جُحا المصري على مسرح الحياة
يمثل محمود السعدني ظاهرة فريدة في الأدب العربي المعاصر، كما يمثل ظاهرة فريدة أيضًا في حقل الصحافة العربية … إنه ذلك الذي اجتمعت فيه خصائص الأديب العربي كما عرفته مجالس البصرة والكوفة، بخصائص الشخصية المصرية المسماة بابن البلد، الذي يتردد على المقاهي في المدينة، وعلى المصاطب في القرى، وشطآن المصارف والقنوات. ترى فيه الجاحظ وعبد العزيز البشري، مع شاعر الرباب والفرفور والحاوي؛ يستطيع إبهارك في كل لحظة بكل مثير عميق وطريف خلَّاب؛ حيث تكونت لغة طيِّعة بليغة شديدة الثراء، شديدة الوضوح، ناعمة، حادة كشفرة الموسى إن لم تتعامل معها بحذر وحذق جرحتك وأسالت دمك.
بهذه اللغة أصبح السعدني — ربما — هو الوحيد من بين كُتَّاب العربية المعاصرين الذي يستطيع قول ما يريد قوله دون أن تمسك عليه إدانة واحدة ولو بسيطة؛ يستطيع كذلك انتقاد أي وضع وأي شخصية بكل حِدَّة وقسوة دون أن يتورط في أي خروج عن اللياقة أو حدود الأدب.
وهو كاتب يتَّسق مظهره مع جوهره، فهو أفندي مع الأفندية، بلباس إفرنجي أنيق كنجوم السينما؛ بل أشد أناقة؛ وهو بلدي مع أبناء البلد بجلباب وعباءة وطاقية وعصا عوجاية. وأصدقاؤه من أولاد البلد والعمال والفلاحين والحرفيين أكثر بكثير جدًّا من أصدقائه المثقفين. بل إنه لا يستريح إلا مع أصدقائه الخارجين عن دائرة المثقفين، حيث يتوهج وينطلق في المرح بغير حدود.
إن محمود السعدني كالفولكلور العربي مليء بالوهج والحكمة والمكر الجميل الواضح، الذي يجيد إبرازه بصنعة لطافة حين يريد إشعارك بأنك المسئول عن دفعه إلى المكر بك.
يعشق الحواري والغيطان والمقاهي البلدي وزكريا الحجاوي، يعشق السفر والترحال، يعشق التفاني في خدمة الآخرين ومشاركتهم في آلامهم والعمل على إزاحة أكبر قدر ممكن من مسببات قلقهم.
تُرى هل أضاع محمود السعدني عُمره الفائت هدرًا، في سفر ومعتقلات وهموم عيال واغتراب؟ هل أكلته ماكينة الصحافة فأحالته إلى مجرد صحفي جوَّال يبحث لها عن المثير والمسلِّي من الأمور الفكهة؟ أم أنه استطاع أن ينجو من ذلك ويصنع لنفسه مكانة خاصة في ثقافتنا العربية المعاصرة؟
لا أظنني متحيزًا أو مجاملًا إذا قلت إنني مع الشطر الأخير من السؤال … وتعالوا بنا ننظر في إنتاج السعدني ونستقرئ أعماله الفنية لنعرف قيمته الحقيقية.
بادئ ذي بدء علينا أن نتذكر أن محمود السعدني جزء مهم جدًّا من نهضة القصة القصيرة العربية. فبعد جهود الرواد العظماء من أمثال يحيى حقي ومحمود تيمور وإبراهيم المصري ومحمود كامل المحامي وطاهر لاشين وعيسى عبيد وخيري سعيد وغيرهم، استطاع فن القصة القصيرة أن يترسخ في أرض الثقافة العربية، ويفرض لنفسه مكانة مرموقة بين المتأدبين من أصحاب القلم. وكانت المدرسة التي شكَّلت فجر القصة المصرية، كما أثبته يحيى حقي، قد استفادت من هذه المكانة، وعملت على إلباس هذا الفن روحًا عربية خالصة، فبعد أن كانت القصة مجرد محاكاة حرفية للقَصَص الأجنبي — الفرنسي والروسي بوجه خاص — جاء كُتَّاب هذه المدرسة الحديثة عَربًا بكل معنى الكلمة، يقدمون نماذج أقرب إلى الحياة وإلى الناس الذين نعرفهم في حياتنا، مع بعض الاختلاف بين الرومانسية والواقعية.
أما محمود السعدني فكان أكثر التصاقًا برجل الشارع المصري، واكتشاف آفاقه الحقيقية الكامنة وراء مظهره الساذج الأمي المتخلف، واكتشاف الحكمة الكامنة في حياة الصُّياع والضائعين والمحتالين والنصابين، وكُنه الحياة الحقيقية لدى الحرفيين والمُعدَمين، وفهلوة ابن البلد المصري وكيفية تعامله مع الحياة وفهمه لها؛ بلُغة هي لغة الحياة اليومية في الشارع المصري وعلى المقاهي، وبين الأفران والورش والمصاطب الريفية، وبمبوطية بورسعيد والسويس والإسماعيلية. وهي لغة اكتسبت على يديه جزالة عربية وفصاحة لا فرق بينها وبين لغة الأدب العربي القديم في أزهى عصوره، مع أنها تَرِد على ألسنة العامة؛ اللهم إلا في وضوح السعدني ونصاعة بيانه بشكل يفهمه الأمي لو قرئ له فهمًا تامًّا.
نستطيع القول بضمير مستريح: إن السعدني نجح في «دحلبة» القواميس العربية القديمة؛ واحتال بسحره على مفرداتها الضخمة المهيبة ذات الأرستقراطية العريقة؛ حتى أغراها بالنزول معه إلى الشوارع والعشش والأخصاص والمقاهي ومراكب الصيادين. فلما رافقته في جولاته هذه واستشعرت كل عشقه لها؛ عشقته بدورها وأعطته نفسها كاملة غير منقوصة، كشفت له أسرارها وقد أحبت شقاوته، واستجابت لمقالبه وفصولاته المضحكة البريئة؛ أحبت همومه ومشاكله فأعانته على شرحها والتعبير عنها بسهولة ويسر شديدين، مع الرصانة والعمق والنفاذ، على أرضيةٍ من الصدق، عبر الأشكال القصصية والصحفية العديدة التي مارسها فلم يستعصِ عليه شيء منها على الإطلاق.
وإلى كل ذلك فمحمود السعدني متحدث على درجة عالية من اللباقة وحلو الحديث ورقة الحاشية والامتلاء بالحكمة والمعلومات. وإذا تحدث السعدني فإن كائنًا من كان لا يملك إلا الاستسلام لحديثه في طمأنينة، مستعدًّا لتقبُّل كل ما قد يلحقه من سخرية أو تَرْيَقَة؛ إنه يستخسر مقاطعته لسبب بسيط هو أنه ليس بين الجالسين من يصلح أن يكون بديلًا له.
السر في ذلك أن محمود السعدني ليس صوتًا واحدًا، إنما هو عشراتٌ من الأصوات ممزوجة في رَوِيٍّ واحد؛ فأنت تسمع جوقة كاملة من الأصوات شديدة التنوع. أصوات ملوكية وأصوات كَحِّيتة وأولاد بلد وحوذية وبويجية جرسونات وفواعلية وأولاد عرب وفلاحين وصعايدة، وحين أقول بتعدد الأصوات في صوته فلست أعني الصخب، أو أنه يقوم بتمثيل هذه الأصوات كأنماط حياتية بيئية استوعبها الكاتب فبات تمثيلًا بيانيًّا لكل هؤلاء يحمل وثائقهم في قلبه.
ولو لم يكن محمود السعدني كاتبًا لكان ممثلًا لا يُشقُّ له غبار ولا ينافسه أحد من معاصريه؛ فلديه محصول من الذكاء وخفة الظل وموهبة المحاكاة الواعية المتطورة جيدًا، لدرجة أن شقيقه الأصغر صلاح السعدني ورفاقه، مثل عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وأحمد زكي، حين يجلسون في حضرة محمود السعدني يتحولون إلى كومبارس. والواحد منهم يقول: يا سابل الستر، كي تنتهي الجلسة على خير فلا يخطئ أمام السعدني أو ينطق بقول غير موزون وإلا فإن طوب الأرض سيضحك عليه ضحكًا صافيًا رائقًا.