مقدمة
تدور في صحفنا اليوم معركةٌ أدبية حول طبيعة الفن وغايته، وهل ينبغي أن يكون فنًّا هادفًا، أم يكون فنًّا «من أجل الفن» فحسب. وعلى الرغم من أن هذه المعركة قد طال أمَدُها، دون أن يبذل أحد الطرفين جهدًا لتفهُّم وجهة نظر الآخر، وإدراك الدلالة التي تكمن وراء تشبثه بها؛ فليس من شك في أنَّ من صميم مهمةِ أي باحث في فنٍّ من الفنون، ألا ينعزل عن هذه المعركة الدائرة، بل ينبغي عليه — إذا شاء أن يكون بحثه مرتبطًا بالمشاكل الفكرية للعالم الذي نعيش فيه — أن يحدد موقفه منها، ويحلِّل معانيَها المختلفة، ومدى صلتها بالمشاكل التي يناقشها.
وأول ما أودُّ أن أنبه إليه، هو أن مشكلة الفن الهادف، والفن لأجل الفن، قد أصبح لها معنًى باطلٌ عند الكثيرين ممن يعالجونها؛ فالقضية التي يدافع عنها أنصار فكرة الفن لأجل الفن، هي قضيةُ تلقائيةِ الفنان: أعني أن الفنان ينبغي ألا يُفرَض عليه هدف من الخارج، بل يجب أن يُترَك ليعبِّر عما يحس به فحَسْب. والخطأ الذي يقع فيه كثيرون من أنصار فكرة الفن الهادف — وأكون متجنِّيًا لو قلت: كلُّهم — هو أنهم يُصوِّرون دعوتهم كأنَّها تَفرض على الفنان أهدافًا معينة، يتحتَّم عليه أن يَجعل من فنه أداةً للتعبير عنها. وهذا الخطأ هو أخطر ما يُصيب قضيتهم، وهو الذي يستغله خصومهم، ويستمدون منه قوتهم. فلا جدال في أن حرية الخلق، وتلقائيته، شرط أساسي لكل إنتاج فني سليم، فإذا ضاع هذا الشرط بدا العمل الفني مُتكلَّفًا، لا روح فيه.
على أن في الدعوة القائلة بالفن لأجل الفن نقطةَ ضعفٍ أساسيةً، تكاد تَقضي على مذهب أصحابها بأسره؛ تلك هي تَماديهم في فكرة الحرية والتلقائية إلى الحدِّ الذي يتركون الفنان فيه يُنتج كما يشاء، حتى لو كان إنتاجه هادمًا لمقوِّمات الإنسانية، أو الجماعة التي يعيش فيها، وحتى لو كانت أعماله تبعث في المجتمَع روح التخاذُل والانحلال، أو تتجاهل المشاكل الحقيقية لهذا المجتمع أصلًا. فلا جدال في أن الفن مسئولية كبيرة، ومجرَّد كون الفنان قد أخذ على عاتقه مهمةَ نشر فنِّه بين الناس، ولم يكتفِ بجعله مسلاة لشخصه هو وحده، يعني أنه قد تحمَّل هذه المسئولية، أي: تحمَّل العواقب الناجمة عن انتشار فنه بين الناس، ومن هنا كان من الضروري أن نحاسبه على الآثار التي تجلِبها أعماله الفنية على المجتمع الذي يعيش فيه.
وإذن، ففي موقف كلٍّ من الطرفين نقطةُ ضعف ينبغي التخلُّص منها، ومَيْزةٌ ينبغي الاحتفاظ بها. أي إنَّ الوضع السليم للفن هو أن يكون تلقائيًّا حرًّا، ويكون في نفس الوقت عاملًا من عوامل النهوض بالمجتمع نحو مستقبل مشرق مضيء. فكيف نوفِّق بين هذين الشرطين، اللَّذين يبدو كل منهما متعارِضًا مع الآخر؟
لست أشك في أن الفنان الصحيح إذا تُرِك دون أن تُفرَض عليه أهداف معينة، سوف يُنتِج من تلقاء ذاته فنًّا هادفًا. ولا جدال في أن المجتمع الذي يكون عليه أن يفاضل بين فنان يتجاوب معه وفنَّان ينعزِل عن مشاكله، سوف يفضِّل الأول حتمًّا. بل إن الناقد العالم ينبغي بدوره أن يفضِّله؛ ذلك لأن الفن يَفترض قبل كل شيء حساسيةً مرهَفة، والفنان الذي يصل به جمود الحسِّ إلى حد عدم الشعور بمشاكل الجماعة المحيطة به — كأنْ يَقصُر هذه المشاكلَ مثلًا على الحرمان الجنسي، في الوقت الذي يكون المجتمع فيه زاخرًا بالمشاكل الحيوية التي تتعلق بتوفير ضرورات الحياة لأبنائه — مثل هذا الفنان لا يستحقُّ الاسم وحده؛ فالمقياس المعتَرَف به للمفاضلة بين فنان وآخر — أعني دقة الحس وسرعة التأثر — هو ذاته الذي يحتِّم علينا إيثارَ الفنان الذي يشارك مجتمعَه مشاكله، ويعينه على حلِّها، على ذلك الذي ينعزل عما حوله، أو يُغرق الناس في مشاكلَ لا تمسُّ شخصًّا سواه من حيث هو فرد.
وإذن فتلقائية الفن لا تتعارض على الإطلاق مع كونه هادفًا، ولا أشك في أن وضع المشكلة على هذا النحو يوفِّر علينا كثيرًا من المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع، والتي تَمسَّك كل فريق فيها بموقفه دون أن يحاول تفهُّم وجهة نظر الآخر؛ فظن فريق الفن الخالص، أو الفن لأجل الفن، أن خصومهم يرمون إلى تقييد حرية الفنان وفرض موضوعات معيَّنة عليه (وإذا حلَّلْنا أقوال بعض دعاة الفن الهادف وجدنا أنَّ لهؤلاء بعضَ العذر في ظنِّهم هذا)، بينما ظن فريق الفن الهادف أن الحرية والتلقائية ترتبط حتمًا بالانعزالية والفردية (ولهم بدورهم العذرُ في ذلك). ولو حلَّل كلٌّ من الفريقين موقف الآخر على حقيقته لوجد أنه لا تعارض بينهما على الإطلاق، وذلك إذا استبعدنا من الموقفين ما يشوبهما من تفسيرات باطلة.
وفي هذا البحث تطبيق مفصَّل لهذا الرأي على مشكلةٍ نُحِسُّ في مجتمعنا الحاليِّ إحساسًا واضحًا بضرورة معالجتها؛ هي مشكلة التعبير الموسيقي. فالحل النهائي، الذي تتقدم به في نهاية الكتاب، يتمشَّى مع ما قلناه من أن أحوال المجتمع تنعكس على الفنان، وتضفي على أعماله صبغتها الخاصة، ومن أن هذا الانعكاس ينبغي أن يُترك حتى يَظهر من تلقاء ذاته بحرية، دون أن تَفرضه على الفنان أيةُ قوة خارجية. وبهذا وحده ترتفع موسيقانا إلى المستوى الذي بلغَتْه الموسيقى العالمية، ويكون في وسعنا أن نقول: إن لدينا موسيقى ذات قدرة معبِّرة بحق.