العانة، وتحت الإبطين.
حين ألمحت إلى الأعلام والمصابيح التي تُعلق على باب البيت، منذ ثمانية أيام قبل الزفاف، رفض الحاج حيدر تلميح المرأة، رفض حتى فكرة الزفة بالمزمار والدفوف والطبول، وألغى زفة الحمام، وما يتصل بها من إزالة شعر الجسد، والتحنية، أهمل — لأن المرأة سبق لها الزواج — حمل المنديل الأبيض في دخوله عليها، لا ينتظر ما لا يتوقعه. تجنَّب ما يفعله حديثو الزواج، أنكر حتى موعد دخوله عليها، تعمَّد ألَّا يحلق ذقنه، ويترك شعر رأسه مهوشًا، حتى الشعيرات البيضاء التي تخلَّلت الصبغة، لم يحاول إخفاءها. صرف الحلاق لمَّا أتى في مألوف موعده، تناسى عادته اليومية بالاستحمام كل صباح، أهمل توجيه الدعوات إلى خواصه المقربين. ظل في الدكان حتى موعد الإغلاق، عقب أذان المغرب.
رفضت هنومة أن تترك بيتها إلى بيت ابنتها. بيت حارة القبورجية قريب من القلعة والصاغة والجمالية، يسهل الوصول إليه — للتوصية على حفلات الزار والختان والغناء والرقص — من أرباب الأُسَر والعائلات، وأرباب الملاهي والعوالم.
تردَّد على الأزبكية بنيَّة اختيار بيت لها يُطل على البركة الواسعة، ألحَّت في أن يشتريَ دارًا بالأزبكية، تحفُّ بها قصورُ بكوات المماليك، ودور المشايخ وكبار التجار: الشيخ عبد الله الشرقاوي، الشيخ عبد الله الشبراوي، بيت البكري، التاجر الدادة الشربيني، وغيرها. الجالس في أحدها يشاهد المراكب التي يضويها ألَق النهار، وتُضاء في الليل بما يُضفي على المكان جمالًا، ويشعر النفوس بالمتعة.
فضل سويقة اللالا لإقبال الوجهاء والأعيان على الإقامة فيها. تبعد عن الخوف الذي أحدثه وجود عسكر الفرنسيِّين، ثم عسكر الباشا، داخل الحي.
خصَّص لها بيتًا في سويقة اللالا، بالقرب من جامع الحنفي. تمازج الروائح الذكية يتضوع من أشجار البرتقال والليمون في الحديقة الواسعة، الطابق السفلي يضم الحواصل والبئر والمنظرة، والطابق العلوي به المقعد والقاعات والفسحات والغرف والحمامات والمطابخ. الأعمدة من الرخام المطلي بالذهب، الأسقف والجدران مزدانة بالذهب المموه واللازورد والأصباغ الجميلة، الباب الحديدي الضخم زُيِّن بأشكال على هيئة ورود وأغصان ونباتات متسلقة، يُفضي إلى ساحة تتوسطها فسقية هائلة من الرخام، تعلوها قبةٌ محمولة على أربعة أعمدة رخامية. تضمخ القاعات والحجرات بماء الورد المخلوط بماء الكافور وأنواع البخور. علقت في السقف ثريات من البلور، والأرض مكسوة بالرخام الملون والقيشاني، أفاريز الجدران والأسقف مطلية بالذهب، والأبواب زُيِّنت بالصدف والنحاس البراق، والأثاث من الرياش الفاخر والطنافس الثمينة.
لها في البيت غرفتها المستقلة، تستقبله في تردده على البيت. الفراش الوثير يُغري بالرقاد، الأرضية المكسوة بالسجاد التبريزي، الستائر الحريرية الهفهافة تغطي النوافذ والشرفات، الثريات والشمعدانات والقناديل تعلو بالإضاءة، في الجدران آيات من القرآن ومشغولات زخرفية.
ربما أطلقت جسدَها، ترقص له، تتمايل، تتأوَّد، تتثنَّى، تُدندن، تهمس بالغنج.
لن تتردد — في بيتها الجديد — على حمام سوق السلاح، جعل في الملحق العلوي حمامًا مكتمل الأجزاء، المغطس، وموقد تسخين المياه، وغرفة تبديل الملابس. أمامها بسطة صغيرة للجلوس — بعيدًا عن الأعين — تحت الشمس.
خشيَ المعلم ابن شمعة ألَّا ترى فيه المرأة رجلًا يلبِّي احتياجات الفراش، هو مجرد شيخ عجوز يحتاج إلى الرعاية والإشفاق.
– أنت بصحة جيدة، لكن هل ترى من المناسب أن تتزوج فتاة في عمر حفيدتك؟!
واحتضنه بنظرة مشفقة: أصعب شعور على المرأة المتزوجة عندما تنام على سريرها دون أن تنتظر عناق الزوج.
ما بينهما من صداقة، وعشرة، وما عُرف عن ابن شمعة من كلمات لا يستوقفها المعنى، ولا تأثيرها في النفس، يُلغي حواجز التشكك والريبة والغضب.
أنجب ولدَين، يملك ما يَفِي بعشرات الأبناء، لكنه خشي — قبل أن يضاجعها — غياب القدرة عن تحقيق رغبته. ربما وقع عقد زواجه من المرأة، وهو يعلم بصعوبة ملامسة جسدها.
استعاد — بينه وبين نفسه — قول هنومة: لعلك تعوضها عن متعة المضاجعة بمتعة الكلام الجميل.
مَن هم في سنِّه ما زالوا بعافيتهم، يتهامس المريدون عن شيوخ من أصدقائه ومعارفه تزوجوا ممن يصغرونهم بعشرات السنين.
صوت
يميل — أوقات ما بعد العصر — إلى الجلوس في حديقة البيت المطلة على أهرام الجيزة، العصر، أنسب الأوقات للجلوس في صحن الأزهر، الحرارة ألطف في هذا الوقت من الشتاء والصيف، يفترش الأرض المنبسطة تحت شجرة تين، وتكعيبة هائلة تغطيها الكروم، وتتدلَّى منها عناقيد العنب.
ينظر — من سطح البيت — إلى النيل والخضرة والنخيل والصحراء والأهرام وأبو الهول، القاهرة في امتدادات أحيائها: البنايات والأسطح والشوارع المتقاطعة والميادين. يستروح نسائم الأصيل، يقرأ، يناقش زواره فيما يطرأ من أمور، يتأمل الأرض الترابية، ودور الطين، والمصاطب، والترعة، والصفصافة، وأم الشعور، والمصلى، والغيطان الممتدة إلى تناثر المئذنة وأبراج الحمام ووابور الطحين.
– ما دام الرجل في الحكم فإني أوثر عدم التدخل في أمره.
ثم وهو يحتوي المكان بنظرة متأملة: نحن مأمورون بطاعة ولي الأمر.
زفر الحاج حيدر العلاف بصوت خفيض: ما كان أحد يعرف هذا الألباني، لولا تزكية السيد عمر.
تنهَّد ابن شمعة: لو أن السيد عمر زكَّى نفسه!
قال حجاج الخضري: زكَّى محمد علي جنده وسلاحه … قوته.
من أوراق السيد عمر مكرم
غلبني السأم لتكرار تحذيري من عدم التدخل في أمور الحكم، وما يصدر عن الباشا من مراسيم وقرارات.
قال حجاج الخضري: مصر — حتى الآن — ولاية عثمانية، هذا ما لا يريده محمد علي، همُّه الآن أن تُصبح مصر دولةً مستقلة تتبع حاكمًا لا يخضع للآستانة!
قال حيدر العلاف: ربما تدين مصر للباشا بتخليصها من حكم المماليك، لكنه يدين لمصر بتحوله من بائع دخان إلى حاكم دولة.
قال الشيخ المهدي: الحاكم ضرورة، حتى لو كان ظالمًا!
أمَّنت بإيماءة على قوله: ليس شرطًا أن توافق أوامر الحاكم أمزجتنا!
لم أعرف نيته في نظرة تطلُّ من عينَي سمكة.
– طالما أن المصريين اختاروه فقد تحتَّمت طاعته.
قال حيدر العلاف: أنت لم تسأل المصريين في اختيارهم.
اتخذ الشيخ المهدي هيئة من يريد أن يقول شيئًا، ثم صمت.
من أقوال كلوت بك
«إنهم — أي المصريين — في المراتب العالية، لا يُقدِّرون كرامة مراكزهم الجديدة، فهم يغايرون العثمانيِّين والمماليك في أهلية للقبض على زمام القيادة، وسرعان ما يتحولون إلى عاداتهم القديمة، بما اضطر محمد علي باشا، وابنه إبراهيم باشا — على الرغم منهما — إلى الكفِّ عن ترقيتهم وترفيعهم إلى المراتب السامية في الجندية، ومن هذا النقص أُسندت إلى المماليك والأتراك في الجيش المناصب العليا.»
صوت
غاب التوقع باختطاف المماليك الأقوات والعمائم من فوق رءوس العلماء والفقهاء وشيوخ الطرق. حل التوقع بالمصادرة والتعذيب — بلا سبب — والقتل، عساكر الوالي يقتلون بالشبهة والظنة، يُقدمون على الفعل بلا أسئلة تسبقه.
صوت
قلعة صلاح الدين، هي الآن قلعة محمد علي، مَن يسيطر على القلعة يسيطر على القاهرة، وعلى البلاد المصرية.
هو ينظر من مجلسه أعلى القلعة إلى القاهرة في أسفل: الميادين والشوارع والحواري والأزقَّة والجوامع والمآذن والقباب والقصور والبنايات والخانقاوات والمدارس والأشجار والحدائق والخلاء.
يعرف أن كلَّ ما يشمله بصره قد أصبح في حوزته، يمتدُّ إلى أقاليم ومدن أخرى بعيدة، حتى آخر الحدود المصرية، وحتى حدود أبعد يُهيِّئ جيشه لبلوغها.
إذا ضاق الباشا بالإقامة في القلعة، أو في قصر رأس التين، لجأ إلى بيته الخلوي بالقرب من ترعة المحمودية، أو إلى قصره بشبرا، زرع على جانبَي الطريق إليه أشجار السنط والجميز، هو الآن مقر قصر الوالي، يقضي فيه معظم الأوقات. عدا إقامته في قصر رأس التين بالإسكندرية، فإن إقامته في القلعة قليلة.
البيت ريفي بسيط، خلا من الأبهة، أثاثه قليل، له حديقة هائلة، يخترقه ممرٌّ مستقيم، على ضفَّتَيه أشجار السرو والسنط والفاكهة، وأشجار الحور والصمغ والنخيل، الأرضيات مغطاة بالحصى الصغير، الملون، وتترامى من الحدائق الصغيرة، الخلفية، روائح الورد والدِّفْلَى والنرجس والأقحوان، تُضاء الأسوار وجوانب الساحات بمصابيح الغاز. ينفذ طلب الأطباء بتبديل الهواء، والترويح عن النفس، والابتعاد عن متاعب الإدارة وشئون الحكم. في أحيان كثيرة يضطجع على جنبه، يُسلم نفسه للراحة والتأمل.
يجلس في الموضع نفسه الذي جلس عليه الباشا التركي، يستقبل المبعوثين والسفراء، يجلس إلى خواصه، وكبار موظفي الدولة، يوقع الأوراق والتقارير والمراسيم، تناوشه أمنية المكانة المنفردة، لا صلة لها بسلسلة الولاة، حطم حلقته، واستقل بنفسه، إن بادرته الآستانة بالعداء، فهو يستطيع — بما بلغه من قوة — أن يُبادلها العنف، حتى ينتصر عليها.
فرق الوظائف والإقطاعات والوسايا، أغدق على موظفيه وحاشيته الهدايا والأموال والضياع والقيان والخيل والأراضي المستزرعة، ما سُمي بالوسية، أنعم عليهم بالخِلَع والكساوى، وإن حرص ألَّا يُنفق فوق ما يحتاجون، يخشى — إن زادت صدقاته — أن تُحدِّثهم أنفسهم بالوساوس، ويخرجوا عن طاعته.
ارتفع شأن المولوية، لأنهم أيَّدوا محمد علي في صراعه ضد المشايخ، تقرَّبوا إليه في لحظاته الحزينة. المولوية ذات أصل فارسي، صار لها وجودٌ مهمٌّ في مصر.
الأجانب يحصلون على امتيازات كثيرة، ويُعفَون من الضرائب، معظم الأعباء يتحملها أبناء البلد من التجار والحرفيِّين وأبناء المهن والفلاحين. كما عرفت، فقد كان الزائر الأجنبي — في زيارته لمحمد علي — يصحب معه قنصل بلاده. يغادر القلعة بعد أن يحصل على كلِّ ما يريد.
قال حجاج الخضري: إذا كانت الدولة الناهضة هي الهدف الذي يسعى إليه، فلماذا لا يُشرك أهالي بر مصر في سعيه؟ لماذا ينفرد بالأمور التي قد تغيب عن فهمه؟
قال السيد عمر مكرم: لم يكن محمد علي وحده هو المنشغل بأخذ أسباب التقدم، اختاره المصريون لانشغالهم بالهدف نفسه.
سبقه الفرنسيون إلى تطهير الترع وصيانتها، إقامة طواحين الهواء، دراسة شق قناة تصل البحرين المتوسط والأحمر، الإفادة من مياه النيل بقناطر على النهر، إدخال محاصيل جديدة، تحسين وسائل الزراعة، مكافحة الأوبئة، وضع نظام تعليمي يُضيف إلى نظام الكتاتيب، والمجاورة في الأزهر، فصل أحياء القاهرة تيسيرًا للانتقال في شوارع القاهرة وميادينها، إضاءة المصابيح والقناديل — على نفقة التجار وأصحاب الحِرف — أمام الدكاكين، اتقاء خطر الأوبئة، تنظيم دفن الموتى.
قال حجاج الخضري: ما للتقدم وإلزام الأقباط بزيٍّ خاص، ومنعهم من ركوب الخيل والبغال؟
قال السيد عمر: أتصور الباشا جالسًا على رأس حقل، يأمر بزراعة القطن أو القنب أو النيلة، هو الذي أدخلها، كما يُعنى بالحدائق والغابات.
وبصوت ممزق: هو الآن يملك كل أرض مصر.
قال الخضري: لو أنك اخترت مصريًّا لحكم البلد بدلًا من هذا الألباني!
في نبرة حزينة: ذقنا الويلات من العثمانيِّين والمماليك.
– أتكلم عن أولاد العرب … أصحاب البلد.
– هل كان الأمراء المصرلية والأتراك يُتيحون لوالٍ مصريٍّ أن يصعد القلعة؟!
صوت
المرأة ثيِّب، فلا حاجة به إلى الزفة والأغنيات والزغاريد، ولا إلى المنديل الأبيض، يعلن — بالدماء — عفة المرأة على الأهل والجيران: روحوا لابوها وانزلوا له الخيمة … بنت الأكابر شرفتنا الليلة.
حين استلقَت على السرير، بقميصها الأسود القصير، ونظرتها الداعية، أشعلت النيران في جسده.
عضَّ شاربه وهو يُحدق في الجسد الساكن، بدَت له مخلوقًا فاتنًا، لا ينتمي إلى الدنيا من حوله.
أطل نهداها من وراء القميص كحلم جميل، ظلت صامتة، تُحدق في الفراغ، لها إشراقة الشمس، وبهاء القمر، وضياء النجوم، النهدان تفاحتان تضجان بالحياة، شعرها الليلي الطويل ينسدل على ظهرها إلى كعبَي قدميها.
لم تشغل بالها بتصور الليلة الأولى، وإن هيَّأت نفسها — بما تعلَّمته في الزيجتَين السابقتَين — تزيَّنَت، كشف قميص النوم عن كتفَيها وساقَيها. أعدَّت نفسها للنوم جواره، دون أن تتوقع ملامسته، أو شم أنفاسه.
أزمعت — إن عانقها — ألَّا تتمنَّع، ولا تنطق بالغنج، تتصرف كأنها تنفذ واجبًا ينبغي تلبيته. ستوافق على أن يُقبلها. لن ترفض، ولن تُظهر الموافقة. إذا أراد تقبيلها، فستترك له شفتَيها، تحرص أن يسمَ الهدوء تصرفاتها. ذلك ما يريده، وهي لن تفقده برفضها. تشعر أنها خسرت الكثير، ما لاحظته، وما لا تعرفه. لم يَعُد لديها ما تفقده.
أخرج من جيب الجلباب خاتمًا مرصعًا بالجوهر، دفعه إليها: خاتم أثمن من الذي تضعه في إصبعها نفيسة المرادية.
احتضنَته بالفرحة.
دنَا بوجهه من وجهها، يبحث عن شفتَيها، اصطدم فمُه بأنفها، انزلق فلامس الفم، احتضن الشفتين، امتصَّهما، احتضنها، مسد بشرتها براحته، يتحسَّسها برقة، يكور قبضتَيه بحجم الثديَين، يعتصرهما، تنزلق راحته إلى الصدر والبطن والساقين، يُعيد المسح بشفتَيه، خشيَ — إن حاول استكمال العلاقة — أن يخذله قضيبه. شجعته بدعوة عينَيها، وإيماءة رأسها.
نفخ في المصباح فأطفأه، شمل الظلام أرجاء المكان. خشي — لو أنه عرَّى جسده — أن تجد في شيخوخة الجسد ما يضايقها، تلحظ زوال العافية، وعظام صدره الناتئة، والبقع البنيَّة في بشرته.
اكتفى بشلح الجلباب، انتابه شعور كان قد نسيه. ارتعاشة شفتَيها هيَّأته لتقبيلها، فطن إلى أن ارتباكه هو الذي دفعه إلى احتضانها بهذه القوة، استهواه في نزع ثيابها، أنها نزعتها دفعة واحدة، كأنها تتخلص منها. تركت له جسدَها العاري يتحسسه بشفتَيه وأصابعه.
أخذَته في عناقها جذبة لم يعهدها في نفسه، لفَّت ذراعَيها حول عنقه، وجذبَته فوقها، أحاطَت بساقَيها ظهره، لم تحاول إرضاءه بقدر ما حاولت أن تُبادله إمتاعه لها.
انفجرت المشاعر داخله.
ما كان قد نسيه، أو تجاهله، أو كتمه، تفجر بما لم يألفه، تلبَّسته قوة لم يعهدها في نفسه، ولا شعر بها من قبل. ذاق في عناقها ما لم يعد في خاطره، شعر بما يفوق البنوة والأمومة والنشوة والسكينة، تقافزت في داخله شياطين كثيرة، غاب الشعور بالزمن، تمنَّى أن تستمر اللحظات، لا تنتهي. علا الشوق واللهفة والإنشاد والهمس والغناء والتسابيح والتهليلات وأنغام السحر، حلَّق في سموات الأحلام والأغنيات العلوية.
عكست بحلقة عينَيها دهشتها من فحولة عناقه. لم يكن العناق مما هيأت له نفسها، تاقَت للعيش مع الفارس ذي المريدين، يصبح لها دونًا عن الناس.
لمَّا حاول القيام عنها، أحسَّ بساقَيها مضمومتَين حول جسده، تُقيدان حركته، تعتصرانه. تمسح شفتاها وجهه، تصطدمان بشفتَيه وذقنه وجبهته، تقبِّلان كل ما تلمسانه.
ظل ساكنًا حتى أخلت الساقَين عن ظهره.
رنا إليها بنظرة متأملة: أرفض كل قيد، عدا قيد رجلَيك.
وهي تشير إلى تورُّم شفتها المتدلية: قبَّلتَها أم حاولت أكلها؟!
رنا إليها بنظرة مشفقة، أحاطها بساعدَيه، رد الباب بقدمه، دفعهما الاهتياج في جسده إلى داخل البيت.
أطلت على حياته في لحظات غروبها، ما يفلت من المتبقي لن يعوضه.
همست بغنج وهي تدفع صدره بقدمَيها: ألَا تشبع؟
صوت
إذا أدرك المرء خطأ فكره أو تصرفه، فمن الخطأ أن نعيد على سمعه، حتى ما سكت عن إعلانه، هو الذي أشار بتولي محمد علي ولاية مصر، طالت جلساته إلى العلماء والوجهاء وعامة الناس، وجد في نهضة البلاد تعويضًا عن قسوة الحكم، إذا نطقت ملامحه بما يكتمه، فإني أُشفق من أن أضع المرارة في فمه.
صوت
اكتفت في روايتها لأمِّها أن تختصر ما جرى ليلةَ دخوله عليها: لمح جلستها الساكنة، المتوترة، على السرير، ضمَّها إليه، تخلل شعرها بأصابعه، مال عليها، قبَّلها، خلع عنها القميص الحريري الأسود، أرقدها، وشلح جلبابه.
حذَّرتها أمُّها من أنها لن تجد في الشيخ سوى الغيرة، والحرص على السيطرة، والعجز عن فعل ما لدى الأزواج.
– أخشى أنكِ ستظلين أرضًا جدباء.
رفعت رأسها مستفهمة.
قالت الأم: علاقة السرير جزء من علاقة البيت. إهمالها قد ينتهي بالطلاق.
شهقت: الطلاق؟!
من أوراق السيد عمر مكرم
تسبق هتافات الناس أذان الفجر في إيقاظي للتوسط عند الباشا، لا أملك سوى الكلمات المعزية، لا تكفي لحل مشكلات الناس. لم أَعُد أُطيق مجالس العلماء، أحاديثهم تقتصر على الأمور الدنيوية والالتزام وبيع الأراضي والعقارات والمقايضة والمقاربة وحساب الميري والأطيان والفائظ والمضاف والمرافعات والمراسلات.
أين الناس من هذا؟!
أتصور سياسة إصلاح تضايق الناس، لكنني أرفض سياسةً تؤذيهم! شرطت عليه تحقيق العدل، ووعد بما فعل عساكره نقيضه.
أدركت أني هيأت الأمور، كي يدين له — منفردًا — حكم البلاد، أغفل من وضعوه حيث يدير الأحوال في قلعة الجبل. ظللت متمسكًا بالأمل في أن تتقاطع النهضة وحرية الناس، أهملت الشكاوى والتلميحات والتحذيرات، شغلني استقرار الأمور إلى حدٍّ — لم أتنبه له — جعل البلاد تمشي إلى النهضة في طريق يغطيها ما يؤذي الجسد، وينغص الحياة، يجعلها غير مقبولة.
هل نقذف بحريات الناس وحقوقهم خارج أسوار التعمير؟ يصبح الاستقرار والأمن هدفًا في ذاته؟
صوت
إن كان لأحد فضل تولية محمد علي فهو الشعب المصري. زعامة المشايخ والعلماء والوجهاء يسَّرت حكمَه البلاد. زمن عُني بتجاوزه منذ سعى للتخلص من السيد عمر أفندي، وإضعاف المشايخ والعلماء وذوي المكانة والوجاهة.
صوت
ومض الخاتم في يدها، قالت للدهشة المتسائلة في عينَيه: أردت أن أجرب شعور الست نفيسة وهي تُضاجع مراد بك.
دفست رأسها في صدره: أنت مرادي.
الليل لحظات متعة لا تنتهي، تختلط الرؤى واللهفة والشوق الذي لا يمل، تظل بلا نوم، يدفعها الشبق إلى احتضانه، تتفجر الرغبة في كل جسدها، لا تغفل حتى استغراقه في النوم، يصحو على تمسيد راحتَيها لجسده، أطراف أصابعها ترتعش، والنداء اختلاط الرغبة واللذة، كأنها أُصيبت بالجنون.
بدَّد البيت الذي أعدَّه لها ما شغلها من خوف أن يتغلب ضيقه من أمِّها على حبِّه لها، وجدت في حياتها معه ما لم تعرفه من قبل، حرَّك في نفسها مشاعر لم تداخلها في علاقتها بزوجَيها السابقَين، والرجال الذين طرءوا على حياتها، حرص أن تكون حوائجها مقضية، وكلامها مسموعًا.
أدركَت تلذذه بضغط قدمَيها الحافيتَين في صدره، حرصت على استعمال قطعة حجر خفاف تُنعم به باطن القدمين والكعبين.
اجتذبَته تمامًا، استولَت على مشاعره، أيقظَت في نفسه شهوات، تصوَّر أنها لم تَعُد موجودة، اعتاد التفافَ ذراعَيها وساقَيها حوله، تجذبه إلى صدرها، أو ينتشي بملمس قدمَيها الناعمتَين، الدافئتين، في صدره العاري، تُتابع نظراتُه حركتَها في البيت: تتنقل بين الحجرات، تسترخي على الكنبة، تُطل من المشربية، تتأمل حركة الطريق، تجالس الخادمة ست الناس، تجلس عاريةً داخل الطشت النحاسي، تغطي جسدها بالصابون، توصي بشرائه من وكالة الصابون بالجمالية. تدلق عليها الخادمة الماء الساخن، تلحقها بفوطة كبيرة تتغطَّى بها، تغادر الحمام والفوطة حول خصرها، تنفض شعرها المبلول، يتناثر الماء حولها. إن غطَّت رأسها بالفوطة، فكَّت الدبابيس عن شعرها الفاحم اللامع الطويل، تُمشطه في انسيابه بطول ظهرها، تُعيد لمَّه في خُصلتين ترخيهما على الصدر.
دعاها إلى تمسيد ظهره بالليفة، ثم دفعها إلى نزع ثيابها، والإقعاء داخل الطست الواسع، حممها بالماء والصابون حتى احمرَّت بشرتها.
من أوراق السيد عمر مكرم
أبلغني مريدون في الطريقة، أن الباشا نال من شخصي بكلمات قاسية، أرجعت الكلمات إلى شدة انفعاله لإيغار صدره من الصائدين في الماء العكر.
قلت: ما أنصح الباشا إلا محبة فيه.
لم أفُه بما قد يُنقل — محرَّفًا — إلى الباشا، أهملت حتى ما رأيته بنفسي من الأعين المتناثرة حول بيتي، ترقب أفعالي، من يدخل البيت ومن يغادره، الأوقات التي ألتقيهم فيها، ما أعطيهم من أوامر، يَعِدون بتلبيتها.
صوت
صارح الباشا جلساءه من العلماء أنه همس للسيد عمر مكرم أن يكون رفيقًا في ملاحظاته ونصائحه، هو لا يرفضها، لكن اختيار الكلمات يُحدث في نفسه تأثيرًا يصعب أن تُحدثه الكلمات التي تصدر على علَّاتها، لا تتدبر المعنى. اتهمه بأنه أساء التعبير لمَّا نصحه بالقول: إذا امتلكت قوة فاستعملها في الخير، إذا استعملتها في الشر فسترتد إليك!
صوت
نفرَت نفس الباشا من السيد عمر أفندي، ضايقَته كثرة ملاحظاته ونصائحه، ما تنفيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
عرف الناس أن الشيخَين المهدي والدواخلي يعملان — في السر — لحساب الباشا، وأنهما تعهدا له بإزاحة السيد عمر مكرم. نفى السيد عمر أن يكون قد اتهم الباشا بالكذب والتلاعب في أموال الولاية. أخذ الشيخ الدواخلي على السيد عمر — رغم تقدُّم سنِّه — أنه قليل المعرفة بطبائع الزمان، يرفض أن يدور مثلما يدور القريبون من الباشا، أو يسعَون للقرب منه، تجمَّد على تعاليم الصوفية، ما اندرس من تجلياتها: المنح، الإشراقات، كشف المحجوب، المواقف، المخاطبات، الفتوحات، الإلهامات، الرؤى، البركات، الأسماء الربانية، الفيوضات الرحمانية، المناقب، الشطحات، النفحات، المدد.
أخفق في حماية نفسه من مكايد المشايخ، والابتعاد عن مؤامراتهم، ألغى كلَّ صلة له بالباشا، لم يَعُد يلتقيه، ولا يأتي له بسيرة. لا يصعد إلى مجلسه، ولا يأكل له طعامًا، ولا يقبل له هدية، قال: أرفض صدقات الوالي، لا يشقيني أن أحيا بأقل القليل.
صوت
انقطع السيد عمر مكرم أفندي عن مجلس الباشا، فاستغنى عنه بغيره من المشايخ والعلماء. صارح الشيخ المهدي مريديه وخدمه بأن قلب الباشا تحوَّل عن الأسيوطي من الحب إلى الكره. أظهر المحبة له، أومأ بالموافقة على ما يذهب إليه من نقدات للحكم، عكس ذلك ما كان في نفسه، امتلأت بكراهية امتدَّت جذورها، فمن الصعب نزعها.
أدرك الباشا خطورة السيد عمر الأسيوطي على حكمه. فرض شروطًا تصحُّ في الأوراق، وأقوال البلغاء. لإدارة الحكم شأنٌ آخر. إذا كان قد ناصر الوالي في الشدائد، فإنه يستطيع أن يُزيحَه في شدائد مماثلة.
من أوراق السيد عمر مكرم
إذا كان الباشا قد أفلح في فصم العلاقة بين العلماء والناس، فإني أخشى النتائج، تخلَّى العلماء عن دور القيادة، وصاروا تابعين، يقصرون أحاديثهم على الميري والفائظ والمرافعات والمراسلات، لا تُجاوز أفعالهم تكدير الصفو، وتعميق العداء. لم تَعُد تشغلهم الحرب بقدر شوقهم إلى استلاب غنائمها.
صوت
تناثرَت همسات عن المشاوير التي تردد بها صبيان الحاج حيدر العلاف على سوق الحمزاوي، يعودون بالوصفات الشعبية والتحويجات، يحدد أنواعها ومقاديرها بنفسه، تُضيف إلى عمر الحاج، وتُجدِّد صحته، يحجز لنفسه بطارخ من ميدان العتبة الزرقاء، حذَّره المعلم ابن شمعة من الإشباع لشهوات جسده، حتى لا يهدر ما حباه الله من قوة، وهمس مغاوري تليمة أن الحاج يمتلك قذيفتين على الأكثر، ثم يصمت السلاح، أشار إلى أن زوجة الحاج ظلت — حتى وفاتها — مريضةً بالسكر، فهو يعاني حرمان المرأة زمنًا طويلًا، لكن إلى متى سيصمد؟! وقال السقا عشم: معلمنا يعيش تحت تأثير الوهم، عندما يزول الوهم لا بد أن يُفيق إلى الحقيقة.
أنت حين تنظر إلى المرآة، ترى صورة نفسك لا صورة المرآة!
من أوراق السيد عمر مكرم
إحراق البخور والتوسل وسيلتنا في التخاطب مع أولياء الله، ما أعرفه أن الوالي يختلف عن الولي.
قلت للمة الرجال من حولي: بونابرت حكمنا بالقهر، على الباشا أن يحكمنا بالشورى.
صمت — متفكرًا — للحظات: من واجبه أن يُصغيَ إلى آراء العلماء وشيوخ الطرق والطوائف.
وأنا أحاول مدارة تأثري: أقسم بالله إني لا أرى الباشا إلا إذا عدل عمَّا اعتزمه من فرض ضرائب جديدة!
باعدتُ في نطق الكلمات: إذا كنَّا نحن الذين عزلنا سلفه — ليتولَّى موضعه — فإننا قادرون — بمشيئة الله — على عزله.
ملتُ برأسي إلى الوراء، أحاول تبيُّن ما تُخفيه الوجوه: هذا هو دورنا.
أخذت على الباشا أنه أعمى عينَيه، وأصمَّ أُذُنَيه، وأسكت فمه، وشلَّ يدَيه، فهو لا يفعل شيئًا لرفع ما يراه، أو يستمع إليه، من المظالم التي تحيق بالناس.
حدثني الشيخ المهدي عن قبضة الباشا التي أحكمت السيطرة على كل شيء، بيده الأمرُ والنهيُ والحل والعقد، من الصعب أن يقاوم إرادةَ الوالي، أو يتصدَّى لها، خلَت الأذهان من فعل الصعود إلى القلعة، وسحب السجادة من تحت قدمَي الوالي، والهتاف: انزل يا باشا. لا يسامح محمد علي مَن يتجرَّأ على هيبته.
صوت
لم يُصدِّر السيد عمر النقيب في رفضه فرمانات الباشا وقراراته عن أملاك له، ولا أوقاف يحوزها، دافِعُه لجوءُ الناس إليه، وما يفرضه منصبه من السعي لإزالة منغصات حياتهم.
هدم المشايخ أنفسهم وقت أن حاولوا هدم السيد عمر مكرم أفندي، أخذوا عليه أنه ينشغل بالأمور السياسية، أرجعوا السبب إلى أنه لم يشتغل بالتدريس في الأزهر بعد تخرُّجه فيه. كشفت تصرفاتهم ما كان هاجسًا في نفوس الناس، وصلوا ما كان بتصرفات تالية، تبيَّنوا حجم المكائد التي حاولت النَّيل من مكانة عمر مكرم، فنالت من مديريها.
عاب السيد عمر على المشايخ غلبة حب الدنيا على قلوبهم. يأمرون بالمعروف، ويأتون نقيضه. ويعطون ولاءهم لأي حاكم يَعِدهم بظروف أفضل. عاب عليهم استنباط الأحكام والفتاوى الفقهية، لكل ما يطرأ على العلاقة بين الباشا والناس، يناصرون ما يتخذه الباشا من قرارات وأفعال. سيطر عليهم حب المال، وغشَّى على بصائرهم.
أخذ عليهم التزاحم على مخاطبة الباشا، وخدمته، وتملُّق معاونيه، ومداخلة الدنيا، وعدم التورع عن الشبهات. وقرَ في نفسه أن مجالستهم تصرفه عن قراءة القرآن والأوراد، ودراسة ما يغمض عليه من فقه الدين. يتزيَّون بزيِّ العلماء، وتصرفاتهم أبعد ما تكون عن العلم.
لم يَعُد للأعوان وكبار الموظفين إلا المسميات، الحكم في يد الباشا وحده، هو الذي يقضي، ويفصل، ويأمر، ويشير، ويوجِّه، ويُصدر العقوبات.
رفض الباشا إيعازَ الشيخ سباعي زاهر بأن يقتل عمر مكرم في السر، تبتلعه الظلمة فتغيب أخباره. خشيَ أن يتحول نقيب الأشراف إلى ما يُشبه الحلم المرتجي في نفوس الناس، يروون من الحكايات ما لم يحدث، يردون الملامح البشعة إلى وجه الوالي.
استوحش السيد عمر من الشيخ زاهر من قبل أن يصنع نفسه خادمًا للباشا، راعه انهماكه على اللهو والملذات، ومجالس السمر والمنادمة واللهو والغناء والشراب، ومجانبة وظيفته في هداية الناس.
صوت
استيقظ الحاج حيدر — عقب أذان الفجر — على جلبة في الطريق، تختلف عمَّا أَلِف تراميه — عبر النافذة — من صدى ارتطام حوافر الجياد بقطع البازلت.
نظر من خصاص النافذة يتبين الأمر، بدا الرجال بأرديتهم المتشابهة والبيارق والأعلام التي يحملونها، وما تناثر حولهم من معدات وآلات كأنهم يُعِدون لبداية جولة.
هل بدلوا سير الطريقة؟
لم يكن الوقت يَشِي بما يستعد له الرجال، دفع ضلفة الشباك، وأطلَّ برأسه يستوضح ما رآه.
علا صوت من الطريق، ميَّزه لربيع عبد الراضي: انزل حالًا، كنَّا سنبدأ بدونك.
– بماذا تبدءون؟
– الجلوة … أعلن عن موعدها من مئذنة الحسين.
هتفت المرأة لعودته إلى الفراش: الجلوة؟!
وهو يُدير جسده إلى الجدار: الشيخ ربيع رسيم أفضل مني!
كانت الطريقة همَّه، حتى دخلت المرأة حياته.
تحوَّل ما لم يكن منتظمًا في حياته إلى عادة يومية، يصحو في الضحى — يستغفر الله لفوات موعد صلاة الفجر حاضرًا — تُحممه ريحانة بالماء البارد، تلفُّه بمنشفة من القطن، يُشذِّب لحيته وحاجبيه، ينتف الشعيرات من أذنَيه وأنفه، يتعطر برائحةٍ أعدَّها له عربي السبكي العطار بالحمزاوي، ثم يجلس إلى الطعام والقهوة.
ترنو إليه متأملة، صامتة.
تناسى الدف والربابة والناي، وإن حرص على وقفة الرسيم، المبخرة النحاسية تتضوع بروائح العود والمستكة والند والحنتيت والكبريت.
يصطفُّ المريدون في حلقة دائرية، في قلب ساحة الحسين، يتلاصقون، يتمايلون، يهزون الرءوس، تعلو أصواتهم منغَّمة بالأذكار والدعوات والابتهالات، الأصوات الهادرة، تتعاظم، تتفاقم، تخترق الشوارع المحيطة والجدران إلى داخل البيوت، يعرف خبرَها ساكنو الدراسة والأحياء المجاورة، تتداخل صيحات وصراخ وأنين نشوة.
الإنشاد الديني يروي السيرة النبوية وقصص الصحابة والزهاد والمتصوفة. ربما تابعوا الإنشاد بترديد كلمة «الله»، يُشدد على الذاكرين، تعلو الأصوات، وتعلو، ثم تبدأ في الانخفاض، حتى تتلاشى.
يختمون الحضرة بقراءة سورة الإخلاص، والمعوذتين، والفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والجهر بالصلاة على النبي ﷺ.
لم يَعُد إلى مألوف الحضرة، يُشير بيدَيه. يتعالى الإيقاع، ينتظم، تمتزج الأصوات في لحن واحد. المقامات التي يمتلكها تقصر إنشاده على ما يردده كلُّ المنشدين، لا يخترع، ولا يفتش في قراراته عما يطرب، يؤدي بقدر توصيل اللحن والكلمات، ومدى التأثير الوقتي على الحضور. يُنشد من كلمات ابن الفارض وابن عربي. أتقن التجويد والترتيل والنغم، وما تيسر من القراءات السبع.
صار الأمر لربيع عبد الراضي، عرف كيف يفك الخط، وتعلَّم القراءة والكتابة. تعلَّم القليل من عمليات الحساب: الجمع، الطرح، القسمة، الضرب. أضاف إلى ما تعلَّمه صنعة الصياغة، صار له سمعة طيبة في دكان المعلم كرم جرجس بسوق الصاغة، أَلِف التردد على حضرة الحاج حيدر العلاف، أجاد حفظ الأذكار والأحزاب، صنَّف الأحوال والمقامات، تلقَّى على كبار العلماء، أُعجبوا به، شهدوا له بالعلم، لفت انتباهَ الحاج العلاف، أخذ العهد عليه، وتلقَّن الذِّكر، اختاره الحاج مساعدًا دون أن يحدد له صفة صوفية، الوتد، النقيب، البدل، الولي، السالك، المريد. يمارس طقوس الطريقة وشعائرها، يعرف الفرق بين الآراء والأذواق والمواجيد والاحتمالات والتأويلات والتفسيرات.
مكانة الحاج حيدر العلاف حمَته من سماع الإيماءات والغمزات والتلميحات، يصعب مواجهته بها، وإن نقل له صبيُّه عيسوي ملاحظات تجار الغورية، تُحيطها التعبيرات ما بين الإشفاق والغضب.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وتفرقت الآراء، وراج سوق النفاق، وتحرَّكت حفائظ الحقد والحسد، وكثر سعيهم وتناجيهم بالليل والنهار، والباشا يُراسل السيد عمر، ويطلبه للحضور إليه، والاجتماع به، ويَعِده بإنجاز ما يُشير عليه، وأرسل إليه كتخدا ليترفَّق به، وذكر له أن الباشا يرتب له كيسًا، في كل يوم، ويعطيه فورًا ثلاثمائة كيس خلاف ذلك، فلم يقبل.»
من أوراق السيد عمر مكرم
كشف الشيخان المهدي والدواخلي عن عملهما لحساب الباشا، تبادلَا الحديث عن تهديدات الباشا إن واصلتُ رفْضَ أوامره، نقلَا اتهامه لي بالكذب والتلاعب في أموال الولاية، أصختُ السمع، ثم أعلنتُ رفضي التوقيع على كشف حساب نفقات ولاية مصر، يرفعه الباشا إلى الباب العالي.
لجأتُ إلى مشايخِ الأزهر وطلبتِه، للمشاركة في رد ظلم المماليك والفرنسيِّين. الجهاد من صميم الدعوة الإسلامية، لم يَدُر بخاطري أن العلماء الكبار يُؤثِرون مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن.
قال المهدي: الباشا يرحب بزيارتك له في القلعة.
قلت: أنا أرحب بزيارة الباشا في بيتي.
كتمت ما بنفسي من الظنون والأسئلة.
– شرفت من قبل باستقباله في بيتي، نحن صديقان.
واغتصبت ابتسامة لأعفيَه من الحرج: إذا لاحظت ميله إلى العدل وأراد زيارتي، فسأذهب إليه.
قال الدواخلي: لن يكون اللقاء في القلعة.
قلت: إن كان ولا بد فاجتماعي به في بيت السادات، أما طلوعي إليه فلا يكون.
صوت
نزل الباشا إلى بيت ابنه إبراهيم بالأزبكية، تقاطر الكثيرون: القاضي ومعظم المشايخ، داخلُ كلٍّ منهم يختلف عمَّا نفوس الآخرين.
تردد في النزول للقاء السيد عمر. كان قد أنصت إلى نصيحة نفسه بأن يلزم القلعة، لا ينزل منها إلا في المناسبات المهمة، يُحيط نفسه بالقداسة والرهبة، يحيطها بالعظمة والأبهة.
علا صوت الباشا: وجهنا الدعوة إلى السيد عمر مكرم، فأهمل الحضور.
رفض السيد عمر دعوات الباشا لزيارته، وافق على اللقاء — بإلحاح المشايخ ووجهاء البلد — شريطةَ أن يكون في بيت الشيخ محمد السادات. اعتبر محمد علي شرط اللقاء بعيدًا عن قلعة الجبل تجاوزًا شديدًا من عمر مكرم.
لمَّ الباشا طرف عباءته، ورجع بظهره إلى الوراء: أردت أن تحكموا بيني وبينه، لكنه اعتذر بمرضه.
وهو يتظاهر بعدم الاكتراث: السيد عمر يتصور أن مكانته بين الناس أقوى من مكانة الحاكم.
قال الشيخ الشرقاوي في هيئة مَن يتشفع: ربما أعاقه المرض بالفعل.
قال الشيخ الدواخلي: ربما، وإنْ لا يوجد ما يشغلنا عن والي البلد؟!
قال القاضي: من الأخطاء ما لا يمكن التغاضي عنه.
قال الشيخ المهدي: السيد عمر أخي وصديقي، لكن الخروج على وليِّ الأمر جريمة يُحاسَب مَن يرتكبها.
وفي هيئة المتحير: إذا كان القطب الجيلاني قد اعتصم بمكانته الصوفية في إلصاق المنشورات بالأعمدة وواجهات المساجد والبيوت، فإن السيد عمر لا يعصمه ما كان له من مكانة النقيب.
يشعر الشيخ بالغيرة إن مالت نفس الباشا إلى سواه من العلماء، يخاف من تغيُّر خاطر الباشا عليه، ويعمل على أن يرفع الباشا مقامه فوق مقام المشايخ جميعًا، هم دونه مكانة، وقُرْبهم من الباشا مما يجب ألَّا يخفى، يرفض الشيخ في نفسه أن يرجح الباشا أحدًا من العلماء الذين يدعوهم إلى مجلسه.
مال إلى عيشة الملوك، حتى يحصل على مُتَع الدنيا، فهو يميل إلى مصادقة الطبقات العليا في المجتمع. يُجيد إظهار خلاف ما في قلبه لمن يعاملهم، يرى أن لطبقة العوام شروطًا في التعامل، وللطبقة العليا شروطًا مغايرة. يحرص على التأنق في معيشته، يضيف إليها من وسائل الرفاهية والمتعة. فقلبه يخلو من الهموم، وعلى رأسه عمامة بيضاء هائلة، تكسبه مهابة، ويستمتع بالأكل والشرب والنوم والجماع.
البيت المطل على خلاء الدراسة يمتلئ بالجواري المليحة والعبيد والخصيان وطيور الزينة وطرائف المصنوعات والهدايا النادرة، وردَت إليه من بلاد شتى. تغطَّت الجدران بالفسيفساء الجميل. السقف سماوي اللون، مطعَّم بالذهب والفضة، والأفاريز مطعَّمة بالفسيفساء، مزيَّنة بآيات من القرآن، أو أبيات من الشِّعر. فُرشَت الأرض بالسجاد الفاخر، والبُسط الثمينة. رتَّب من أموال الدولة رواتب الحراس والخدم والطواشية. جعل للبيت أبراجَ مراقبة، وسراديبَ أرضية، تنتهي إلى الخلاء، يتقي تغيُّر نفس الوالي، أو هبَّة من الناس.
إذا زاره الباشا في قصره، فإنه يحرص أن يستقبله عند الباب الخارجي، يقبِّل رجله، يعلو صوته بالدعوات، يسأله الدعاء بالتوبة والمغفرة. يرى أن ذلك بعض ما يستحقه الباشا لرفعة مكانته. يحرص على مجالسة الباشا، وكسب وُدِّه، يقبل عليه بالحكايات والنوادر والطرائف ورواية ما يجذب الانتباه، أخبار الملوك والسلاطين والوزراء واللصوص والشطار والحكماء والعيارين والأبطال والخونة وعلماء الدين والسراة والحرافيش. لا يعادي الوالي، ولا يُغضبه، ولا يستفزُّه، بحيث يؤذيه، ويؤذي الناس.
قدَّم له الباشا الكثير من النعم والإقبالات، أغدق عليه بما لم يكن يتمنَّى حيازته من المنح والهدايا والهبات. وهبه حقَّ الدخول إلى مجلسه دون إذن، يرافقه في المواكب والمهمات الشريفة.
نصح طلبته ومريديه بطاعة الحاكم، فهو يمتلك القوة، ويمتلك القدرة على العدل والظلم والمنح والمنع، وما يعجز الناس عن مواجهته. ضرب على القرى الغرائم، ونهب أموال أهلها، وما في أشوانها من محاصيل وغلال، وأنزل الأذى بمخالفيه.
أباح لمريديه الكذب إن وجدوا فيه الخلاص لمشكلاتهم، وما يعانون، يُمالئون صاحب السلطة، ويزيِّنون أفعاله. ساعد أعوانه على تولية الوظائف، أغدق عليهم من أطيب الطعام والشراب، وخلع عليهم أحسن الثياب.
واجه الباشا المشايخ بنظرة غاضبة، كرَّ كلماته كأنه أعدها: من واجبي أن أعزل عمر مكرم من المناصب التي يتولاها.
وهزَّ الغليون في قبضته: لا إقامة له في القاهرة.
وواصل هزَّ يده: عليه أن يرحل إلى دمياط.
قال الشيخ الشرقاوي: إن أَذِن لي سيدي الباشا فإني أرى نفيَ السيد عمر في مدينة أسيوط … هي مدينة طفولته ونشأته.
حدجه الباشا بنظرة متشككة، كأنه يختبر صدقه: لماذا ليست دمياط؟ لماذا ليست الإسكندرية؟
وعلا صوته بالغضب: هل أبعده إلى أهله ليشكِّل منهم عزوةً ضد الوالي؟!
قال الشيخ الدواخلي بما يُشبه الاعتذار: النفي إلى دمياط أفضل من الحبس في القلعة.
قال سباعي زاهر: يريد الباشا صالح السيد عمر لا عقابه.
ووشَت لهجته بنبرة كيد: ما بينهما علاقة أب وابنه.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فعند ذلك تبيَّن قصد الباشا لهم، ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر، ثم تباحثوا معه حصة، وقاموا منصرفين مذبذبين، ومظهرين خلافَ ما في نفوسهم من الحقد وحظوظ النفس، غير مفكرين في العواقب.»
صوت
حصل المشايخ على الثمن، حالفهم في التدبير محمد أفندي طبل ناظر المهمات. باعوا السيد عمر أفندي، فكافأهم الباشا بما تمنَّوه، وسعوا إليه، أغدق عليهم الصدقات والهبات والهدايا، أخذ الشيخ المهدي وظائف السيد عمر الأسيوطي في نظر أوقاف الإمام الشافعي، ووقف سنان باشا ببولاق، حصل على ما ادَّعى أنه تأخر له من راتب الغلال نقدًا وعينًا لأربع سنوات تالية، دفعها الوالي خمسة وعشرين كيسًا من خزانة الدولة.
حصل الشيخ الشرقاوي على ما لم يكن يتمناه، ولا دار في خاطره، لم يتجاوز الفقر إلا بعد أن امتدَّت يده إلى الإشراف على أوقاف الجامع الأزهر، والكثير من الزراعات في الأقاليم. حين عهد إليه بونابرت برئاسة الديوان، أساء إلى وظيفته بقبول السحت والمال الحرام. ابتزَّ ذوي الحاجات، استولى على تركات مات أصحابها، أو اختفَوا، وصادر أنصبة الورثة. ضمَّ إلى أملاكه الكثير من الزوايا والخانقاوات والسواقي والحمامات والدور والدكاكين والأرض الخلاء، حتى عمرته لرواق الشراقوة في الأزهر، نقل — لإنجازها — عمودًا وأحجارًا من جامع الظاهر بيبرس. كلما أقبلت الدنيا عليه، ازداد رغبةً فيها، أحمال الذهب والفضة، والخِلَع النفيسة، والثياب الفاخرة، والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والعبيد والجواري البيض والسود والغلمان. لم يَعُد هو الشيخ الشرقاوي الذي تكررت اجتماعاته — وسواه من المشايخ — في بيتي، لدراسة عزل الوالي خورشيد باشا، بدَّل النفاقُ أحواله، جعل نفسه في خدمة الحاكم، لا يشغله إن تحرَّى العدل، أم كان ظالمًا.
أوكل إليه الباشا محافظ ديوان العين، دفاتر تمويل الأطيان، دفاتر الالتزام، دفاتر تحرير الشراقي والري، دفاتر الترابيع، مكلفات الأطيان، سجلات الرزق ما بين الجفالك والأبعاديات والعهد الإنجالية، الوثائق والدفاتر والسجلات المودعة في الخزائن الهائلة.
تصرَّف عكس العدل في قضايا التوريث والرهن والبيع والإيجار، تلاعب بالمساحات والأطوال والمكاييل والأوزان، يقضي بما يُبرئ الظلمة، ويُلحق الأذى بالأبرياء وأصحاب المصلحة.
صارت زوجه من القليلات بين سيدات الزمان المشغلات بالتجارة، واستثمار الأموال، ساعدَته في تدبير وسيع ممتلكاته، اشترَت الأراضي والعقارات، وأجرَت الصفقات، أثرت بما لم يتحقق للكثير من أثرياء العصر.
صوت
حين علا الدف، يرافق مديح المنشد سيد الفقي، وسط الشيخ ربيع عبد الراضي الهواء بيده مقاطعًا: لا حاجة للمديح بالموسيقى.
– هذا دف.
– الكلمات تكفي.
كان ربيع عبد الراضي أميًّا لا يقرأ ولا يكتب. استعاض عن عدم التعليم بحضور مجالس العلم، والإفادة من آراء الفقهاء والعلماء، ومتابعة تطورات الأحداث، أنس إلى الحاج حيدر العلاف، ينصحه في أمور دينه، يُرشده إلى ما فيه صلاحه، جعله شيخه الذي يدلُّه على العلم والمعرفة والهداية. سلك طريق الصوفية على يد الحاج حيدر، قطعها مرحلةً بعد أخرى، ربط نفسه على الحاج، لا يفارقه في قعود ولا حركة، ولا في شيء من الأذكار والحضرات الإلهية، على المريد أن يتبع شيخه، لا يخالفه إلا إذا خرج عن النص القرآني، أو السنة، أو أحاديث الرسول. المريد هو مَن يرجع إلى كلام شيخه، إن اختلفت اجتهادات المشايخ والعلماء، حفظه الله من المعاصي لدوام قربه من الشيخ. إذا مال الشيخ إلى النوم، تمدَّد على الأرض تحته، مَن ليس له شيخ، يُوجِّهه، يمضي به إلى الوجهة الصحيحة، فهو لقيط بلا أب، أو نسب.
حدَّد له الحاج حيدر طرق الوصول إلى الله، وساعده على السير، أجاد الوصل والوقف، حفظ المقامات الصوفية؛ كمقامات البسط والوجد والوصل والسكر، رقيَ في المقامات من مقام التوبة إلى مقام المشاهدة، أظهر من المعرفة والفهم ما دعا الحاج حيدر إلى أن يُقيمَه مقام نفسه في الكثير من الأمور، فوض إليه مشيخة الطريقة، ينوب عن الحاج حيدر في غيابه، يباشر أمور المشيخة، يقود الذاكرين في الحضرة أمام المشهد الحسيني، جسده القصير الممتلئ يناقض حركته السريعة في التنقل بين الذاكرين، وإعطاء الأوامر والتنبيهات، وصوته يعلو باسم الله تحفيزًا للأداء.
أذن له الشيخ بتسليك المريدين، وحث مَن لم يعرفوا الطريقة على الانضمام إليها. ترك له تلقين الذكر وأخذ العهد، وما يحتاجه مريدو الطريقة من احتياجات ضرورية؛ كالخبز والسكر والزيت والصابون والخيط والإبر وغيرها.
في تدخُّل، لم يتوقعه ربيع عبد الراضي، ولا مريدو الطريقة، انقضَّ جند الباشا على الذاكرين، أعملوا هراواتهم، لم يميزوا بين الأوتاد والنقباء وبقية المريدين، قوضوا الخيام والسرادقات، ورايات الخيام، داسَت حوافر الخيل أعلام الطريقة وأشايرها، انبجسَت الدماء، علَت الصيحات والصرخات والتأوهات والنشيج والبكاء، أُعيدَت الأحمال، اندرسَت الأعلام والبيارق.
كتب الجبرتي في تاريخه
«استمر السيد الطحاوي يقبح عمل الشيوخ، واعتزلهم، واعتكف في داره، وهم يبالغون في ذمِّه، والحط منه، لكونه لم يوافقهم على شهادة الزور، فكان عمله حجةً بالغة على نفاق الشيوخ وريائهم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
بلغني أن المشايخ لم يقصروا تدبيراتهم على نفيي إلى دمياط، حرروا بيانًا باتهامات تزعم إدخالي أسماء أشخاص في دفتر الأشراف، جميعهم من الأقباط واليهود، تواطئي مع أمراء المماليك في هجومهم على القاهرة، وقت الاحتفال بوفاء النيل، وإثارة فتنة تنتهي إلى خلع الباشا خورشيد، وتولية محمد علي مكانه، قبولي منحة مالية من محمد بك الألفي لأساعده — أثناء الثورة ضد الوالي السابق خورشيد باشا — فيتولَّى حكم البلاد … وجدوا — فيما نسبوه لي — سببًا في عزلي من نقابة الأشراف، ونفيي.
عرفت أن غالبية علماء الأزهر رفضوا التوقيع على بيان المشايخ، قالوا: هذا كلام لا أصل له. خفف المشايخ صيغة البيان، أصر العلماء على الرفض.
كان الشيخ أحمد الطحاوي، مفتي الحنفية، أشد العلماء سخطًا، اعتذر عن عدم قبول خلعة الإفتاء من الوالي، وخلعة من الشيخ السادات، رفض أن يساير المشايخ في نفاقهم، وتدبيراتهم، ومنع توقيعه على عريضة الاتهام ضدي، ظل على تقبيحه لفعلة الباشا.
زاد المشايخ من نقمتهم وثورتهم عليه، نالوه بالذم، وكادوا له عند الباشا، ألحُّوا عليه حتى خلعه من إفتاء الحنفية.
أذكر قبوله المشيخة بإلحاح المحبين والأصدقاء، وعارفي فضله.
صوت
معاملة كليبر للشيخ السادات لم تعظه، ولا ألجمَت تصرفاته، صادر القائد الفرنسي أمواله، حبسه، عذَّبه أمام ذويه.
تناسَى ذلك كلَّه تمامًا في مناصرته للوالي ضد السيد عمر مكرم، قَبِل منصب نقيب الأشراف بدلًا من الأسيوطي، هو المنصب الذي تولَّاه الشيخ الشرقاوي في ظروف مشابهة.
صوت
صُعق ربيع عبد الراضي لاتهام قائد العسكر بأن الطريقة أفسدَت على الناس عقيدتهم، وأبعدَتهم عن طريق الكتاب والسنة.
هدم العسكر خيام الطريقة في الميدان والشوارع الجانبية، استولوا على الأمتعة والمعدات والبيارق والأعلام، عملوا — منذ انشغل الحاج حيدر العلاف بحياته الجديدة — على نزع المريدين والتلاميذ، حتى كادَت الطريقة تخلو إلا منه، ومن الخواص المقربين. وطَّنوا أنفسهم على تحمُّل مضايقات قائد العسكر، وأفعال جنوده.
جعل قائد العسكر من نفسه عدوًّا للحاج حيدر، يترصد أفعاله، وأفعال مريديه، يقود مَن تلحقه الشبهة والظنة إلى قلعة الجبل، العقاب بلا حدود، التعزيز والتجريس والحبس والنفي والقتل. ربما قطع من لحم الجسد، وأطعم الرجل منه، حتى يعترف بما لم يرتكبه، مجرد أن يتخلص من التعذيب، ويلامس الموت.
همسات الأسواق وشَت بأن قائد الشرطة وضع عينه على ريحانة قبل أن يتزوجها الحاج، تدخَّل في خصومات بينها وبين جابر زلطة. تملَّى المرأة في كلماتها وتصرفاتها وانفعالاتها، حين فاجأه زواجها من الحاج، كانت التصورات تستغرقه بعناق المرأة في فراشه.
اشتهر بغرامه في ركوب الخيل، في إسطبلاته الكثير من الخيول المزدانة بالسروج الذهب والكنابيش المزركشة والجواهر والمرصعات والدروع والخوذات والعدد والآلات والجبخانات. يسابق قادة الجند في المسافة من ميدان الرميلة، أسفل قلعة الجبل، إلى جامع ابن طولون.
صوت
قلَّ تردُّد الناس على حلقات الذكر والجلوات، تعدَّدت مضايقات الشرطة لمريدي الطريقة، وأذيَّتهم بالضرب، أو الحبس، خشيَ الناس أن يلقَوا المعاملة نفسها، فآثروا الابتعاد، حتى مَن رفضوا الابتعاد عن الطريقة، مارسوا الطقوس بآلية فرضها الخوف من الخطر. يقتادهم العساكر إلى حبس المعونة بالغورية، أو إلى سجن القلعة.
صوت
رنا إلى جسدها المستلقي جواره، صوتُ تنفسها كالهمس، قميص النوم القصير يكشف عن الساقَين المدملجتَين، والقدمين المصطبغتَين بالحمرة، امرأة جميلة تُقاسمه الفراش، أجمل النساء ترقد إلى جواره.
عاب مغاوري تليمة عليه — وإن لم يُصارحه — تبدُّل حاله منذ الزواج، أخذَته الزوجة الجديدة من الدنيا، ومن الناس. لم يَعُد ينزل إلى حلقة الذكر ولا يتقدم الجلوة، لم تَعُد تجتذبه حتى المناقشات حول الوالي والأمراء ومعارك الشوارع، تحدَّدت حياته ما بين الوكالة، يقضي فيها ساعات قليلة، والبيت يلزمه معظم الوقت. يمنعها من مغادرة البيت، حتى لا تُصادف مَن يضايقها، إن ألحَّت في رؤية أمِّها بالبغالة، أرسل مَن يأتي بالمرأة إلى بيته.
واتَت الجرأة ربيع عبد الراضي. همس في لهجة معتذرة: لا تعوِّد زوجتك على الفعل اليومي.
واتجه بنظرته إلى الفراغ: إذا ضعفَت قدرة الإنسان، فماذا يفعل؟
غاب حرصه على المواعيد والالتزام والصحو المبكر، أسعد أوقاته لم يَعُد على رأس حلقة الذكر، أو في مقدمة المولد، أو الجلوة، إنما هي البقاء في بيت ريحانة بسويقة اللالا، لا يغادره، غاب حضوره — إلا نادرًا — عن صلاة الجمعة، والمناسبات الدينية المهمة، كصلاة الجمعة الأخيرة في رمضان، وصلاة العيدين.
أهمل الإلحاح بالسلالة الطاهرة والمكانة والسمعة وآل البيت وأولياء الله والأذكار والطريقة والمريدين، لم يعد إلا ريحانة، ملكَت قلبَه وذهنه، هي المنتهى لحياته، لن تكون حورية الجنة أشدَّ متعة من هذه المرأة، ولا الجنة أجمل من الحياة التي أعيشها.
فارقُ السن لا يلغي شعوره بأنه يعرفها منذ مولده. لم تعد البداية في وقفتها المتحيرة على باب الوكالة، ما سبقها تعمَّد نسيانه، أو أنه نسيه في أيامه الجديدة.
استولت على مشاعره. يسعد — عند قدومه إلى البيت — بوميض الفرحة في عينَيها، هي تحبُّه، تعطيه ما يشتهيه، دون أن يطلب، أو يُومئ بالتلميح.
صارت دنياه، لا يتصور حياته بدونها، لا معنى لحياته بدونها.
من أوراق السيد عمر مكرم
الحاج حيدر العلاف مشغول عن طريقته بما لا أعرفه. دخل نقيبه ربيع عبد الراضي في غواية الوالي، أمر الوالي ضباطه أن يأذنوا بما كانوا يصادرونه من الأفعال القبيحة: النوم على المسامير، ابتلاع النار، دس الثعابين في الأفواه، وخز الوجنات، افتعال الانجذاب.
صوت
رفض الوالي ما فعله جنده.
اقتاد الجند مَن شاركوا بأفعال في الجلوة إلى قلعة الجبل، وجدوا في مشاركاتهم ما يدعو إلى العقاب: تطويح السيوف، نفث البترول في النار، لف الأفاعي حول الرقاب، دس رءوسها في الأفواه، غرز الأسياخ في الوجنتَين، إدخال رأس الثعبان بين الشفتَين، أفعال لا صلة لها بالذكر، ولا موالد أولياء الله، ولا الحضرات، قوضت خيام الطريقة وسرادقاتها، درست رسومها وراياتها وأعلامها، زجَّ في سجن القلعة بالعشرات من الأوتاد والنقباء. تناقصَت أعداد المريدين والذاكرين، تملَّكهم الخوف من قائد العسكر، حتى المحبظين وأولاد عبد السلام غابت عروضهم، صمتَت الطبول والدفوف والزمور والصنوج والموسيقى الجميلة.
وبَّخ الوالي قائد العسكر على أفعاله، بسط حمايته على الفرقة التي هجرها الحاج حيدر العلاف، عَهِد إلى نفسه رعايتها والإنفاق عليها.
أدرك أنه لكي يُحكم سيطرته على البلاد، لا بد أن يسيطر على الفرق الصوفية، شيوخها يدينون له بالولاء، يمتدُّ الفعل إلى بقية الفرق، لها تأثيراتها في حياة الناس، يؤمنون حتى بالمعتقدات البالية والخرافات، يمارسون في الخيام ما لا يرضاه المسلم الحريص على دينه.
صوت
أذكر للشيخ عبد الله الشرقاوي تحريضَه أهل مصر على الثورة ضد أمراء المماليك، حتى تعهد الأمراء أن يكفُّوا أتباعهم عن الأذى، ويسيروا في الناس سيرةً حسنة، أظهر تضامنه مع قرى بلبيس في مواجهة تسلُّط أحد الأمراء على معايش أبنائها. تهيَّأ الناس في القاهرة والأقاليم المحيطة لنصرة أبناء بلبيس، احتشدوا بما حصلوا عليه من سلاح، أظهروا النية في المقاتلة، وبذل الأنفس، حتى يفرضوا الحق والعدل.
نزل الوالي محمد علي إلى بيت إبراهيم بك، استدعى السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ الشرقاوي، والشيخ البكري، والشيخ الأمير.
انتهَت المناقشات الحادة إلى التزام الأمراء بالتوبة، والعودة عمَّا ارتكبوه، أو يُعدُّون لارتكابه، وأن يكفوا أتباعهم عن سلب ما يخص الناس، ويسيروا فيه سيرة حسنة، وكتب القاضي — في حضور الوالي — نقاط الاتفاق، حجة على الأمراء، وانتهت الفتنة.
الشيخ عبد الله الشرقاوي هو ذو الرئاستين. ألَّف كتبًا قيِّمة في فقه الشافعية، وكتبًا في الشروح والحواشي، يرجع إليها طلبة الأزهر. خصَّه ساري عسكر — منذ بداية غزو الفرنسيِّين — بثقته وتقديره، جعله رئيسًا لديوان القاهرة الخصوصي، وشيخًا للأزهر، لجأ الناس إلى شفاعاته لدى الفرنسيِّين حتى يرفعوا أذاهم عن الغلابة والمنكسرين، الصورة الظاهرة أنه باع نفسه للفرنسيِّين، ما جرى هو العكس تمامًا، نلتقط طرف الخيط في إزاحة طيلسان الجمهورية الفرنسية عن كتفه. لم يلتفت حتى إلى نظرات ساري عسكر الغاضبة، وعانَى اتهام الفرنسيِّين بمساعدة الحلبي في قتل كليبر. لم تبرأ ساحتُه إلا بعد أن قبضوا على القاتل، واعترف بفعلته.
وحين أراد الوالي خورشيد باشا أن يُوقع ضررًا بالسيدة نفيسة خاتون زوج مراد بك، تصدَّى له الشيخ الشرقاوي، ومجموعة العلماء. هددوا الوالي أن يتركوا له القاهرة، يواجه أهلها بأفعاله، ويردون عليه تلك الأفعال.
رضخ الوالي لإرادة المشايخ، ووافق على أن تُقيم السيدة المرادية في بيت الشيخ السادات.
صوت
لم يكن في بال أحد، ولا في بال الشيخ سباعي زاهر نفسه، أن تُسلِمَه خطبه في جامع المرداني إلى مجلس الباشا.
له ابن وحيد، غرق من مركب في النيل، استقله للفسحة وقت الفيضان. أجاد التسلق لتحقيق مصالحه الشخصية، أظهر الخضوع والتذلل والمداهنة حتى دخل في زمرة المقربين من الباشا.
أقبلت عليه الدنيا. أخذ بأسباب الراحة والأبهة، جعل لنفسه قصرًا في ناحية البدرشين، جهَّزه بالعدد والمظاهر الملوكية الفاخرة، الجدران من الرخام المموه بالتعريجات، الأسقف والأفاريز محلَّاة بالنقوش والرسوم، البهو الكبير تمتدُّ فيه عقود نصف دائرية، الأرض مغطاة بالفرش. في البدروم، أسفل البيت، مخزن للمشروبات الكحولية والخمور المستوردة والنبيذ والطافيا وغيرها. منبر الجامع — داخل القصر — من خشب العود والصندل، المغطَّى بصفائح الذهب والفضة.
أحاط القواصة بالقصر لحراسته، يقضي نهاره في الوعظ والنصح، ثم يقضي غالب لياليه متلذذًا بين أفخاذ النساء، جعل في حريمه عددًا كبيرًا من جميلات القوقاز وجورجيا، اتخذ الحشم والخدم والعبيد على الأبواب، وداخل القاعات.
أهداه الباشا — في زيارة إلى القصر — عشر قلائد من الجوهر، وثوبًا من القطيفة السوداء، حوافُّه مطرزة بالذهب، وعشرين فرسًا مُسرجة. وجد في عطايا الباشا معنى الرضا عنه، فاطمأن إلى عيشه، وقادم الأيام.
قلَّد أمراء المماليك؛ فكان يستقبل زواره بعمامة يتوسط مقدمتها ريشةٌ من قِطَع الماس النادر، صار يقضي الأمسيات في السمر والحديث والمباسطة والمفاكهة وسماع النوادر والأدبيات وقصائد الشعر والمواليا واللعب والممازحة والتسلِّي والمجون والخلاعة. الخدم يطوفون بالبخور المتضوع من مجامر الذهب والفضة.
عُرف عنه الميل للسير في ركاب الحاكم، والخضوع له، حتى لو مارس الظلم، هو أفضل من الفوضى والاضطراب كما حدَّث الإمام الغزالي تلاميذه.
رفض ترك الخروج على الحاكم إذا ظهر منه حيف أو جور، الخروج عن طاعة الحاكم معصية ينبغي التوبة منها. يقضي حوائج الناس عند الباشا وموظفيه. يأذن لنفسه بأخذ الهدايا من التجار والمزارعين، فيقضي لهم حوائجهم، أو يتشفع عند الباشا، فيرفع عنهم ما يضايق حياتهم من المصادرات والضرائب وأكل الحقوق. عُرف عنه قبول الهدايا النقدية، أو هدايا الطعام، أو الثياب، وغيرها.
إذا شفع عند الباشا في أحد من الناس، بادر الباشا بقبول شفاعته إرضاءً للشيخ، وليس لرفع الظلم عن شخص يعاني.
تشفع لحجب ما أُثير من اتهامات ضد صبح زقزوق، القارئ في مسجد البرديني بالداوية، يقف في طريق الطائفات حول المقام، يقذف في آذانهن ما يُدينه بالجرم المشهود، تشفع له بحسن صوته، وحسن تلاوته.
لم يكن الباشا يبخل عليه بشيء يطلبه من أمور الدنيا. إن تغيرت عليه نفس الباشا، لزم أعتابه حتى يرضى عنه، أو يوسط سعدي أبو راضي موظف الديوان الخاص ليشفع له عند مقام الباشا، يقينه أن الأوامر والتوبيخ والتنبيهات، حتى العقوبات البدنية، تُخفي نفسًا رقيقة، طيبة.
سعدي أبو راضي، مقرَّب من الباشا، جعله مهردارًا للتوقيع بالخاتم على الأوراق الرسمية، أشرف — بأمر من الباشا — على الديوان الخاص بقلعة الجبل، ما يضمُّه من مساجد وزوايا وبنايات وجنود وموظفين.
تعاظمَت الأقاويل أن الشيخ سباعي زاهر شغلته صحبةُ الوالي عن الله تعالى.
قيل إنه يكثر من الحديث عن الطاعات والواجبات، لكنه لا يشغله إلا هوى نفسه، اشتهر بارتكاب الذنوب والمعاصي، يتوسع في شهوات الدنيا. يترخص في أكل الشبهات تحت دعوى رخصة الشرع. إذا خشيَ أن يشقَّ عليه الصيام، سافر إلى أهل زوجه في بهتيم، فيحل له الإفطار، لا يؤدي الصلوات في أوقاتها، ويقبل على النهل من الدنيا، والتنعم بالرفاهية والجواري والعبيد والمماليك والخصيان والزنا واللواط بالغلمان، وظلم الخلق بلا جريرة.
أبدى التاجر عيسى عبد الفضيل ملاحظة على بضائع تنقل من حواصل القلعة — ليلًا — إلى قصر الشيخ في بهتيم.
كلف أعوانه، وثبوا بالتاجر، وفتكوا به.
كتب الجبرتي في تاريخه
«واستهل شهر ربيع الأول سنة ١٢٢٤م، وفيه شرع السيد عمر مكرم نقيب الأشراف في عمل مهم لختان ابن ابنته، ودعا الباشا والأعيان، وأرسلوا إليه الهدايا والتعابي، وعمل له زفة يوم الإثنين سادس عشر، مشى فيها أرباب الحِرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة وخلافهم من أهالي بولاق والكفور والحسينية، وغيرها من جميع الأصناف، وطبول وزمور وجموع كثيرة، فكان يومًا مشهودًا، اكتريت فيه الأماكن للفرجة، وكان هذا الفرح هو آخر طنطنة السيد عمر بمصر، فإنه حصل له عقب ذلك ما سيُتلى عليك قريبًا من النفي والخروج من مصر.»
صوت
تعالَت المدائح والتواشيح والابتهالات والأغنيات، رافقها قرع الطبول والدبادب والدفوف والأبواق النحاسية وعزف الرباب والزمور، نثر محبو السيد عمر من شيوخ الطرق والأعيان والوجهاء على موكب الختان بدرات الذهب، ونوافح المسك والعود والبخور.
ظلَّت القناديل مضاءة على واجهات البيت، وأعلى الدكاكين، وبين جانبَي الشوارع، وفي تقاطعاتها. نُصبت الخيام في خيمة الغوري وقايتباي، فُرشت أرضيتها بالبُسط الفاخرة والطنافس والوسائد الحريرية، علَت الزينات والبيارق والأعلام والشموع والفوانيس الملونة، تناثر وميضُ الصواريخ في السماء، تضوع البخور من القماقم الفضية المملوءة بماء الزهر.
زف موكب الختان بالأغنيات في شوارع القاهرة، بدأ من بركة الأزبكية إلى كوبري الموسكي، ومنه إلى باب الخلق، ودرب الجماميز والصليبة والمظفر والسروجية وقصبة رضوان وباب زويلة والغورية والجمالية وسوق مرجوش وبين السورين، ثم عاد إلى حيث بدأ.
سار في الزفة أرباب الحِرف والعربات والملاعيب ورابطات الصعايدة وأهل بولاق والكفور والحسينية وغيرها من أنحاء القاهرة. شارك — بهيئات مخصوصة — الخبازون والحدادون والبزازون والبقالون وصانعو الحلوى، تبارَوا في الزينة والزخرفة والسباق، كلُّ عربة تحمل ما يعبر عن الحِرفة التي يمارسونها. حتى الصيادين صنعوا عربة على هيئة قارب، وقف فيها الصيادون بأزيائهم التقليدية. انضم إلى الموكب الكثير من الراقصات والغوازي وفِرق اللاعبين والبهلوانات وقاذفي اللهب، ومبتلعي الجمرات، وآكلي الزجاج، وملتهمي الثعابين الحية، على صلة بالمعلمة هنومة، أطال الموكب توقُّفه أمام مقامات آل البيت، وأولياء الله الصالحين.
أنفق السيد عمر الكثير على القيد والقناديل والشموع وشراء الزيت. أغدق عطاياه على الفقراء، القصاع الكبار وسط الميادين، مملوءة باللحم والثريد، مدَّت الأسمطة في رحبة الحسين، وميدان السيدة زينب، وأمام المشهد النفيسي، قدم الخدم النراجيل والقهوة والشربات وماء الورد.
اختلف إلى المآدب فقراء الناس وأرباب الحِرف والصناعات والعميان وطلبة الأزهر. وزع الشربات وماء الورد وعصير البرتقال وعصير الليمون وأطباق الكنافة، تخاطف الفقراء ما مد في الأطراف والنواحي من أسمطة.
تواصلت حفلات الختان ما يزيد عن الأيام العشرة، لكل يوم جماعة. جُعل اليوم الأول للمشايخ والعلماء، واليوم الثاني لرؤساء الطرق الصوفية، المشايخ والأوتاد والنقباء والبدلاء وأعداد من المريدين. أما اليوم الثالث فهو مخصص لعلية القوم من الوجهاء والأعيان. وأما بقية الأيام، فهي للعوام من أهل البلد.
هذه أول مرة يصنع فيها السيد عمر هذا الحفل الهائل لختان حفيده، لعله أراد أن يظهر حب أهل البلد لشخصه.
يقول الجبرتي في تاريخه
«وحضروا عند السيد عمر وهو ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد، فأخبروه أن الباشا لم يحصل منه خلاف، وأنه قال: أنا لا أردُّ شفاعتكم، ولكن نفسي لا تقبل التحكم، والواجب عليكم إذا رأيتموني فعلت شيئًا مخالفًا أن تنصحوني وتشفعوا، فأنا لا أردُّكم ولا أمتنع عن قبول نصحكم، وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفنني بهذا الاجتماع، وتهييج الشرور، وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك. وإن حصل من الرعية أمر ما فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام.
فقلنا له: هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وإنما اجتماعنا عمَّن انتبذ لهذا الأمر، ومَن ابتدأ بالخلف، فغالطناه.
وإنه وعدنا بإبطال التمغة، وتخفيف الفايض إلى الربع بعد النصف، وأنكر طلب ضريبة المال الميري عن أطيان الأوسية والرزق من إقليم البحيرة.»
صوت
غلبه التأثر لقول أسعد داغر، نقلًا عن المعلم حجاج الخضري: نحن مشغولون بأحوال البلد، والحاج حيدر مشغول بريحانة!
اعتبر أصدقاؤه المرأة غواية، ينبغي أن يتخلص منها. صار مطية لزوجته.
روى الخادم جمعة أنه رآها تمدُّ قدمها الحافية إلى وجهه، تداعب شفتَيه بأصابعها. أضاف أنها صفعته. في مناسبة دنيئة، فلم يغضب.
صوت
غضب محمد علي من شرط اللقاء بعيدًا عن قلعة الجبل، اعتبر الوالي استبدال دعوة السيد عمر مكرم له، بدعوته كي يزوره في بيته، تجاوزًا يستحق العقاب.
نزل إلى بيت ابنه إبراهيم بالأزبكية، دعا القاضي والمشايخ، احتكم إليهم في رفض عمر مكرم تلبية دعوة الباشا. أضاف إلى رفضه عرضًا يخلو من الكياسة بدعوة الوالي لزيارة بيت الشيخ.
قال الشيخ المهدي: دعوة الوالي لا يصح رفضها.
قال الشيخ الدواخلي: السيد عمر عالم جليل من النسل الشريف، لكنه سكت عن الكثير مما يستدعي المساءلة.
وضع الباشا يده على أذنه، يتبين الكلمات: إذا كان السيد عمر قد أفلح في تنحية خورشيد باشا، فلأنه كان موظفًا عاديًّا أُسندت له الولاية.
وضرب راحته على صدره: التآمر لا يُجدي مع قائد عسكري.
وتململ في جلسته: أخشى— لشدة غضبي — أن أتصرَّف بما قد يُسيء إلى صداقتي للسيد عمر.
ووشى صوته بنبرة متوعدة: لعلنا نعزله وننفيه إلى دمياط.
حين ذكر دمياط، عرفنا أن القرار ليس وليدَ وقته، كان قد اتخذه، صارح به خواصه، ونزل به إلى بيت إبراهيم، وطرحه ليؤيده العلماء.
قال المهدي: تلبية مطالب الحاكم واجب على الرعية.
قال الوالي: لن أتخذ إجراء ضد السيد عمر، سأصبر حتى يأتيَ هذا البيت أو يصعد إلى القلعة.
واكتسَت ملامحه بالجدية: أن يلبي الشيخ دعوتي فلا ضرر ولا ضرار، إذا ظل على عناده فلا مناص من قرار العزل والنفي.
صوت
روى كنعان كحالة التاجر بالحمزاوي أنه شاهد الحاج حيدر العلاف يتردد على بوظة في طولون، يعاني — عند مغادرته في تنفس الفجر — ارتباك خطواته، ينادي على حمَّار، يُقله إلى البيت في الغورية. نسيَ هيبته ومكانته، ومريدي الطريقة الذين وضعوه موضع الإكبار.
ذاعَت همسات أن وساطة حيدر العلاف منعَت المحتسب من معاملة البوظة المعاملة نفسها التي تجري للخمارات وبيوت الدعارة، أعفاها من الضرائب الباهظة المقررة على الأنشطة الضارة.
أحب ريحانة كما لم يحبَّ امرأة من قبل، يشعر معها أن شخصًا آخر شقيًّا، يتحرك في داخله، يُملي عليه تصرفاته وكلماته، هي الونس الذي تمنَّى أن يقضيَ معها بقيةَ عمره.
الحَمَل — الذي كنَّا نتوقع — فضحه، تحوَّل — في الفراش — إلى أسد أجاد إضمار قوته، شكَت من أنها لم تَعُد تتحمَّل فحولته، يحتاج — لإرضاء رغبته — إلى بضع نساء، يتمتعن بصحة جيدة، يتحملن مضاجعته أكثر من مرة في الليلة الواحدة.
وهي تُزيحه من فوقها: أنت لا تستطيع الاكتفاء بامرأة واحدة.
– أين هي المرأة لأكتفيَ بها؟
فهمَت المعنى: ألَا أملأُ عينَك يا رجل؟!
وهو يتظاهر بالحيرة: ماذا أفعل لدوام الامتلاء؟!
لوت بوزها في غضب مصطنع، ولم تُعقب.
خدش الصمت: لم يَعُد أمامي الكثير من العمر لأحياه، من حقي أن أستمتع بالسنوات المتبقية لي.
تناسى أنه ضعف عن النساء. إذا أتاح الفعل ما تبقَّى له من عافية، فإن العافية تغيب إن حاول المعاودة، وربما عانى ما يعجل بموته.
لعلها تزوَّجَته بتوقُّع وفاته، أو إصابته بالخرف، فتحصل على ثروته، أخشى أنه سيحظى — في البداية — بأوقات جميلة، ثم تحل مرارة ببقية العمر.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فحلف السيد عمر أنه لا يطلع إليه، ولا يجتمع به، ولا يرى له وجهًا إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات، وقال إن جميع الناس يتهمونني معه، ويزعمون أنه لا يتجارى على شيء يفعله، إلا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أظهرت تشككي حين أبلغ الباشا مقام الخلافة ما صرفه على الحملات العسكرية ضد المماليك، وعلى سدِّ الترعة الفرعونية، وعمارة القلعة، وترميم القنوات، وحفر الترع.
أما ما صرفه على سدِّ ترعة الفرعونية، فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافًا كثيرة، وأما غير ذلك، فكلُّه كذب لا أصل له، إن وجد الوالي مَن يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من القروض والمظالم ما وسعته الدفاتر.
لم أكن خائفًا من خورشيد باشا لما دعوت إلى تنحيته، وتولية محمد علي بدلًا منه.
كيف أخاف الوالي الذي رشحته؟!
صوت
حدث ما توقعه الباشا من اعتذار السيد عمر مكرم عن عدم المجيء، عزله من جميع وظائفه، أسند مسئولياته إلى مشايخ آخرين: عيَّن الشيخ السادات نقيبًا للأشراف، ورث الشيخ المهدي ما نزعه الباشا من وظائف السيد عمر، زاد الباشا، فأنعم عليه بنظارة أوقاف الإمام الشافعي، ووقف سنان باشا ببولاق.
قال سباعي زاهر: ينتهي الأمر لو أنك رفعت إلى مقام الباشا عريضة استجداء.
قال عمر مكرم: حامل القرآن في غير حاجة إلى استجداء أحد …
خالط صوته ضيق: سيدي الذي أتجه إليه مستجديًا هو الله وحده.
اختار مجالسة أهل الفضل والعلم، يلزمون خلواتهم ومجالسهم بعيدًا عن صراعات المشايخ.
من أوراق السيد عمر مكرم
الجو المحيط بنا مليء بالخداع والدسائس والكراهية والعنف، إما أن نتنفس هواءه ونعيش، أو نموت.
أذهلتني التهمة التي حاول الباشا إلصاقها بي، أعي ما أفعل، أتدبره جيدًا. لم أُدخل في دفتر الأشراف أقباطًا ويهودًا، هم مواطنون، لكنهم ليسوا مسلمين، ولا هم من آل البيت.
كيف أُدخلهم في دفتر الأشراف؟
صوت
لاحظ تجار شارع الغوري كثرةَ غياب الحاج حيدر العلاف، فطنوا إلى الباعث، وإن كتموه في أنفسهم، وحاولوا مداراته، حتى لا يواجهوا غضب المعلم، عرفوا أن بقاءه في البيت لشدة رغبته في زوجته الجديدة.
صار دائم التردد على بيت سويقة اللالا، شديد الالتصاق بالمرأة، كأنه قد استعاد شبابه، كأنه غير الشيخ الذي يعتمد على مساعدة صبيانه، يلبِّي احتياجاتها من قبل أن تبوح بما تتوق إليه. أسلم لها قيادَه، امتلكَت حياته، سيطرت عليها.
يُقبل عليها بكل ما في نفسه من الرغبة والاشتهاء. يجول بشفتَيه وأصابعه في جسدها العاري، تحيط بساقَيها ظهره، لا تُفلته حتى ترويَ ظمأها.
يحنُّ — في أوقات ابتعاده عن البيت — إلى دفئها، يستأذن من جلسة المقهى، يترك الوكالة لعيسوي، يستعيذ بالله من الشيطان أثناء الصلاة. يستعذب سماع صوتها المحمل بنبرة ذكورية، حتى ملمس يدها يُثير في نفسه ما لم يشعر به من قبل، أسلم لها قياده، امتلكَت حياته، سيطرَت عليها.
أعجب لطبيعته الحيوانية، ولرفضه الزواج من بعد وفاة زوجه الأولى، فسَّر تأخُّره بالخوف — في الكبر — من تحمل مسئولية الأسرة والأبناء.
صوت
لم يَعُد الحاج حيدر يغادر بيته إلا لضرورة، عرف عنه أنه يأخذ نفسه بالاعتدال في جميع الأحوال، عمل وتعب وراحة وقراءة وأكل ونوم وصحو وملبس ومضاجعة. يقصر طعامه على الخضروات والسمك. يُشذِّب لحيته، ويرتدي أفضل ثيابه، ويتعطر برائحة جميلة، مال إلى حب الطيب والعطور.
كتب الجبرتي في تاريخه
«لقد أنعم الباشا على الشيخ المهدي بوظائف السيد عمر، ومنها نظارة الإمام الشافعي، ووقف سنان باشا، كل ذلك نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر.»
من أوراق السيد عمر مكرم
نُفيت من القاهرة في أيام الفرنسيِّين، ها أنا أنفي منها في أيام محمد علي.
لو لم يلجأ محمد علي إلى علماء الأزهر، لو أنه لجأ إلى شيوخ الحِرف، ربما أشاروا عليه بتوسعة الشوارع ضعف، أو أضعاف، المساحة الحالية، وجدوا في حملَي حطب على جملَين متجاورَين ما يكفي سعة شوارع القاهرة، امتلأت الشوارع بالمصاطب والباعة القعود والمارة، بدا السير متعذرًا.
لم يكن السفر باختياري، الجنود من حولي وشوا بالجهة التي أصدرت الأمر.
قال محمد علي: أذكِّرك بأني كنت أقود فيلقًا عسكريًّا ضد ساري عسكر الفرنسيس، في حين لاذ غيري بالفرار إلى عكا.
أطلتُ التحديق في وجهه، أتحقق مما يُضمره: ما أعرفه أن لكل امرئ عمله، وعملي لا يتصل بالقنا والعراك.
عكسَت نظرتُه فهمًا للمعنى.
قلت: أنا أساعد الناس كي يحتفظوا بيقينهم الديني.
مكانة الأب التي وضعني فيها، مخاطبتي في رسائله بالقول: والدنا. استقبالي في مجلس مجلسه بالحفاوة والتقدير … ذلك كله بلا قيمة في ظل السياسة التي يتبعها.
ضاق محمد علي بملاحظاتي، ونصائحي، أمر بإبعادي عن المحروسة. حتى مقود الجواد كان في يد جندي.
بدأت في بيع أمتعتي وممتلكاتي، تأهبًا لمغادرة القاهرة إلى دمياط، فشل كلُّ ما بذله المشايخ والعلماء من مساعٍ لإثنائي عن قراري، بدا رحيلي إلى دمياط خيارًا وحيدًا، يعفيني من التذلل، وكسر الخاطر، حتى يرجع الباشا عن قراره.
كنَّا عونه في تولِّي حكم البلاد، لماذا تخلَّى عن عوننا بعد أن استقرت له الأمور؟ هذه ليست إقامتي الأولى في دمياط. لجأت إليها حين دخل الفرنسيون مصر. أزمعت أن أظل فيها حتى تنقشع الغيوم، لكن الفرنسيس دخلوا يافا، أجادوا حصار المدينة من اليابسة والبحر، فوضتُ أمري إلى الله، وانتظرت.
قال لي ساري عسكر الفرنسيِّين: لعلك تسيء بي الظن.
ورفَت ابتسامة على شفتيه: أنت عالم جليل لم يحدث منك ما تُؤاخذ عليه.
التقيته في قصر الألفي، فتحت أبوابه لساري عسكر عقب دخول قواته القاهرة، أجبر الفرنسيون مالكه محمد الألفي على العودة إلى قصره الخشبي، مشابه للقصور الحجرية، تُضم أجزاؤه إلى بعضها، تُحيطها أحزمة من الحديد، تفرش بالأثاث الفاخر والرياش والطنافس الغالية، جدرانه مغطاة بالقيشاني، نوافذه من الزجاج الملون، تدلَّت من الأسقف قناديل ملونة. ملحق به قاعة فاخرة التأثيث لاستقبال الزوار.
رأيته ضئيل الجسد، قصير القامة، أصغر من أن يقود جيشًا غازيًا. بين مجاوري الأزهر، أو بين تلاميذ الكتاتيب مَن يفوقونه سنًّا، له نظرة هادئة من عينَين رماديَّتين، تُضمران ما يصعب فهمه. يرتدي لباسًا يختلف عمَّا يرتديه أمراء المماليك في اتساقه حول البدن، ونفضه للبهرجة.
الشعور بعدم الراحة، وربما عدم الحب، وضع جدارًا لا يُرى بيني وبينه، عمق الفاصل مترجم من أهل بلاده.
ابتسم المترجم وهو ينقل كلماته: أرجو أن تقضيَ وقتًا في دمياط حتى تخلوَ القاهرة من الوباء.
خوفني مما جرى في القاهرة والمدن المصرية، لم أكن بعيدًا عمَّا جرى من مصائب الطاعون، رائحة الموت في الشوارع والدروب والعطوف والحارات والأزقَّة والمصاطب والبيوت والأحواش والمزارات، الصداع والهمود والتنبه إلى الخطر، والدفن اليومي والدفن بلا غسل والنحيب والصراخ والصوات والعديد والجنازات الصامتة والجثث الملقاة في الطرق والسكك الزراعية والأغذية المصادرة والخوف، وتضوع البخور يداخل رائحة العدم. إخلاء الأسواق، إغلاق أبواب الدكاكين والمقاهي والوكالات، لزوم الناس بيوتهم، حتى الجوامع والمساجد والزوايا لا يتردد عليها المصلون، والتكايا والخانقاوات والمدارس والمقامات والأضرحة والربط والتكايا والأسبلة ومقارئ القرآن والكتاتيب، خلَت من روَّادها.
وقفت — وأنا أحاوره عند خط النهاية — في بالي ما جرى للسيد محمد كريم في الإسكندرية، الفدية الهائلة تبرير لإعدامه، لن يحتاج إعدامي إلى تبرير، إشارة من يده تُنهي كلَّ شيء، أغادر هذا العالم إلى عالم آخر.
رضيت بالنفي، أزمعت أن أظل في دمياط حتى تتغير الأمور.
ساري عسكر هو الذي طرح اسم دمياط، لا أعرف بواعث اختياره لها، مَن أشار عليه بسفري إليها ومجموعة العلماء والوجهاء، لكن الرحلة إلى دمياط مضَت في غاية اليسر، لم تواجه ما يضايق، أو يُؤلم، حتى طالعَتنا مآذن دمياط من الضفة الأخرى للنهر.
حجة الخوف من الوباء لم تُقنعني.
لماذا أبعدني الفرنسيون إلى دمياط إن كانوا يعرفون انتشار الوباء في معظم الأقاليم المصرية؟
أرادوا تقييدي، فلا أواجههم — حين عودتي إلى القاهرة — بالعداء. إذا كانوا قد حاصروني في بلدي، فإن تحطُّم أسطولهم في خليج أبو قير جعلهم محاصرين بعيدًا عن بلادهم.
شرط ساري عسكر على مشايخ الديوان أن يعملوا على استمالتي إلى جانب الفرنسيِّين، لا أُعاديهم، ولا أُحرِّض الناس على معاداتهم. أهملت تحذير مغاوري تليمة أن إلحاح الشيخ المهدي في مصاحبتي إلى بونابرت، فلأنه أراد أن يحقق مطلبًا لساري عسكر، يجد سبيلًا إلى نفسه، يُفسح له الترقي في الوظيفة والثراء.
دُعيت للقاء بونابرت، عقب انقضاء الشهر الثالث في إقامتي بدمياط. أهلها طيبون، لكن حنيني إلى القاهرة فاق الاحتمال، في بالي الأبناء والحفدة والتلاميذ والأصدقاء والمعارف والجيران والأزهر والجوامع والزوايا ومزارات آل البيت وأولياء الله الصالحون والطرق الصوفية.
رافقني الشيخ المهدي إلى لقاء ساري عسكر. تقبلت رفقته بظاهر الترحيب، هو الصديق الذي ما من صداقته بد، تلقَّى الأمر فنفَّذه، تظاهرت بالغفلة. أعرف خضوعه للفرنسيِّين، وعمله لأجلهم.
العادة أن المخطئ يحاول سحب أخطائه على الآخرين، دفعهم إلى فعل ينهونه عن فعله. ذلك ما أشعر أن الشيخ المهدي يطلبه في توثيق علاقتي بالفرنسيِّين، يتحول العداء إلى صداقة، فتتساوى المواقف.
إن كان لا بد من معركة، فإني أوفر أسبابها للفرنسيِّين، وليس لشيخ مسكين باع نفسه. أظهرت الحفاوة حتى لا يحدث ما يُمليه تغير نفسه.
نسيت وجوده في مجلس ساري عسكر.
استعاد بونابرت سحنة البشاشة التي التقاني بها في دمياط: أهلًا بك في مدينتك.
لا أعرف الفرنسية، وإن حدست أن المترجم سيُواجه العقاب لو أنه أخطأ الترجمة.
وهو يمسح بيده على مقدمة رأسه الخالية من الشعر: هل ينقصك شيء؟
حاولت أن أقرأ في عينَيه ما يكتم قوله: الحمد لله!
وهو يُعيد القبعة إلى رأسه: أبلغني الشيخ المهدي باستيلاء ضباط في الجيش الفرنسي على بعض ما تملك من أراضٍ وعقارات.
وبنبرة مهادنة: ألَا تريد استعادتها؟
– استولى عساكركم على كل ما أملك، لا أريد سوى أن تردَّ لي ما يُعين أسرتي على الحياة.
نزلت إلى بيتي للمرة الأولى بعد غياب طويل، واصلتُ ما كان من حياتي، وإن اعتذرت عن عدم المشاركة في الديوان، وفي الاحتفالات التي يحضرها ساري عسكر.
نُفيت عن القاهرة أيام احتلال الفرنسيِّين لها، ها أنا أُنفَى في عهد الرجل الذي نصَّبته حاكمًا.
من أوراق السيد عمر مكرم
عهدت إلى السيد أحمد المحروقي، كبير تجار القاهرة، إدارة أملاكي، ورعاية أهل بيتي.
كتب الجبرتي في تاريخه
«واستهل شهر رجب سنة ١٢٢٤م بيوم الأحد، وفيه اجتمع المودعون للسيد عمر، ثم حضر محمد كتخدا الألفي الذي عُهد إليه اصطحابه إلى المنفى. وعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال، وخرج بصحبته، وشيَّعه الكثيرون من المتعممين وغيرهم، وهم يتباكَون حوله، حزنًا على فراقه، واغتمَّ الناس لسفره وخروجه من مصر، لأنه كان ركنًا وملجأ ومقصدًا للناس لتعصُّبه لنصرة الحق، فسار إلى بولاق، ونزل في المركب، فسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم إلى دمياط.»
فيما رواه السيد أحمد المحروقي
دمياط!
أصرَّ محمد علي أن تُقلَّه السفينة إليها. المسافة — بين البيت والميناء النهري — قريبة، لم يلتفت ليعرف إن كان أحدًا يتبعه، صَحِب حفيده صالح وخادمَين، يطمئنون للإقامة، فيلحق بهم الباقون.
التقيت الباشا قبل أن تضمَّنا جلسةُ الوداع: السيد عمر أفندي مكرم والعلماء والوجهاء ومريدي الصوفية.
قلت للباشا: أستأذنكم في أن أكون وكيلًا عن السيد عمر في فترة النفي، أنظر ما استطعت في حاجات أسرته.
أظهر الوالي تأثُّرَه، قال في نبرة صدق: هو آمن من كلِّ شيء، أنا لم أزَل أراعي خاطره ولا أفوته.
وعلا صوته بلهجة مؤكدة: سأبعث حفيدي في الحال إلى أسرته، أخفف عنهم قرار الإبعاد.
واتجه ناحيتي بنظرة تتحسب لظني أنه عدَلَ عن إبعاد الشيخ: لا شأن لهذا بإبعاد السيد عمر.
ثم وهو يضرب الفراغ بجانب يده: الأوضاع لا تحتمل التأويلات!
ساعده حفيدُه صالح على السير فوق السقالة الواصلة بين اليابسة والمركب.
– دعواتك يا مولانا.
رفَت على شفتَي السيد بسمةٌ شاحبة وهو ينظر إلى المراكبي الأشيب الرأس، المتجعد الملامح: أنا مَن يحتاج الآن إلى دعواتك!
وتنهَّد: أملُنا دائمًا في رحمة الله.
تناثرت الكلمات الحزينة، والغاضبة، والمواسية، حتى لوَّح السيد عمر بيده من داخل المركب، وهي تبدأ السير.
صوت
بعد أن عرف السيد عمر مكرم بقرار عزله من نقابة الأشراف، ونفيه، قال: أما منصب النقابة، فإني راغب عنه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي لأرتاح من هذه الورطة، لكنني أريد أن أكون في بلدة لا تدين لحكم محمد علي. إذا لم يأذن لي بالذهاب إلى أسيوط، فإما أن يُرسلني إلى الطور أو إلى درنة.
قلت لجلسائي: تخلَّص محمد علي في مذبحة القلعة من المماليك المصرلية.
خنق السخط صوتي: وها هو يتخلص من مصري أصيل ليخلوَ له الجو.
قال ابن شمعة: يحتاط ممن يعارضه أو يحاسبه.
– كان أجدر بالعلماء أن يُدركوا أنهم أُكلوا يوم أُكل الثور الأبيض.
أضفت للدهشة المتسائلة في أعين الحضور: أقصد المعنى، نفْي السيد خطوة تسبق إزاحة الباشا مخالفيه من العلماء.
عرف الجميع أن الباشا تخلَّص — بقرار النفي — من الرجل الوحيد الذي تطول قامته قامة الباشا، وقد تعلو عليها، وأن عرضهم الولاية عليه أسبق من عرضه على محمد علي رئاسة المصريين.
رحل السيد عمر إلى دمياط. خلا الجو للمشايخ، يبصقون في أُذُن الوالي، يوغرون صدرَه، يزيِّنون له الشر.
أحزنني ما قاله الشيخ عبد الرحمن الجبرتي لجلسائه عن نفي السيد عمر إلى دمياط، إنه يعتبر الأمر بالنفي عقابًا سماويًّا لدور عمر أفندي في تولية حاكم ظالم، فهو يستحق العقاب.
تزكية السيد للباشا لأنه ناصر المصريين ضد أمراء المماليك، وتوسم فيه الميل إلى العدل، وإنصاف الغلابة، والتصدِّي لقضاء حوائج الناس، وتخفيف المظالم عن الرعية.
لم يكن يعرف أن ابتسامة الأسد لا تعني مسالمته.
كيف تستمر الحياة بأهل القاهرة، دون أن يكون السيد عمر مكرم في قلبهم؟ كيف يجلس محمد علي حيث دفع به السيد أعلى قلعة الجبل، بينما يعاني السيد مرارةَ النفي في دمياط؟
كتب الجبرتي في تاريخه
«إن الحامل لهم على ذلك كلِّه الحظوظ النفسانية والحسد، ومع أن السيد عمر كان ظلًّا ظليلًا عليهم وعلى أهل البلد، يدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تَقُم لهم بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض.»
صوت
قال الحاج لربيع عبد الراضي: اختاروا للمشيخة مَن هو أحوج إليها مني، صحتي لا تساعدني!
منذ رحلت زوجته، لم تدخل النساء حياته، هل اشتدَّت رغبته الجنسية، أو أنها ذوَت وتلاشت؟!
لعله توهم أنه سيأخذ من شبابها ما يعوض شيخوخته، امتصَّت المرأة ما تبقَّى من قدرات جسده.
تكرر غيابه عن احتفالات الطريقة، ورسامة ربيع عبد الراضي لأذكارها، موالدها وجلواتها، انقطعت الولائم، يدعو إليها المريدين والذاكرين والمدَّاحين والفقراء من أهل القاهرة. حوَت الطريقة العديد من المنشدين والقوالين والموحدين، يُنشدون القصائد والمدائح النبوية في المناسبات الدينية: المولد النبوي، أول العام الهجري، ليلة الإسراء والمعراج، ليلة النصف من شعبان، ليلة رؤية رمضان، ليالي رمضان والعيدين.
قل اعتقاد ربيع عبد الراضي في الحاج حيدر العلاف، مَن يرعى الغنم لا يتركها إلى الشرود، والانحراف إلى الخطر، يخاف عليها، لا يتركها للذئب يفترسها.
قال: أُشفق على العجوز الذي لا يحترم شيخوخته!
كثر كلام المريدين في اعتقاده، اتهموه بجعل الطريقة سلَّمًا للوصول إلى أغراض خبيثة، وأنه أنفق أموال الطريقة على المحرمات، وقيل إنه وجد حظوظه مع الندماء والجواري الحسان، التمس له المريد فتيحة معوض العذر في أن حجابة الدنيا أعمَته عن نقائصه.
تغيرت ثقة المريدين في الحاج، وضعوه خارج المكانة التي كانت له من قبل.
صوت
ضايقَته النظرات النهمة، تتأملها، تتابعها حتى لو سارت خلفه: هل يخمنون جسد المرأة من وراء لبسها؟!
غيرتُه عليها دفعَته إلى إلزامها بالاحتجاب في البيت، لا تُطل من نافذة، ولا تصعد فوق السطح، ولا تظهر للناس.
من أوراق السيد عمر مكرم
دمياط.
أقصى شمال مصر، ليست مجردَ ميناء نهري، إنها الصلة بين مصر ومدن المتوسط، مدن البلاد في مدينة واحدة: الساحل والحضر والريف، النيل ينتهي إلى البحر، لاتصالها بالميناء، فإن فيها الكثير من الجوامع والزوايا والكنائس والمعابد والأسبلة والكتاتيب والأحواض والتكايا والمورستانات والخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وإن أُنشئ في ضواحيها العديد من الدور والقصور والبساتين.
أمضيت الأشهر الأولى، شهرين أو ثلاثة، داخل البيت، لا أعرف ماذا يدور في الخارج. أقصر مشاهداتي من الشرفة الواسعة المطلة على البحر، أخمن صور ما ينقله لي زُوَّاري عن الحياة في الشوارع والأسواق، يصنع خيالي ما شاهدتُه في زيارات سابقة، وإقامة، وما أستمع إليه من علاقات وأحداث.
أعاني — في أحيان كثيرة — رتابة الأوقات، تواليها بالملل. أفكر في وسيلة لإنهاء ما أعانيه، أبدل الظروف ما وسعني.
ترددتُ في قبول دعوة المعلم حنفي الأسمر بالنزول إلى الطريق، ملامحه لا تشي بسنِّه، وجه قمحيٌّ مستدير، له ابتسامة طفل، على خده الأيمن شامة سوداء مستديرة، يرتدي جلبابًا واسعًا، تعلوه سترةٌ مطرزة على الصدر، يُدير في يده مسبحة طويلة بها تسع وتسعون حبة. يمتلك في أسواق دمياط ومدن الوجه البحري دكاكينَ لبيع الأقمشة الثمينة: الجوخ والأطلس والمقصبات وأنواع الحرير.
أشفقت من أن أتحرك في رفقة الحراس، يتبعون ظلِّي. دفعتني مغالبة الملل إلى الموافقة، لا شأن لي بالنظرات الراصدة.
ما كدت أسير خطوات في الشارع الخلفي المفضي إلى داخل المدينة حتى أَنِست إلى الناس والمآذن والقباب والفلايك والمراكب في البحر والرمال والنيل والسكة الزراعية والدور وأشجار النخيل ومزارع الجوافة والترع والمصارف والسواقي والبهائم ورائحة الملح واليود والطحالب والأعشاب.
الأسواق مزدحمة بالبشرات التي لوحتها الشمس والنساء المحجبات والعباءات والحبرات والجلابيب والقفاطين والجبب والعمائم والطرابيش والملاءات اللف والبراقع، والجلوس على القهاوي.
النفي هو إلى بلاد غير معلومة الأحوال، تختلف في دينها ولغتها وأنسابها ورسومها وعاداتها وتقاليدها، للذاكرة فسيفساؤها من السحن الأليفة، والحياة المشتركة، والصداقات، وتوالي الفصول، والطائر الذي أعرف نوعه، والمشاهد التي لا تبلَى، والشوق، والحنين.
المدن التي تُشكِّل امتدادًا لعموم الديار المصرية، تظل جزءًا من الوطن، لا يفصلها عنه حاكم، ولا قويٌّ من داخل البلاد أو خارجها.
داخلني تصورٌ أن الإقامة ستطول في دمياط، أعرف الكثير من أهلها، منقسمون في العمل بين الصيد والحِرف وصناعة الحلوى والألبان، منها الجبن الدمياطي الشهير، ومنها ما يسمَّى المشبك. مفردات الأسواق: الجلابيب والملاءات والعباءات والعمائم والطواقي والأطعمة الريفية والقلل والأزيار وأواني الفخَّار وأدوات الزراعة وصانعي السواقي.
الفول المدمس أكلة صباحية لغالبية الناس، السمك والأرز طبق مهم في وجبة الغداء، ربما تناولوا السمك قبل صلاة العشاء.
قصر تولِّي الوظائف المهمة على العثمانيِّين، والوافدين الأجانب، بينما الوظائف الدنيا من نصيب أولاد العرب. أعدادٌ كبيرة من الأوروبيِّين، فرنسيون وإنجليز وإيطاليون وأروام وأرمن، توسَّعوا في كافة الصناعات والمهن، اشترَوا الأراضي والبنايات، فتحوا محال الصرافة والمقاهي والحانات، يختارون لها مواضعَ في قلب البلد، وداخل الميناء، وعلى ساحل النيل، يبيعون بالأجل، ويقرضون، ويستولون على الأرض والدور — في أحيان كثيرة — لقاء التأخر في دفع ثمن السلعة، أو رد القرض.
تردَّدتُ على جامع البدري، شرحت للمصلين — بصوت تعمَّدت أن يكون مرتفعًا — جوانبَ في الشريعة والسنة، دفعني إلى الكلام ما أخذته على وعاظ في المدينة من الاكتفاء بظاهر الشريعة، دون أن يحاولوا استكناهَ ما تغمض حقائقه ومعانيه، يقصرون عظاتهم على ظاهر الدين، دون أن يتغلغلوا إلى الباطن.
تردَّد على المجلس تجارٌ وصُنَّاع ومزارعون وعمال في الميناء، والكثير من المشتغلين بصناعة المراكب: قلافطة، نجارين، نشارين، حدادين. تكاثر الراغبون في الإنصات والسؤال والمناقشة، شاركتهم تلاوة سورة الكهف والأوراد والأذكار.
قمت بزيارات متباعدة إلى القرى المحيطة: كفر سعد وفارسكور ورأس البر، الأطفال العرايا، أو ممزقو الثياب ظاهرة فوق رءوس النساء، وثمة أرباب الحِرف والبضائع، والأسواق مزدحمة بالحمير والجمال والبقر والجاموس والكلاب والعربات الصغيرة وأخلاط النداءات والضحكات والصيحات.
أَلِفت رفقة الحراس، فلا ألتفت. كوَّنت صداقات طيبة، عُمَد القرى ومشايخها وعلماء وتجار وملَّاك أراضٍ ومزارعين، إذا أشكل على الناس شيء من مستغلقات الفقه، فإني أوضحه، وأبسطه، لا أميل إلى كلام السياسة، حتى لا يربك الحراس والأرصاد حياة مَن يستضيفونني.
قال المعلم حنفي الأسمر: أخطر ما فعله الباشا أنه قضى على الصحوة المصرية التي اختارَته لقيادتها.
واهتزَّ شاربُه الكثُّ بالانفعال: ربما يحتاج الأمر إلى عقود قبل أن يُعيد المصريون لملمةَ إرادتهم.
قال صالح: بدلًا من التمنِّي أن ينتصر لنا محتلٌّ على محتلٍّ آخر، تمنيتُ لو أن كلَّ المحتلين غادروا بلادنا.
خشيَ أن الغموض خالط ما قاله، استدرك: خرج الفرنسيون من مصر على أيدي أهلها، كان خروجهم فرصةً ليحكم أهلَ البلد واحدٌ منهم.
فطنتُ إلى أنه يُذكرني بظروف تولية محمد علي.
قال حنفي الأسمر: قد يتحمل الباشا جزءًا من المسئولية … لكن المسئولية بكاملها يتحمَّلها المشايخ، أساءوا إلى السيد عمر في مجلس الباشا، وحرَّضوه عليه.
وشرد كالمتأمل: الكثير من هزائم المصريين صنعها الخونة، ما نُعانيه الآن بدايتُه في خيانة خاير بك وجان بردي الغزالي ويونس العادلي والسمرقندي، مَن باعوا ضمائرهم وبلادهم للسلطان سليم.
عرفت أنه يعيب على خواص السلطان تدخُّلَهم في أمور الحكم، ممالأتُه سعيًا لتطويعه. يُواجه بكلمات مباشرة، تشرح وتوضح، يرفض الإيماءات والكلمات الملمزة. يُضيف إلى كلماته تعبيراتٍ بيدَيه، وملامح وجهه.
لم يكن يخشى الباشا، أو يعمل على مداراته، وتوقع رضاه، لكنه يحذر أن يؤديَ الخروجُ على الحاكم إلى الفتن.
قلت: محمد علي ليس السلطان سليم، وأنا لست الغوري ولا طومان باي!
مجرد نطق الأسماء أيقظ في نفسي صورًا لم تكن في بالي، استعدتها.
قلت: لا أتصور في المشايخ إعادةَ ما فعله الخونة من غير المصريين.
فاجأني سلامة عبد الشكور عمدة كفر سعد بالقول: وضعتما الشيخ الشرقاوي وأنت الطيلسان على كتفَي محمد علي … مَن الذي أشار بما فعلتما؟
لاحظت تورُّمَ العروق، وتناثر البُقَع البنيَّة في يدَيه، له لحية طويلة، غير مشذبة، يضع على رأسه عمامة من النسيج الرفيع.
أردف دون أن يتدبر لهجته: لماذا لم تَسِر في الطريق إلى نهايتها؟ لماذا تنحيت عن قيادة الثورة؟
قلت: ثار الناس ضد ظلم الوالي وليس ضد دولة الخلافة.
– كنت تستطيع تولِّي الخلافة فور رفضك الفرمان السلطاني بنقل محمد علي إلى سالونيك، وحين قيادتك الناس في ردِّ هجوم الإنجليز على رشيد، وبعد القضاء على خطط المماليك للانفراد بحكم البلاد.
صوت
لم يَعُد الإقبال — كما توقعوا — من ناحيته، بادلَته إقبالًا لم يتوقعه أحد، ولا توقَّعه هو نفسه، حضن العينَين الذي لا يفارقه، الصمت المنبهر بما يستمع إليه، ملك قلبها وجسدها، ما لم يتصور الناس أنه يحدث من شيخ في سنِّه.
راقب التجار وأهل الحي تبدُّلَ الحال، أهملوا ما توقعوه من إذلال شبابها لشيخوخته، يتصورون الشيخوخةَ نهايةَ كلِّ شيء، العاطفة والرغبة والثورة، لا يبقى سوى الإحساس بالحنين والعجز والانتظار، هي تصحبه معظم أوقات الفجر — مبلولة الشعر — تجلس إلى جواره، تكاد تلتصق به، تُرهف سَمْعها إلى أوامره وتحذيراته وشخطاته.
هو الرجل الأول، الحقيقي، في حياتها، تجد في حضنه ما تتوق إليه. لم تجد المعنى في زوجها الأول، ولا الثاني، عانت بما تاقَت معه لحياة أخرى لم يَعُد ثمة ما يربطها بدنياها القديمة، نسيَت حتى تحذيرات أمِّها أنها في مرحلة ما، ستعيش وحيدة، يغيب المعلم عن دنياها.
وضع يده فوق الطست النحاسي، بدأت في صبِّ الماء من إبريق الفخار.
– نفسي تهفو إلى أكل الطين.
رمقها بنظرة متشككة.
قالت وهي تتحسَّس بطنها: ألَا تريد طفلًا؟
هتف بعصبية: هل أُنجب طفلًا يتيمًا؟
أدركَت معنى كلماته، رسمَت بسمةَ إشفاق: الأعمار بيد الله!
وهو يُجاهد لإظهار تماسكه: إنجاب طفل مسئولية لا أستطيع تحمُّلَها!
من أوراق السيد عمر مكرم
اخترتُ لمجلسي قاعة تُطل على البحر، أقمتُ في طابق علوي، تُطل بنايته على الميناء، أرنو من شرفته إلى الأفق، أتأمل حركة الحياة في الميناء، تلاغط أصوات الشيالين والتجار وعمال السفن، عمليات إنزال البضائع من المراكب. الفلايك الصغيرة تهتزُّ في مواضعها الملاصقة للرصيف، المراكب ترسو في عرض البحر، لا تقرب — إلا بقدر — رصيف الميناء، لسوء حاله، القوارب الصغيرة تنقل البضائع من السفن وإليها، في وقوفها على رصيف الشحن.
ربما أُصغي إلى صالح، يروي الحكايات الغريبة مما يراه، أو يسمعه، في أسواق دمياط. أنتبه إلى انشغالي بتأمل حديثه، الوجه الأسمر، النحيل، العينان البنيَّتان، الواسعتان، سريعتا الحركة، تستوقفه أيةُ ملاحظة مهما تبدو تافهة، إن احتدَّت المناقشة، اعتراه انفعال، يبدو متحمسًا لكل أقواله وتصرفاته.
صوت
صالح هو الوحيد الذي قدَّمه السيد عمر من أفراد أسرته، بيته في مصر القديمة لا يدعو أصدقاءه أو مريديه إلى زيارته، لا يتحدث عن أفراد أسرته، لا يعرف الناسُ في الأسواق، ولا أبناء الطرق الصوفية من أبناء السيد عمر وأحفاده إلا صالحًا، هو الذي ينزل إليهم، يُناقشهم في أحوال البلد، في السياسة ولقمة العيش وفِرق المتصوفة.
يصعد الزوار من باب خارجي مفتوح، يرقون — بواسطة سُلَّم جانبي — إلى الطابق الثالث، الطابق الأول خُصص للخدم والأعوان، والثاني لأهل البيت. كثر الناس — برضاء الله — على مجلس السيد عمر، طلاب الكتاتيب والأزهر في مقدمة الحضور، يشاركهم الاستماعَ وإلقاء الأسئلة عددٌ من الموظفين والوجهاء والأعيان وأرباب الحِرف والصنائع.
أجاد الباشا نشرَ جواسيسه في أسواق المدينة، ينقلون له كلَّ ما تُصادفه أعينهم وآذانهم، ما يحدث بالفعل، أو يريب، يُضيفون إلى العادي ليُثير الانتباه، تعظم مكافأة الباشا، يضمنون البقاء في عملهم.
يتوزعون في أنحاء المدينة، الدور والمساجد والمقاهي ومصاطب التجار، يسألون عن الأسماء والأحوال والمعايش، لا يفوتهم شيء من أمرها. يتردد على البيوت نساءٌ يدَّعين بيع ما تحتاج إليه الأُسَر من الأمتعة والملابس والحلوى، يضعنَ الاهتمام في الأعين والآذان، يلتقطنَ السحن الغريبة، والكلمات المضمرة شرًّا، يُعطين الإشارات لقائد الشرطة، يكبس على المكان، يقتاد من فيه إلى جهة غير معلومة.
ضمَّن الشيخ عبد الصبور الحيني واعظ جامع البدري خطبته دعاءً يقول: اللهم ولِّ علينا خيارنا، ولا تولِّ علينا شرارنا. أنزله جواسيس الوالي من فوق المنبر، اقتادوه إلى حيث غابَت أخباره.
وهو يغالب التأثر: لم يفارق ذاكرتي حال الرجل وهو في قبضة أعوان الباشا، بدا غيرَ مكترث كأنهم يأخذونه إلى حفل أو نزهة.
قال الشيخ مصطفى زقزوق: يحلُّ العقاب عندما يجاوز الخطيب معنى الموعظة الحسنة، إلى تحريض الناس ضد الحاكم.
هو واعظ زاوية الأحمدي بسوق المدينة، عُرف عنه كثرة الاطلاع على السير والأخبار والتواريخ والأشعار، يتلكأ، أو يتوقف تمامًا، في نهاية عباراته، يُكثر — إن تكلَّم — من التلفت، كمَن يخشى أن يسمعه أحد، الدائرة السوداء الصغيرة — أوسط جبهته — تَشِي بكثرة السجود. وشَى تهدُّل عنقه بتقدُّم عمره، ضخامة أنفه تتنافر مع وجهه النحيل، يضع على كتفَيه عباءةً سوداء، وفي يده مذبة من شعر الخيل.
وبلهجة خطابية: عصيان الحاكم لا يهدم النظام فقط، لكنه يهدم الدين أيضًا.
قال السيد عمر مكرم: قاتلتُ الفرنسيِّين كمواطن مصري وليس كعالم دين، وأدنت حكم محمد علي بالصفة نفسها.
قال صالح: وَلِيَنا محمد علي بعد أن وعد بحكم الشورى واحترام إرادة أبناء البلد، لكنه تراجع عن وعده فتمنَّى الناس زمن المماليك.
قال المعلم حنفي الأسمر: قيمة المشايخ في زعامتهم لأهل البلد، لكن الباشا جعلهم تابعين له، حتى المجالس السياسية هي مجالس تابعة لولي الأمر.
قال السيد عمر: إذا أخذت على الباشا تصرفاته فإني أدين المشايخ على تبريرهم تصرفات الباشا.
قال الشيخ مصطفى زقزوق: الحاكم الظالم القوي خير من الحاكم العادل الضعيف.
قال رجل في الحضور مؤمِّنًا: ما يريده الوالي من إرادة الله!
تناهَى صوتٌ في آخر المجلس: الخضوع للسلطان ضرورة، والخروج عنه يبلغ الكفر.
قال الشيخ زقزوق: على المرء أن يرضى بما قسم الله له، البطر خطأ.
أردف في لهجة محذرة: دفع الحلاج حياته ثمنًا لتوهُّمه اتحاد الذات الإلهية بذاته.
واتجه ناحية السيد عمر النقيب بنظرة تعكس الخوف والإشفاق: هل تدعو إلى قتل الباشا؟
علَت ملامحَ السيد أماراتُ تأثر: لا أدعو إلى قتل أحد، المثل يختلف، أنا أُشير وأُنبِّه!
ظل الشيخ زقزوق صامتًا، وإن أطلَّ من عينَيه قلق واضح.
قال السيد عمر: نحن وليناه، ونحن — إن شئنا — نعزله!
من أوراق السيد عمر مكرم
أبلغني صالح بظهور حالات طاعون في دمياط، وإن لم تأخذ صورة الوباء، لم يزِد عدد المتوفين — كل يوم — عن واحد إلى ثلاثة.
صوت
شكا ربيع عبد الراضي للحاج حيدر من أن الطريقة لحق بها حيفٌ لكثرة المندسين فيها، يتجاهل المريدون معظم ما كانت تلتزم به الطريقة من طقوس، غلبَت الآلية على الأذكار.
فرغ الحاج حيدر لبيته، للمرأة في داخل البيت، أكثر من إخلاصه لتجارته، وللعلم والصوفية.
من أوراق السيد عمر مكرم
للحجرة مشربيتان متقابلتان، عرفت أنهما لاستجلاب الهواء، الأرضية والجدران من الفسيفساء، توسطت الحجرة مائدة نحاسية مستديرة، وتناثرَت — لصق الجدران — وسائد صغيرة، مزينة بالنقوش، يجلس الزوار عليها، أو يسندون إليها سواعدهم.
السيد أبو العز حبة — صاحب البيت — يدخن في شبكه الخاص، استأذن أول مرة، ثم صار عادته اليومية في المجلس، اكتفى بشرب القهوة، وهو ما كان يفعله الحضور، ربما حتى لا يجاوز فعلهم ما لا أجاوزه.
أنشأ شركة لتموين المراكب بالميناء، أضاف إلى عملياتها إصلاح المراكب وصيانتها، وجه مستدير، قمحي البشرة. كلف الشمس يغطي ما تحت عينَيه. تعلو شفتَيه ابتسامةٌ دائمة، يرتدي جلبابًا أبيض مقفول الرقبة، الإصبع السادسة في يده اليمنى، لا يجد فيها عيبًا، يعتز بأنها تميِّزه عن الآخرين.
عرفت أنه دائم التردد على مجالس الذكر في الحضرات، وداخل المساجد، والبيوت، وفي الخلاء.
بلغني عطفه على المزارعين الفقراء من قريته القريبة من دمياط، يُعيرهم المحراث، والشادوف، وأدوات الزراعة الأخرى، يهبهم التقاوي اللازمة.
اعتذر أبو العز لضيوفه عن قهوة لم يتذوقوها من قبل، خلَت المدينة من صنف البن، أُضيف إليه خليط من الشعير والقمح والفول وبذر العاقول.
لا أدري: لماذا تذكرت صديقي الحاج حيدر العلاف؟
دعا زواره إلى التخلي — في مجلسهم — عن الحذر، اعتادوا — في حضور الغرباء — قصرَ حوارهم على الإشارة، فلا يُذاع ما يكتمونه من أسرار.
قال بلهجة مشفقة: السيد عمر يُعاقَب من الوالي بنفيه إلى مدينتنا!
انفرجَت شفتاه عن أسنان متباعدة: يؤلمني أن سياسة الباشا يشغلها الفرقة، فرق بين أمراء المماليك حتى تخلص منهم جميعًا، وفرق بين العلماء فأساءوا إلى أفضلهم.
أدركت أنه يقصدني، أحنيتُ رأسي، وظللت صامتًا.
قطع أبو العز حبة الصمت: أُشفق على السيد عمر لأنه عاش بين نارين، نار شك الباشا بتحريضه الناس، ونار شك الناس بعمله لصالح المشايخ.
وحسر عمامته إلى الوراء: كانت المؤامرات جزءًا من طبيعة الحياة المصرية، جعلها محمد علي طبيعةً للحياة المصرية كلها، تآمر ضد الولاة والمماليك ومَن خالفوه الرأي من المصريين.
وأشار ناحيتي: أنت يا مولانا ضحية تآمره!
ظللت على صمتي، وارتباكي.
أدرك ما يجول بذهني، همس في لهجة مشفقة: إذا كنت خائفًا فلن تستطيع أن تهزم عدوك!
وهزَّ قبضته: لا شيء يستطيع أن يؤذيَك إذا أحسنت مواجهته.
أومأ إلى رجل في داخل نصف الدائرة المحيطة، يرتدي جلبابًا من الكستور المقلم بألوان زرقاء، في حوالي الخمسين، أضاف الهزال إلى طوله، الوجه نقرَه الجدري، البشرة شاحبة، أقرب إلى الصفرة، والهالات دوائر حول العينَين، والتجاعيد متلاصقة على جانبَي الفم. خمنت لرؤية أظافر يدَيه المعقوفة أنه فلاح، هذه الأظافر المعقوفة في أيدي الفلاحين.
– تكلم عمَّا عانيت من عسكر الباشا.
وشَى صوتُ الرجل بتأثر: لقسوة ما عانيت، بدا الموت خلاصًا مطلوبًا.
رفَت على شفتَي أبو العز بسمةُ إشفاق: ألم تفكر في النجاة؟
– التعذيب بتلك البشاعة يجعل الموتَ أملًا جميلًا!
قرأ أبو العز العديد من علوم العصر، وإن قصر حفظه واستيعابه على القرآن الكريم والأحاديث النبوية وتفاسير علماء السنة، يرى في المذاهب والاجتهادات المغايرة ما ينبو عن صحيح الدين، أمر بعمارة مئذنة وقبة مسجد المعيني، اتخذه موضعًا لأداء صلواته.
قال: أستروح في الصحن روائح التاريخ.
وأغمض عينَيه كالمتذكر: أتذكَّر زيارات الظاهر بيبرس لصاحب الضريح.
عَمِل عليه أوقافًا، وجعل مطبخًا للفقراء المتعلقين بولي الله. رفض الهلال المعدني فوق المئذنة، وجد فيه بدعة، ينبو عنها الآن. عانيت في إفهامه أن شكل الهلال المعدني أعلى المئذنة رمزٌ له معنى، القبلة في داخل المسجد باتجاه المحراب، تُعرف في الخارج بالهلال المعدني، اتجاهُه ناحية القبلة يعطي اتجاه الصلاة لسكان المنطقة المحيطة، وللمارة.
تبينت فيه ميلًا لمداواة المرضى، يُشخص العلة، ويصف علاجاتها، يُعِد أدوية سائلة من أعشاب برية كالزعتر والنعناع ولسان البقر والهندبا، يأخذ من أوراق الشجر ما يعالج به الأمراض المستعصية، لكل مرض ورقة من شجرة تداويه.
سألت عن شيخ في حوالي الستين، يختلط السواد والبياض في لحيته الكثة، قَدِم إلى الجلسة بمفرده، وحرص على حضور الجلسات، يغلب عليه حال السكينة والوقار.
عرفت أن اسمه قطاوي، يهودي من المدينة، يمتلك دكانًا لبيع الذهب والمصوغات، إلى جانب أشغال متعددة من السمسرة والصرافة وبيع الأثاث القديم.
بلغني عن نشأته في حارة اليهود، قريبة من دكان أبيه بخان أبو طاقية، امتدادها عطفة المقاصيص، خلف شارع الصاغة، ساعد أباه في دكان الصرافة وتجارة العملات، قبل أن ترحل أسرته إلى دمياط.
بعد موت الأب، حل مكانه، ووسَّع من نشاطه.
– كانت القاهرة في بالي، لما زادَت أعداد تجار العملات من الأقباط في القاهرة على اليهود، أزمعتُ أن أظل في دمياط.
قال أبو العز في إشفاقه: وضع الباشا يده على ما كان قائمًا من الحِرف والصناعات الصغيرة وأنواع التجارة!
واهتزَّت شفته السفلى بارتعاشة واضحة: في ظروف احتكار الباشا لمعظم التجارة ألغى الكثير من التجار محالهم.
أدركت من أسئلة قطاوي أنه أجاد دراسة الأديان، وأنه يعرف من عقيدة الإسلام ما لا يعرفه الكثير من علماء المسلمين.
فاجأه أبو العز — وفاجأ الحضور — بالسؤال: لماذا اخترت تجارتك؟
قال فيما يُشبه الهمس: التجارة ميراث كالديانة ولقب العائلة.
واستغرقته السكينة.
أمَّن السيد عمر مكرم بهزة رأس: العادة أن يرث الأبناء مِهن آبائهم.
كتب الجبرتي في تاريخه
«فهدم — محمد علي — سراية القلعة، وما اشتملت عليه من الأماكن، فهدم قاعة البحرة، والمجالس التي كانت بها الدواوين، وديوان قايتباي، وهو المقعد المواجه للداخل إلى الحوش، علو الكلار الذي به الأعمدة، وديوان الغوري الكبير، وما اشتمل عليه من المجالس التي كانت تجلس بها الأفنية والقلفاوات أيام الدواوين، وشرع في بنائها على وضع آخر، وأقاموا أكثر الأبنية من الأخشاب، ويبنون الأعالي قبل السفل، وأُشيع أنهم وجدوا مخبآت بها ذخائر لملوك مصر الأقدمين.»
كتب الجبرتي في تاريخه
«ففي أول الأمر، عندما افتتح الباشا مدرسةً للمهندس خانة بالقلعة في ۱۲۳۳ﻫ/١٨١٦م، أمر الباشا ببناء مكتب بحوش السرايا، ورتب فيه جملةً من أولاد البلد، ومماليك الباشا، وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي، يقرأ لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والتناسبات والارتفاعات واستخراج المجهولات، مع مشاركة شخص رومي يقال له روح الدين أفندي، بل وأشخاص من الإفرنج، وأحضر لهم آلات هندسية متنوعة من أشغال الإنجليز يأخذون بها الارتفاعات والمساحة، ورتب لهم شهريات وكساوى في السنة، واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب، وسماه مهندس خانة في كيوم، من الصباح إلى بعد الظهيرة، ثم ينزلون إلى بيوتهم، ويخرجون في بعض الخلاء، لتعلُّم مساحات الأراضي، ومقاساتها بالاقتضاب، وهو الغرض المطلوب للباشا.»
صوت
السعي إلى استقلال مصر ليس اختراعًا من محمد علي. سبقه إلى الفعل علي بك الكبير. كان يعتبر نفسه مصريًّا، واعتبره المصريون كذلك، عقد باسم مصر معاهدةً تجارية مع إنجلترا، ومعاهدة سلمية مع البندقية، ومعاهدة دفاعية مع الروسيا، ونوديَ باسمه في الحرمين الشريفين، سلطانًا لمصر، وخاقانًا للبحرين. أوقف دفع الجزية إلى دولة الخلافة، ضرب النقود باسمه، أجلس خادمًا على باب جامع الصالح طلائع، خارج باب زويلة، ينادي على أصحاب المظالم، والمطالبين بأموال الوقف والخراج.
يسعى الباشا لإنشاء إمبراطورية واسعة، تمتدُّ في الشرق والجنوب، يورثها لأبنائه وأحفاده. عَمِل على رفاهية أحوال العباد، وعمارة البلاد. حرص على الفسحة والامتداد، ما تتسم به العمارة الإسلامية، أوقف على مصالح مساجد وزوايا ورُبُط ومدارس وخانقاوات، جعل فيها قرَّاء يتناوبون القراءة في النهار والليل، أنشأ مدارس للحرب والهندسة والبيطرة والفنون والصناعات، ومصانع للأسلحة والذخيرة والنسيج والطرابيش ودارًا للصناعة، صار للباشا أسطول كبير، صنع مراكب كثيرة، ويجري صناعة مراكب جديدة، لا يستهدف الباشا بها حربًا، جعلها لنقل صادرات البلد إلى الخارج، واستيراد منتجات البلدان إلى المواني المصرية.
قال المعلم حنفي الأسمر: ما تحقق في الزراعة والصناعة هو لصالح محمد علي وليس لصالح المصريين، أدوات استغلها الرجل في تنفيذ مشروعاته الشخصية.
وتسارعَت أصابعه على حبات المسبحة: حتى لو أخضع العالم لسيطرته، فستكون السيطرة لنفسه، لأحلامه.
والتفت إلى دائرة الخلق حوله بنظرة متسائلة: إذا كان شاغله استعادة حضارة مصر القديمة، فلماذا يهدي آثار حضارتها إلى أصدقائه الفرنج؟
عمل على التوسع في المعارف، والتفنن في العلوم. جلب مطبعة إلى ورش بولاق، بديلة لمطبعة الفرنسيِّين التي عادوا بها إلى بلادهم، كما عادوا بكل الآلات العلمية التي قَدِموا بها. عرفت أنَّ مَن أفلح في استيراد المطبعة الجديدة، العربية، شابٌّ اسمه نيقولا مسابكي، من أهل بيروت.
شقَّ الكثير من الدروب والعطوف والحارات والأزقة، عُنيَ بتطهير الترع، وإنشاء الجسور، وترميم القناطر، أمر بحفر ترعة المحمودية، لتسهيل نقل البضائع إلى الإسكندرية، وجلب المياه العذبة لأبنائها، أنشأ الحصون والقلاع في الإسكندرية ورشيد ودمياط. وأعاد تحصين ما كان قائمًا من القلاع والطوابي، أضاف إلى تحصينات قلعة الجبل ومناعتها، يتقي أيَّ خطر قائم أو محتمل، شيَّد — أعلى القلعة — قلعةً باسم المقطم، زوَّدها بالأبراج والمزاغل والمدافع والبنادق، ودارًا للصناعات الحربية، وأنشأ البارود خانة، معمل بارود الروضة، وفتح أبوابًا جديدة تأذن بنزول العربات. اختطَّ الشوارع، أضاف ميادينَ وشوارعَ وحاراتٍ جديدة، جعلها مستقيمة، ومفتوحة، ألغى الأزقَّة والحارات والعطوف المسدودة.
لم يَعُد شقُّ الجبل بالفأس والجاروف، استصلح الأراضي البور، ونظم الري والصرف، أنشأ العديد من القناطر ذات العيون والأهوسة، سعيًا لضبط مياه النهر، حتى تُروَى أراضي الدلتا وقت التحاريق. كما أنشأ شبكةً هائلة من القناطر والجسور والترع والقنوات والمصارف والسدود، أكثر من عمارة المساجد والقصور والمساجد والبيوت والدور العظيمة والحدائق والأسواق والمعاصر. أنشأ مدرسةً لتعليم علوم البحر، فرغت ورشة بولاق لصناعة المراكب الحربية، فصلت من أخشاب الأشجار التي تم قطعها في أرجاء البلاد.
كلُّ مَن يقع منه تكاسل في عمران البلاد، لا بد من إعدامه.
أمر بقيد المواليد، كما عُنيَ بتسجيل الممتلكات، وإضاءة الميادين والشوارع والأزقة، وفوق المآذن، كلٌّ دار عليها قنديل.
سار على طرق الفرنسيِّين في الوقاية من الأمراض والأوبئة، بغسيل الشوارع، وتطهير الدور.
زجر حجاج الخضري شحاتة أبو داود على قوله: كنَّا نغسل شوارع القاهرة قبل الفرنسيِّين والباشا محمد علي!
فتح أبواب البلاد لليونان والأرمن والفرنسيِّين وسواهم من غير ملة الإسلام، لا يشغله مَن يصنع ذلك التقدم، إن كانوا غرباء، أم من أولاد العرب، حتى بلاطه قصر موظفيه على المتكلمين باللغات الأجنبية.
جلب من أقطار الشام رجالًا يحترفون تربيةَ دودة القز، وفَّر لهم احتياجات صناعة الحرير، نجحت تجارب تربية ديدان القز وصناعة الحرير، أنشأ مصنعًا لغزل الحرير في الخرنفش، قبل أن يتحول إلى نسيج، صار من الصادرات المصرية. أنشأ مصانع لغزل القطن والكتان، ومصنعًا للطرابيش في فوة، وطواحين لاستخراج زيت الكتان والسمسم والقرطم.
لإدراكه نجابة أولاد مصر، وقابليتهم للمعارف، أمر بإنشاء مدرسة المهندسخانة ببولاق، يتلقَّى طلبتُها علومَ العصر، وما تحتاجه البلاد.
بدأ إيفاد البعوث إلى بلاد أوروبا لتعلُّم ما لا تعرفه بلادنا. أذكر قول شيخنا حسن العطار إن لديهم ما لا تسعه عقول أمثالنا.
قلت: ربما لا يجد — محمد علي — في علوم الأزهر ما يليق بالعصر، يحسن لو أنه وصل القديم بالجديد، ما نعيشه بما يسعى إليه.
استطردت موضحًا: من الخطأ أن نترك الحديث يميت القديم، لماذا لا يأخذ بيده، ويدله على ما لا يُدركه؟
صوت
استنبت الوالي زراعات جديدة، وأمر بزراعة كل الأراضي الزراعية التي أهملها مُلَّاكها لحساب الباشا، لا يشغله ضيق الفلاحين ولا خرابهم، ولا تسخيرهم في حفر الآبار، وشق الترع والقنوات والترع، والحرث والري والحصاد والدراس، ليس ثمة حدود بين معظم الزراعات. الكل يشارك في البذر والري والرعاية، الحصاد للباشا، الأملاك والأراضي والزراعات كافة، صارت ملكًا للباشا، صارت إليه كلُّ الأراضي المصرية، يتولَّى — وحده — المتاجرة بحاصلاتها الزراعية، يستولي عليها، يُشرف على توزيعها في داخل مصر، وتصديرها إلى الخارج، جعل نفسه مالكًا لكل ورش صناعاتها، واستولى على صناعات الخيش والقصب والتلي. تحوَّل من والٍ إلى شهبندر للتجار، يحتكر كلَّ أنواع التجارة: الدخان والنشوق والنطرون والشراب المسكر، أكثر احتكاراته البن والنيلة، أهالي بر مصر أُجَراء، وإن فرض عليهم من الضرائب ما لا يستطيعون سداده. اتسعت احتكارات صناعة النسيج، فلم يَعُد للطائفة مكان بين طوائف الحرفيِّين. أضاف إلى سياسته احتكار صناعات الحرفيِّين، هجر الكثيرون حِرَفهم، مثلما هجر المزارعون أراضيَهم للسبب نفسه. رفض تخوفات خواصه من أن يزيد بهؤلاء الحرفيِّين أجراء الحكومة.
قصر على نفسه استيراد البن الأمريكي، أهمل الخسائر الهائلة التي لحقَت بالمستوردين من تجار البلد. أكثر من التردد على الإسكندرية، تطول إقامته إلى الشهر والشهرين والثلاثة، يُشرف من قصر رأس التين على شحن البضائع المصدرة إلى إسطنبول ومدن العالم.
لم يكن القصر قد تمَّ تشييده، في أقصى شبه جزيرة فاروس، بين المرسَى الغربي ومياه البحر. استورد له الرخام الإيطالي، والنجف الكريستال، والشمعدانات النحاس، والجدران مزينة بالنقوش والزخارف العثمانية، والسجاجيد تغطي أرضيات الصالون والقاعات. القاعة الكبيرة تُطل نوافذها العشر على البحر، تُحيطها من الجوانب الثلاثة أريكةٌ حمراء كبيرة، وثمة — في الأركان — تماثيلُ لتماسيح تقذف الماء من أفواهها.
يعرف أهل بحري أنه يحب السباحة — كل يوم — في البحر. تُضايقه الرطوبة التي تتخلل برودة الهواء، فتُفسده، يشعر بلزوجتها خلف ثيابه بما يدعوه إلى كثرة الاستحمام.
الشائعة التي تردَّدت كثيرًا أن إقامته في الإسكندرية لفترات طويلة — على زيارات متقاربة — للإشراف بنفسه على عمليات التصدير والاستيراد التي تجري باسمه، ولحسابه.
قال الشيخ بدوي شمس الدين: ما في مصر من أراضٍ كلُّها ملك للوالي.
قال صالح: من أفتى بهذا؟
– لا فتوى، تلك طبيعةُ منصبه.
عُرف عن الشيخ شمس الدين الحذر في انتقاد الباشا، يخشى التجسس في الهواء الذي يتنفسه، ربما لجأ إلى التشبيه أو الكناية أو التورية، لا يتعمد البوح ولا المصارحة، يعطي انتباهه للأعين الراصدة، والآذان المتنصتة.
يعرف الناس أنه يُنشئ المساجد والزوايا والخانقات، ويُجري الصدقات تكفيرًا عن ذنوب ارتكبها، ذلك ما يحرص على تأكيده، وإن لم يُفصح عن الذنوب التي يُومئ إليها.
قال حنفي الأسمر: هل هو حاكمٌ أم جابٍ؟
تكلَّف ابتسامة: لعل أكبر ما تمنَّى الرجل أن يصبح تاجرًا شاطرًا!
قال صالح: لو أن ما أخذه من الناس لتحقيق العدالة ما ارتفع صوت بالمعارضة.
أردف للنظرات الداهشة: ما حدث أنه وزع الأراضي التي اغتصبها على عائلته وخواصه وقادة جنده.
يُخضع الجندُ الفلاحين للضرب بالمقارع والسياط. يأخذون الأموال والمحاصيل والدواجن والماشية، غصبًا ونهبًا، يُجبرون الفلاحين على دفع التزامات مالية غير شرعية وظالمة، عدَّد الفلاحون مسمياتها؛ مثل المغارم، والمظالم، والكلف، والمضافات.
أخفق محمد علي في أن يفرض سيطرته على الأوقاف الأهلية، وجد في عائدها ما يُغريه، لكن الدقة في الوصايا، وعقود التركات والوراثة، دفعَته إلى مراجعة الأمر، حتى إنه أوقف ما صار من أملاكه لذريته.
جاوز السخط من تعدُّد خروجهم لمطالبة الوالي برفع يده عن سائر الرزق والالتزامات. حضر عددٌ من النسوة، سافرات الوجوه، محلولات الشعور، صبغنَ وجوههن وأيديهن بالنيلة، تُصفق أيديهن بنغمة واحدة، مؤثرة، تنطلق أصواتهن بالشكو والضراعة وطلب الغوث، تعلو بالصراخ والنواح والبكاء وعبارات التعديد، شكَّلن — في السير إلى جامع الأزهر — ما يكاد يَصِل في حجمه إلى مظاهرات الرجال، امتلأت الساحة بالعباءات السوداء، تكرَّرت الهتافات المطالبة بالإفراج عن حصص النساء من الرزق والمعاشات.
صوت
أقسى ما يعانيه الفلاح إلزامه زراعة الأرض، ودفع خراجها. إن أخلَّ بذلك، يُواجه أشد العقوبات. الفارون والمتقاعسون يُدفعون إلى أعمال الجسور والحوش والمساقي والترع.
صارت الأرض الزراعية ملكًا للباشا، لا يحقُّ للفلاح أن يشتري، أو يبيع، في الأرض التي يزرعها، ولا يستطيع الاستمرار في ممارسة أية حقوق إلا بالانتظام في دفع الميري، والمضاف، وجزء من الكشوفية، ولا يورث لسلالته إلا بعد أن يدفع الحلوان، ويحصل على موافقة الباشا.
نزع ما يزيد عن مليون فدان من أصحابها القراريين، ضم أراضيهم إلى ملكيته الخاصة، وتحوَّل أصحابها إلى أنفار معدمين، يعملون لقاء ما يمتلكون من بقايا عافية، أو تقاضي سدس المحصول.
الأوامر صارمة بأن من لا يمتلك الأرض يلحق كأجير عند مالك الأرض. نزعت مساحات هائلة من الأراضي الزراعية عن حائزيها، وأُعطيَت لأشخاص قادرين على زراعتها، أو لأنها مجاورة لأطيانهم، أو لمسموح المشايخ، ومسموح المصاطب، ومسموح المقادم أو المقدمين، وما يحصل عليه المشايخ والعمد والأعيان. بعد أن غلبَت احتكاراتُ الباشا، وتوسعتُه على خواصه وكبار عساكره وموظفيه، منح الأبعاديات للذوات والعربان وكبار المشايخ. صار أغلب حائزي الأرض معدمين، لا يمتلكون شيئًا، يعملون بالأجر، نقدًا وعينًا، وبلا حقوق.
رفض ما أبداه المشايخ والقائمقامية والنظار من صعوبة المعيشة، نتيجة الفقر. أردف أوامره إلى نظار الأقسام بتحرير كشوف بالمبالغ المتأخرة على مشايخ النواحي، وأقاربهم وموظفيهم. شدَّد فلا تتراكم بقايا ومتأخرات مالية. إذا تأخر الفلاحون في زراعتها، فإن الأموال تُحصَّل من المديرين وحكام الأخطاط، ربما جرى التحصيل من نظار الأقسام. تعددت الأحكام والأوامر بين الجلد، والضرب بالنبوت، والإعدام في الأجران، أو ساحات القرى.
لا يأذن بالأرض البور، مَن تقاعس عن الزراعة فصارت الأرض بورًا، يدفع من أمواله ضرائب، حتى لو لم يمتلك المال، فإنه يستدين. لجأ المزارعون إلى التسحب من الأرض، ومن حيث يقيمون.
مئات القرى تحوَّلت إلى جفالك وعهد، وصار المشايخ خولًا، أو أودعوا الليمان.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وأبرز كتخدا بك فرمانًا، وصل إليه من الباشا، يتضمن ضبط جميع الالتزام لطرف الباشا، ورفع أيدي الملتزمين عن التصرف، بل الملتزم يأخذ فائظه من الخزينة، فلما أُشيع ذلك ضجَّ الناس، وكثر منهم اللغط، واجتمعوا على المشايخ، فطلعوا إلى كتخدا بك، وسألوه، فقال: نعم، ورد من أفندينا أمرٌ بذلك، ولا يمكنني مخالفته.
فقالوا له: كيف تقطعون معاش الناس وأرزاقهم، وفيهم أراملُ وعواجز، وللواحدة قيراط، أو نصف قيراط تتعيش من إيراده، فينقطع عنهن؟
فقال: يأخذ الفائظ من الخزينة العامرة.
فراودوه، وناقشوه، وهو يهون، ويقرب، ويبعد، إلى أن قالوا له: نكتب للباشا عرضحالًا، وننتظر الجواب، فأجابهم إلى ذلك من باب المسايرة، وفك المجلس.
وشرع الشيخ المهدي في ترصيف العرضحال، فكتبوه، وختموا عليه بعد امتناع البعض الذي ليس له التزام، وكثر اللغط منهم بسبب ذلك.
وفي خامسه، حضر جمع كبير من النساء من الملتزمات إلى الجامع الأزهر، وصرخوا في وجوه الفقهاء، وأبطلوا الدرس، وبددوا محافظهم وأوراقهم، فتفرقوا وذهبوا إلى دورهم، وذهب النساء وهنَّ يقلن: نأتي في كل يوم على هذا المنوال، حتى يُفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا، وفي ظن الناس وغفلتهم أن في الإناء بقية، أو أنهم يدفعون الرزية».
كتب الجبرتي في تاريخه
«وما علموا أن البساط قد انطوى، وكلٌّ قد ضل وغوى، ومال عن الصراط واتبع الهوى، وكلب الجور قد كشَّر أنيابه وعوى، ولم يجد له طاردًا ولا معارضًا ولا معاندًا.»
صوت
سيطرة العثمانيِّين كتمَت محاولات محمد علي للتصنيع، والأخذ بما بلغته دول أخرى. بديهيٌّ أن يرفض المتبوع محاولةَ التابع أن يبلغ طول قامته.
صوت
الطاعون.
الحمَّى بداية المرض، ثم تظهر أعراضه. لا يستأخر الموت عن المريض أكثر من نهار وليل. كثر نقص النيل، ظلت مساحات هائلة من الأراضي دون زراعة، ساءت الأحوال، فات أوان الزرع، أو ظلت الزراعات نبتًا في الأرض لوفاة المزارعين، فسد الكثير من الأرض المثمرة، لم تَعُد — بالإهمال وشح المياه — صالحةً للزرع.
زاد القحط والبلاء. شحَّت السلع الغذائية، أو انعدمت، عانَى الناس ما لا يستطيع أحدٌ تحمُّلَه من الضنك والشدة. لم يجدوا مغيثًا مما يعانون. حتى مماليك الطباق لم يتيسر لهم ما يأكلونه.
اتسع الجدب والجفاف، وقع الموت في المئات، هاجر أهل المدن إلى القرى، وهاجر أهل القرى إلى المدن، غلب الفزع والقلق والحيرة، يتصور كلُّ شخص أن النجاة في الموضع الذي يرحل إليه، عزف الناس عن شراء النفائس بأثمان قليلة، صار الجميع سواسيةً في معاناة الشدة، تزايد الموت، أكل الناس الجِيَف، تخرب الكثير من المدن والقرى، لحق الخراب دروبًا وعطوفًا وأزقة، خلَت من سكانها تمامًا، هلكَت أُسَر بأكملها.
بدَت الفئران عدوًّا وحيدًا، ألغى ما في النفوس من حزازات وعداوات، يلمحها الناس في الأزقة والحنايا والأزقة المظلمة، يقذفونها بالمياه المغلية، أو يطاردونها بالنبابيت، يستردون الهدوء بموتها.
أغلقت الدواوين الحكومية أبوابها، احتجب الكثير من أهل البلد والأجانب في بيوتهم وأحيائهم، خلَت غالبية الدور من سكانها، أقفرت المساجد والكتاتيب والدكاكين والوكائل، أُغلقت المقاهي والمطاعم ومحال بيع البوظة، انصرف الناس لقراءة صحيح البخاري بالأزهر، وتلاوة القرآن في المساجد والزوايا، يتوسلون لرفع البلاء، لجئوا إلى المشايخ لتلاوة الاستغاثات. زاد المشايخ — بتفشي المرض — من قراءة البخاري، ذلك ما ألفوه في الكروب والأحداث الخطيرة، مَن يصرعه الوباء، تحرق ثيابه، يغسل الموضع الذي مات فيه، وتدخينها بالبخور، تغسل أوانيه وأوعيته، يدعو الموظفون أصحاب البيوت والدكاكين لكنس الشوارع والدروب والعطوف، ورفع أبوابها، وتعليق القناديل طيلة الليل، ونشر الثياب والأغطية في الشمس، مَن يتقاعس فإنه يعاقب بالغرامة والضرب.
زاد تفقُّد المحتسب للأسواق، يصادر الأطعمة الفاسدة، أو المشكوك في صحتها، أو يقلب العربات بحمولتها، يعاقب الخاطئين بجزاء أفعالهم، حدث في البلاد شدة حصر، وغلاء في الأسعار، لم يَعُد الناس يجدون شيئًا يأكلونه.
قلَّت حركة السفن بين مواني الإسكندرية ومواني البحر المتوسط، أصدر الباشا أمرًا إلى حاكم الإسكندرية بإنشاء محجر صحي، وتنظيم الحجر الصحي على السفن الوافدة إلى الميناء، تخضع له السفن القادمة من بلاد مصابة بالطاعون، أو مشتبه في إصابتها به.
مع أن الوباء يَفِد إلى البلد من الشواطئ الشمالية المطلة على الجانب الآخر من البحر، فإن الباشا لزم — في أوقات كثيرة — قصر رأس التين بالإسكندرية، لا يلتقي إلا بالخواص، يدخلون مجلسه بعد أن يُعاينَهم الأطباء، لا يأذن الباشا حتى لقناصل الدول بالمثول بين يديه.
بالإضافة إلى لواذه بقصر رأس التين من خطر الوباء، فإنه — في روايات خواصه — يحب الإقامة في القصر، التسمية لأنه على هيئة شجرة التين، أو لأن حدائقه الواسعة، فيها الكثير من هذه الشجرة. المرايا الكبيرة على جنبات القاعة المربعة، الواسعة، والردهات الموصلة إلى الغرف، يكسوها السجاد الشيرازي، وثمة الأثاث التركي الطابع، بالإضافة إلى القليل من الأثاث الأوروبي المتناثر في الأركان، وعلى الحوائط، والأواني الخزفية، والطاولات الصغيرة المزينة بنقوش، والساعات ذات البندول المعدني الكبير.
خوفه من تسلُّل المرض دفعه لاتخاذِ كلِّ ما يكفل ردَّه عن حياته، يترك لطبيبه فحص جسده، وقياس الضغط، وفحص العنق والإبطين وما بين الفخذين، يطمئن إلى خلوِّه من المرض.
تعددت النوافذ المطلة على البحر، ينظر إلى الأفق والأمواج والأشرعة والطيور والصيد والعوم والغطس، والساحل الرملي وأشجار النخيل والحصون والقلاع والمآذن والقباب والشوارع الرملية المتعرجة والبيوت الطينية المكسوة بالجير الأبيض. الطاعون يأتي من الفئران والبشر، لكن هواء البحر يقضي عليه.
هو يفضل رأس التين، حتى لو لم يدخل الوباء البلاد.
ظل الخوف سادرًا، حتى نزل المحتسب إلى الأسواق، ينادي بالأمان، وفتح الأماكن المغلقة، والعودة إلى الأعمال والأسواق.
حلَّ لطفُ الله بجريان النيل، هدأت الأوضاع، وزرع الناس الأرض الشراقي، وزالت الغمة.
صوت
– الصوفية لا تعني التقاعس في العمل.
فاجأته كلمات المعلم حسين البراهمي، أذهله أن المعلم البراهمي يتكلم فيما يعتبره العلاف من أحواله الخاصة، عرف عنه أنه يدرك ما لا يعنيه من الأمور. لم يتصور أن الناس يعرفون من دواخله ما حرص على كتمه، هل أذاعت دخائل حياته، ما اعتبره سرًّا، أو أن الكلام أخذ واحدًا من مريديه أو صبيانه.
أردف البراهمي: يضعك الله في موضع الاختبار، فاحذر!
المعلم حسين البراهمي له وكالة في خان الحمزاوي، ملامحه المتجهمة تُخفي نفسًا طيبة. هو من أهل الخير والصلاح والفقه والدين، يعتصم في تدينه بالخفاء والستر. أخذ نفسه بالتعبد والمجاهدة والتصفية، حصَّل العلم على مجموعة طيبة من شيوخ عصره، حَفِظ القرآنَ كلَّه، والكثير من أحاديث الرسول، اقتنى الكثير من المصاحف والمخطوطات والكتب، ودرس فقه الأئمة الأربعة، وأصول الفقه في مختلف المذاهب. طالع من أقوال علماء السنة ما لا يُحصى، إلى جانب استشهاده بأقوال وأفعال الجنيد والبسطامي والجيلاني وابن الفارض وابن عربي والشاذلي والمرسي وابن عطاء الله. عرف طبقات الأولياء ومقاماتهم وأحوالهم وألقابهم. يشغله أداء الصلاة في مواعيدها عن أوضاع الحكم، ما إن كان الوالي يُعنى بأحوال الناس، أم يميل إلى الظلم.
لم يُصادر أحدًا في ماله، ولا استولى على تركات الموتى. سامح العديد من التجار الذين كان بينهم وبينه معاملات في ديون كانت له عندهم. أوقف الكثير من الأموال والحبوس على الجوامع والمساجد والزوايا، يعمل على إطعام الطعام، وتسبيل الماء، يغشى خلوات الزهاد والعُبَّاد والنساك، يتردَّد الوجهاء والأعيان على مجلسه، دون دعوة ولا موعد. تناقل الناس من سيرة الرجل، ما يرقى به إلى مصاف الأقطاب والأولياء.
ظل الحاج حيدر العلاف على إطراقه وصمته، عمل حسابًا لمكانة حسين البراهمي في أهل القاهرة.
لم يَعُد للحاج حيدر ناصر من الخلق. حتى نقيبه ربيع عبد الراضي اتَّهمه بأنه لم يَعُد من المتصوفة، استبدل بهم أرباب الملاهي والراقصات والنساء البطالات والخلابيص والحواة، وأكلة الحشيش.
تناثرت الحكايات بأن الحاج انشغل بشهواته، بالمرأة التي تسرق عمره، لم يَعُد صاحبَ الأمر في البيت، تُصِر على أن يلبِّيَ كل ما تطلب، تناقشه فيما يعود إليه من أموال. ترك لها كلَّ أموره، تُنفق بلا حساب، لم يشغله أنه قد لا يمتلك القدرة على تدبير الإنفاق، لم يشغله حتى انعكاس احتكارات الباشا في استيراد البضائع، وتصديرها، على قلة التعامل مع السوق.
ضاق بتصرفاتها ليلة، شكا أنها أبعدَته عن الطريقة، تُخرجه من الخلوة، تُقاطعه أثناء قراءة القرآن والأوراد. لامَها، ولامَ نفسه، أنها لا تردُّ على ندائه، ولا تعبأ بملاحظاته وتحذيراته، ولا تهتم بما يطلبه لنفسه منها.
نقلت هنومة شكوى ابنتها.
قال بلهجة مضمرة: لم أقصر في واجباتي كزوج.
قالت هنومة: احتفظ بما بين فخذَيك … تريد ما في سيالتك.
قيل إن ريحانة أعادت ما فعلته زوجة إبراهيم بك، صفعت الحاج حيدر بمروحة من الهند، أهداها لها. أهمل الغضب كما فعل إبراهيم بك، صدَّق قول ريحانة — في اعتذارها — إن الدعابة أملت عليها ما فعلت.
فطن إلى أن شيئًا تبدل في داخله، لم تَعُد صورة المرأة تُخايله، لم تَعُد ملامسته لبشرتها تسري فيه بنشوة يطمئن إليها، لم تَعُد المرأة تُثيره بغوايتها وغنجها. أزمع أن يحتميَ بما اعتاده الناس فيه من الهيبة والوقار.
اجترأ المريد بدر شمس الدين، فادَّعى — بالهمس — أن الباشا هو الذي دسَّ ريحانة على الحاج حيدر، أفسدَت نفسه، وأفسدَته على الطريقة.
كتب الجبرتي في تاريخه
«أرسل الباشا لجميع كشَّاف الوجه القبلي، بحجز جميع الغلال، والحجر عليها لطرفه، فلا يدعون أحدًا يبيع، ولا يشتري شيئًا منها، ولا يسافر بشيء منها في مركب مطلقًا، ثم طلبوا ما عند أهل البلاد من الغلال، حتى ما هو مدخر في دورهم للقوت، فأخذوه أيضًا، ثم زادوا في الأمر، حتى صاروا يكبسون الدور، ويأخذون ما يجدون من الغلال، قل أو كثر، ولا يدفعون له ثمنًا، بل يقولون لهم: نحسب لكم ثمنه من مال السنة القابلة، ويشحنون بذلك مراكب الباشا التي استجدها، وأعدَّها لنقل الغلال، ثم يسيرون بها إلى بحري، فتنقل إلى مراكب الإفرنج.»
من رسالة لمحمد علي إلى ابنه إبراهيم
«… فعلينا أن نُرغبهم فيها — الخدمة العسكرية — ويمكن تحقيق ذلك بتعيين بعض رجال الدين الذين يمكن أن يُقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسخرة، ونستطيع — في الوقت نفسه — أن نُذكِّرهم أن الفرنسيِّين، عندما كانوا في مصر، استطاعوا أن يُجندوا الأقباط للخدمة في جيشهم. فإذا كان هذا حال القبط، فلا شك أن حال المسلمين سيكون أفضل؛ فقلوبهم تمتلئ بالتقوى والغيرة على الدفاع عن الملة.»
صوت
وُلد في قولة التابعة لمقدونيا، هو البلد الذي شَهِد ولادةَ الإسكندر الأكبر، تصور أنه يمكن أن يحكم العالم، هدف حالَت بعوضة الملاريا دون أن يبلغها الإسكندر، ينطلق من مصر كما انطلق المقدوني القديم إلى بلاد الله، يستولي عليها، يخضع العالم لحكمه.
ليت فشل بونابرت في مصر أفاده في مراجعة أحلامه. هو يُعنى بإنشاء جيش قوي ليمنع السلطان من أن يعزله عن الولاية، يريد جيشًا لا ليحميَ البلاد، وإنما ليحميَ أطماعه، ما نراه قنوات تتجه إلى نهر الجيش، الهدف منها سدُّ احتياجات الجنود من السلاح والمؤن.
استولى الباشا على الكثير من الأوقاف، يستعين بريعها على خروج قواته، بنايات وغيطان وحمامات وطواحين ومراكب، لم يبقَ من المساجد والزوايا إلا ما يقوم بالشعائر فقط.
صار أمر البلاد كله في يده.
صوت
والي المديرية التركي رفض تجنيد الفلاحين المصريين. إذا وضعنا السلاح في يد الفلاح، فإننا نُسلمه الأداة التي يقتل بها سادة البلد.
قال السيد عمر مكرم: لا أتصور أن مواطنًا يفرُّ من الدفاع عن وطنه، المشكلة هي السؤال: أي وطن؟ هل هو وطنه، أو وطن الحاكم؟
وشَى صوتُه بعصبية واضحة: للباشا أحلامه التي تخصُّه، وتخص أولاده وأحفاده، ما يهم الناس هو الوطن الذي يخصهم، ويخص أولادهم وأحفادهم.
علا صوتُه بالعصبية: محمد علي يريد مجده الشخصي على جثث الغلابة، لا يحاربون دفاعًا عن مصر، إنما يحاربون في بلاد بعيدة، دفاعًا عن أحلام الباشا التوسعية.
من أوراق السيد عمر مكرم
رأيت في السكة الزراعية المفضية إلى الطريق العمومي مجموعاتٍ من الشبان، يُقيدون في رقابهم بالحبال، يسوقهم عساكر الوالي بالضرب الشديد، يُلاحقهم الأهالي بالصراخ والولولة والبكاء، يحاولون إعادة أبنائهم إلى القرى التي اقتيدوا منها، حتى شاطئ النهر، أو الترعة، ينزل العساكر بالشبان إلى المراكب المتجهة إلى القاهرة.
بدا لي الشيخ سلامة عبد الشكور عمدة كفر سعد طيِّبًا، ودودًا. أفزعتني مراجعته — في مجلسي — قوائم المطلوبين للتجنيد.
تبدَّلت نبرات صوته: لا تأخذ هذا فأبوه صديقنا، ولا هذا فعائلته لها مكانتها، ولا هذا فهو ابن مزارع في أرضي. خذ الباقين.
دفع لشيخ الخفراء بالقائمة، واعتدل في جلسته. واجهني بملامح مسترخية.
وأنا أغالب الاستياء: لماذا أولاد الفقراء؟
قال في لهجة يشوبها التملق: وظيفة لشبان يعانون البطالة.
– لعلهم ينفقون على أُسَرهم.
– مَن يدافع عن البلد؟!
تغيَّرت لهجته بما يُشبه العداء: لعمد الأرياف حقُّ اختيار قوائم المجندين.
أسلمت أذني وغضبي لما ذكره شيخ الخفراء بأن القبض على الشبان جرى بلا قرعة ولا نظام ولا ترتيب، لم يستثنِ إلا مَن كانوا بلا أهل، ولا مَن يدفع عنهم أذى العمد ومشايخ البلد.
تُثيرني الأمراض التي يزعمها أبناء الناس الميسورين.
هل خلا أبناء المعدمين من الأمراض؟
من منشور للوالي
«عرَّفوا كلًّا منهم أنه يجب ألَّا يُشوه نفسه، لأني سآخذ من عائلةِ كلِّ مَن يرتكب هذه الفعلة رجلًا بدلًا منه.»
صوت
أخذ الباشا على العُمَد ومشايخ القرى أنهم يُرسلون أنفارًا كثيرين، لا يوجد فيهم مَن يليق للعسكرية. استعدتُ ما قالَته لي مستكة بائعة الرصيف في شارع الغوري. لاحظت — في وقفة ابنها — ما رابها، نظرتُه ثابتة كأنه يتجه إلى شيء محدد، لم تطرف عيناه في اقترابها منه. حدسَت أنه لا يراها.
صرخت: ما جرى لعينيك؟
قال: استغنيت عنهما.
مَن آذاك؟
– لا أحد … أنا فقأتهما.
عاودَت الصراخ: لماذا؟ لماذا تُعمي نفسك؟
تعرف أن مَن يُتلف عينَيه بمخالفة الشرع والقانون، لا يحصل على راتب، ويُودَع السجن من ثلاث إلى ست سنوات.
وهو يُشيح بيده: لا أريد الجهادية.
– تعيش العمر ضريرًا حتى لا تدخل الجهادية؟!
– إذا كان البصر سيذهب بي إلى الجحيم فأنا لا أريده!
وهي تُمسد عينيه: ألم تشعر بالألم؟
– كيف لا أشعر؟
تنهَّد: لكن شعوري بالحرية أجمل!
– هل تسمِّي الفرار من الجيش حرية؟!
– أدخل الجيش لمحاربة أعدائي وليس لمحاربة مَن لا أعرفهم.
بذلت جهدًا لمدارة خوفها: كنت تُنفق عليَّ … لا أستطيع أن أُنفق عليك.
زادت محاولات الفرار من الجندية، يجبرون الشبان على تشويه الجسد وقطع الأطراف. ثمة مَن خلع السنة الأمامية فيصعب عليه نزع خرطوش البندقية لملئه بالبارود، وثمة مَن بتر سبابة يده للفرار من الجندية، لا يقوى على الضغط على الزناد، فيُعفى عنه، وضع سم فئران في العين، فيُصيبها الرمد، أو تعمى. عمد شبان من المسلمين إلى رسم صليب على سواعدهم، تخلصًا من الجهادية.
أمر الباشا بإجبار الفلاحين على حمل بطاقات مرور، ينتقل بها المرء — لقضاء مصلحة — من مكان إلى آخر، ثم يعود إلى قريته، مَن يُضبط دون بطاقة، أو يحمل بطاقة في غير المكان الذي يقصده، يواجه عقوبة الفار من العسكرية، ويعاقب — لإهماله — حاكم الخط، أو شيخ البلد.
مَن يُضبط عنده أفراد فارون من الخدمة، أعيدوا إلى ثكناتهم، إن لم يُلحقوا بأنفسهم أذًى، أو أدخلوا السجن مدى الحياة، في حالة إتلاف العين، أو الأسنان، أو بتر الإصبع. أما المتغاضي فهو يُتَّهم بمساعدة الفارين، يُضرب بالكرباج بقدر مَن أخفاهم، أو سكت عن هروبهم.
صوت
حصل للناس ما أقلقهم من قادم السنوات.
حظر على الفلاحين بيع محاصيلهم للتجار، تتسلمها الحكومة، تبيعها بالأثمان التي تُحددها. لأنه يحتاج إلى سداد رواتب العسكر، ولبناء أسطول جديد في البحر الأحمر، كذلك الإعداد لحملاته ضد الوهابيِّين، فقد استولى الباشا على جميع الأراضي الموقوفة بمصر، لم يُفلت منها إلا ما خشيَ أن تأتيَ بالشوشرة.
صارت أراضي البلاد كلها تُقطع للوالي، يُديرها على النحو الذي يُرضي مزاجه. عانى التجار والوجهاء وملاك الأراضي والمزارعون من المصادرات المالية.
تعددت مفردات الاحتكار: الحيازة الأثرية، الجفالك، الأبعاديات، العهد الأنجالية، الالتزام، الأرض البور الصالحة، الأرض البور الخالية، الأواسي ومفردها وسية، الرزق، مسموح المشايخ، الرمية، الأرض الخراجية، المفروج.
صوت
هل كان محمد علي يستطيع أن يصنع كل هذا، لولا سياسة السخرة؟
غالب صالح حزنه: كدنا نترحم على أيام المماليك.
أضاف في الحزن: كان يحكمنا عشرات الطغاة، صاروا طاغيةً واحدًا.
قال السيد عمر: إذا كان هذا هو ما انتهينا إليه … فلماذا الثورات المتلاحقة ضد الأتراك والمماليك والفرنسيِّين؟
سئم الناس ميلَه إلى السيطرة، وكتْم الحريات. ضجوا بالشكوى من سوء أفعاله، صادر الناس في أموالهم. أثقل عليهم بالضرائب والمغارم. حرَّض عساكره وأرصاده على الأخذ بالظنة والريبة، يدفع مَن يدسُّ في فراش الشيخ الذي يخاف خطره ثعبانًا، يلدغه بسمِّه، فيأخذ سرَّه معه. زادَت حالات الحبس بالظنة والتعذيب والضرب بالسياط وقطع الرءوس وذبح الأعناق والإعدام على الأبواب والأسبلة.
للمحتسب وظيفته، فهو يُلمُّ بأحوال السوق، ويفحص المكاييل والموازين والمقاييس، وعمليات البيع والشراء، يراقب الأسعار، والسلع التموينية، وأشغال الحرفيِّين، وصيد البحر والنهر، والتحقق من عدم فسادها، معظم دوره في أوقات الشدة والغلاء وانتشار الأوبئة.
يمنع الغش في السلع، يضبط المخالفين للالتزام بالأسعار، يُنزل العقاب بمن دان ضميره لجشعه، يتأكد من خلو المأكولات مما يسيء إلى صحة الشارين.
يستدعي إلى بيته شيوخ طوائف الباعة، تجار الحبوب والعطارين والنقلية والزياتين والدخاخنية والخردجية والصرافين، يدرسون أوضاع السوق، تحديد أسعار المزروعات والمنتجات الغذائية بعامة، والسلع المصنعة. يحرص على الكلمة السواء، يُذيع ما توصلوا إليه بنفسه، أو يكلف المنادي بإعلانها في الأسواق.
يكلف المنادي بإعلان الأوامر حول أسعار السلع، التأهب لمواجهة الغزو الأجنبي، الاحتفال بمناسبة دينية أو شعبية، سفر الباشا إلى الحج، أو عودته منه، الدعوة إلى حفلات ختان، أو عقد قران، أو زفاف.
يدعو التجار والسكان إلى كنس الشوارع والأسواق، وإزالة الأتربة، ورشها بالمياه، ويأمر بترميم البنايات القديمة، وإعادة طلائها.
يغادر المحتسب بيته في الغورية، يرتدي خِلْعته السوداء، يضع على رأسه عمامةً بُنيَّة من الكشمير، موشَّاة بخيوط مذهَّبة، يعتلي جواده، يُحيط به موظفوه، يلبُّون أوامره، ينفذونها، ربما انضمَّ إلى موكبه عددٌ من أرباب الحِرَف والصنائع، يصنعون — بجيادهم — دائرةً حوله، يُظهرون التأييد لما يصدر من أوامر. يُمضي خطواتٍ إلى دكة المحتسب في الشارع نفسه.
إذا سار في الأسواق، أحاط به عددٌ كبير من الموظفين والخدم، بأيديهم الكرابيج والعصِي لتنفيذ العقوبات التي يقضي بها المحتسب على المخالفين.
مال — بثبات عمله — إلى الخروج عن النزاهة. ظل — لسنوات — يجمع المال والمغارم من التجار والفلاحين وأصحاب الصناعات، يختبر الأطباء بتعدُّد اختصاصاتهم، ويناقش القضاة في أسباب الأحكام، ثم حول وظيفته من الحسبة إلى الجباية، صار جابيًا للأموال، يغتصب ما ليس من حقِّ الوالي، ولا كبار خواصه ومعاونيه.
أغلق الكثير من دكاكين الوراقين والنساخين وباعة الكتب، أخذ عليهم ما ترفضه الشريعة والأخلاق، كأنه بلا همٍّ سوى جمع المال للباشا، صادر ما يمتلكه الفلاحون والفقراء، عانى الفلاحون الكثيرَ من مغارمه ومظالمه، يتعرَّف إلى أثمان الزروع منذ تُغرس نبتةً في الأرض، حتى تطرح ثمارًا، يراقب التسعير الجبري، يقرر العقوبات على مَن يبيع بأزيد من الثمن المقبول، ومن يطفف الكيل والميزان، ربما حمل تابعه ميزانًا يغني عن ميزان التاجر، إن وجد نقصًا في البضاعة المشتراة عاقب التجار بتهمة الغش، اتخذ لذلك عقوبات شنيعة، منها الضرب بالعكاز على البائع المخالف حتى يلفظ أنفاسه، إطعام الجزار الغشاش قِطعًا من اللحم الفاسد، الإجلاس على صواني الحلوى الساخنة، الضرب بالكرباج على الظهر، وبالعصا على باطن القدم، قد يتواصل الضرب حتى يلفظ التاجر أنفاسه، ربما أمر بسَمْل العينين، جدْع الأنف، أو ثقبِه، قطع اليد، أو الأذن، أو اللسان، أو الرسغ، أو القدم، حلق نصف الشارب، ونصف الذقن، تعليق البضاعة الفاسدة في أنف البائع، تجريس المخالف بالسير — في الشوارع — مقلوبًا على حمار، وضربه مقارع، وخزمه في كتفه وأنفه، قطع اللسان لشهادة الزور.
أصدر حكمًا بأن يخوزق بائع الخضار حسنين المتبولي بطريقة شك الباذنجان، أي يخوزق من ضلعه حتى يعظم الألم.
لأن بدر عبد الجابر الفطايري بناحية العقادين باع الكنافة بسعر أعلى من المحدد، فقد أمر بإجلاسه على صينية ساخنة.
ضبط أبو وردة صانع السنبوسك، صنع طعامه بذبح كلب أسود سمين، وسلخه، ضربه المحتسب بالمقارع، وأشهره في شوارع القاهرة، والكلب معلَّق في رقبته، ثم أودعه سجن المقشرة.
خزم أنف حسنين الإبياري الفران بناحية التربيعة، لبيعه خبزًا ناقص الوزن، علق فيه الرغيف الناقص.
أمر بكشف رأس تاجر السجاد زين أبو علم، وضربه بالنعال، التمَّ الحرافيش حول التاجر، انهالوا بنعالهم على ما بلغَته أيديهم، لم تأخذهم رحمة ولا شفقة، حتى سكن صراخه، فتركوه بظنِّ موته. مَن غشَّ، أو سرق، أو ارتكب فاحشة، أمر بشنقه، وتعليقه على باب زويلة.
كثر تعليق الرءوس المقطوعة على باب زويلة.
من أوراق السيد عمر مكرم
سقط الباشا من عيني، صار قلبي فارغًا منه، كأني لم أعرفه، لكنه يُصِر أن يطاردني بملاحقاته وبصاصينه، كأنَّ أشباحًا تُلاحقني، تحيط بي.
صوت
لم يتحقق العدل، ولا قامت الشرائع. كأنه وجد أرض مصر بلا مُلَّاك، فاستولى عليها، جعل في حوزته ما يصعب حصره من البنايات والأراضي والإقطاعيات. استحل أموال الشيخ سعود أبو ليلة، أعطاها لعساكره. لا يستطيع حكام الأقاليم أن يُقرروا أمرًا، ولا يصنعوا شيئًا، ما لم يردُّوا الأمر إليه، ويحصلوا على موافقته.
لأن الشيخ مفلح العقدة أعلن معارضته من فوق منبر جامع البرقوقية بشارع النحاسين، أمر الباشا عساكره، سحبوا الشيخ إلى زنزانة أسفل القلعة، سدُّوا بابها عليه.
أنكر عربي السبكي تاجر العطارة بالحمزاوي همساته وتحريضاته ضد الباشا في المجالس والأسواق. دعاه الشيخ سباعي زاهر إلى مجلس شراب، تعالَت الموسيقى والأغنيات، وكلمات المنادمة والأُنس، لعبَت الخمر برأسه، فباح بما ألقاه في السجن.
دسَّ لمعارضيه مَن يقتلهم بالسم، أو يترصد لهم بالسلاح، في قبو، أو حارة مظلمة.
تحوَّلت الأسبلة إلى مواضع لتعليق المقتولين بالشنق، أو بالرصاص، يظل الجسد معلقًا حتى يتعفن، أو تنهشه الطيور.
صوت
حرص الباشا على إظهار المودة للعلماء والفقهاء وشيوخ الصوفية، عمل على استمالتهم، يفتعل الثبات والمباسطة وطلاقة الوجه. يأذن أن يصعدوا إليه، يجالسهم، يبشُّ في وجوههم، يُنصت إلى مطالبهم، يُظهر الموافقة على ما يُعلنون من آراء. لا يُحوج قاصده إلى عرض الحال والسؤال، يُغدق عليه الأموال والهدايا، وما يفيض عن حاجته من النقود والملابس والطعام.
صار له كتبة يتحدثون عن التقدم والثراء، ويتناسَون القهر، لجأ إلى الرواة لمشايعته بين الناس في المساجد والأسواق، ينسبون إليه ما يعظم صورته في الأعين، ألَّفوا أحاديثَ وأقوالًا نسبوها إلى الرسول والصحابة والتابعين، تُزكي استحواذ الحاكم على الأرض والفيء، بدعوى إشرافه على بيت المال، يُديره لصالح الناس باختلاف أوضاعهم في البلد.
الهمجية لا تحمي التقدم!
من أوراق السيد عمر مكرم
لماذا أمر الوالي بمنع إقامة المشربيات؟ لماذا أحلَّ الزجاج في مواضعها؟ لا أجد في المشربية شيئًا قبيحًا بحيث تستبدل بها النوافذ الزجاجية. المشربية تُناسب الأجواء المصرية، أما نوافذ الزجاج فأولى بها عمارة الفرنجة.
قال المعلم حنفي الأسمر: يريد أن ينسى الناس القديم وما توارثوه.
قال صالح: ظني أنه فعل ذلك ليسهل على الشرطة مراقبة ما يحدث داخل البيوت.
أبلغني حنفي الأسمر أن الباشا تزوج في الإسكندرية أرملةَ الباشا السابق لولاية درنة، والابنة الكبرى لأحمد باشا وادي طرابلس السابق، قيل إنه يتطلع إلى ولايتَي برقة وطرابلس، والجزائر فيما بعد.
صوت
أمر الباشا، فأُحصيَت الأراضي الموقوفة على الأزهر، جميع الرزق والأحباس المرصدة على المساجد والخيرات، الكائنة بمصر والصعيد، وأوقاف سلاطين مصر المتقدمين وخيراتهم ومساجدهم ومكاتبهم، وفُرضت عليهم الأموال الباهظة، لا تصرف الحكومة سوى نفقات الترميم الضرورية. ألغى الوالي مسموح المشايخ والفقهاء وكافة الأراضي المعفاة من الضرائب.
احتج المشايخ على أوامر الباشا، لملموا الجرأة فحدَّثوه في خطورة أفعاله، أظهروا استياءهم لفرض الضرائب على أموال الأزهر والمشايخ: حجة العلماء أن وقف سلطان مصر الحاكم بأمر الله — منذ مئات السنين — للإنفاق على جامع الأزهر، هو الذي أتاح له مكانته في بلاد الإسلام، توفرت له الإمكانيات، وتنوَّعت العلوم التي يُلقيها الأساتذة والعلماء، ووفد إليه الطلاب من كل الأقطار.
ما عمَّق من استياء المشايخ أن الباشا وضع يده على جميع الأراضي الزراعية التي كانت موقوفة على المساجد، أفقد الأزهر معظم أملاكه، هدد الدراسة فيه، قلَّ عددُ الطلبة الذين ينتمون إلى الأروقة، قلَّت كذلك فرص قبول الوافدين من بلاد المسلمين، عمق من ثورة المشايخ أن الكثير من أموال الأزهر وأوقافه، هي هبات وصدقات من أرباب الأموال للجامع، لم تدفع الحكومة ما يدفعها إلى استعادته من أموال وذهب وفضة وإعانات جراية.
من أوراق السيد عمر مكرم
ماتت السيدة نفيسة المرادية.
أبلغني الخبرَ مريدون قَدِموا من القاهرة. لم تكن مجردَ زوج للملوك مراد بك، فرضَت نفسها على الأحداث السياسية، خالفت مراد في الكثير من مواقفه، وناصرت أهل البلد، ربما أورثها علي بك الكبير — زوجها قبل مراد — حبَّه لمصر، لم تكن من أبناء العرب، ولم يكن مصريًّا كذلك، لكن الطبع المصري غلب عليهما. إلى جانب رعايتها لأُسَر المماليك الذين استأصلَتهم مذبحة القلعة، فقد رعَت نساء وفتيات من أحياء القاهرة. لم تُفرِّق بين أغنياء وفقراء.
الدافع الإنساني هو الذي أملى عليها تصرُّفها. عانت ما لم يُعانِه الرجال من محمد علي، صادر كلَّ ما تملكه، وعاشَت في الفقر، لم يأذن الوالي أن يُنقذها منه أحد، حتى رحلت عن الدنيا.
صوت
ما سعى إليه المشايخ بين السيد عمر أفندي والباشا يقلُّ تأثيره في نفس الباشا عن تأثير أفعال السيد عمر للوقوف إلى جنب الباشا ومناصرته، قضى على مؤامرات أمراء المماليك لإسقاط محمد علي، رفض الفرمان السلطاني بنقل محمد علي إلى سالونيك، قاد الناس في رد جيش الإنجليز من رشيد.
لم يصبح محمد علي شيئًا في الحياة المصرية، إلا بعد أن رقَّاه خسرو باشا إلى رتبة بمباشي، مهَّد لحكمه بتحريض المماليك على الإطاحة بخسرو باشا، ثم دبَّر للمماليك مذبحةً قضَت عليهم، تحوَّل بعدها إلى عمر مكرم الذي دعا المصريين إلى توليته. اختار مصارعة العبيد — كما في روما القديمة — سبيلًا كي تخلصَ له البلاد في النهاية، دون أن يضعَ نفسه في موضع الخطر.
كتب الجبرتي في تاريخه
«عمل الباشا بمصر أماكنَ ومصانعَ لنسج القطاني التي يتخذها الناس في ملابسهم من القطن والحرير، وكذلك الجنفس والصندل، واحتكر ذلك بأجمعه، وأبطل دواليب الصناع لذلك ومعلميهم، وأقامهم يشتغلون وينسجون في المناسج التي أحدثها بالأجرة، وأبطل مكاسبهم أيضًا، وطرائقهم التي كانوا عليها، فيأخذ من ذلك ما يحتاجه في البلكات والكساوي، وما زاد يرميه على التجار، وهم يبيعونه على الناس بأغلى ثمن.»
صوت
بدا عمر مكرم آخر، مختلفًا عن الشيخ الذي قاد المصريين في ثورات ضد ظلم المماليك، واحتلال الفرنسيِّين.
هل هو التقدم في السن؟ أو الخشية على البلاد من قسوة الوالي؟ أو أنه اعتبر مذبحة القلعة مثلًا لما قد يواجه المصريين إن خرجوا إلى الثورة؟ أو لعله خبر المشاعر كلها، لم تَعُد تؤثر فيه مظاهر عداء، ولا مؤامرات.
يتلفت حوله، فيعاني شعور الوحدة. حتى مَن تآمروا ضده، وعملوا على تشويه صورته أمام الناس، وأفسدوا علاقته بالوالي، يستعيد أيامهم بالحنين: السادات، المهدي، الدواخلي، الفيومي، البكري، الشرقاوي، سباعي زاهر. ظهرت في سِنِي النفي وجوهٌ جديدة من العلماء، لا يعرف ظروف نشأتهم، ولا كيف تأكدت مكانتهم في الأزهر وخارجه. لم يملأ عينه من المتصدين لقضايا الفقه — في دمياط — إلا عددٌ قليل جدًّا من علماء الأزهر، آثروا الإقامة في موطنهم.
حين تشتدُّ الأمور من حوله، يستقبل القبلة، يدفع الخواطر، يتوجه إلى الله بأوراد، تُطيل استغفار الله، وتطلب قبول التوبة.
قال صالح: هل تذكرت ما يدعو إلى الابتسام؟
وهو يهزُّ رأسه: استعدت قول الحاج حيدر العلاف: الكمال لله … إخفاق البالون كشف الفرنسيِّين. حدثني عن إطلاق الفرنسيِّين بالونًا من ميدان الأزبكية، أرادوا أن يظلَّ أهل البلد مبهورين، لكن البالون لم يتحرك من موضعه! سخر الناس من تفسير اختفاء البالون بأنه انطلق في الصحراء، للاتصال بنبي الإسلام العظيم.
من أوراق السيد عمر مكرم
أخطر الأشياء أن نعيش في الوهم دون أن ندرك.
خرجتُ من صحبة الباشا، ونُفيت إلى دمياط، وأنا مستور، لا أشكو حاجة، ولا أمدُّ يدي بالسؤال.
إذا أراد المرء الشكوى، فإنه يقدِّم شكواه إلى الحاكم، فإذا ظلمه الحاكم رفع الشكوى إلى الله، وهذا ما فعلته!
أعرف أن الشيخ الجبرتي وجد فيما أعانيه عقابًا سماويًّا لأني سعيت إلى تولية ظالم، ما تصورته دفاعًا من محمد علي عن الناس ضد ظلم المماليك هو الذي دفعني إلى تزكية ولايته.
أيقنت أن المظهر الهادئ وملامح الطيبة في وجهه، واجهةٌ لما يحاول مداراته من مشاعر الخسة والعنف.
هذا رجل يعنيه الهدف، لا صلة لذلك بأي شيء، لا تستوقفه وسائل التخلص من الآخرين، حتى لو كانت البتر، طلب ترجمة كتاب «الأمير» للإيطالي مكيافيلي، بعد أن لقيت الفكرة في نفسه هوًى.
هو شيطان في صورة آدمي، قد يتنكر الشيطان في هيئة الملائكة، لكنه سيظل شيطانًا!
إذا كنت قد أخطأت، فلعلي أعالج خطئي.
ثُرْنا على الغازي بونابرت حتى أخرجناه من بلادنا …
هل نعجز عن الفعل نفسه مع محمد علي؟
كتب الجبرتي في تاريخه
«واستمر التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق، بحيث إن الزارعين له، التعبانين فيه، لا يُمكَّنون من أخذ حبة منه، فيُؤخذ بأجمعه لطرف الباشا، بما يُقدِّره من الثمن، ثم يخدم، ويضرب، ويبيض، في المداوير والمدقات والمناشر، بأجرة العمال على طرفه، ثم يباع بالثمن المفروض.»
من أوراق السيد عمر مكرم
أما ما بلغني من وشايات المشايخ فإن البحر لا تكدره بصقةُ حاقد.
أحزنتني وقيعة المشايخ بالشيخ الدواخلي، أوغروا صدر الوالي عليه، فأمر بنفيه إلى دسوق، شاركوا الدواخلي تدبيراتهم ضدي عند الوالي، أخذ جزاء الواشي والخائن.
هم شيوخ الوقت كما وصفهم صديقنا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، زالت هيبتهم من النفوس، فلم يبقَ لهم من هيبة ولا وقار.
الثورة ليست هدفًا في ذاته، والمقاومة ليست مقصورةً على رفع السلاح، حرصي على متابعة الأحوال ربما أتاح لي تقويم المائل بتحريك وعي الناس، تبصيرهم بما يجب تغييره.
إذا كان إبعادي عن المحروسة سيحقق للبلاد النهضة التي أتمناها لها، فإني أرحب بالإبعاد، لا يهمني إلى أين.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية.»
من أوراق السيد عمر مكرم
انتقلت من بيت إلى آخر يُطل على البحر، أرنو إلى الأفق والمراكب والصواري والقلوع والرمال والصخور والطيور المحلقة.
الحراس على باب بيتي لمنع اختلاطي بالناس، لا لرغبة مني، وإنما لأوامر الباشا. يقتصر جلسائي على حفيدي صالح، والقلة من تجار دمياط وأعيانها، معنى النفي يُثير مخاوف الكثيرين، فيمتنعون عن زيارتي.
روى لي صالح ما جرى من الباشا، عقب أمره بنفيي إلى دمياط. بعث إليه برسول حمَّله كلماتِ ترضية ومواساة.
بدا كأنه يغالب البكاء: خاب ظني في أن يعدل الباشا عن أمر النفي.
لم يكن يعلم أن النفي خطوة متممة لإزالة المماليك، سابقة لإتمام استقراره في حكم مصر.
لاحظ صالح في نظراتي ما استرعاه، قال في لهجة محرضة: ليتنا نركب سفينة إلى بلاد الشام.
تصورت أنه أعدَّ نفسه لإقامة دائمة. رفض أن يقصر وقته على ملازمتي، شجعتُه على إدارة خان ينزل فيه التجار القادمون إلى دمياط من داخل البلاد وخارجها، به مخازن للبضائع المعدَّة لنقلها إلى الوكائل والحواصل وتجار التجزئة. بناية كبيرة، مربعة، من طابقَين، بابها الخارجي مدخلٌ إلى بهوٍ فسيح، ساحة، جزؤها الأول بلا سقف، يتصل بجزء سقفه من الخشب والرخام الملون. في الطابق الأرضي محالٌّ وحواصلُ ومخازن، في الطابق العلوي حجراتٌ لسكنَى المترددين على الخان، يقصده الوافدون إلى المدينة عن طريق البحر، أو من القاهرة ومدن الأقاليم.
حثثتُه على تخصيص جزء من ريع الخان لفقراء المدينة، كبرُ عددِهم يناقض حال الرواج الذي تعيشه المدينة.
غالبت التأثر: أنا هنا منفيٌّ داخل الوطن، لا يبعدني البحر!
البحر!
عقب عودتي — في المرة الأولى — من فلسطين، رافقت المعلم حجاج الخضري إلى الإسكندرية.
بها الكثير من الطوابي والقلاع والحصون والأبراج. قوام سكانها من أهل البلد والأتراك والمغاربة والشوام والأروام واليهود والأوروبيِّين، عملُ الكثيرين الصيد، أو تجارة الشط.
أشار الخضري — من وقفتنا على شاطئ أبو قير — إلى ما قال إنه بقايا المعارك البحرية بين الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، هياكل السفن الغارقة، القلاع، الصواري، المجاديف المتكسرة، قِطَع الأثاث، الأخشاب الطافية …
أعرف أن حركاتي وسكناتي يراقبها جواسيس الباشا، أشعر بملاحقتهم، يلاحظون كلَّ شيء، مَن ألتقيهم، مواعيد خروجي من البيت، المجالس التي أُفضلها، المساجد التي أتردَّد عليها، يرقبون الأقوال والتصرفات والإيماءات والإشارات، لا تفوتهم شاردة، قد يكونون من زوَّاري، يتظاهرون بطلب الموعظة والنصيحة والمؤانسة، لا أعرف مَن هم، وإن كنت أعرف مَن دفع بهم خلفي.
أزمعت ألَّا تجد أحاديث السياسة موضعًا في المناقشات، أقصر كلماتي على أمور الدين، أو أتظاهر بعدم المتابعة، أو أصمت.
من تقرير للمؤرخ الفرنسي مانجان Mengin
«إذا صح أنه لا توجد في العالم بلاد أغنى من مصر من الوجهة الزراعية، فليس ثمة بلاد أخرى أتعس منها سكانًا، وإذا بقي العدد الذي بها من السكان سنة ١٨٢٢م (حوالي ٢٫٥ نسمة) فالفضل في ذلك يعود إلى خصوبة أرضها، وقناعة فلاحيها.»
صوت
هل محمد علي طاغية بطبيعته، أو أن الظروف تدفعه لارتكاب جرائمه؟! عاب السيد عمر على الوالي أنه ينظر إلى الناس بعين العداء. العدل في الحكم تنفيه القسوة في التعامل. هدَّد بالوبال مَن يخالف الأوامر، أو يمتنع عن تنفيذها. مَن لم يرتدع يُضرَب بالنبوت. أذن لعمَّاله بضرب المشايخ الذين يتكاسلون في تحصيل الأموال، من خمسة إلى مائة كرباج.
كتب الجبرتي في تاريخه
«في أول محرم وما قبله، حصل بالأرياف، بل وبداخل المدن، انزعاجات وكرشات، وأغلق الناس أبواب الدور والدروب، وحصل منع الناس من السير والمشي بالأزقة من بعد غروب الشمس، سار كتخدا بك وأغا البديل والوالي يطوفون ليلًا بالمدينة، وكل مَن صادفوه قبضوا عليه، وحبسوه، ولو كان ممن اشتبه فيه، واستمر هذا الحال إلى آخر الشهر، ولم يكن من مناص أن يُوليَ الباشا هؤلاء السُّراق بالغ اهتمامه، فبذل جهودًا جبارة لقطع دابرهم، ووضْع حدٍّ لجرائمهم.»
من أوراق السيد عمر مكرم
لكي يرعى موظفو الباشا مسئولياتهم، فيمنعون أهل القرى من إخفاء تسحبهم، أو إحداث تلفيات في أجسادهم، أمر بخفض رُتَب الكثيرين، أو عزلهم، أو ضربهم بالكرباج، أو فقء أعينهم، أو إعدامهم صلبًا. شملت العقوبات المديرين والمشايخ وحكام الأخطاط ونُظَّار الأقسام ونُظَّار الجفالك والأبعاديات.
رحل الآلاف من أهل القرى إلى القاهرة، فرارًا من تجاوزات الملزمين والمشايخ. قبض العساكر على سلامة عبد الشكور عمدة كفر سعد بتهمة إخفاء أنفار الجهادية. صارت الأراضي من حولي ملكًا لمشايخ القرى، فرَّ أصحابها، فاستولوا عليها.
تناقصت الرعية من كثرة الظلم.
صوت
تصدر المعلم حجاج الخضري للمحتسب مصطفى أغا كرد، حين أراد دفع النصارى الشوام والأرمن إلى ترك دُورهم المطلة على النيل، وإجبارهم على ارتداء ما كانوا نسوه من زيٍّ خاص، تعلوه عمامة زرقاء، وعدم ركوب الجياد والبغال، ومنع استخدام خدم من ملة الإسلام.
رفع الخضري عريضةَ شكوى إلى الباشا. أضاف المحتسب مصطفى أغا كرد إلى وظيفته ما لم يُكلفه به الوالي، فرض حمايته على تجار في الغورية وخان الخليلي والصنادقية والصاغة، يخصم فردة من النقود التي يتقاضونها، ربما عقد الاتفاقات بأسمائهم.
أضاف إلى ضرر الوظيفة إسناد مسئوليتها إلى شرار أعوانه، ممن أسقطوا الاعتبارات، وجعلوا الثراء هدفًا وحيدًا، هدموا الدور، نهبوا الأموال، قتلوا الناس، أو دسوهم في السجون.
استقبل الوالي شكوى الخضري بالفهم والاستجابة، وأمر المحتسب أن يلزم حدود وظيفته.
صوت
أنت لا تستطيع أن تنفخ في الرماد الساكن، فيُصبح نارًا، ما تحت الرماد من نيران، أطفأَته مئات السنين من القهر والظلم.
بثَّ محمد علي الأرصاد في جوامع القاهرة ومقاهيها وأسواقها وميادينها، يراقبون الأوضاع، يسجلون ما يرَون، يرفعون إلى مقام الباشا ما يبدو غريبًا، وغيرَ مألوف. لاحقَ خصومَه في كل مكان، داخل المحروسة وخارجها. يُحصي الحركاتِ والسكنات، يكتم الأنفاس.
تعددت عمليات القتل والاعتقال والتعذيب وسفك الدماء، واستباحة الأموال، وأوامر الإقامة الجبرية والإبعاد، كسح المفسدين، أزال أهل الشر، أمر بالشنق، التوسيط، الخوزقة، التكليب، تقطيع الأيدي والأرجل، جدع الأنوف، سمل الأعين، نتف شعر الجسد بالكماشة، والتعليق — في هيئة المصلوب — على الجدران، الضرب بالسوط، الكي بالنار، الإلقاء في النهر، الدفن أحياء، فصل الرءوس عن الأجساد، الإجلاس فوق خازوق، النزف ببطء — داخل الزنازين — حتى الموت. ابتدع أتباعُه أساليبَ جديدةً للعقاب.
تناقل الناس أقوالًا عنه: إني أحكم شعبًا أظهر صفاته الكسل والجهل وسوء النية، إذا لم أحمله على العمل ظل عاطلًا. للمصريين تاريخُهم الطويل في الرضا بالعبودية. نحن نعرف أن الشعب المصري يعجز عن إدارة شئونه بنفسه، هو أميل إلى الخضوع والطاعة وتقبُّل الإملاءات. يجب أن نقود هذا الشعب كما يُقاد الأطفال؛ لأننا لو تركناه وشأنه سيعود إلى حالة الفوضى. مصر تبدو لي دائمًا مثلَ طفلٍ عارٍ، لا يجد مَن يساعده، ويمدُّ له يد العون، طفل ظل قرونًا غافلًا ونائمًا، يجب عليَّ — بمفردي — أن أقوم حياله بدور الأب والأم والسيد والخادم والقاضي. لقد أُرغمت — دومًا — على استخدام العنف مع الشعب من أجل صالحه، ومن أجل دفعه نحو العمل لصالحه. هذا شعب طيب، لكنه يحتاج إلى القسوة ليظل على طيبته. إن المصريين لا يصلحون إلا لحمل الأثقال وسوق الحمير.
قال السيد عمر: لا أدعي الغضب من محمد علي، فهذه أفكاره، ربما استقر في يقينه أن رعيته لا يستحقونه. غضبي من الشيخ المهدي الذي نقل عنه هذه الأفكار بالعربية.
قال مغاوري تليمة: مما يحسب للباشا أنه حزم المماليك، وأفناهم، تلاشَت مظالمهم من حياة المصريين.
قال صالح: هو مستبدٌّ بالأمر منذ مذبحة المماليك في القلعة.
اغتصب ابتسامة متوترة: كنَّا نتمنَّى زوالهم، لكنه فعل ذلك ليحلَّ محلَّهم.
قال مغاوري تليمة: كما أرى، فإنه القوة المسيطرة الوحيدة.
أمَّن صالح بهزِّ الرأس: حتى خادمه بوغوص مجرد ترجمان.
قال مغاوري تليمة: إنه كاتمُ سرِّ الباشا أو وزيره، رجله للمهام الصعبة.
همس السيد عمر بالسؤال: ألم يأمر بإعدامه من قبل؟
افترَّت شفتَا مغاوري تليمة عن ابتسامة حزينة: تبدَّلت الأمور، هو الآن أقرب معاوني الباشا.
صوت
أخذ السيد عمر الخطأ على مَن ينزعون المسئولية عن الوالي فيما يرتكبه أعوانه وموظفوه. ترك مسئولية القضاء للشيخ أبو العينين الديب، لا يعرف أحدٌ أصلَه ولا فصله، وإن اشتهر بأنه لا يُنصف مظلومًا من ظالمه، ولا يثبت في أحكامه بما يساوي بين الناس. يعاقب بالتعزيز أو الزجر أمام الناس، أو النفي، أو مصادرة المال، أو الحبس، أو الجلد، أو الضرب بالكسارات، أو العصر بالعصارات في الصدغين والكعبين وإحراق الأصابع بالنار.
لما استنكر الشيخ عثمان هارون واعظ زاوية سيدي فارس بناحية طولون أفعال الجند ضد التجار والباعة وعوام الناس، أمر بكشف رأس الرجل، وضربه بالنعال. ثم أمر بإعدامه، وتعليق جثته جزاء خيانته، وسوء أفعاله.
صوت
تبدَّل الحال، لم يَعُد في استطاعة العلماء أن يُجلسوا واليًا على كرسيِّ القلعة، أو يعزلوا عن الكرسيِّ مَن لاحظوا فيه أشياء، أو تغيَّرت نفوسهم عليه. لا أحد من المشايخ ينهاه عن أوامره الظالمة، أكثر من إهانتهم، وحط أقدارهم، طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد. كثرت شكاوى الناس من طغيان جنده، وتجاوزهم الحدود.
صارت القاهرة — في عهده — مقهورة!
صوت
عرف حجاج الخضري ما سبق إليه السيد عمر مكرم.
لم تكن معاملة الباشا الطيبة للعلماء والوجهاء وزعماء الناس، وتطميناته، إلا واجهة تُخفي وراءها الغدر، أيام قليلة تولَّى فيها حكم البلاد، ثم أظهر نياته، رفض النصيحة، أسكت الأصوات المعارضة، حتى مَن ظنوا في أنفسهم قربًا من الحاكم.
لم يَسْلم موظفوه من الإلقاء في النهر، والدفن أحياء، وقطع الرءوس، والإجلاس فوق خازوق، والضرب بالسياط، ونتف شعر اللِّحَى.
أمر بقتل القاضي أبو العزم الطيواني لأنه لا يُنصف مظلومًا من ظالمه، ولا يثبت في أحكامه بما يساوي بين الناس، قيده المشاعلي من تحت إبطَيه في مؤخرة عربة، جرى الحصان بضربات الكرباج على الأرض الترابية، حتى توقَّفت صرخات القاضي تمامًا.
اتهم غازي السعيد الصيرفي بشارع القصبة والي القلعة بظلم البلاد والعباد، عرف عنه حرصه على التزام الحدود، لا يتجاوزها إلى ما لا يعنيه من أمور الحكم، أو يُعرِّضه للمساءلة. أمر قائد العسكر بكشف رأسه، وضربه بالنعال. ثم أمر بإعدامه، وتعليق جثته جزاء خيانته — كما ادَّعى قائد العسكر — وسوء أفعاله.
غدر بهاشم أبو خليل تاجر الزيت والطحين بالعقادين، بعد أن أعطاه الأمان، أنزل الجند به ما لا يحتمله بشر من العذاب والهوان، قطعوا لسانه، فقئوا عينَيه، أوثقوا كتفَيه من أعلى صدره، أحاطوا بالوثاق جوادًا، دفعوه للجري بآخر ما عنده، تحوَّل أبو خليل — في مسافة الطريق — إلى أشلاء ممزقة.
بلغه خروج قبيلة النخيلي بناحية الفيوم عن طاعة الوالي، هاجم العسكر مضاربهم بالمقارع والكسارات، غادروا المضارب بعد أن قيدوا أيدي الرجال خلف الظهور، يَصِل بينها حبل غليظ، مقوده في يد عسكري.
أغلق العديد من الجوامع، ومنع منها الخطبة.
قال حجاج الخضري: ضم الباشا أهل البلد إلى احتكاراته!
تُحزنه نداءات الباعة في الأسواق: ملوخية الباشا … كرنب الباشا … فجل الباشا.
هل نسي بائع الدخان أنه صار حاكمًا؟ هل اختلط عليه، فزاد على تجارته بيع الخضار والفاكهة؟
تبدَّلت ظروف تجارته، لم يَعُد يجلب البضائع من زراعاته، ولا من زراعات ملاك الأراضي في القاهرة وما حولها، ألزمته المصادرة أن يقصر تعامله مع رجال الباشا، يدفع المقابل لما يحصل عليه.
تبدَّلت ملامحه: نحن أقدر على حكم أنفسنا، وتنظيم أمورنا، دون حاكم لا يعرف لغة البلاد.
تباطأت الكلمات على شفتَيه: أجبرنا الفرنسيِّين على الرحيل، نستطيع الفعل نفسه مع الولاة الأتراك.
وطوح جانب يده في الفراغ: من واجبنا أن نخلع الوالي ونأتي بغيره.
حين كبس عسكر الباشا — في غبشة الليل — بيته، عرف أن غضب الباشا على السيد عمر مكرم قد امتد إليه.
هل ينفيه؟
عانى في الحبس ما لم يتوقعه: أودعوه زنزانةً عالية الجدران، بلا نوافذ، الظلمة تلفُّ المكان، عدا ضوء شاحب من شراعة الباب الحديدي، يُلغي الإحساس بالزمن. أطالوا وقوفه على قدم واحدة، تلقَّى ما لم يستطع اتقاءَه من الصفعات واللكمات والركلات. تورَّمت عيناه، وتهدَّل وجهه، وتغضَّنَت ملامحه، ربطوا قدمَيه في الفلقة، ضربوهما بالمقرعة، نتفوا شعر رأسه وجسده، نزعوا أظافره، ألبسوا الرأس خوذةً محماة بالنار، كشطوا الجلد بأمشاط الحديد، جعلوا القدمين موضع الرأس، جرى التعليق من المحاشم. وضعوا في فمه اعترافات بخيانة الوالي.
عندما اقتاده المحتسب مصطفى كاشف — وقت السحور — على رأس العساكر، من الحبس إلى الساحة الصغيرة أمام سبيل المبيضة بالجمالية، كان التعذيب قد هدَّ جسده، وتثاقلَت خطواته، وشحب بصره.
ظل صامتًا، لا يُحرك عينَيه، لا يتلفت، كأنه في دنيا غير الدنيا التي حوله، حتى دفع العساكر لم يخذله، ولا أنطقه بالتذلل.
لم يزايل شحاتة أبو داود سكونه، داخله يقينٌ بتبدل المشهد. نجا المعلم الخضري بنفسه من كمائن الفرنسيِّين، اصطاد عساكرهم، وعجزوا عن اصطياده. نهاه عن تسمية علي الزيبق.
قال بلهجة باترة: أنا حجاج الرميلي … حجاج الخضري.
ليس ثمة معلومات عن طفولته، ولا عن سِنِي صباه أو شبابه، وكان يُهمل الأسئلة التي تتعلق بحياته الخاصة.
يتململ المعلم حجاج في أيدي الجند، يستقوي بالله، ينادي على الملك وطواط، يغطي الوطواط سماء الغورية بجناحَيه الهائلَين، يميل ناحية الخضري، فيعتلي ظهر الجناح، يأخذ الملك وضع الطيران، ويحلِّق بعيدًا.
ربما نفذ الخضري — متخفيًا — من لمة العسكر إلى حيث لا يُدركه أحد، يدعو أعوانه إلى المكان الذي لجأ إليه، يَصِلون ما بدءوه أيام الفرنسيِّين، يبدلون اتجاه ضرباتهم ناحية الوالي، أمر بقتل زعيمهم بعد أن قتلوا أعداءه.
علَت صرخات النسوة اللائي شاهدنَ — من وراء المشربيات — ما جرى، اختلطَت بصراخ الملتفين حول الجسد المتدلِّي من الحبل.
حتى يُتيح للباشا — في ولاية خورشيد — أن يصعد القلعة، ويجلس على كرسيِّ الحكم، أمر بفتح أبواب دكاكينه في الرميلة، يأخذ منها الناس ما يشاءون من خضار وفاكهة، ودفع أعوانه لإقامة المتاريس، وما يصنع حول القلعة حصارًا محكمًا.
لما أعلن علي باشا السلحدار تمردًا ضد الباشا تصدَّى له حجاج الخضري حتى لا تكون فتنة. كمَنَ لقافلتِه أعدادٌ من الجند، وستون جملًا محمَّلة بالأسلحة والمعدات والطعام، استولوا على الجمال، وقتلوا اثنين من أعوانه، وأسروا ثلاثة. أرسل الخضري الأسرى ورأسَي القتيلَين إلى السيد عمر مكرم، سلَّمهم إلى الباشا، فأمر بإعدامهم.
ظل الخضري على تصدِّيه للحركات المناوئة للباشا، واجه حتى العسكر الألبان في تمرُّدهم على الوالي، تناسَوا انتماءهم إلى بلد محمد علي، ارتكبوا الفظائع من سلب ونهب وقتل. تحالف الخضري مع أعوان السلحدار، اختطفوا الجنود الألبان من الشوارع الهادئة والخلاء، وغيبوا أخبارهم. قاتل الفرنسيِّين حتى رحلوا، قتل جندهم، ولم يستطيعوا قتله.
العكس حدث مع محمد علي، قتل الخضري بعد أن دعا لولايته.
اثنتا عشرة سنة متصلة دافع فيها الخضري عن محمد علي، أراد أن تتمتع مصر — في ولايته — بما تمناه لها الخضري من الأمن والاستقرار.
لماذا تغيرت نفس الباشا على الرجل الذي حارب أعداءه؟ لماذا شنقه بجزاء الخونة؟
رُويَ أن حجاج الخضري جعل للموافقة على تولية الباشا شرطًا، الشروط يُمليها الأقوى، ما تحدَّث فيه الخضري وصاية لا يقبلها، الحاكم هو الذي يسنُّ السنن، ويضع الخطط، ما على الناس إلا التلبية.
صوت
أحب حجاج الخضري بطولة الزناتي.
كرر طلب سماع حكايته من رواة مقهى الأشراف، حفظها، استشهد بها في كلماته وتصرفاته، حرص أن يتصدر أعوانه — مثل الزناتي — في خوض المعارك ضد الفرنسيِّين. لم يكن يخشى الموت، يدبِّر لكل معركة حساباتها، وأسباب النجاة من رصاص الجنود، لكنه عانَى هاجس الخوف من الطعنة الغادرة، ها هو تلقَّاها في إعدامه بأمر الحاكم الذي بارك الخضري صعودَه إلى قلعة الجبل.
صوت
أطال الناس وقوفهم أمام جسد الشيخ حجاج الخضري، المعلَّق، يرنون بالنظرات، ويلفُّهم الصمت، اعتاد الناس مشاهد الأجسام والرءوس المتدلية على أسوار القاهرة وأبوابها وأسبلتها. أشفقوا من انتفاخ الجسد، والزرقة التي صبغت البشرة، والوجه المتورم، والتشوه في الملامح، والذباب المتكوم، والرائحة القاسية علَت بأشعة الشمس.
حين أذن الباشا لعائلة الخضري أن تحمل جثمانه إلى القبر، بدا الطريق — في غبشة الفجر — خاليًا. منع الجندُ إشعالَ ما يُنير المكان، غشيت الظلمة الوقوف، بدءوا في تلمُّس المغادرة. لما عادوا — عقب صلاة الفجر — صدمهم اختفاء الجثمان.
تباينت الأقاويل حول اختفاء الجثمان.
هل أطفأ جند الوالي نيران الإضاءة للسبق بدفنه؟
قال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في مجلسه — دون أن يتلفت — إن حجاج الخضري كان صاحب مروءة، وشجاعًا، دافع عن الباشا في مواقف كثيرة، لكنه شُنق بتهمة الإساءة لشخص الوالي. وقال شحاتة أبو داود إن الخضري فرَّ من جند الوالي كما فعل مرات كثيرة أيام الفرنسيِّين، وفي عهد الوالي محمد علي، مَن اقتاده الجند كان عميلًا للباشا إلى بيت الخضري، فلم يعثروا عليه، أعدموا العميل جزاء تضليله، وقال الشيخ محمدين الرياحي إنه شاهد ما لم يصدق حدوثه، عشرات الملائكة تُحلق في الغورية، تُحيط بجثمان الخضري، وسط إنشاد عذب، وأغنيات علوية، مقامه بين الصديقين والشهداء، في الرحاب الإلهي.
من أوراق السيد عمر مكرم
تلقيت الصدمة بما أعجزني عن مجرد السؤال، أو التعليق على بشاعة ما رواه لي الخادم عجة.
تكلم العائدون من القاهرة إلى دمياط عمَّا رأوه في الغورية: جثة حجاج الخضري معلقة على سبيل حارة المبيضة، لم يعيِّنه لي الخادم، ثلاثة أيام، أعدمه محمد علي، اقتحم المحتسب مصطفى كاشف على رأس جنوده بيت الخضري، القريب من وكالته، قبضوا عليه، اقتادوه في الأصفاد، صحبوه إلى الحبس، عرَّضوه للتعذيب، ثم اقتادوه إلى موضع السبيل، وأعدموه. تركوا جثته معلقة. رُويَ أنه لما عرف بأمر إعدامه، قدَّم نفسه للموت هادئًا.
أحسستُ أن شيئًا مهمًّا تداعَى داخلي، لم أستطع تبيُّنه، وإن اقتحمني حزنٌ أخفقت في مغالبته.
لم أختلف مع حجاج الخضري في شيء، اختلافنا الوحيد في أفعال محمد علي. رفضتها، وناصرها، ودافع عنه، لم أحاول أن أُقنعَه بعكس آرائه، وجد في أفعال الباشا ما يدعو إلى تأييده، والدفاع عنه. هو لا يكذب ولا يجامل، لا يتكلم إلا عمَّا يراه بالفعل، وعن رأيه فيه دون محاباة أو تحامُل.
هل سأل حجاج الخضري الناس الذين شهدوا مقتله: اقرءوا لي الفاتحة ثلاث مرات؟ هل التفت إلى المشاعلي بقول طومانباي: اعمل شغلك؟ هل سقط به الحبل الملتف حول عنقه مرتين، وصرخت عليه الناس في الجذبة الثالثة؟ هل ظل معلقًا حتى فاضَت روحه؟ هل تركوه للطير، أو غسلوه وكفنوه وصلوا عليه، كما تقضى شريعة الإسلام؟ هل ضجَّت مصر لمقتله، واستغرق الناس في النحيب والصياح والصراخ؟
اختلطت الصور وتشابكت، تحرك فيها الخضري بكلمات وأفعال. استعدتُ قول الحاج حيدر: يغيظني إعجاب الباشا بالإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت، نحن الذين اخترناه، ولم يتولَّ الحكم غازيًا.
دعوتُ آلي وخدمي والمريدين إلى قراءة الفاتحة ثلاث مرات. إذا طلب حجاج الخضري ذلك كما طلب طومانباي من قبل، فإن روحه تستحق الفاتحة، وتستحق الشفاعة في رحمة الله. أخلصَ في حبِّ وطنه وناسه، قاومَ ظلمَ الحاكم كما قاوم طومانباي ظلمَ المحتل.
لا أتحمل إعداد الإنسان للموت، أرفض حضور مشاهد الإعدام، لا أعرف باعثَ التنغيص على الناس، لا أتصور وضعَ حبل المشنقة حول العنق، تراقص المشاعلي أمام الرجل الساكن قبل أن يجتثَّ رأسه، ربط الوثاق في شجرة أمام عساكر الإعدام، تقييد الحركة قبل إشعال النيران.
تمنيت لو أن ما حدث كان بعيدًا عن بيت الخضري، حتى لا يضيف إلى أحزان عياله وعائلته.
تمنيت لو أن الحاكم التركي، هو آخر حاكم لمصر من غير أبنائها.
صوت
روى عازف الربابة حمود عيسى لرواد مقهى الأشراف ما جرى للبطل حجاج الخضري على أيدي جند الوالي. أضاف إلى الرواية حكاياتٍ مما جرى من عنترة وبيبرس والزناتي، وما جرى لهم، اختاروا عيشة الفرسان، هي ما يذكره الناس.
تغنت الأفواه بروايات الشيخ حمود، أمره قائد الشرطة أن يصرف الناس عن التدخل فيما لا شأن لهم به، يقصر حكاياته على حب عنترة لابنة عمِّه عبلة، المعارك وأفعال البطولة لها مواضعها البعيدة عن الأسواق.
صوت
أصعب الأمور حين يرحل مَن كانوا في حياته، يشغلونها بالصداقة والجيرة والمؤانسة والذكريات المشتركة.
الوحدة شعور قاتل، تطرأ على عينَيه وجوه لا صلة حقيقية بينهم وبينه، شخصيات تعبر حياته بما لا يُتيح استقرارها في ذاكرته.
غاب الزمن القديم، حلَّ زمن جديد، هو ليس منه، ناس زمانه رحلوا، ماتوا في مواعيدهم، يظل في وحدته مترقبًا موعد وصوله.
صوت
أبلغت الأعين مقام الباشا أن السيد عمر مكرم يستتر بجدران بيته لتحريك الناس ضد الوالي، كلماته تُثير الناس، أو تُلزمهم الصمت، لا يتخذون قرارًا إلا أن أوعز لهم السيد عمر بما يجب أن يفعلوه، مظاهرات العوام ضد الضرائب حرض السيد على قيامها.
وجد السيد في فرض ضرائب جديدة ما يصعب قبوله، انخفضت مياه النيل كما لم يحدث في السنوات الفائتة، سعى الباشا لاستمالته بما أفلح فيه مع المشايخ، وعده بثلاثمائة كيس كلَّ يوم، لكن السيد عمر ظل على موقفه.
تقلصت ملامح الباشا، وزادت حمرة وجهه، واهتزَّت لحيته: ينفي خارج القاهرة.
حدد الوالي طنطا مدينةً للنفي.
خالط السيد في دمياط مَن سهلوا حياته، اختلاف طريقته عن الفرق الصوفية في بلد السيد البدوي سيُصيبه بالغربة، يقضي فيها أيامه الأخيرة، حتى يرحل. وهتف: إذا طالَت حياته في طنطا، فسآمر بإنهائها!
صوت
لم يتصور أنه يصعد القلعة، يرافقه الجند في توقير، ينتهي بهم السير إلى باب القاعة الهائلة، أريكة الباشا في موضع الصدارة، العمامة، العينان النفاذتان، الذقن الهالة حول الوجه، البشرة البيضاء المشربة بالحمرة.
قال الباشا: هجر حيدر العلاف طريقتكم، وألَّف طريقة جديدة.
ظل عبد الراضي صامتًا.
كتم المترجم بسمةً وهو ينقل عن الباشا: الطريقة الريحانية!
فَهِم ربيع عبد الراضي المعنى، وإن ظل صامتًا.
قال الباشا: إذا كان العلاف قد انشغل عن مريديه، فنحن لن ننساهم.
وأطلق ضحكةً قصيرة، مبتورة: أعلم أنك شيخ الطريقة، وإن كان الشيخ المعلن هو الحاج حيدر العلاف.
قال ربيع عبد الراضي: هذا شيخي!
– لا شأن للمشيخة في طلبي لك.
عُرف عنه حرصه على مجالسة الطرق الصوفية، وحضور حلقاتهم وأذكارهم. أَنِست به الفِرق، أحبَّه مريدوها. أظهر عنايةً بمجاوري الأزهر، وبالكتاتيب والأسبلة والزوايا وتكايا الصوفية. صار يشاهد الجلوات، يتابع ما يصنعه الدراويش من اختراق النار، أو ابتلاعها، وأكل الزجاج والثعابين، والتمدُّد على المسامير.
حيكَت الروايات عن ميل الباشا إلى الصوفية، بتعدد مقاماتها وأحوالها، يأخذ بخاطر المشايخ، ويُرضيهم، فلا يُسيء إلى مشاعرهم، أشد رعايته وعطفه على الدراويش والمجاذيب والمسلوبين، هم الأقرب إلى رحمة الله، ما تنطوي عليه نفوسهم من فطرة تكشف ما تُضمره الغلالات، يستدل — بعفوية ملاحظاتهم، وبصرخاتهم وصيحاتهم — على القرار الذي ينبغي اتخاذه. لا يمنعه من الجلوس إليهم هوس الانجذاب، ولا ما يوضع على الأجساد من الملابس المهترئة، ومرقعات الخيش والتعاليق، والشخاشيخ، والشراريب حول الأعناق، والصيحات التي لا تعبر عن معنًى.
حرص على زيارة العديد من المساجد كالأزهر والمؤيد، وعلى زيارة الأضرحة والمقامات، ومنها مزارات آل البيت، ومقامات الشافعي والليث بن سعد وعمر بن الفارض والدينوري، والاحتفال بالمناسبات الدينية كمولد النبي، وليلة الإسراء، وليلة النصف من شعبان، ورؤية أول رمضان، وصلاة العيدين.
لم يكن اجتذابه الصوفية هدفًا وحيدًا، اجتذبته الصوفية قبل أن يرحل عن قولة. الشيخ الصوفي رأى كلمة النصر مكتوبة فوق جبينه، تمنَّى ما رآه الشيخ، فتحقق في القاهرة، صارت الصوفية في حياته أشبه باليقين، هو ما ردته نفسه عن الإذن لموظفيه بأن يعاقبوا السيد عمر على أفعاله.
شكا ربيع عبد الراضي للباشا من أن الانقطاع للعبادة استعصى على أفراد الطريقة، لم يَعُد بيت الصوفية قاصرًا على مريدي الفِرق، بل مأوى لذوي العاهات وكبار السن والعميان.
أمر الباشا فرتَّب القصر للمريدين في كل يوم أربعة أرغفة من الخبز لكل مريد، وثلاث قِطع من اللحم، وطبق خضار، وحفنة أرز في حجم قبضة اليد، بالإضافة إلى قطعة صابون.
اتجه إليه الباشا بنظراته الحادة: الصوفية ليست في البطالة، بل في مساعدة ولي الأمر على سياسة الناس.
همس ربيع عبد الراضي في لهفة: خادمك طوع أوامركم.
نسب إلى نفسه إحياء الطريقة بعد أن كادت تندرس.
من أوراق السيد عمر مكرم
حدثت في المدينة حركة، الأبواب المفتوحة والمطلُّون من النوافذ والأعلام والرايات والزينة وانتشار العسكر. عرفت أن الباشا وصل إليها قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية.
قال لي صالح: الباشا يريد دعم الأهالي حتى لا يُعيِّن الباب العالي على المدينة قادةً من عنده.
النظرة المتسائلة أخذتني إلى الشاب ذي الشعر الأشقر الضارب الأحمر، يقف متلفتًا في مدخل وعلى شفتَيه ابتسامة مشفقة.
قال في ابتسامته المشفقة: أنا ضيف على الخان.
وهزَّ وجهه ناحيتي: أنا مثل الكثيرين تلميذ لكم.
رمقتُه بنظرة مستريبة: تعرفني؟!
– الجهل هو الذي يفرض عدم المعرفة.
– لا أفهم، مَن أنت؟
– حمَّلني الباشا أن أسألكم إن أردتم شيئًا.
– أنت موظف عند الباشا.
– أنا واحد من خدمه.
استشففت من كلماته معنًى غير الذي قاله.
– لا أريد شيئًا، سنِّي تحتاج إلى الراحة.
وبلهجةِ مَن أدرك فوات العمر بما يصعب تعويضه: لم يَعُد ما أتمناه إلا أن أؤديَ فريضة الحج.
تبع صالح الشاب، حتى الباب الخارجي. عاد متهللًا، بخطوات مهرولة.
– هذا الرسول انفراجة باب يمكن أن ننفذ منها، فتنتهي سنوات النفي.
– ماذا تقصد؟
– نرفع إلى الباشا التماسًا بالعفو.
قلت في نبرة معاتبة: نُفيت لأني لم أوافق على المسايرة … كيف أوافق على التماس العفو؟!
وأنا أحاول السيطرة على مشاعري: عندما يثور أهل البلد على الوالي التركي فهو يعود إلى بلاده.
اطمأننت إلى القول: أنا منفيٌّ في بلدي، لم أبتعد عنه!
قال صالح في لهجة مشفقة: للسن دواعيه.
قلت في لهجة باترة: ولكرامة الإنسان دواعيها كذلك.
كتاب من محمد علي إلى عمر مكرم
«مظهرُ الشمائل سنيُّها، حميد الشئون وسميُّها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم، دام شأنه.
أما بعد: فقد ورد الكتاب اللطيف، من الجناب الشريف، تهنئةً بما أنعم الله علينا، وفرحًا بمواهب تأييده لنا، فكان لذلك مزيدًا في السرور، ومستديمًا لحمد الشكور، وموجبة لثنائكم، وإعلانًا بنيل مُناكم، جزيتم حسن الثناء، مع كمال الوقار ونيل المنَى.
هذا وقد بلَّغنا نجلكم عن طلبكم الإذن في الحج إلى البيت الحرام، وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام، للرغبة في ذلك، والترجي لما هنالك، وقد أذنَّاكم في هذا المرام، تقرُّبًا لذي الجلال والإكرام، ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تدعوا الابتهال، ولا الدعاء لنا بالقال والحال، كما هو الظن في الطاهرين، والمأمول من الأصفياء المقبولين، والواصل لكم جواب منَّا خطابًا إلى كتخدائنا، ولكم الإجلال والاحترام، مع جزيل الثناء والسلام.»
كتب الجبرتي في تاريخه
وأُشيع خبرُ مقدمِه، فكان الناس بين مصدِّق ومكذِّب، حتى وصل إلى بولاق يوم السبت ۱۲ ربيع الأول سنة ١٢٣٤م، فركب من هناك، وتوجَّه لزيارة الإمام الشافعي، ثم ذهب إلى القلعة، وقابل الكتخدا، وكان محمد علي باشا وقتئذٍ في الإسكندرية، وهنَّأه الشعراء بقصائدهم، وأعطاهم الجوائز، واستمر ازدحام الناس أيامًا، ثم امتنع عن الجلوس في المجلس نهارًا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع عنده إلا بعضُ مَن يريدهم من الأفراد، فانكف الكثير عن التردد عليه، وذلك من حسن الرأي.»
صوت
تصور السيد عمر أفندي أن الناس اعتادوا عزلته في المنفى، احتواه النسيان، لكن الناس استقبلوه بما لم يَدُر في باله، ولا أعدَّ له نفسه، أُقيمت الزينات، وعلَت الموسيقى، وتُليت الختمات، وقُرئَت الأوراد والأدعية.
كان قد اطمأن إلى العزلة، لكن الفرحة والتهليل والهتاف أعادَته إلى ما أَلِفه قبل أن يأمر الباشا بنفيه. تشابهَت القسمات والملامح بتوالي السنوات، لا يذكر أحدًا بهيئته المحددة، تختلط الصور، فلا تستطيع التثبت، صورٌ كثيرة شحبَت في ذاكرته، حتى تلاشَت.
ساءه قولُ معوض جريتلي التاجر بالتربيعة: الحمل الذي يهجر القطيع، يقدِّم نفسه وليمةً للذئاب.
صاح السيد في استيائه: لستُ حملًا … وأبناء العرب ليسوا حملانًا.
وهزَّ قبضته كأنه يتوعد: نحن نستطيع مغالبة الذئاب.
روى الحاج حيدر العلاف ما تصور أنه غاب عن السيد عمر أفندي في نفيه خارج القاهرة: رحيل السلطان الكبير، ثورة أهل العاصمة، معاناة المشايخ في حكم كليبر، مقتل كليبر، إعدام سليمان الحلبي.
قال الحاج حيدر في لهجة ذات معنى: كما ترى فأنا لم أنسَ السياسة.
أومأ السيد عمر بهزَّة من رأسه: وأنا لم أُهمل ما يجري في البلد.
استطرد كمَن يُلقي عظة: إذا فقد الإنسان الأمل، فمن الطبيعي أن يختلقه.
طرأ على لهجة السيد عمر تغيُّر، فسَّره الحاج حيدر — بينه وبين نفسه — بالفترة الطويلة التي أمضاها السيد في دمياط، الناس هناك لهم عاداتهم وتقاليدهم ومفرداتهم اللغوية، لا بد أنها انعكست في تصرفات السيد ولهجته.
من أوراق السيد عمر مكرم
تلقيت التهاني بعودة إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى القاهرة، بعد انتصاره على الوهابيِّين في الدرعية بالحجاز، دخل موكب القائد المنتصر من باب النصر إلى القلعة، امتدَّت احتفالات الأهالي سبعة أيام متواصلة. سيرت مواكب الأسرى في شوارع القاهرة، مئات الجنود نُزعت أسنانهم، وقُطعت آذانهم، الجماهير الحاشدة — على الجانبين — تهتف للخلافة، وللإسلام.
أعرف أن نجاح الحملة بخراب البيوت، حتى يدبِّر الباشا نفقاتِ شراء البغال والحمير والجمال اللازمة للحملة، فقد فرض على مياسير الناس وأهل الحِرف قيمة دابة أو أكثر. لما نقصت الموارد عن تدبير عمليات الشراء، أمر الباشا جنده أن يأخذوا ما يجدونه في الشوارع. أدركت المعنى في اختفاء دواب النقل من شوارع دمياط، حتى الميناء استبدل بالحمير التي تنقل العربات رجالًا يؤدون عملها.
جعل السلطان من أهل البلاد وقودًا لحربه ضد الوهابيِّين، حتى لا يخرجوا عن حكمه، وضحَّى محمد علي بآلاف الفلاحين المصريين ثمنًا لرضا الخليفة.
قال مغاوري تليمة: نسي الناس في فرحة الانتصار إن كان إبراهيم باشا ابنًا للباشا أم ابنًا بالتبني.
قال صالح: يبدو محمد علي ملاكًا إذا قورن بقسوة إبراهيم.
قلت: مقارنة بين النار والجحيم!
ما يبلغني عن إبراهيم يُضعِف من قيمة انتصاره، وتفاخره بانتمائه إلى أولاد العرب. أورثه الباشا كلَّ ما في نفسه من ميل إلى القسوة والظلم والتآمر. كما تكون الشجرة تكون ثمارها.
عودة إبراهيم باشا من انتصاره على الوهابيِّين أغرَت الباشا بإنشاء جيش جديد على الطرق الحديثة، عهد إلى الكولونيل سليمان باشا الفرنساوي بتنفيذ الفكرة، أخفق في الاستعانة بأمراء المماليك والأتراك والألبان، واجه الإخفاق نفسه في تجنيد السودانيِّين، لجأ إلى تجنيد المصريين.
كتب الجبرتي في تاريخه
«وكان الباشا سافر إلى جهة الإسكندرية بسبب ترعة الأشرفية، وأمر حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل، فأخذوا في جمعهم، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب، وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم، وقاسوا شدةً بعد رجوعهم من المرة الأولى بعد ما قاسوا ما قاسوه، ومات الكثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح.»
صوت
رفض أهل البلد دخول الجهادية، ورفض الأتراك والمماليك كذلك تجنيد أهل البلد، اختلاف السبب في خوف أبناء الفلاحين من سوقهم خارج البلاد. أما الطبقات العليا، فقد خشي أبناؤها على مهنة الجندية من أن يحيط بها السوقة وأبناء الفلاحين، ربما تنطلق رصاصاتهم — إن أحسنوا استعمال السلاح — إلى صدور الغالبين.
قال مغاوري تليمة: يريد الباشا أن يضمن استقلال مصر عن دولة الخلافة.
قال المعلم داغر: معاناة الدولة العثمانية من مؤامرات الدول المجاورة، حافزه للتخلص من التبعية، وإنشاء دولته المستقلة، ذات المكانة التي تُضاهي مكانة دولة الخلافة، أو تَفُوقها.
قال مغاوري: لم تَعُد ولاية مصر مما يُرضي طموح محمد علي، إنه يسعى إلى امتلاكها، ولأولاده من بعده.
قال السيد عمر مكرم: هذا الجيش لتحقيق أحلام الباشا في جعل مصر له ولأبنائه من بعده، إن أفلت من السلطان فلن يُفلت من القوَى الأوروبية.
لصحبة الحاكم شروط، غابت عن السيد عمر. لو أنه فطن إليها، ربما كان موضعه في إيوان القلعة، وليس في المنفى.
صوت
صحا حيدر العلاف في الضحى. لاحظ في نفسه نوبة من السعال تنتابه، فور استيقاظه، يحاول التغلب عليها بجرعة ماء.
بعدت أيام الموالد والجلوات والرايات الملونة الخافقة فوق الرءوس. حتى الأصداء لا تَصِله من الشوارع القريبة. أتاح لها الوالي أن تخترق الشوارع الفسيحة، يحرس انطلاقَها عساكرُ الباشا، يحيطون بها حتى تبلغ ميدان الحسين، يزيد من صدق الذكر والوجد أن النور الذي يسطع من مقام الحسين، في ليلة مولد زين شباب أهل الجنة، لا يحدث مثله في أضرحة الأولياء، وأنه أشد سطوعًا من أن يصدر إلا عن قيمة سماوية كبرى، هي — بإذن الله — شمس سيد الخلق، ترعى حفل أحب نسله.
تتواصل الحفلات، الأذكار والمدائح والإنشاد والأدعية والابتهالات، تستغرق نهارًا بليلة، أو تتواصل ستة أيام، حتى الليلة الختامية لمولد زين شباب أهل الجنة. غابت المشاهد التي طالما قادها، رفض الزواج — بعد وفاة زوجه — حتى لا تأخذ امرأة وقت الطريقة، ما كان أعدَّه لحياته حتى نهاية العمر. ما جذبه للزواج منها، هو الذي يدفعه لتطليقها.
التفت — بسحنة مريدة — إلى صوتها وراءه: تشتاقين للأمومة وأنت على وشك انتهاء خصوبتك.
في لهجة مومِئة، دون أن تُعقِّب على ملاحظته: نذرت للحسين — إن حقق الله مرادي — فول نابت للصوفية.
ووشى صوتها بنبرة كيدية: للخصوبة طرفان … حتى الآن تأتيني العادة الشهرية!
رمقها بنظرة لم ترَها في عينَيه من قبل: وأنا لم أفقد ذكورتي يا قليلة الأدب.
– لماذا تخشى الإنجاب؟
– لا أريد أن أُنجب طفلًا يتيمًا.
– إذا فقد أباه، فإن أمه موجودة.
علا صوتُه بما يُشبه الصراخ: تُصرِّين على قلة الأدب!
صوت
أعاد صالح قراءة أمر الباشا. تأثَّر سمعه. إذا رفع الأذان مال خادمه على أُذُنه يُعيد الأذان، فيُعِد نفسه للصلاة.
حاول السيد عمر مكرم أن يستوعب معنى الكلمات. جمع أربعة آلاف من فلاحي الصعيد ليحلوا محل العسكر الأتراك الذين سبق إرسالهم إلى السودان.
قال صالح: مدة الخدمة في الجيش ثلاث سنوات، طول المدة جعل الداخل مفقودًا، والخارج — إن خرج — مولودًا.
قال السيد عمر مكرم: ما أعرفه أن الباشا فشل في استخدام عبيد من السودان، أُصيبوا بالأمراض، أو ماتوا، لجأ — مرغمًا — إلى تكوين جيشه من أبناء الفلاحين.
وهو يغالب شروده: يُعد لحروب يحقق بها أحلامه الشخصية، أداتها الغلابة من أبناء العرب!
في صوت متكسر النبرات: تنبَّه إلى أن مشكلة مصر ليست في الدولة العلية وحدها. لم يتغافل الدول الأجنبية الأخرى، وما تُحيكه من مؤامرات.
قال صالح: هل كان محمد علي يجرؤ على معاداة الآستانة لولا تيقنه من ضعفها؟
في تسليم: أنهكتها الحروب في الداخل، والفساد في الداخل … هي الآن في مرض الموت!
قال السيد عمر: ساعده حجاج الخضري على بلوغ الحكم، فجازاه بالقتل.
لولا موقف حجاج الخضري الناقم على أفعال العسكر الألبان، ما أرسلهم الباشا إلى الحجاز لقتال الوهابيِّين، فيتخلص منهم، وما سعى إلى تكوين جيش من السودانيِّين في البداية، ثم من المصريِّين.
دعا الخضري لأن يُشكِّل محمد علي جيشه من المصريِّين، يستغني عن الجنود الألبان الذين شكَّلوا قوام الجيش المصري، تعدَّدت أفعالهم الدموية في شوارع القاهرة، يطالبون برواتبهم، أو العودة إلى بلادهم، يُعلنون التمرد، يتصايحون، يهتفون، يُصادرون الناس في أموالهم وعقاراتهم وزراعاتهم، يقتحمون الأسواق، ينهبون الدور والدكاكين والوكائل، يستولون على البضائع والمحاصيل، يُسرفون في النهب والسلب والتعذيب والقتل، حتى المساجد سلبوا ما بها من منابرَ ودكك وحصير وسجاد وتعاليق.
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وغالبيتهم — الجنود الألبان — لم يَصُم رمضان، ولم يُعرَف لهم دين، ولا طريقة يمشون عليها، وأسهل ما عليهم قتل النفس، وأخذ مال الغير، وعدم الطاعة لكبيرهم وأميرهم، وهم أخبث منهم، فقطع الله دابر الجميع.»
صوت
طلب السلطان من الباشا أن يزوِّد المراكب الثلاث الراسية في ميناء الإسكندرية بما تحتاج إليه من جند وعتاد ومئونة. اتَّسعت ثورة الأهالي في جزيرة كريت، بدَت هزيمة الباب العالي وشيكةً في الجزيرة الصغيرة.
فرض الباشا — لسداد التكاليف — ضريبةً على سكان الأرياف. فرض — في العام التالي — فريضةً جديدة على أهل القاهرة، يدفعها أصحاب البيوت، دون تقيُّد بيُسر أحوالهم أو تعسرها.
تحركت النفوس بالغضب، ساد الاضطراب والفوضى، أُغلقت الوكائل والدكاكين، وخلَت الأسواق من غالبية المترددين عليها.
بدَت الثورة الوشيكة احتمالًا في الأفق.
صوت
فرَّ الأجراء إلى جبال الصعيد، وإلى مضارب العربان، ربما لجئوا إلى العنف، فقطعوا طرق القوافل، وكتائب العسكر، نشروا الرعب بدعوى الهلالية، وتجرأ صوفية ودراويش، حرَّضوا الناس على الباشا، فنسبوا إليهم الولاية الدينية.
هاجم العامة مزرعة الشيخ سباعي زاهر في بهتيم، حطموا الأسوار، نهبوا ما في المزرعة من مال ورياش، وما في المكتبة من الذخائر والنفائس والمخطوطات والكتب. أشعلوا النيران في البنايات والحظائر والمخازن، سرقوا البهائم، أو قتلوها.
خلفوا المزرعة بعد أن تحول ما بها من أشجار ومزروعات وأبنية إلى أنقاض وكومات رماد.
دعت عجوز على الباشا أن يأتيَ عليه يومٌ يتمنَّى فيه الموت، فلا تُلبَّى أمنيته.
صوت
شعر بنظراتها المتجهة نحوه، رفع رأسه فتلاقت نظراتهما: أريد العيش في بيت أمي.
انفرجَت شفتاه، لكنه لم يجد صوته.
بدا الشجار محتملًا، ألفه في الأيام الأخيرة، يعلو فجأة، وبلا سبب، كأنها تدخر ما ينغص أوقاته، يُثيرها السؤال، أو الملاحظة، أو المعاتبة، يلتفُّ حول الصدام المحتمل بالصمت، يتجه بنظراته إلى قدمَيه، أو إلى نقطة غير مرئية.
ليست ريحانة التي استلبته، أخذته من بيته، وطريقته، وأصدقائه، تبدَّلت تمامًا، وإن عجز عن الإمساك بما يؤلمه من تصرفاتها.
تحول الهمس والغنج إلى إهانات، وشتائم، وحرص على الإذلال، أقسى ما يُعانيه أنه باح لها ببواعث ملذاته، أسعدَته بتلبية رغبته، لم يَعُد يحب شيئًا، ولا يتأثر لشيء.
هل تبتزُّه بما عرفته، تُذيع ما لم يجاوز الجدران؟
اقلب القدرة على فمها، تطلع البنت لامها. ريحانة هي بنت هنومة، سبقَت أمَّها بصيت أفعالها الذي أصمَّ أُذُنيه عن سماعه.
أحزنه ما نقله الخادم عيسوي عن المعلم عثمان الدميهي، التاجر بالصنادقية: أهلك الحاج حيدر العلاف عشق النساء!
لم يتصور تطور العلاقة بينهما، منذ وقعت عيناه عليها — أول مرة — أمام الوكالة، أبعدَته عن الطريقة، وعن أصدقائه، وعن الناس، غابَت صلاته، تلاشت، حتى الوكالة لم يَعُد يعرف عن أحوالها إلا ما يُبلغه به عيسوي.
كتم غضبه في نفسه، لم يَبُح بما يُعانيه لأحد. حتى ملاحظة الشيخ شوقي أبو شامة على كثرة شروده، أرجعه لتأخر الواردات إلى الوكالة.
خشيَ أن تهتزَّ الصورة التي اعتاده فيه الناس، يجرُّ البوحُ ما يصعب مدارته. طرد فكرةَ أن يشكوها لهنومة، البنت لأمها. لم تُضمر توقُّعَها أن يُثيرَ في ابنتها الملل، وخيبة الأمل.
أزمع أن يراجع علاقته بها، يقتصر في كلامه معها، يصدُّ ميلَها إلى الكلمات الملمزة، يصدُّ جرأتها، تنتهي إلى ما لا تقبله نفسه، يردُّ على الكلمات القاسية بما يُؤذيها، لا يُذكِّرها بأيام نسيتها، ولا بإلحاحها، حتى يقبل عرضها بالزواج، طبيعته ترفض المعايرة والإساءة، هي لم تُرغمه على ما حدث، دفعَته مشاعره إلى القبول.
صوت
أيقظت الطرقات أهل البيت من نوم القيلولة. تلفَّت الخدم بنظرات الدهشة لوقفة الرجل على الباب الخارجي للبيت، له سحنة أولاد العرب، يُسدل فوق القفطان عباءة عنتري، يُدير حول رأسه عصابة، يدسُّ قدمَيه في خُفٍّ مغربي.
ضاقت دائرة زائري السيد، اقتصرت على أفراد أسرته والطبيب والخدم، مَن يعودونه يقصرون زياراتهم على السؤال — لحظات — في القاعة السفلية، وينصرفون.
اقترب الرجل من الشيخ المستلقي على الفراش، قبَّل يده الممدودة، وتراجع.
رفع السيد نظرةً متسائلة: خيرًا إن شاء الله!
غالب الرجل ارتباكه: سيدي الباشا يأمر بسفرك إلى طنطا.
قال السيد في استكانة ليست من طبعه: متى أراد الباشا فأنا مستعد … سأُعِد مركبًا للسفر.
– كلُّ شيء معدٌّ يا سيدي على ساحل أثر النبي.
أومأ السيد برأسه: لا بأس!
كتب الجبرتي في تاريخه
«… وفي أواخره انتقل السيد عمر مكرم النقيب من دمياط إلى طندتا، وسكن بها، وسبب ذلك أنه لما طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج، وقد أبطأ عليه وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر، وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك، والحرس ملازمون له، فلم يزَل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر، فكلمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتا، ففعل، وأجاب الباشا إلى ذلك.»
صوت
تصور في طلب انتقاله إلى طنطا انفراجة، تُتيح له الحركة والتنقل، واكتساب الصداقات. اختير — لإقامته — بيت في قلب الغيطان، يبعد بمسافة حتى عن جامع السيد البدوي الذي هيَّأ نفسه للائتناس بالقرب منه.
تداخُل الصحراء والأرض الزراعية يترامى إلى نهاية الآفاق، ثمة مآذن قليلة ونخيلات وشجيرات وبيوت طينية متباعدة، المئذنة والقباب والمقصورة النحاسية والسبيل، قبالة الجامع، شحبت قسماتها في مدى النظر، أنشأها علي بك الكبير، مَن تجاوز — بمآثره — مظالم المماليك. حتى الأذان ودعوات ما قبل الصلاة وبعدها لا تأتيه في البيت ذي الطابقين، تحيط به الزراعات من كل الجوانب، لزم الحراس طابقه الأول، وخصص طابقه الثاني لإقامة عائلته، ومعاونيه من الخدم. ربما نقل الوشاة ما يدور في الجلسات بين السيد عمر وأصدقائه من علماء دمياط وتجارها، اعتكف عن الناس، ولزم بيته. شدد الباشا أوامره، فلا يلتقي إلا بأفراد عائلته، وخدمه، ومَن خصصوا لحراسته.
رتب مواعيد يومه على مواقيت الصلاة في السيد البدوي، الأذان والتواشيح والأهازيج وأدعية السَّحَر، يتخللها الخلو إلى قراءاته، ومجالسة الأصدقاء، والنوم.
يتبدل المشهد في احتفالات المولد. يجلس معظم وقته في الشرفة المطلَّة على الغيطان والخلاء والمدقات الترابية، الخضرة منبسطة، تناثرت فيها — على مسافات متباعدة — أشجار التوت والجميز والكافور، وثمة شجرة تين، تصنع أوراقها الهائلة مظلة على ساقية، تدور بها جاموسة ضامرة، بالقرب منها مراعٍ للخراف.
في نهاية الأفق مئذنة مسجد، ومدخنة وابور طحين، وبناية من طابقين تلامس الطريق من الناحية المقابلة، البعيدة، تعلو سطحَها كوماتُ الحطب، والأفران، والعشش، ومناشر الغسيل، وبنيات الحمام.
تكررت رؤيته لأنواع من الطير، أَلِف وجودها في زراعات القاهرة والقرى القريبة: أبو قردان، الهدهد، اليمام، الكروان، أبو ميه، الإوز البري، وغيرها.
عرف أن السيد خليل البكري، أو مَن يُنيبه، هو المسئول عن إحياء المولدين الصغير والكبير لسيدي أحمد البدوي، يشارك فيهما — بدعوة من آل البكري — أرباب الطرق والعلماء والتجار والأعيان يحتفلون في أيام المولد بضرب الخيام، وإقامة الذكر، والابتهالات والإنشاد.
أزمع أن يقصر محبته لشيخ العرب في نفسه، يترك للطريقة البكرية خصوصية احتفالها بالمولد.
حدَّثه صالح عن نزول تجار الغورية بالقاهرة — في مناسبة مولد السيد البدوي — إلى قيسارية علي بك الكبير، أنشأها في حكمه، تبركًا بالسيد البدوي، اصطلح مريدو ولي الله على تسميتها بالغورية، هي غورية طنطا، استدعاء لغورية الجمالية، يبيعون بضائعهم من الأقمشة والطرابيش والطواقي.
يعبر مناشر الغسيل، وحزم الحطب المكومة على الأسطح، يرقب زائري البدوي في اختراقهم الطريق نحو المسجد، يرنو إلى الخيوط الممتدة، المتشابكة، من البشر، اختلاط العمائم والقفاطين والجلابيب الحريرية والطواقي واللاسات والعباءات والملاءات اللف، لا يعرف كيف بدأت، وإن فطن إلى مقصدها، تندفع، تُبطئ، ربما سكنت في تواصل سيرها، غالبيتهم يرتدون شارة الطريقة الأحمدية: العمامة الحمراء، والعلم الأحمر، وما يتفرع عنها من مريدي الفرق الشناوية والمرازقة والشعيبية والزاهدية والسطوحية والحريرية وغيرها، يحملون الرايات الملونة والأعلام والخيام المطوية والهراوات والعكاكيز، يرافقهم الإنشاد والتسابيح والتهليلات والهتافات وترديد الأغنيات. ربما أوقف العابرون دوابهم لمقايضة ما يحملون من البط والإوز والرومي والدجاج والجبن الرايب والقريش والجبن القديمة والفطير المشلتت والعسل الأبيض والأسود، والخبز البلدي والشمسي، تتحول الساحة المتربة، أسفل البيت، إلى سوق صغيرة، يتنبه لها الحراس، فيصرفون الناس. لا تهدأ أقدامهم إلا بعد أن تطأ التراب أمام الضريح وحوله، يأخذه المشهد الملتف بالخضرة وأضواء القناديل والشموع والأدعية والتسابيح والابتهالات.
تتسع الدوائر في نهاية الأفق: المقام والأضواء والشموع والأعلام والرايات الملونة والسيوف الخشبية، والمسابح، والأهازيج والعبارات المترنمة واللافتات في أركانها أسماء الخلفاء الراشدين، تترامى الأصوات مختلطة، يلتقط منها كلمات، وإن صعب عليه وصلها بتعبيرات يفهم معانيَها.
قال الخادم المعتز بالله: يطلبون راحة النفس بزيارة السيد البدوي.
أردف بنبرة واثقة: زيارة البدوي سبع مرات تساوي حجة إلى البيت الحرام.
يطالعه الصبح باختلاف المشاهد التي اعتاد رؤيتها في القاهرة، وما يراه في طنطا، حشود من لابسي الجلابيب والقفاطين والعباءات والعمائم والطواقي واللاسات، تتجه إلى المسجد، تلتقي حوله، دوائر متقابلة، ومتلاصقة، تتخللها السرادقات والخيام والأكشاك الخشبية وأكشاك الصفيح والأعلام والرايات والطبول والدفوف والصنوج والصفافير والبيارق والعمائم والشعور المسدلة إلى الظهر، تتحول الأقدام الملهوفة إلى الجري، يخرجون عن السكة الترابية في توزع، بلا انتظام، يعرف السر برؤية عِصِي العساكر، تفسح الطريق لمشايخ الطرق. تتشكل الدوائر — في نهاية المدى — دائرة واحدة، واسعة، تحيط بالمسجد والضريح والمقام، يختلط فيها الصخب، ما يفتقده في غيابه عن القاهرة من إيقاد النار والشموع وصنع الحلوى والخبز والأقراص والمنين، وزفة المولد وحلقات الذكر وحفلات الإنشاد وقراءة البردة، يترامى إليه من ساحة البدوي كالأصداء البعيدة.
تأوَّه السيد عمر لتعثر امرأة، حاولت اللحاق بذويها: يؤمنون ببركات الولي!
أضاف في لهجة تسليم: فرق الصوفية تختلف في الرياضة والمجاهدة، لكل يقينها ووسائلها، لكن الموالد واحدة.
قال صالح: الدوسة تختلف في مولد السيد البدوي عن دوسة أولياء القاهرة.
أضاف لنظرة التساؤل في عينَي جده: جواد خليفة البدوي يدوس على مريديه فيموت العشرات.
اصطنع ابتسامة: لا يقتصر صوفية طنطا على مريدي السيد البدوي. تفرعت عن الطريقة طرق أخرى مثل الشعراوية والبيومية.
ثم وهو يمسِّد — بهدوء — لحيته الكثة: لا فارق! … حتى وسائل تعذيب الجسد.
وسرح بنظراته خارج النافذة: رأينا في مولد سيدنا أحمد الرفاعي بالرميلة أكل النار ووخز السيوف وغرس الدبابيس.
وفي نبرة متباطئة: هذه ليست صوفية.
عرف في حفيده رفض ما شاب الموالد من تسلل أهل الحِرف السافلة ومحترفي القوادة، والنساء الخوارج، يجد في زفة المولد خروجًا عن الشرائع، واتباعًا للشهوات، واجتماع الرجال والنساء للهو والخلاعة، وفعل المحرمات.
زوَى السيد ما بين حاجبَيه: لماذا العنف؟
حاول صالح ألَّا يُظهر صوتُه ما يدور في داخله: يضحون بأرواحهم للبدوي وخليفته.
– تجلَّى الصوفية في الذكر والإنشاد الديني والأدعية والأوراد، وليس في أذى المجاذيب لأجسادهم.
ورفع عينَين حزينتَين: لمة الناس تصنع الكثير!
وكوَّر مقبض العصا في يده: لو أن الصوفية امتنعوا عن مسايرة الوالي في سياسته وأحكامه، كان سيرفع ما أسبغها عليه من عطف.
قال صالح: الوالي يعطف على المشايخ ويبرهم طالما أظهروا الخضوع والولاء، لكن الإعدام هو العقاب الوحيد لو أنهم مالوا إلى غير ذلك.
لم يكن يكتم رفضه لرعاية الوالي فِرق الصوفية، عندما يحاول المذنب مداراةَ خطاياه بالحرص على الأداء المعلن لطقوس التدين، فإن أفعاله ضد الناس تفضحه.
قال السيد عمر: هو مستغل للصوفية، لكنه ليس متصوفًا.
وأعاد النظر إلى الخلاء خارج النافذة: بعض الفِرق لها أحكامها وشأنها.
لم يتردد على مجلسه العددُ الذي أَلِفه في دمياط، قلة من مشايخ المعهد الأحمدي، أهملوا النصح بالبعد عن مجلس يخضع صاحبه لرفض الوالي، وإن حرصوا ألَّا تأخذ السياسة موضعًا في مناقشاتهم، يستمعون إلى أشعار ابن الفارض، يُقيمون حلقات الذكر، يبكون، ويخشعون، ويضجون، ويتواجدون، يرتلون الأوراد، يتهدجون بالأدعية والابتهالات.
قال الشيخ هابيل السعيد: قدومك إلى طنطا بشرة خير، نعيش تحول تجارة الجملة من دمياط إلينا.
وفي لهجة متفاخرة: طنطا ليست أقل في سكانها من دمياط، وهي — ببركة شيخ العرب — تسعى لأخذ مكانة العاصمة من المحلة.
راعه مؤاخذة الشيخ هابيل السعيد على نفسه الكثير من الذنوب التي ارتكبها في شبابه. ندم على ما فات، عزم على ترك العودة إلى الذنوب. وجد في الانشغال بمغريات الدنيا ما قد يفرض الاستتابة. عكف على العبادة، أعرض عن زخرف الدنيا، زهد فيما يُقبل عليه الناس من لذة ومال وجاه، صرف جهده إلى العلم، عرف طبقات الأولياء ومقاماتهم وأحوالهم وألقابهم، لزم الأوراد والأذكار، اختبر المجاهدات والترقي والكشف والعشق والسكر والجذب والفناء والاتحاد والحلول. وصل إلى مقام صار فيه من حقه أن يأخذ العهد، قدم إلى جامع السيد البدوي ليلة مولده الختامية، أجازه خليفة شيخ العرب بما طلبه، أوقف الجرايات والرواتب لطلبة المعهد الأحمدي.
عُرف عنه تفضيل السماء على الأرض، والعزوف عن حياة الناس. يجد في المسجد من الأُنس بالله وراحة النفس، ما لا يجده في موضع آخر، اطمأن إلى التصوف، والعزلة عن أمور الدنيا. أحكم الزهد، حبس نفسه عن الملذات، أمسك عن فضول الشهوات، اعتاد وصل النهار بالليل في قراءة الأوراد، استوفى سائر المقامات، جاهد فبلغ حالة الفناء، صارت له مواقفُ وأحوال.
أَنِس به السيد عمر مكرم، اطمأن إليه، يُحسن الإصغاء، والتركيز فيما يُنصت إليه، أو يقوله. يلزم الصمت في معظم أحواله، يبدو بإطراقه كأنه لا يعبأ بما يجري أمامه، ولا يعطي سَمْعَه للمناقشات التي قد تعلو، فتبدو كالصراخ. خبر المشاعر كلها، لم تَعُد تؤثر فيه مظاهر عداء، ولا مؤامرات.
قال لنظرة السيد عمر المستحثة: أنا لا أشارك فيما لا أفهمه، لا بد من المعرفة أولًا.
يظل صامتًا، حتى يتسرَّب في النقاش ما يدفعه إلى الكلام، يبدو على معرفة بكل ما يتعلق بفقه الدين والصوم والصلاة ومناسك الحج والأوقاف والأيتام والقضايا الشرعية وقضايا الديون والزوجية، لا يخرج في فهمه وأفكاره وأقواله عن الكتاب والسنة، وإن حرص في كلماته أن تحمل العديدَ من التفسيرات.
النقاش يمتدُّ في أحاديث الفقه والحديث والاجتهاد، وقضايا الجبر والاختيار وخلق القرآن. استغرقَتهم ساعات طويلة من الليل في مناقشةِ أيٍّ من القطبَين الصوفيَّين ابن الفارض وابن عربي، مقدَّم على الآخر؟
يقتصد في انفعالاته، كلماته، ضحكته، ابتسامته، تكشيرته. إذا لم يكن لديه ما يقول، فإنه يُحسن الإصغاء.
صوت
إن خلا مجلس السيد النقيب من الحضور، أَنِس إلى الصمت والشمس، والقمر، والنجوم، وزرقة السماء، وقوس قزح، والسحب، والهواء المحمل برائحة البحر، وصياح الديكة المترامي من الأسطح البعيدة.
يتبدل الحال في قدوم أيام مولد السيد البدوي، يتغطى الخلاء بالخيام والأكواخ والطبول والأضواء والابتهالات والأدعية والغناء والزياط.
ربما أطل من سطح البيت على زوار أبي فراج، يخترقون السكك في قلب الغيطان، مسارب صغيرة، مستقيمة ومتعرجة، صنعَتها الأقدام في انطلاقها من المدينة، وتناثر القرى والعزب والكفور، تختلط الماشية بمواكب السائرين: الجمال والجياد والحمير والخراف والماعز، يعرف من يترك اندفاعهم المقصد الذي يتجهون إليه، الكل يقصد المولد، يتعثرون — باللهفة — في التلال الصغيرة والحطب والكيمان، موجات من السواد كأنها غلالات أخفى الظلامُ ما تحتها.
صوت
ليس صحيحًا ما قيل عن انتقال السيد عمر مكرم من دمياط إلى طنطا، ولا أنه أمضى في دمياط أربع سنوات، واستكمل مدة النفي في طنطا، حتى لقي وجهَ ربه.
ذلك زعم باطل.
صحة ما جرى أن السيد عمر غادر دمياط — بموافقة الباشا — إلى القاهرة. كان مريضًا، فلم يترك فراشه، وإن أذن لخواصه المقربين بعيادته، والجلوس إليه، مال إلى العزلة، هي المتاح في ظروف المرض، وتفاقم أوضاع البلاد، وتوقعات الثورة.
من أوراق السيد عمر مكرم
النفي إلى الآخرة برحمة الله، أهون من السفر إلى طنطا. صرت في سنٍّ متقدمة، لا أتحمل معها مشقة الانتقال من مكان إلى آخر، الوهن يتخلل جسدي، يقيد حركتي، يقتصر انشغالي بأحوال الآخرة، أراجع ما كان في حياتي، وما يهمني تقديمه عند حساب الملكين. إذا أراد جند الباشا انتزاعي من بيتي، فإن مقبرتي في القاهرة أقرب من طنطا.
لماذا لا يبادر الباشا بما يمنع الناس من التظاهر أمام بيتي لأناصرهم ضده؟ لماذا لا يمارس ما وعدهم به من إعمال العدل؟!
لم يَعُد سحب السجادة من تحت قدمَي الولي، الهتاف: انزل يا باشا، طرده من القلعة، نفيه خارج البلاد … لم يَعُد ذلك كله — منذ واقعة القلعة — شأن الأمراء المصرلية، لم يَعُد شأنهم على الإطلاق، صار شأن العلماء والمشايخ وأرباب العائلات وأولاد العرب، هم الذين أسقطوا الوالي خورشيد، انتزعوا حقَّ طلب الولاية، وحق الإبعاد عن البلاد.
نحن لن نسجنه، ونحاسبه على ما فعل، نكتفي بسحب السجادة، نطلب إنزاله من القلعة.
صوت
لزم السيد عمر أفندي النقيب — بتأثير المرض — فراشه، وإن لم يغادره الوعي والتنبه والذاكرة والسؤال عن أحوال البلاد.
عرف المريدون والخدم، حتى مَن لم يلامسوا أحداث السياسة، ما لم يكن عرفوه من قبل. ذكر السيد أمامهم أسماء محمد علي وأسيوط وبونابرت والخضري ورشيد وداغر والسادات وكليبر والعلاف ومراد وإبراهيم ومغاوري والشرقاوي والمهدي والدواخلي والأسمر وأبو العز، ذكر بالخير، أو أدان، مَن أساءوا إلى الناس، لم يُشِر إلى شيء يخصه، كانت مصر شاغلَ كلماته.
راع صالح همس جده لنفسه: كل حياة آخرها الموت!
تأثَّر لقوله وهو ينظر ناحية المشربية المطلَّة على الطريق: لن ينتظر نور الفجر صياح الديكة حتى يُشرق.