وداعًا للطواجن!
ومع الاعتذار لعمنا الكبير أرنست همنجواي مؤلف رواية «وداعًا للسلاح» والذي أطلق النار على نفسه في النهاية وأراح واستراح؛ نعتذر له لأننا تجرأنا وكتبنا «وداعًا للطواجن» وإن كان من المؤكد أن الطواجن أشد فتكًا من أي سلاح! والأكل لذة من لذات الحياة، وبعض الفلاسفة يقولون إن بعض الناس تأكل لتعيش وبعضها يعيش ليأكل، ولكن تجربة العبد لله في الحياة تؤكد أن كل الناس تعيش لتأكل، حتى الرزق اسمه أكل عيش! وأبرز فرق بين الفقراء والأغنياء هو الأكل. والأغنياء يأكلون المحمر والمشمر والمخمر والمفرم — يعني المفروم — مزغط وفراخ شمورت وحمام زغاليل ولحم بلدي لَبَّاني على حُولي على بتِلُّو راعي برسيم أخضر حجازي في لون دولة بني فاطمة الزهراء. والفقراء يأكلون الفول المدمس والفول النابت والفول الطعمية والفول الحراتي، وبعضهم يكتفي بالجبنة القديمة وقشر البرتقال المخلل، والبعض منهم يأكل قشر البطيخ منقوع في البلَّاص.
أعرف جماعة من الفقراء أيام زمان اقتبسوا جلابية جزَّار ونقعوها في الماء المُغلَى، وعملوا تسقية على شوربة الجلابية وسهروا سهرة حمراء ولا شلة أغاخان على شاطئ كانْ!
الأكل من لذات الحياة مفيش كلام، مهما ادَّعى بعض الأدعياء من أنصار الحنجوري ومن أتباع الطريقة الخُنفُشارية الشنديدية البَشَندية، الذين ينصحون الناس بالتقشف والرضى بما قسم الله، حتى القرآن الكريم وعَد المؤمنين بأنهار من اللبن الطازج والعسل المصفَّى ولحم طير مما يشتهون. وكان المرحوم عبد الحميد قطامش إذا أكل أكلة من إيَّاها بكى بالدمع الهتون من شدة اللذة، وكان كامل الشناوي لوردًا في أكله، يختار الأطايب وينتقي المزَز ويشعر بنشوة وهو يتذوق الطعام. ومأمون الشناوي هو الذي دلَّني على طريق الجبنة البلكان والزيتون الكالاماتا والأنشوجة الإسباني والبصل الطلياني. وكان محمد عودة هو دليلي إلى الكرواسان والفواجرا، والسلطة النيسواز نسبةً إلى مدينة نيس الفرنسية. أما زكريا الحجاوي فكان يعرف أطايب الطعام، وكان منظره يفتح النفس وهو يأكل. وهو الذي فتح معدة عيون العبد لله على شَبَار الجوابي وسمك الطوبار والسهلية والمياس وطير الشرشير والبلبول والخضراي والحمراي. وكان الشيخ عبد الوارث الدسوقي هو أستاذي في الليمون المعصفر مع البصل البحيري، ويا سلام لو صينية سمك زحاليق باليخني وعرقين سِريس من النوع الذي يُحوِّل البني آدم إلى قاذفة ألغام. وكان المعلم سرور أبو هاشم هو أول من دلنا على طريق الطواجن … الله يخرب بيتها. ولم تكن «طواجن» من النوع العادي، ولكنها طواجن لو أكل منها إنجليزي حُر من بتوع بريستول لسقط ميتًا في الحال. طاجن سرور أبو هاشم كان في حجم حُجرة صغيرة، وفي هذه الحجرة الصغيرة كان عمنا سرور يضع قطعًا من اللحم الكندوز منتقاة بعناية، ومع اللحم مغرفتين سمن بلدي في حجم سُلطانية الطُّرشي. ومع السمن بصل صعيدي يكفي حارة مصرية لمدة عام، ومع البصل شوال فلفل أخضر حرَّاق، وكمية بهارات من النوع الذي كان مستعملًا في بلاط خالد الذكر السلطان عثمان حيدر أباد. وعلى سطح الطاجن كمية من جوزة الطِّيب تكفي واحدة منها لتخدير ثور صومالي عنيد. والعبد لله كان من أَكَلة الطواجن قبل معرفتي بسرور أبو هاشم، وأكلتها في أثينا والمغرب، ويسمونها الطاجين. ولكنها كانت طواجن بامية وطواجن تورلي وطواجن لحمة، ولكن طواجن سرور أبو هاشم لم يكن لها مثيل في طواجن أُمم الأرض. ومات سرور أبو هاشم وتولى المهمة من بعده الحاج سيد مخيمر، وورث الطواجن عن الاثنين الحاج إبراهيم نافع. ولكن الأمانة العلمية تفرض علينا أن نُعلن الحقيقة المُرة، وهي أنه لا سيد مخيمر ولا إبراهيم نافع استطاعا الوصول إلى قمة العمل الدراماتيكي الريلكتيكي الميتافيزيقي الذي كان صفة طاجن العم سرور، وباختصار كان طاجن العم سرور هو العمدة بين الطواجن، وصاحبه هو أستاذ بكرسي في جامعة الطبيخ. وآه من طاجن العم سرور تأكله أحيانًا فتنام، وتأكله أحيانًا فتموت!
وزمان في زمن الحلم الذي ولَّى والشموخ الذي كان، اتصل بي مسئول في الاتحاد الاشتراكي وسألني هل عندكم في الجيزة فلاحون يتكلمون في الاشتراكية ويؤمنون بحتمية الحل الاشتراكي للوصول إلى مجتمع الوفرة والسعادة والعيش اللذيذ؟ وسألت المسئول الاشتراكي … ليه؟ قال … لدينا ضيف عربي يريد أن يطمئن على أن مفهوم الاشتراكية وصل بالفعل إلى الناس العاديين. قلت له بسيطة. وأعطاني عنوانه في الأوتيل وطلب مني الاتصال به وترتيب لقاء مع بعض «الكوادر» الاشتراكية من أبناء البلد عُمَّالًا وفلاحين. الطلب كان صعبًا للغاية؛ لأنه كان لدينا فلاحون وعُمال استفادوا من القرارات الاشتراكية دون فهم لها، لأن المكاسب جاءتهم بالساهل وعلى الطِّبْطاب. قد يكونون حلموا ذات ليلة بالمكاسب الاشتراكية ولكنهم لم يناضلوا من أجلها ولم يدخلوا السجن في سبيل الحصول عليها. وكان عندنا في الجيزة كُمْساري يحفظ الميثاق عن ظهر قلب ويردده. وقبل الثورة كان من هَتِّيفة حزب من الأحزاب، ثم اعتنق مبادئ هيئة التحرير قبل أن تعلن أي مبدأ، ثم وقع في غرام الاتحاد القومي، ثم آمن بالاتحاد الاشتراكي ويتكلم باللاوِندي عن حتمية الصراع الطبقي (نسبةً للطبقان وليس للطبقات) ثم هرول الكُمساري إيَّاه نافخًا في صفارته بقطار الاتحاد الاشتراكي بعد ١٥ مايو، وهو الاتحاد الاشتراكي الذي كان «يخدم ولا يحكم» في عهد أنور السادات. ثم قفز من سفينة الاتحاد الاشتراكي الخدَّام إلى حزب مصر، ثم إلى الحزب الوطني. المهم أنني اخترت خمسة عشر شخصًا واستبعدت الكُمساري إيَّاه، ونصبنا القعدة عند الحاج سرور أبو هاشم وعملنا الطواجن إيَّاها، وأكل الضيف ولكنه لم يناقش أحدًا، لأنه بعد أن أكل الطاجن وسلطانية الطرشي نام وارتمى بين الظلام على رأي عمنا كامل الشناوي، وعندما أفاق بعد ساعات كان يبدو عليه الإجهاد. فالأكلة ثقيلة والطاجن آخر دسامة، والصنعة ترشِّح العم سرور للقيام بدور الشيف في مطعم مكسيم. وطلبني المسئول الاشتراكي في اليوم الثالث، وسألني: إنت عملت إيه في الضيف؟ قلت له: جمعته بالناس. وسألني: وناقشهم؟ لزمت الصمت فترة ثم قلت للمسئول: هو زعلان ولا حاجة؟ قال: بالعكس … إنه يكاد يُجَن من فرط السرور، لقد اطمأنَّ على النظام الاشتراكي وانشرح قلبه بوصول المفاهيم الاشتراكية للناس الذين في القاع.
نعود مرة أخرى إلى الإخوة الأَكِّيلة، وهم أشكال على ألوان أخينا الفنان محمد رضا، شفاه الله، بطل أبطال العالم على حلبات الطعام. ويا حلاوة منظره وهو يأكل، خصوصًا لو كان على مائدة مع إبراهيم نافع ومحمود غريب المحامي، ولكن كان هذا عهدًا ومضى. والآن يسمع محمد رضا عن الأكل كما يسمع عن نزول رائد الفضاء على أرض القمر. وأخونا المهندس علي والي يسافر إلى الخارج كثيرًا ويرتكب كل ليلة جريمة التردد على مطعم مختلف. آخر مرة في لندن صحبني إلى مطعم «بورمي» نسبةً إلى بورما، ولكني اكتشفت بعد الأكل أنه مطعم «بورمجي». وأقول لكم يا سادة يا كِرام أنا في حياتي لم أتناول طعامي من المجاري، ولكن المجاري ألذ بالتأكيد من المطعم البورمجي إيَّاه. لأن بورما، التي هي دولة من دول جنوب شرق آسيا، وذلك العِبُّ كله مشهور بالنكهة واللذة والتفنن في الطهي التمام.
والعبد لله أكيل ممتاز جرب كل أنواع الأكل التي عرفها البشر من آدم وحتى الآن. أكلت لحم القرود النسانيس في غانا، وأكلت لحم الفيل أبو خرطوم في جنوب السودان، وأكلت لحم الطاووس في إيران، وأكلت المرارة والشرموت في شمال السودان، وأكلت الجراد في مالي، وأكلت الدود في هونج كونج، وأكلت الجمل البعرور في الخليج، وأكلت السرومباء عند سيد مخلوف في الإسماعيلية، وأكلت الضفادع في فرنسا، والباهِية في إسبانيا، والسمك المسجوف في العراق، وأكلت الغبقة في الكويت، والمَنْسَف في الأردن، والمبَكْبَكة والبازين في ليبيا. أما المبكبكة فيا ميت حلاوة عليها، أما البازين فهي الخالق الناطق … لا مؤاخذة!
ولكن لأن العبد لله مثل عمه المتنبي، خلقتُ أَلُوفًا، فقد ظل ولائي الأكيد والوحيد للطاجن. ومن شدة حبي للطاجن نقلت الصنعة عن سرور أبو هاشم وعن سيد مخيمر وعن إبراهيم نافع، وتعلمت كيف أضع في الطاجن الذي في حجم طشت الغسيل كل ما تيسر في المطبخ من لحوم ضاني، صدور فراخ، أوراك أرانب، بصل بحيري، بصل صعيدي، قوطة، بقدونس، جرجير، نعناع، كرفس، جزر، زبدة، ثم كمية البهارات. وشاهدني ضيف إنجليزي وأنا أصنع الطاجن فقال للعبد لله: هذه أكلة إسبانية شهيرة اسمها باهية. قلت للإنجليزي الغَلَباوي: معلوماتك نصفها صحيح ونصفها خطأ. الأكلة اشتهرت في العالم باسمها الإسباني «باهية» ولكنها في الحقيقة أكلة عربية نقلها الإسبان عن العرب عندما كانوا بالفعل لا بالكلام … من صنف الأشاوس واسمها العربي الباقية. وكان العرب يصنعونها من بقايا الطعام بقايا لحم، بقايا خضراوات، بقايا بقول، بقايا سمن، بقايا بصل، بقايا ثوم. ونقلها الإسبان عنهم، ولكن لأن اللسان معوج فقد سموها باهية؛ لأن نطق كلمة باقية تحتاج إلى لسان عربي محض من نسل قحطان! المهم أيها السادة أنني نزلت حَتَتَك بَتَتَك أكل طواجن عمَّال على بطَّال، طواجن لحم، طواجن أرانب، طواجن سمك، طواجن بصل أحيانًا. كنت أنسى فأضع في الطاجن فردة شراب قديمة، أو قطعة من فوطة ممزَّقة. وتذكرت بالمناسبة قصة حصلت زمان وفي سنة ١٩٣٧م على وجه التحديد. وكان في الجيزة واحد اسمه جعلص كان في حجم الفيل الصغير، وكان صاحب مَسمَط وهو أحسن مسمط في تاريخ العرب، ومنذ أول مسمط افتتحه ابن السمينة في بغداد أيام أبو جعفر المنصور. وكان يبيع أنجر الفتة بالكوارع بنص أفرنك، وكان الأنجر إيَّاه كفيلًا بإشباع عائلة مكونة من عشرة أفراد. أما إذا كانت العائلة من النوع الذي يحب الفَنجَرة والفَشخَرة، فبوسعها دفع خمسة تعريفة لتشتري أنجر الفتة بالكوارع وفوق البيعة قطعة من الكرشة البتِلُّو العال. فإذا كانت العائلة على شيء من البحبحة واليسار اشترت أنجر الفتة بالكوارع والكرشة ولحمة الرأس بثلاثة قروش صاغ، وتستطيع أيضًا أن تحصل علاوة على ذلك على قَصعة شُربة من النوع الذي يرُم العظام! وذات صباح، أو بمعنًى أدق ذات ظهرية، رُحت أشتري منه أنجر فتة بالكوارع والكرشة ولحمة الرأس، ووقفت أنتظر دوري وكان أمامي واحد صعيدي ومعه طشت غسيل يريده مملوءًا بالفتة مع الأرز وكوارع جملي من النوع الذي تأكله فتأخذ ديلك في أسنانك وتسافر رَمْحًا إلى الصعيد بدون حاجة إلى الحلزونة أو القطار. وبينما عمك جعلص يعبث بأصابعه في الفتة لكي يخلط الرز بالمرق انتابته حالة كُحَّة فراح يكُح حتى تورمت عيناه، ثم قفز من فمه حتة بلغم في حجم الضفدعة وسقطت في الطشت، ولكن هذه العَملة المهبِّبة لم تلفت نظر المعلم جعلص ولم يجد فيها شيئًا يستدعي كَب ما في الطشت واستبداله بمرق جديد وخبز جديد وأرز جديد. وعندما احتج الصعيدي على حالة الاستهبال التي تمادى فيها المعلم جعلص أفرغ الطشت على رأسه. وتحمَّل الصعيدي الضربة الأولى وتراجع إلى الخلف خطوتين ثم تَقدَّم إلى الأمام ونَقَر عم جعلص بالرأس بين حاجبيه فوقع عم جعلص على دست المرق وصرخ صرخة جلبت عشرات من الصيَّاع وكانت عركة يشيب من هولها الغراب. أما محتويات مسمط المعلم جعلص فقد تناثرت على أرضية الشارع، وأغرب شيء أن الذين اشتركوا في المعركة جلسوا بعدها بعد أن جمعوا الحُطام وراحوا يأكلون الفتة بالكوارع بلحمة الرأس مختلطة بالطين والتراب.
ولكن … ما الذي جرَّنا إلى حديث جعلص والمعركة التي كانت أشد شراسة من معركة المدائن. آه … إنه الطاجن اللعين الذي آن الأوان لكي نرفع القُبعة عاليًا ونقول له ولأمثاله وداعًا للطواجن. ولكن ليه وكيف حدث ذلك؟
المعدة بيت الانشكاح!
والسبب أيها الخلان أن أخاكم العبد لله كان أكِّيلًا عالميًّا ليس له نظير، ومحسوبكم كان على مائدة الطعام ولا تايسون على حلبات الملاكمة، ولا مارادونا في الملاعب الخضراء! ولو اتفق العرب زمان على إرسال العبد لله ممثلًا لهم في الدورة الأولمبية رئيسًا لفريق الهَبر الدولي لضمنت لكم العودة بميدالية من ذهب إن لم تكن من ألماظ وفي أيام شبابي الذي ولَّى كنت أحلم دائمًا بحكم تصدره محكمة الجنايات ضدي بالحبس لمدة عشرة أعوام في حلة ملوخية بالتقلية والأرانب، مع طبق سلطة خضراء مرشوش عليها قُفة شطة سوداني من النوع القاتل، وحتى لو أدت إلى موتي؛ فسأموت سعيدًا كشهداء الغرام. وإذا كانت المعدة هي بيت الداء، كما يقولون، فهي عند العبد لله بيت المزاج وبيت الانشكاح!
وزمان عندما كنت في سن الأشبال، كنت عضوًا أساسيًّا في فريق الطيور الجارحة، الذي مثَّل مصر في الخمسينيات في دوري مطعم مكسيم، كان كابتن الفريق هو عبد الرحمن الخميسي — يرحمه الله — الذي كان يفطر كيلو «لحم محمَّر» ويتغدى بعجل لباني ويتعشى برأس ثور صومالي، ويحبس عليها بعربية تين شوكي ورطلين بلح أَمْهات. أو عمنا زكريا الحجاوي الذي كان قلب دفاع الفريق والذي كان يربح في ذلك الزمان خمسمائة جنيه شهريًّا، يأكل بأربعمائة وتسعين جنيهًا لحمة في الشهر وينفق الباقي بقشيشات على صبيان الجزار!
والفنان محمد رضا الذي كان يسكن في شقة في شبرا في بيت قديم هلكان، ورفض كل المحاولات لتركها، لأنها مكونة من ثلاثة مطابخ وبلكونة تطل على مطبخ الجيران!
ولكن ذلك كان زمان ومضى … ومنذ سنوات مضت والعبد لله يحس بشعور عميق بأن الوقت قد حان للاعتزال، صحيح أنني ما زلت ألعب على موائد الطعام، ولكني ألعب على الموائد كما يلعب هشام يكن مع الشباب الآن، وكما يلعب جمال عبد الحميد مع فريق الزمالك!
أرتدي فانلة الأكل وأجلس على المائدة، وأشوط أحيانًا لقمة هنا ولقمة هناك، وأجد أحيانًا بعض المشجعين يهتفون باسمي وكأنني مايسترو كل المطاعم والأفراح، أصبح العبد لله مثل أحمد ثروت المخرج، مخرج لأنه يُخرِج، وليس مهمًّا ما يخرجه من أفلام تتحول إلى كوابيس في الظلام. ولكن أستاذنا اللاعب الدولي القديم الخبير محمد رضا لاحظ الفتور الذي طرأ على العبد لله، فنصحني بالاعتزال فترة أو التفرغ ومواصلة التدريب، وقال لي إن الشطة هي سر عياك وسر بلاك.
ولكن راسي وألف برطوشة ألا أعتزل، وأنا الذي أكلت مرة مع عبد الرحمن الخميسي خمسة أرطال كباب ودستة أرغفة وثلاثة أطباق طرشي بلدي، الطبق بقرش صاغ، ثم انطلقنا لزيارة أحد الأصدقاء، فإذا به يتناول طعام العشاء، وعزم علينا فتلكأنا، ثم تذبذبنا، ثم نزلنا على الطبلية ومسحنا كل ما قدمه لنا من أطباق الطعام. يا لها من لحظة دامية باكية لحظة الاعتزال، صحيح ليس أقسى منها على نفس بطلٍ دولي مثل العبد لله له في دنيا المطابخ شأن وشنشان! ولكن عناد العبد لله كاد يؤدي بي إلى مقبرة الإمام الشافعي، فمنذ أسابيع هرست أمعائي يد غليظة وقاسية وراحت تلويها بلا شفقة أو حنان، ودُخت دوخة الأرملة على أبواب الأطباء، وسقاني كل منهم رشفة من زجاجة وكتب لي كل منهم روشتة، وغرز كل منهم في جلدي إبرة، وبعد أسابيع عاد البطل إلى الحلبة، ولكنه لم يعد أبدًا مثلما كان! ألعب مرة وأعتذر مرات، وأشترك مرة في اللعب وأهنكر عدة مرات، ولكني أبدًا لا أعتزل ولا أريد أن أعترف بأن الوقت قد حان، وتشبثتُ بمكاني في الحلقة أَسُدُّ الطريق في وجه الجيل الجديد القادم من الدَّبيغة والغِيلان، ولكن مرة أخرى سقطتُ، وكانت السقطة هذه المرة عنيفة وعميقة، إلى درجة أنهم حملوني على محفَّة إلى الدكتور عبد المعز — أكرمه الله — وقال الطبيب العبقري: لا شيء في البطن، وإنما كل شيء في الأعصاب. وسقوني دواء ووصفوا لي صيدليات، وغرزوا في جلدي إبرًا، واعتكفت — لا أقول اعتزلت — ثم عدت من جديد إلى الميدان! عدت أكثر شراسة وأكثر ضراوة، عدت آكل من جديد كما كنت آكل وأنا طفل في أول الطريق!
ولقد كنت دومًا طفلًا شقيًّا في حجم الترانزستور، وكانت أمي تشبهني دائمًا بالفرخة المضعونة، ولم أجد لهذه الكلمة أثرًا، ولا عند بيرم التونسي أستاذ اللغة العامية — يرحمه الله — وكانت أمي شديدة الاندهاش لأن هذا الطفل الذي في حجم الترانزستور يأكل كل هذه الهُبَر من اللحوم وكل هذه الكميات من الطعام.
وأخيرًا أراحت أمي نفسها من مهمة البحث والتحري، وآمنت بأن الأكل يذهب إلى رُكَبي ولا يذهب إلى معدتي. وكان الحق معها؛ لأنني كنت أتناول طعامي مثل أبو فصاد من الوضع قافزًا، ومتشقلبًا كالنسناس في جبلاية القرود! المهم أنني عدت وأنا في الخامسة والستين ألتهم طعامي كما كنت أفعل وأنا في الخامسة والعشرين، عدت إلى الملاعب أقوى مما كنت وفي الفورمة كما يقولون، ولكن حدث انقلاب دمَّر حياتي ومزاجي وعكنن عيشتي وهبب أيامي ولوَّنها بلون التراب، ألتهم الطعام، فتبدأ على الفور سيجارة كنج سايز مشتعلة تلدغ أمعائي في دقة وفي نظام، أشرب ماءً باردًا فيبدأ وابور غاز مشتعل يهري في مصاريني ويفري فيها حتى تصبح عجينة ينقصها حبة سكر وحتة سمنة بلدي لتصبح وصفة تذيعها الست الخبيرة في برنامج ركن المطبخ في الإذاعة والتليفزيون، وشكوت لطوب الأرض، وكل طوبة أشكو لها تتحول إلى دكتور ولا العبقري أنور المفتي — يرحمه الله — ولكن طوبة من إيَّاهم … أقصد دكتورًا من إيَّاهم، هو رسام الكاريكاتير المعروف أحمد طوغان، بعد أن نظر إلى وجهي وجسَّ نبضي، قال للعبد لله: اذهب إلى الريف عدة أيام وستعود معافًى سليمًا — بإذن الله. وذهبت إلى عزبة الصديق الحاج إبراهيم نافع، وعلى الأرض جلسنا كما كان يفعل صهيون، الفرق الوحيد بيني وبين صهيون أنه كان يجلس على الأرض ويبكي أورشليم، وأنا جلست على الأرض وبكيت مصراني الغليظ. ويبدو أن صهيون كان مريضًا مثلي ببطنه، ولذلك كان كثير الجلوس على الأرض كثير النهنهة والبكاء! المهم أنني والحاج إبراهيم على الأرض جلسنا، وأقدامنا في الترعة دلدلنا، وقصعة فتة بالسمن البلدي لهفنا، وثلاثة أزواج فراخ بلدي مصمصنا، وشيشة عجمي بالمعسل ولَّعنا، وشاي أسود كالحبر شربنا، وشعرت بالراحة كما لم أشعر بها من قبل، بطني انتفخت وركبي سابت وأعصابي ارتخت، وجميع مفاصلي ترخرخت، وكأنها كانت مشبوكة كلها بمفاصل وانخلعت مرة واحدة بسبب دانة مدفع أطلقتها قطعة من قطع الأسطول السادس في المليان … وفجأة أظلمت الدنيا في عيني ووقعتُ على الأرض، وجهي أبيض من الشمع وحرارتي تصلح للخبيز والطبخ، واستنجدنا بطبيب يبدو أنه كان يعمل في ورشة ميكانيكي ثم تحول إلى طبيب في حركة ترقيات!
جسَّ الطبيب الميكانيكي بطني وقال: عندك التهاب في الكبد. ووجدت نفسي أموت بلا عزرائيل، فأنا أخاف التهاب الكبد، كما أخاف السرطان والذبحة الصدرية والسكتة القلبية وكافة شيء يذهب بالإنسان إلى قرافة الإمام. والعبد لله يخاف الموت — أستغفر الله — وأكرهه، ولكني لا أدري لماذا استسلمت هذه المرة فقط … طلبت من الله مهلة حتى أتوب عن الأكل بلحسة عسل في الصباح وشريحة طماطم في الظهر ولحسة مربَّى في المساء. يا للهول … على رأي عمنا يوسف وهبي، لم يعد أمام العبد لله خيار … الاعتزال … أو الموت الزؤام! حكم من محكمة القضاء والقدر المشمول بالنفاذ. وأنا متهم بالخيانة، وتهمتي أنني تعاونت على مدى ستين عامًا مع هيئات ضد البشرية اسمها المطاعم، ومع مجرمي حرب اسمهم «الطباخين»، وأنني حشرت في أمعائي قطيعًا من الحيوانات خلال المدة التي عشتها على الأرض تكفي غابة من غابات أفريقيا. وأنني شربت مية طرشي تكفي لقتل عدة أجيال. وقد حانت اللحظة لألقى مصيري كمجرم حياة. وألحق بأخي وشقيقي ورفيقي مجرم الحرب المرشال جورنج — يرحمه الله. ونمت على سريري في هدوء وفي نيتي أن أعتزل، ثم حملت شنطتي على كاهلي ورحلت إلى الغردقة، والعبد لله لم يشاهد الغردقة منذ ثلاثين عامًا، واكتشفت عندما عدت إليها أنني تغيرت وهي أيضًا تغيرت، أصبحت مدينة وأصبحتُ جلدًا على عظم، أنا مريض في الغردقة شهيد البامية المسلوقة والمية من الحنفية، ألتهم كل يوم عشر حبات فبرامايسين «وأنتتركس» وأنتوسيد وملعقة عسل نحل على غيار الريق، وأنا — وحق الفلفل المخلل — لم أذق طعم العسل النحل في حياتي إلا في الغردقة، أنا — وشرف الحاج عبد العال الطُّرشجي — لم أتذوق طعم الأرز في حياتي ولا أعرف طعم المكرونة، ولم أقترب مرة واحدة من الحلوى الشامية أو الحلوة المسقطية، ولم يكن طعامي إلا اللحم واللحم فقط، ولكن … ما أغرب الحياة، فأنا طول عمري وجهي أصفر دبلان كالليمونة المخللة، طول عمري زهقان كأنني مريض طالت إقامته في مستشفى قصر العيني، ولكن وجهي بفضل البامية المسلوقة أصبح أحمر من قماش القطيفة، وأنهض الآن من فراشي كأنني غراب نوحي يهم بالطيران على شاطئ النيل، أنا مبسوط الآن كأنني صعيدي كسب البريمو! شيء واحد فقط كان يؤرقني ويعذبني ويكاد يدمِّر حياتي … وهو الكتكوت، فأنا موصوف لي كتكوت كل يوم، ولكنه كتكوت ولا كل الكتاكيت، كتكوت أصفر هزيل كان قبل ذبحه يعاني من التهاب المصارين، وأحيانًا أعثر في جوفه على حبوب الأنتوسيد والفبرامايسين، ويخيل إليَّ أحيانًا وأنا أنظر إلى الكتكوت أن العبد لله هو الموصوف له وليس هو الموصوف لي! وحكمة الله أنني منذ ثلاثين عامًا — أيام الصياعة والصحة الحديد — كنت أهزأ من كل مريض يشكو من أكل المسلوق، وكنت أندهش من كل مريض يأنف من أكل الكتكوت، فمن ذا الذي يرفض أكل الكتكوت! ولو كان هزيلًا أو مسلوقًا أو حتى ميتًا منذ زمن بعيد.
مأساة ورب الكعبة أنني أفنيت عمري كله لكي أصل إلى حالة تسمح لي بالاستمتاع بالطعام الذي أتمناه، فلما توفرت ألوان الطعام التي أعشقها، كان المشوار قد برى جسدي وهد قواي. لم أدرك إلا الآن أنني خلال الصراع العنيف مع الحياة خسرت أهم أسلحتي وهي المعدة التي تهضم الزلط والصحة التمام! وعندما انجلت المعركة كانت الغنائم المطروحة على الأرض لا تساوي شيئًا في سوق الحياة، غنائم كثيرة أشكر الله عليها، ولكني مستعد أن أقايض بها من يشاء مقابل صياعة زمان ومعدة زمان.
وفي البداية تصورت أنها مجرد وقعة مثل وقعات سبقتها ونجوت منها بإذن الله. ولكن آه من القدر إذا عاند، وآه من الحظ إذا انكسر. نصحني الدكتور عبد المعز ومعه الدكتور مازن نجا أن أقوم بإجراء تحليلات كاملة وشاملة لمعرفة أسباب الداء وحتى يمكن وصف الدواء. والعبد لله يكره التردد على عيادات الأطباء، ويكره الانتظار في استراحات المستشفيات، ولكن ما باليد حيلة، وليس من إجراء التحاليل مفر خصوصًا وأن آخر مرة أجريت فيها فحوصات طبية كانت منذ عشر سنوات، وأقنعني صديق وقتها بضرورة إجراء فحص عام، وليتني ما فعلت.
كانت وجهة نظر صديقي أنه لا بد من عمل الفحوصات بعد هذه الدوخة التي امتدت عشر سنوات في بلاد الله، غريبًا كالطير المهاجر، جريحًا كالكلب الهزيل، حزينًا كفلاح منعوه في المطار من السفر إلى الكويت. وذهبت إلى مستشفى «المقاولون» العرب وأجريت كل الفحوصات المطلوبة، ثم جاءت النتيجة … الدم لا غبار عليه، القلب لا بأس به، الكبد على ما يرام، الكلية آخر تمام، المخ آخر انضباط، ولكن جاءت صورة أشعة الصدر، وألقى الطبيب نظرة أولى ثم نظرة ثانية، ثم نظرة ثالثة، ثم نظرة رابعة، ثم مط شفتيه، ثم أرعش حاجبيه، ثم قال: لديك ورم في الرئة ولا بد من جراحة عاجلة … سألته عما يقصد بالورم فأجاب ببساطة شديدة: سرطان بالطبع! ولكن لأن العملية تحتاج إلى مزيد من الفحوص ومزيد من الاختبارات، فقد أمهلني إلى اليوم التالي، لكي يتعرف على تاريخ المرض وبدايته ومدى تغلغله وما يجب على الطبيب أن يفعله من أجل استئصاله … ولا أدري كيف قضيت الليلة حتى وصلت إلى المستشفى في الصباح، ولكني ذهبت، ودخلت مع الطبيب في معركة ولا معركة أبو زيد الهلالي مع دياب بن غانم.
ولكن هذه حكاية أخرى
مرحبًا عصر المسلوق
لا أعرف كيف وصلت إلى المستشفى في صباح اليوم التالي، لكن ما أعرفه أنني قضيت الليل ساهرًا مع الحاج إبراهيم نافع وبعض الأصدقاء كانوا يتكلمون، ولكني لم أسمع حرفًا واحدًا مما قالوه. وكنت مبصرًا ولكني لم أرَ شيئًا على الإطلاق. وكنت حيًّا بشهادة الشهود ولكني في الحقيقة كنت مجرد جثة تنتظر الدفن.
يا له من إحساس رهيب يشعر به المحكوم عليه بالإعدام وهو في طريقه إلى تنفيذ الحكم. رحت أستعرض حياتي وما حفلت به من أيام سعيدة وأيام زي الزفت. حبة فوق وحبة تحت على رأي حكيم هذا الزمان … أحمد عدوية! كنت في تلك اللحظة في السابعة والخمسين من العمر. وكنت خارجًا من معركة أشد شراسة من معركة العَلَمين. عشر سنوات صياعة وضياعة ودوخة عند اللي يسوى واللي ما يسواش.
عشر سنوات منها ست سنوات في العراق، بينما أجهزة الإعلام في القاهرة تؤكد أننا نقيم في ليبيا! حتى المعلومات لم تعد متوافرة عند الأجهزة في مصر. وأشهد الله، والله على ما أقول وكيل، أن العراق به شعب عربي طيب وعنده حزب أجارك الله. حزب السحل العراقي يضم خمسة ملايين مخبر مهمتهم الوحيدة هي الإبلاغ عن كل شاردة وواردة في العراق. وإذا كان الجيش العراقي قد غزا الكويت. فجيش المخبرين غزا العراق منذ عام ١٩٦٨م وحتى الآن. وبعض المخبرين يخبرون بمزاجهم وبعضهم يخبر رغم أنفه وعلى غير هواه. كنت أعرف مخبرًا من هؤلاء، كان يلازم العبد لله كجزء من مهمته، ولكنه في ساعات صفوة وبعد أن يأكل ويشرب يقول كلامًا يكفي لسحله في شارع الرشيد. وكان منظر المخبر وهو يأكل يُفرح القلب ويسر الفؤاد. كان يأكل سمكة من السمك (المسجوف) طولها طول بني آدم وعرضها عرض القماش الإنجليزي الممتاز. ويأكل معها عشر صوابع كفتة طول الصابع وحجمه الخالق الناطق صباع موز مغربي عال العال. ويأكل إلى جانب ذلك صحن كبة وفوق البيعة صينية تضم تشكيلة من الخس والجرجير والبصل الأخضر والطماطم والخيار ونوع آخر من الخضراوات اسمه الرشاد.
والشعب العراقي أكِّيل وكريم وشهم، ولكن أكلهم يختلف تمامًا عن أكل المصريين. لم أشاهد على مائدة أي عراقي صحون طبيخ من النوع الذي نعرفه. صحون الكوسة والسبانخ والملوخية يسمونها مرق، أما الطعام الحقيقي فهو النوع الصلب المصمت الذي يشبه الحجر. كبة نية، كبة محمرة، دجاج، خروف محشي، رأس غنم أو رأس ثور ويسمونها الباجا، مصارين الذبيحة والحلويات اسمها المعلاج. وكانوا يبدون دهشتهم لأن المصريين لا يأكلون إلا المرق. ويبدو أن المطعم العراقي يقوم أساسًا على هذا الأكل الحجر. والدليل على ذلك أن الخليفة هارون الرشيد مات شابًّا في الخامسة والأربعين ومات بسبب الزحار … وهو الإسهال الشديد. وكان أستاذنا في الدبغ عمنا هارون الرشيد يتناول طعامه على مائدتين، مائدة للطعام ومائدة للمهضمات، وكان بطينًا … يعني كرشه قدامه، وكان يمشي الهوينا — كما قال الشاعر — مشي الوجي الوحل!
والفرق بين الأكل المصري والأكل العراقي، ليس فرقًا في الأصناف والألوان فقط، ولكنه فرق رهيب وخطير ويحمل دلالات شديدة الأهمية. فالمصري يكفيه أي شيء، وهو في النهاية يأكل مرقًا … أي شوربة، والشوربة في حقيقتها مجرد ماء مخلوط بشيء، قد تكون أعشابًا وقد تكون لحمًا، لأن المصري يأكل ليشبع معدته، بينما العراقي يأكل ليشبع مزاجه. المصري يمكنه الصبر على المكاره، ويأكل العيش الجاف ويطبع قبلة على يده ظهرًا وبطنًا ويحمد الله على ذلك. ولكن آه … لو حرمت العراقي من خبز التنور ومن العجين باللحم، ومن الباجا والسمك المسجوف. آه لو غاب عن مائدته طبق الزلاطة، ولو حرم من قزقزة اللبلبي، ومن أكل الأجاص و«علابالو» والرجى (البطيخ) والبطيخ (الشمام).
العراقي إذا أكل يدخل معركة ولا معركة البَسوس، وهو يأكل بفمه وبعينيه، يتناول اللقمة ويحشرها في فمه، ثم يغرز الشوكة في اللقمة الجديدة، ويرفع الشوكة ويظل يرمقها بعينيه بشوق وبحنان وبحب … وكأنها ليلى العامرية وهو قيس بن الملَوَّح!
ويا سلام على منظر العراقي وهو يشفط استكانة الشاي بعد الأكل، وهو لا يكتفي باستكانة واحدة ولكنه يشرب عدة استكانات … ولا بد أن تكون بالنعناع. وإذا كان المصري يقنع بكوب شاي واحد في كل مرة يتاح له فيها شرب الشاي، فلا أقل للعراقي من براد كامل، يظل يشرب منه استكانة بعد استكانة، فإذا كان ميسَّر الحال، حملوا الفارغ وأتوا بالمليان!
وما ينطبق على العراقي ينطبق على الشامي. والشامي هو الذي يقيم في المساحة الممتدة من غزة إلى الموصل. الأكل عند الشوام متعة وليس مجرد مهمة يقوم بها الإنسان بهدف البقاء على قيد الحياة. ولذلك أيضًا يندهش أهل الشام عندما يجدوننا نأكل الملوخية ونقدمها كطبق رئيسي على مائدة الغداء.
دعوت أديبًا عراقيًّا على الغداء، فلما رأى الملوخية على المائدة صاح مستنكرًا: نأكل شوربة؟! وقلت للأديب العراقي: نحن نأكل الشوربة ونعيش عليها أغلب الوقت ومنذ عصر الحاكم بأمر الله!
أذكر أيضًا أنني ذهبت مع صحفي لبناني صديق لنأكل لقمة عند حاتي عراقي بشارع الرشيد لديه عربة يد … ولكن صنعة يديه كانت أفضل من أفخر محل كباب في بغداد. كان الزحام على أشده حول عربة الكباب، وكان أغلب الزبائن تفوح منهم رائحة «العرقي» وهو الشراب المفضل لدى السواد الأعظم من شعب العراق. وكان شيش الكباب … أو سيخ الكباب بالمصري بخمسة قروش عراقية، ولكن أقل طلبية لأقل زبون كانت عشرين شيش كباب. ولكن الذي جعلني أكاد آخذ ذيلي في أسناني وأهرب من المكان. أن البعض كان يطلب عشرين شيش لحم، والبعض الآخر عشرين شيش شحم. هل تعرف الشحم؟ إنها لية الخروف مقطعة بالسكين على هيئة مكعبات صغيرة. العبد لله شخصيًّا لو أكل مكعبًا واحدًا من دول لانتقل فورًا إلى قرافة الإمام الشافعي!
أذكر أيضًا أنني استعنت ببعض العُمال لإصلاح الحمام. فطرقوا بابي في السادسة صباحًا وبدءوا العمل. كانت المجموعة مكونة من عاملين ومباشر، ويبدو أن هذا المباشر هو المقاول في نفس الوقت. وفي الحادية عشرة تمامًا توقف العمل، وتصورت أنهم غضبوا من شيء، أو أنهم صادفوا عقبات في الحمام. ولكني اكتشفت أن موعد الغداء قد حل!
نصبت لهم ترابيزة في الحديقة وعزمت عليهم بأكل مصري ولكنهم رفضوا شاكرين. ثم أرسلوا أحدهم فعاد بستين شيش كباب وبعشرين شيش شحم، وبثلاثة معلاج … كل معلاج يزن كيلو ونص، وجاء بشوال طماطم وبصل ورشاد وفاكهة عدة أصناف ورصة عيش من خبز التنور! وطلبوا الماء والشاي بعد الأكل.
وآه من الأكل وسيرة الأكل أيها الأحبة والخلَّان، أخذنا حديث الأكل بعيدًا عن الموضوع الذي بدأناه. كان حديثنا عن السرطان الذي اكتشفه الطبيب الغبي في صدري، ولكني عندما ذهبت إلى المستشفى في صباح اليوم التالي طمأنني فني الأشعة، وقال: عندك شيء ولكن ليس سرطانًا، ووصف طبيبه بأنه حمار يرتدي بالطو أبيض. والتقط الفني عدة صور بجهاز الأشعة، ثم ذهب بالفيلم ودخل حجرة جانبية، وغاب داخلها فترة ثم جاء بعد قليل ومعه طبيب شاب. وابتسم الطبيب وقال للعبد لله: مبروك … مبروك على إيه؟ قال الطبيب: الحمد لله ليس عندك شيء على الإطلاق.
ثم قال بود شديد: تسمح تفك زراير القميص. وعندما أصبح صدري عاريًا هتف مسرورًا: هي دي … الحمد لله!
أما إيه هِيَّه اللي دي؟ فهي حسنة كبيرة أعلى صدري من الناحية اليمين، حسنة في حجم حبة الفراولة إيَّاها بتاعة هذه الأيام … مجعلصة وماسخة، ولم أدر ماذا فعلت، شتمت الطبيب الكبير، ولعنت خاش المستشفى، وعدت أجرجر قدميَّ إلى البيت، وسقطت طريح الفراش لمدة شهر كامل … عافت نفسي الطعام والشراب، وكرهت الخروج من البيت، وخرجت من الأزمة بقرار نفذته بحسم … وهو ألا أدخل مستشفى بعد اليوم.
وبعد أن تجاوزت سن المعاش جاء على العبد لله حين من الدهر اعتقدت فيه أنني نجوت بفضل الله من مصيدة المرض. واعتقدت أنني سأعيش مثل جدي الشيخ خليل إلى سن المائة والعشرين. ولكن لعنة الله على المصران الغليظ؛ آلمني بشدة واستعصى على الشفاء. وشهر كامل وأنا أتعاطى جميع السُّفوف والحبوب من أول المضادات الحيوية وإلى السبازمو كاليناز. ونصحني الدكتور عبد المعز بضرورة إجراء تحليل … وبالمرة تحليل شامل كامل لنعرف حقيقة الأمر.
وترددت كما هي العادة، ولكن عمنا حسن أبو باشا مر على العبد لله في البيت فانكسفت، وذهبت معه إلى مستشفى النيل بدراوي، وأقنعني الدكتور حسام بدراوي بضرورة إجراء جميع التحاليل المطلوبة … ومش هنخسر حاجة … وأيضًا لكي نعرف إيه المطلوب.
واستسلم العبد لله. ولم أكن أعلم أنها ستكون نهاية عصر الطواجن وأننا على أبواب عصر المسلوق.
اقبض … وابدأ الحياة!
مسلوق! ولمن؟ للعبد لله؟ أنا الذي كنت أشم رائحة الملوخية المطبوخة في الإسكندرية وأنا في القاهرة فأرقص عشرة بلدي ولا رقصة تحية كاريوكا في سالف العصر والأوان. أنا الذي رأيت الشيخ عبد الحميد قطامش يبكي — ولا الخنساء تبكي أخاها صخرًا — وهو عاكم بأضراسه فخذ لحمة ضاني بلدي في بيت مدحت عاصم، فلما انتهينا من العشاء وبدأ مدحت عاصم يعزف السيمفونية الخامسة، ارتفع شخير عمنا قطامش إلى السماء. والغريب أن عمنا قطامش كان نموذجًا للأزهري الذي عاش في حواري حي الحسين حتى تخرج في الأزهر، وكل أحلامه أن يعثر على بئر لحمة ولا يرضى عنه بديلًا ولو مائة بئر بترول.
ومنذ عصر محمد علي وحتى يومنا هذا أصبح للأزهريين خاصية لا يشاركهم فيها أحد. يتخرج الأزهري حاملًا شهادة العالمية وهو أنحف من عبد السلام محمد، فإذا توظف وقبض وأكل الأرز والفتة باللحمة أصبح في حجم المرحوم فتلة. والسبب أيها السادة أنه قبل محمد علي باشا الكبير كان التعليم الأزهري هو التعليم الوحيد المتاح أمام المصريين، وكان وقفًا على أبناء الأسر الريفية الثرية المفترية وأبناء العُمَد والأعيان إلى جانب استثناءات لا بد من وجودها من أبناء الطبقة الفقيرة، خصوصًا أصحاب العاهات، ولأن صاحب العاهة الفقير لن يفيد أسرته ولن يفيد نفسه إلا إذا تعلم. أما الفقراء الأصحاء ففي الحقول متسع لهم. ولذلك … عندما قامت ثورة القاهرة الأولى ضد الجيش الفرنساوي بقيادة نابليون تولى قيادتها علماء الأزهر، فلما انتكست الثورة وقُبض على زعمائها، أعدمهم الفرنسيون فجرًا بالقلعة ودفنوهم في قبور مجهولة ولم نعلم عنهم شيئًا إلا من يوميات عمنا الجبرتي، وإذا بتسعين في المائة منهم على الأقل كانوا من أبناء الأسر الريفية الثرية، وقلة قليلة من أبناء تجار المدن الأغنياء، وعدة أفراد أقل من عدد أصابع اليد الواحدة كانوا من آحاد الناس، ولكن بعد أن تولى محمد علي حكم مصر، وبدأ في إرسال البعثات إلى فرنسا، كانت هذه إشارة لأصحاب الطين بأن التعليم خارج الحدود هو الطريق إلى السلطة والنفوذ. وبدأت المراكب تشحن أبناء الصفوة إلى أوروبا، وبعد عشرين عامًا أو ربما ربع قرن أصبح الحكم وقفًا على خريجي جامعات الغرب.
لأن أحوال الفلاحين الفقراء كانت أفضل في عهد أسرة محمد علي عنها في أيام المماليك فقد اتجهوا إلى تعليم أبنائهم في الأزهر. يرسلون ابنهم إلى القاهرة ليواصل تعليمه وليس معه إلا قفة عيش وزلعة مخلل وبقوشة سمن، وبلاص جبنة وريال فضة. وبهذا الزاد عليه أن يواجه الحياة لمدة عشرين عامًا حتى يحصل على العالمية!
ولا يستطيع عبقري مهما كانت قوة خياله أن يصل إلى حقيقة المعاناة التي تحملها أبناء الأزهر في عصر الأسرة العلوية، كل خمسة في حجرة وأحيانًا كل عشرة. والمأكول طعمية من الحلوجي وطرشي من عند أبو سعدية، وعيش سخن من الفرن كل أربعة أرغفة بقرش في الصباح وكل ثمانية بقرش بعد الظهر. غداء أقل مما تقدمه الحكومة للمسجون، بالإضافة إلى علوم على الطالب أن يحفظها عن ظهر قلب. أما الفسحة فهي التجول حول ضريح سيدنا الحسين، وقضاء بعض الوقت في صحن الأزهر. أما العودة إلى مسقط الرأس فهي مستحيلة إذا كانت القرية بعيدة. أما إذا كانت على بعد ثلاثين كيلومترًا. فيا صلاة الزين على الرياضة الإجبارية ولا بأس من قطع الطريق كعَّابي إلى حيث الأم المنتظرة على ما يشبه الجمر عودة ابنها الشيخ!
حدثني عمنا الشيخ قطامش عن رحلته ذات عام إلى مسقط رأسه في قرية المنصورية بالجيزة على بُعد ثلاثين كيلومترًا من حي الأزهر … ارتدى الفانلة أم كم طويل والسروال الذي يغطي الساقين، وشرابًا مصنوعًا من خيش هندي، وحذاءً يعلم الله كم مضى من السنين على عمره الافتراضي. وخرج الشيخ قطامش من القاهرة مع صلاة الفجر حاملًا على كتفه بُقجة فيها بقايا هدوم وبقايا طعام وبقايا ورق وبقايا كتب، وهات يا مارش شمال يمين عابرًا القاهرة إلى إمبابة إلى الوراق إلى المنصورية، وعندما دخل القرية كانت الدنيا ليلًا، وسيمفونية مزيكة من فرقعة ضفادع تملأ الفضاء، وصراخ أم قويق يشق قلب الليل. وعندما دخل الشيخ قطامش بيت العائلة ارتمى على صدر أمه أولًا ثم جلس على الحصيرة يخلع ملابسه وعندما خلع الحذاء كانت المفاجأة مذهلة … لم يجد الشراب في قدميه! أين اختفى؟ أين ذهب؟ كيف انخلع من قدميه؟ مع أنه لم يخلع الحذاء في أي وقت؟
ولكن دوخة طلبة الأزهر في الفترة الممتدة من عصر محمد علي إلى عصر الملك فاروق لا يكفيها مقال هنا أو مقال هناك، إنها تحتاج إلى مجلد ضخم قد تنتهي صفحاته قبل أن نستعرض السبع دوخات التي تعرض لها الأزهريون على مدى ١٥٠ عامًا على الأقل، وهي فترة طويلة بالنسبة للإنسان الفرد، ولكنها قصيرة بالنسبة لأعظم وأقدم جامعة في العالم، وليس تعصبًا للأزهر … ولكنها حقيقة لا تقبل الجدل؛ لأن الأزهر هو وحده الذي حفظ اللغة العربية في مصر، وحفظ لها دينها، وأخرج لها زعماءها وقادتها ورموز حضارتها. صحيح أن الأزهر من نتاج الدولة الفاطمية وكان الهدف من تأسيسه أن يكون معهدًا لعلوم الشِّيعة، ولكنه كان معهدًا إسلاميًّا على كل حال، وكان يوفر لطلبته أحدث علوم العصر، وفتح أمامهم باب الاجتهاد، وقدم للعالم الإسلامي الألوف من الدعاة في فقه الدين وأصوله!
ونعود إلى العم قطامش الذي وصل إلى بيت والدته في المساء وسألها بلهفة شديدة: طابخة إيه يامَّه؟ وجاءت الإجابة: رز بلبن يا بني! وهل هذا طبيخ؟ نعم طبيخ الفقراء المصريين الذين حفظوا أنفسهم من الانقراض بطرق شتى، وتحملوا من أجل ذلك ما لا يستطيع أن يتحمله العفاريت. ولكن قطامش المسكين الذي صار ثريًّا ألمعيًّا اضطر إلى العودة إلى مشنة العيش الجاف والجبنة القريش بسبب مرض السكر. نفس الشيء الذي حدث للعندليب عبد الحليم حافظ — يرحمه الله — عرفته وهو ولد يتيم خريج ملجأ الأيتام الذي تخرج فيه الشاعر العبقري فؤاد نجم الشهير بالفاجومي، وكان يشبع طقة ويجوع عدة طقات، فلما أقبلت عليه الدنيا ودانت له الأيام أصبح الأكل بالنسبة له حرامًا حرمة الميتة والدم بالنسبة للمؤمنين من عباد الرحمن. كنت عنده ذات يوم واستبقاني على الغداء، ولم يكن الغداء إلا مية من الحنفية تعوم فيها بعض شرائح الكوسة وصرخت في وجهه: يا سبحان الله محكوم عليه بالفقر إلى آخر يوم من أيام الحياة، كأنك قطار سكة حديد يجر وراءه سبنسة جوع لا تفارقه ولا ينفصل عنها لأي سبب من الأسباب!
ورأيت الشيخ كامل أبو العينين — رحمه الله — وهو جالس على المائدة العامرة لا يفتح فمه بكلمة واحدة، وكيف يفتحه وهو مشغول بالقضم واللهط والزغط والبلع والهضم أيضًا. ثم رأيته على نفس المائدة وهو يخاطب ألوان الطعام باحترام وكأنه يخاطب الإمام الأعظم أبا حنيفة في مجلسه ببغداد. لم يكن يستطيع أن يمد يده على الطعام، ولم يكن يستطيع أن يحتمل الموقف، فاخترع حكاية الحوار مع الأطعمة حوارًا حارًّا ومثيرًا ولامعًا، لو سجَّله الشيخ كامل أبو العينين لكسبت المكتبة العربية لونًا فريدًا في الأدب … هو أدب الطعام. الغريب أن أبناء الأزهر القادمين من الريف يبدءون حياتهم أنحف من عبد السلام محمد ثم يصبحون مثل الممثل محمد متولي بعد القبض واللهط، ثم يعودون بعد الخامسة والأربعين إلى حجم أحمد بدير، فالأكل يورث السكر، والسكر يورث الضعف.
الأزهري الوحيد الذي أصابه الهزال بعد التوظف هو الشيخ عبد الوارث الدسوقي بالرغم من أنه انتقل من أكل السريس والجعضيض إلى أكل المشمر والمحمر، وحالة الشيخ عبد الوارث تثبت أن الأكل وحده ليس هو صاحب الفضل في بناء الأجسام، ولكن الأكل يحتاج إلى معدة تهضم الزلط وجلد سميك لا يهتم إلا بالأحوال الخاصة ولا يشغل باله بأحوال الآخرين، ولكن الشيخ عبد الوارث كان من فصيلة أبناء الأزهر قبل عصر محمد علي، الذين قادوا الثورة ضد المحتل الفرنساوي وأنزلوا به خسائر جمة وأثخنوه بالجراح واستشهدوا جميعًا رميًا بالرصاص ودفنوا في قبور مجهولة، ولو كان هذا النوع من الأزهريين موجودًا في عصر الأسرة العلوية لتغير بالتأكيد تاريخ العرب، وإذا كان عبد الناصر هو زعيم العرب وقائد المسيرة القومية فإن مبعوثيه إلى العالم العربي لتعليم الصغار قواعد اللغة العربية في المدارس كانوا السبب في موقف العداء الذي اتخذته هذه الشعوب ضد القاهرة، كانوا يبحثون عن معيشة رخيصة لادخار أكبر مبلغ من أجل الحصول على قطعة أرض لبناء دار جديدة على حرف الترعة في القرية، ثم بعد ذلك لا بأس من الحصول على أرض زراعية ليصبح السيد المدرس من المُلَّاك، لم يفتحوا بيوتهم لأهل البلاد ولم يقيموا علاقات حقيقية مع الناس. ولم يكن الذنب ذنب هؤلاء المبعوثين، ولكنه كان ذنب نظام التعليم في الأزهر؛ لقد كانت غاية التعليم في الأزهر هي حفظ العلوم وترديدها. وكان الكم هائلًا لدرجة أنه لم يترك فرصة لأحد للتفكير في شئون الحياة والكون. ولعل هذا هو السبب أيضًا الذي دفع ببعض العلماء إلى العمل مع شركات توظيف الأموال! هؤلاء العلماء أنفسهم هم الذين انتقلوا من القاهرة بعد خراب هذه الشركات للاشتراك في ندوات دينية في تليفزيون دبي، حيث يجلسون كالطلبة المبتدئين أمام مذيع من أهل البلاد متعالم يلقي عليهم دروسًا في فقه الإسلام! وقديمًا قال الرسول: المعدة هي بيت الداء. وهي بيت الداء فعلًا، داء المرض، وداء الطمع وداء اللهفة على التكويش والاكتناز!
ولكن ما أبعد الفرق بين أكِّيلة الطعام وأكيلة الحرام. وكان الشيخ أمين مجاهد من أكيلة الطعام، كان يُغمَى عليه إذا وقع بصره على حلة محشي كرنب، وكان يرى أن المحشي كرنب هو أرقى مراحل الطعام. وفي الخمسينيات من هذا القرن وعندما نشبت المعركة بين الأدباء والنقاد حول الأدب وهل الأدب للأدب؛ أم الأدب للحياة؟ أجاب أمين مجاهد على السؤال بأن الأدب للطعام! وهو قول صحيح للغاية؛ لأن أدب الطعام له وجود في بلدنا وفي تاريخنا وذاع أمره واشتهر في العصر الفاطمي، ثم أصبح هو الأدب الوحيد في العصر المملوكي حيث كان الحاكم أعجميًّا لا يفهم لغة العرب، وأغلب المسئولين أعاجم من خارج الحدود، من جورجيا وأبخازيا مرورًا بالبوسنة والهرسك، قدومًا على تركيا وإيران وصولًا لمالطة وممتدًّا إلى شواطئ التكرون — لا مؤاخذة — هو ساحل الزنج الممتدة على شاطئ المحيط الأطلسي ومن ساحل العاج وإلى ساحل الذهب، وسكانه هم التكارنة وكانوا يشتغلون عبيدًا لدى الحكام، وكانوا يسكنون منطقة بولاق فأصبح اسمها بولاق التكرون، ثم حرَّفها العامة في مصر فصار اسمها بولاق الدكرور!
المهم في ذلك الوقت بالذات كان الطعام هو الشغل الشاغل للأدباء والشعراء، وحتى الشعراء أنفسهم كانت أسماؤهم تنسب إلى الطعام؛ الشاعر الزيات والشاعر الجزار والشاعر السمان — نسبةً للسَّمنة — وكان أشهرهم هو الشاعر الجزار وله مقولة ذهبت مثلًا. عندما سأله أحدهم عن الفرق بين الشعر والجزارة فقال: عندما كنت جزارًا كانت تتبعني الكلاب، وعندما تحولت إلى شاعر أصبحت أتبع الكلاب! وهي إجابة ذكية وتكشف عن واقع الأحوال في مصر تلك الأيام. لأن الأديب والشاعر في تلك الأيام لم يكن أكثر من متسول، وكان يعيش على موائد الأثرياء ومعونتهم. صحيح أن الواقع لم يختلف كثيرًا الآن، ولكن الشكل هو الذي اختلف ولم يعد الثري تاجرًا في السوق، ولكن حل محله تجار من نوع آخر، رؤساء أحزاب ورؤساء حكومات ورؤساء أجهزة. والشاعر أيضًا لم يعد شاعرًا من بتوع زمان وعُدَّته من نوع: وكان الزحف يهدف للعلالي، وأنتم فوق هامات العلالي. ولكن الشاعر الآن صار أديبًا ومفكِّرًا وسياسيًّا وصحفيًّا وأرزقيًّا، يقود حزبًا كهربائيًّا، يجند الأنصار بالأجر ويحشد الجماهير (المؤمنة) بالفلوس … وكله أكل عيش … وأحسن من السرقة والتهويش وكافة شيء يغضب الرحمن! المهم … إن الأكل هو محرك التاريخ، وهو الهدف وهو الأصل حتى وإن حاول البعض تغليف المسائل بالسيلوفان. وأمامك الحيوان الوحش الذي يتصرف بطبيعته ويمارس حياته كما أرادها الله. وما الذي يفعله الحيوان بالضبط؟ لا شيء سوى الأكل والحب … والنوم.
ولكن الحب قاطعناه مذ فترة، والنوم خاصمنا منذ عبرنا الستين. لم يبقَ إلا الأكل، ولكن حتى الأكل جاء الأطباء في النهاية ومنعوه! ماذا يبقى الآن لكي يشعر الإنسان بطعم الحياة؟ مسلوق؟! السجن الانفرادي في ليمان أبو زعبل أهون بكثير من الحياة مع المسلوق، أما العبقري عبد الوهاب فكان له رأي آخر.
ويوم ننام ع الفراش!
في البداية أقبلت على أكل المسلوق وكأنه عقوبة لا بد من تنفيذها، واختفى كرش العبد لله بعد أسبوعين من بدء التجربة، وتصورت أول الأمر أن أكل المسلوق يسبب الهزال، ثم اكتشفت بعد فترة أن الجوع هو سبب الهزال.
فالعبد لله، والحمد لله، يعشق أكل البيت، ولأنني من هواة أكل البيت، فقد تفننت الحاجة أم أكرم في تقديم الأصناف التي أعشقها. ملوخية يوميًّا في الصيف، ومرقة لحم ضاني لو شمها كافر قلبه حَجر من على بُعد عشرة أميال، فسيؤمن بالله الخالق القادر، وكباب حلة من النوع الذي يجعل الإنسان يقبِّل يده «ظهرًا وبطنًا» شكرًا للمولى على نعمائه. وصواني بطاطس من النوع المحروق بعض الشيء في الفرن، وقطع اللحم المغروز في أنحائها تبدو كقطع من العسلية، وترانشات الطماطم تغوص فيها وتعوم على سطحها، وسلطانية الطرشي البلدي حكم صادر من المحكمة العليا لا بد من تنفيذه، طرشي فلفل وخيار ولفت بلدي وليمون بَنْزَهير أصلي وعروش كرنب اللهم صلِّ على سيدنا النبي، وعروق جرجير تحيط بالسلطانية وكأنها قوات الحرس تحيط بموكب السلطان. والحق أقول إنه ليس على ظهر الأرض طرشي مثل الطرشي المصري الأصيل. وأقول الأصيل لأن هناك «طرشي مصري مزيف، طرشي مخزون ومضروب وريحته تقرف الكلب». ولكن الطرشي الأصيل لا شيء مثله في أي مكان على ظهر الأرض. في الهند يخللون المانجة والعنب. وفي إيران المخلل فواكه، تفاح على كُمِّثرى، وفي العراق نفس الشيء. وعندهم في الموصل واحد اسمه ملِك الطرشي، تحملت من أجله مشاق السفر ثم ندمت على ذلك، وقلت في نفسي إذا كان هذا هو ملك الطرشي، فما هو اللقب المناسب للحاج عبد النبي طرشجي الجيزة، والحاج الآخر طرشجي مصر القديمة، وللحاج الثالث طرشجي حي الحسين؟
المهم أن هذا كان طعام حضرتنا قبل الاعتزال، فلما اعتزلت مبكرًا على طريقة طاهر أبو زيد، وأصدرت تعليماتي بالمسلوق، ضربت لخمة مع الحاجَّة، باعتبار أن المسلوق لم يكن بندًا من بنود المعاهدة الأبدية، وبعد أربعين عامًا من المحمَّر والمشمَّر، فجأة دقت ساعة العمل الثوري … وبدأ عصر المسلوق. ولكن لأن الانتقال كان مفاجئًا وسريعًا وعلى غير انتظار، فقد جاء مسلوقنا أشبه بأداء فريقنا الوطني في كأس أفريقيا، أداء ماسخ وغير مبهج وغير لذيذ، ونتيجة تدريب ناقص ومسلوق. ولذلك كنت أبلع لقمتين وأحمد الله، ثم أشعر بالجوع بعد ساعتين، فأعود إلى طبق المسلوق ألتهم منه ملعقتين وكان الله بالسر عليمًا. وأخذ الكرش في الاختفاء، وعدت إلى ملابسي القديمة أرتديها وأنا سعيد ورحت أتفكر في محمد عبد الوهاب فنان القرن العشرين، وكيف أنه يدبج القصائد في مدح المسلوق وفوائد المسلوق وطعم المسلوق، حتى خُيِّل للعبد لله أن المسلوق هو أحد أفراد عائلة العبقري عبد الوهاب. ثم اكتشفت أخيرًا أن المسلوق له رجاله، كما كان للطواجن فرسانها. وإن الفرق بين المسلوق بتاعنا والمسلوق بتاعهم، هو فرق خبرة الحاجَّة أم أكرم في هذا الفن، وتاريخ طباخ المسلوق الذي قضى حياته غالبًا في مطبخ عبد الوهاب، أو مطبخ أحمد خشبة باشا، أو مطبخ البارون إمبان. وكان البارون إمبان — صاحب قصر البارون المهجور في شارع العروبة — من أعجب مخاليق ربنا. كان صاحب فلوس تُفرَش على مائة فدان، وكان صاحب قصور منها قصر البارون. وكان يستطيع أن يطلب عشاءه من مطعم مكسيم أو من فندق والدورف استوريا. وكان بمقدوره توظيف الشيمي والعجاتي وأبو شقرة في مطبخه، ولكنه لحكمة الله كان لا يستطيع أن يأكل سوى الشوربة بدون ملح، والفرخة البيضة مسلوقة بعد غسلها بالماء والصابون! ولذلك … كان طباخه لا يجيد إلا طبخ الشوربة وسلق الفرخة، وكان مرتبه بالرغم من ذلك يزيد عن مرتب كبير الجراحين في مستشفى كليفلاند! ولكن حظ العبد لله المهبب أنني قضيت أربعين سنة من حياتي الزوجية ألتهم المحمر والمشمر، ثم فجأة صدرت الأوامر بأكل المسلوق. أصبح حالي مثل حال زعماء إسرائيل، قضوا العمر كله في العدوان وفي التقتيل وفي سفك الدماء. ثم صدرت الأوامر فجأة برفع شعارات السلام! أصبحت مثل الروس الذين عاشوا العمر كله في الحنجوري المتشنكح في المنجوري، ثم فجأة بين عشية وضحاها — على رأي الشيخ عبد العال — أصبحوا دعاة حرية وديمقراطية ومن عملاء الشواشي العليا للبرجوازية. أصبح حالي مثل حال بِيض جنوب أفريقيا … الأفريكانا. قضوا الدهر كله يرفعون شعار لا سادة إلَّا البيض، ولا نعمة إلَّا البياض، أما السود فلهم الموت والدمار وخراب الديار. ثم «فَأْجَة» — على رأي عبده بكر المكوجي — أصبحوا من دعاة الإنسانية وأنصار الحرية والاشتراكية!
موقف محرج للغاية وثقيل على النفس جدًّا. أنا الذي كان يأكل الفول بالتقلية ويضرب فحل البصل الصعيدي بقبضة يده لكي يأكل قلبه، ويتغدى بالفسيخ الدمياطي مع البصل الأخضر، ويتعشى بورقة لحمة نضجت في صهد الفرن البلدي، أن أجلس الآن إلى مائدة عليها قطعة جبنة قريش وقطعة خبز أسود وكوب شاي بدون سكر. إن السبع يموت إذا عجز عن القنص، والذئب يموت إذا وقعت أسنانه، والصقر يموت إذا أصيب في منقاره. وها أنا ذا عاجز عن اللهط وعن الزلط وعن الهضم. وأدفع خمسة ملايين دولار من ثروة الخاشقجي لمن يضمن للعبد لله أن يذهب إلى الحمَّام مرة واحدة بدون مشاكل.
أذكر أنني ذهبت إلى بورسعيد ذات صيف وأنا في شرخ الصبا والشباب وذهبت إلى معسكر إقامة زعيم بورسعيد الخالد حامد الألفي. وهو رجل أشهد بأنه لا بد من صُلب محمد بك الألفي الذي حكم مصر فترة قبل محمد علي، والذي وقف محمد علي أمام حاشيته ورقص بالسيف عندما علم بموته وقال: الآن خلص لي حكم مصر. وجلست مع الزعيم حامد الألفي، وبعد التوصيات والسلامات سألني الرجل الكبير: أنت كويس؟ ولما أجبته بالإيجاب، سألني مرة أخرى: بتاكل كويس؟ فلما هززت رأسي علامة الموافقة، عاد يسأل من جديد: وبتروح الحمام مرتاح؟ ولم أجبه على السؤال، فقد تصورت أنه سؤال هايف، لأنني كنت آكل بمزاج، وأذهب إلى الحمام آخر راحة بلا متاعب ولا مشكلات. ولكني اكتشفت بعد أن مضى قطار العمر يا ولدي … كم هو وجيه هذا السؤال يا ولدي.
في رواية الأب الروحي … يقول زعيم العصابة الإسرائيلي لسكاليوني الصغير: وما جدوى الفلوس يا ولدي؟ إنني على استعداد لدفع أربعة ملايين جنيه لكي أذهب إلى دورة المياه مرة واحدة بلا مشاكل! والعبد لله يذكر معاناة عمنا زكي طليمات، وكنت أسير معه في الشاعر، وقد راح يصرخ كأرنب مصاب لأن البول انحبس في الحالب. ثم سقط على الأرض ونقلناه إلى المستشفى. ولو معه مائة مليون دولار لدفعها عن طيب خاطر من أجل الخروج من هذه الورطة. نعمة الله على عبيده كبيرة ولكننا لا نشعر بها إلا في الزنقات. الفلاح الغلبان يشق طريقه داخل الحقل بين عيدان الذرة ويجلس القرفصاء ويعملها بمنتهى السهولة، ويقوم إلى حال سبيله آخر راحة وانسجام. وعندما كانت المراحيض كلها في الخلاء، لم يكن أحد يشكو من المصران الغليظ أو تلبك المعدة أو الانتفاخ. ولم تكن عمليات المصران الأعور معروفة أو شائعة بين الناس. عندما اخترع الإنسان المفتري الحمام الأفرنجي، حيث يجلس كأنه جالس على القهوة، كثرت العلل وانتشرت الأمراض. وأصبح أكل المسلوق هو الشائع، ونالني من الحب جانب فأصبحت من أكَلة المسلوق.
سحقًا للمدنية التي جلبت علينا الأمراض وجرت علينا المشاكل والنكبات. والله يرحمه الكليفتي، وهو اسم الشهرة لرجل كان يعيش في الجيزة إلى عهد قريب. وأصل الحكاية أنه كان بيشتغل حرامي زمن الحرب العالمية الأخيرة، ولكنه كان حرامي وطني يسرق معسكرات الإنجليز. والإنجليز العساكر يسمُّون الحرامي كليفتي، فاشتهر الرجل بالكليفتي. ولكنه بعد الحرب لم يسرق شيئًا، لأنه كما قلت كان حرامي وطني لا يسرق من أبناء وطنه ولو تعرض للموت جوعًا. وعاش عمنا الكليفتي إلى سن الثمانين وكان من عادته في شهر رمضان المساعدة في إعداد موائد الرحمن مع الحاج إبراهيم نافع فلاح الجيزة الشهير. ولكن كان له شرط واحد، أن يسمح له الحاج إبراهيم بالحصول على الطعام المتبقي في الحلة (علشان المونة اللي فيه من غير مؤاخذة). والمونة هي خليط من الدِّمعة والسمن وبقايا اللحمة التي ذابت مع السائل، وهي خلطة لو أكلها أفندي من بتوع المدينة لمات على الفور، ولكن عمك المعلم الكليفتي كان يشربها وهو في سن الثمانين ثم يتجشأ ويحمد الله الذي خلق الحجر من الشجر والمونة في حلة الطبيخ.
عبد الناصر مات في سن الخمسين والكليفتي كان يشرب المونة في سن الثمانين. حياة غريبة ودنيا عجيبة، وأقدار وحظوظ ومزاجات والدنيا تعطي من ناحية وتأخذ من ناحية، ولا شيء يُكتب له التمام، وكأنه قانون واجب التطبيق على الجميع، وخير شاهد على وجود هذا القانون هو عمك المحاسب محمد عبد الله. كان في أيام الفقر والشباب يفطر طشت بليلة وطاسة طعمية وقدرة فول، ويتغدى دكر بط مزغط وجوزين حمام، ويتعشى بفطيرة مشلتتة وطبق عسل وخرطة جبنة تزن كيلوجرامًا. وعندما أثرى عمنا عبد الله وأصبح يملك بيتًا بحديقة وزريبة فيها كل أنواع الخراف والماعز والطيور، أصبح يأكل المسلوق فيصرخ، ويشرب الماء فيبكي، وحرمته الظروف اللعينة حتى من شرب الشاي.
ويدفع عمنا محمد عبد الله كل ما يملكه نظير أسبوع واحد من أيام الفقر والجدعنة والصحة الحديد. ولكن صحة الإنسان ليست للمساومة، وحياة الإنسان لا تقبل المقايضة، والدنيا حظوظ — على رأي الصعايدة — ومزاجات، وهي على رأي الحاج مصطفى، أيام بنشرب عسل وأيام بنشرب خل، وأيام ننام على الفراش وأيام ننام على التل، وأيام بنلبس حرير وأيام بنلبس فل. وفات الحاج مصطفى قبل وفاته أن يقول: ويوم بنأكل خروف ويوم بنأكل مسلوق … وهو غاية العذاب والذل.
على مذهب الأصفهاني!
وكان عمنا الأصفهاني يرى أن حبس الريح في الجوف يؤذي صاحبه وإرساله فيه شفاء يُنجي، وراحة لصاحب «القولنج»، ولذلك كان لا يحتشم من إرسال الضرطة أمام الناس ولا يحصر الفسوة ولا يجد في ذلك عيبًا. ويبدو أن الإنجليز والأوروبيين جميعًا على مذهب عمنا الأصفهاني. ويرى هؤلاء الأجانب أن الجُشاء أقبح من الفساء، وأن السعال أقبح من الضراط. ولكن عمنا الأصفهاني كان سعيد الحظ لأن مُصرانه الغليظ كان نشيطًا في القبض نشيطًا أيضًا في الطرد. ومن سوء الحظ أن يكون المصران مستعدًّا للاستقبال عاجزًا عن الإخراج هنا يكون العذاب الحقيقي والخطر الأكبر، وهنا يتحول الأكل إلى محنة وإلى نقمة وليس نعمة من نعم الله.
ويقال إن فساد المصران من فساد الأعصاب، ولكن عمنا المرحوم العبقري أنور المفتي كان يقول إن فساد الأعصاب من فساد المصران. وكان يرى أن الطعام كالأزياء وما يصلح لك قد لا يصلح لغيرك، وأن الجهاز الهضمي كموتور السيارة ينبغي عليك أن تمونه بما عودته عليه، وإذا كنت منذ البداية من أكلة اللحم السمين والجبن الدسم والفطير المشلتت واللبن بخيره فلا بأس عليك أن تواصل مشوار حياتك على نفس المنوال. وهي نظرية سليمة؛ بالتأكيد فقد كان المرحوم جدي الشيخ خليل يأكل «لِيَّة» الخروف حتى آخر يوم من عمره، وكان يفطر بالزبدة البلدي ويمرض إذا أكل قطعة لحم حمراء ناشفة، ويرى أن الناس أصابتهم العلة بسبب أكل المسلوق والتزام ريجيم في الطعام. وعمنا الدكتور حليم جريس — وهو عبقري أيضًا — يرى أن الطعام كله مفسدة للجسم، وأن الأكل يقصف العمر، وهو نفسه يفطر في الصباح كوب شاي فقط، ويأكل في الظهر شريحة لحم مشوية، وفي المساء يكتفي بطبق سلطة خضراء يعصر عليه حبة ليمون بنزهير. وعمنا حليم جريس يوجد في غرفة العمليات في السابعة صباحًا فإذا رأى طبيبًا يعرق فعرقه هو الدليل على أنه أفطر، ولا يتردد عمنا حليم جريس في طرد الطبيب العرقان من غرفة العمليات!
وحكماء زمان كانوا يعتقدون أن فساد المصران سببه عدم احترام الناس للطعام، فللطعام آداب يجب احترامها، ولكن البعض يأكل وهو واقف أو وهو قافز أو راقص، وهو الأمر الذي يؤدي إلى سوء الهضم. وعمنا المسعودي في كتابه مُرُوج الذهب يؤكد أن «كيومرث» هو أول ملوك الفرس، وكان عادلًا ومنصفًا وأول فرمان أصدره هو ضرورة أن يَلزم الناس السكون عند الطعام لتأخذ الطبيعة بقسطها فيصلح البدن بما يَرِد إليه من الغذاء، وتسكن النفس عند ذلك فتُدبِّر كل عضو تدبيرًا يؤدي إلى ما فيه صلاحه من أخذ صفو الطعام، فإن الإنسان متى شغل عن طعامه بأي ضرب من الضروب، انصرف قسط من التدبير وجزء من التقدير إلى حيث انصباب الهمة ووقوع الاشتراك وهو الأمر الذي يضر بالأنفس!
وإذا كانت هذه النظرية من وضع «كيومرث»، فالست الوالدة بالتأكيد كانت من تلاميذ هذا الملك الحكيم. فقد كانت من عادة العبد لله تناول الطعام قافزًا، وكانت والدتنا كلما رأتني على هذا الحال تندب حظها لأن ابنها لا يأكل جالسًا مثل البني آدمين. وكان من رأيها أن الأكل في هذا الوضع يجعل الطعام ينزل إلى الركبة ولا يستقر في المعدة!
وبعض السادة من بتوع «الإزمز»، على رأي عبد الرحمن الخميسي، يتصورون أن الطعام مسألة هايفة وأنه مجرد وسيلة للعيش وواسطة لمواصلة الحياة. وهذا الكلام فارغ؛ لأن الأكل هو مسمار البطن وهو أيضًا قاطرة التاريخ، ولم تقع ثورة في التاريخ القديم والحديث إلا بسبب انقطاع رواتب الجند أو بسبب غلاء المعيشة وندرة المواد الغذائية وتفشي المجاعة بين الناس، وفي المقابل تزدهر الدول عندما تكون الأسواق عامرة والأحوال رائجة وموائد الكبار حافلة بكل ما لذَّ وطاب، وممدودة لكل عابر سبيل، ولا يمكن أن يسود الرخاء إلا بحاكم عادل يسوس الرعية على أُسُس بينهم مَرْعِية ليَحُول بين أطماع البعض لأكل حقوق البعض الآخر، وحتى لا يتحوَّل المجتمع إلى غابة يفترس فيها الأسود والنمور والذئاب الآخرين من فصيلة النعام والظباء وحمار الوحش!
يصف عمنا الجليل الشيخ عبد الرحمن الجبرتي عهدًا من عهود مصر فيقول: «وكانت مصر إذ ذاك محاسنُها باهرة وفضائلها ظاهرة ولأعدائها قاهرة، يعيش رغدًا بها الفقير وتتسع للجليل والحقير، وكان لأهل مصر سُنن طويلة وطرائق في مكارم الأخلاق لا توجد في غيرهم. إنَّ في كل بيت من بيوت جميع الأعيان مَطبخين، أحدهما أسفل رجالي والثاني للحريم، فيوضع في بيت الأعيان السماط في وقت الغداء والعشاء مستطيلًا في المكان الخارج مبذولًا للناس ويجلس بصدره أمير المجلس والضِّيفان، ومن دونهم مماليكه وأتباعه، ويقف الفراشون في وسطه يتفرجون على الجالسين، ويقربون إليهم ما بَعُدَ عنهم من المقليات والمحمرات، ولا يمنعون في وقت الطعام مَن يريد الدخول أصلًا عند الأمير، ويرون أن ذلك من المعايب. وكان لأهل مصر عادات وصدقات في أيام المواسم، يطبخون فيها الأرز باللبن ويملَئون من ذلك قصاعًا كثيرة ويفرقون على المحتاجين والفقراء، ويفرقون عليهم الخبز ويعطونهم بعد ذلك دراهم، ولهم لذلك صدقات وصلات لمن يلوذ بهم.»
كان ذلك هو مظهر الحياة في مصر أيام العز والبحبوحة، مائدة الغني مبذولة للجميع، لا يمنعون عنها أحدًا، لا يحرمون الفقير والمحتاج وعابر السبيل من المقليات والمحمرات، ولذلك في أيام عز مصر كان من المتعذر أن ترى في شوارع القاهرة «شحاتًا» يسحب هرابيده وينادي في الأسواق … عشانا عليك يا رب! فالأكل متوفر ومضمون في بيوت الأغنياء في الظهر وفي العشاء، ولكن عمنا الجبرتي يعود فيصف الأحوال في عهد آخر ويقول: «… واجتمع الفقراء والشحاذون نساءً ورجالًا ووقفوا بحوش الديوان وصاحوا من الجوع فلم يُجِبهم أحد، فرجموا الديوان بالأحجار، فركب الوالي فطردهم من فوق فنزلوا إلى الرميلة ونهبوا حواصل الغلة في وكالة القمح، ونهبوا أيضًا حاصل الباشا وكان ملآن بالشعير والفول، وكانت هذه الحادثة هي ابتداء الغلاء، حتى بيع الأردب القمح بستمائة نصف فضة والشعير بثلاثمائة والفول بربعمائة وخمسين والأرز بثمانمائة نصف فضة، أما العدس فلا يوجد. وحصلت شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت بهم الأزقة، واشتد الكرب وعظم البلاء وأكل الناس الجِيَف ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها وخطف الفقراء الخبز من الأسواق، وكان الرجل يذهب إلى الفرن ومعه عجين في حراسة عدد من الرجال الأشداء يرفعون النبابيت، واستمر الأمر على ذلك إلى أن تم عزل علي باشا في الثامن عشر من المحرم عام ١١٠٧ﻫ.»
ولكن … كيف عادت الأمور إلى وضعها السابق بعد عزل علي باشا؟ يقول عمنا الجبرتي: «فلما حضر إسماعيل باشا الجديد وطلع إلى القلعة، ورأى ما فيه الناس من الكرب والغلاء أمر بجمع الفقراء والشحاذين بقراميدان، فلما اجتمعوا هناك أمر بتوزيعهم على الأمراء والأعيان، كل إنسان على قدر حاله وقدرته، وأخذ لنفسه جانبًا، وعينوا لهم ما يكفيهم من الخبز والطعام صباحًا ومساءً إلى أن انقضى الغلاء وعاد الرخاء.»
ولكي نعرف أهمية ومقام الأكل في التاريخ نجد أن ديوان العرب يرتكز في مديحه على نقطة واحدة وهي إطعام الطعام، فصاحب الجود والمكارم هو الذي يوقد النار أمام مضاربه لكي يدل الضيوف على مكانه. وإشعال النار أمام المضارب هي شفرة رمزية للعابرين في جوف الصحراء معناها أنه يوجد هنا بالقرب من النار مكان تستطيع أن تستريح فيه، ويهيئ لك فرصة أن تشرب الماء واللبن وتأكل ما تيسر من الطعام. وكان الشاعر العربي إذا أفحش في هجوه اتهم خصومه بأنهم لا يستقبلون ضِيفانًا ولا يطهون طعامًا يقدمونه لعابر سبيل. وهناك قصيدة مشهورة هجا فيها أحد الشعراء قومًا لبخلهم فقال:
إنهم لا يتورَّعون عن إطفاء النار بأن تبول الأم عليها فتخمدها. حتى لا يراها الضيفان فيُهرعوا إلى مضاربهم، وقد يكلفونهم ماءً وخبزًا، وليس هناك أنذل ولا أحقر ممن يمنعون الزاد عن المسافرين في الصحراء. وحتى الخنساء شاعرة العرب العظيمة التي بكت أخاها صخرًا حتى انطفأ نور عينيها، ترثي أخاها في إحدى قصائدها فتقول:
أعظم صفات صخر عند الخنساء أنه كان إذا جاء الشتاء، أسرع إلى قطيع إبله فذبح منها عددًا في كل يوم، ليطعم الفقير الجائع والغريب المسافر على الصحراء. ولا يشعر الإنسان بالجوع قدر شعوره به في زمن الشتاء في ليالي البرد القارص، وصخر يعرف هذه الحقيقة، فيوفر للناس ما يُشبع بطونهم ويُدخل الدفء إلى أجسامهم.
وفي الثلاثينيات من هذا القرن فضح عمنا الشاعر عبد الحميد الديب مجتمع مصر بأشعاره عن محنته في الصياعة والتشرُّد والجوع، في إحدى قصائده في شكوى الزمان يقول عمنا الشاعر الديب:
وبعد موته كتب كامل الشناوي في رثائه: اليوم مات شاعر تعرَّى واكتست الأضرحة، وجاع وشبعت الكلاب.
وعندما يختل نظام المجتمع يجوع شاعر عظيم مثل الديب، بينما تشبع الكلاب في الشوارع. وحياة الديب هي أفضل وسيلة لمعرفة حقيقة ما كان يجري على أرض مصر في العشرينيات والثلاثينيات، حين انقسم المجتمع المصري إلى قسمين وبينهما خندق عميق، جوع هنا وشبع هناك، وفرة هنا وندرة هناك، ولذلك عندما ضربت الأزمة الاقتصادية العالم كله سنة ١٩٣٠م اختبأ الأثرياء في قصورهم يأكلون المحمَّر والمشمَّر، بينما كان الفقراء يطوفون في الشوارع يبحثون في أكوام الزبالة عن شيء يسُدون به رمقهم ويبعدون عن أنفسهم شبح الموت.
ولكن ما الذي جرجرنا إلى هذا الحديث وكان حديثنا في البداية عن المسلوق؟ … آه … لأن المسلوق هو أكل المرتاحين والمترَفين. لأنك عندما يكون أمامك الخيار لتأكل المسلوق أو المحروق، فهذه علامة على أن حضرتك في حالة طيبة، فإذا كثر عدد آكلي المسلوق في بلدنا فمعناه أن الأحوال طيبة والدنيا ربيع والجو بديع قفِّلِّي على كل المواضيع.
اعرف ربَّك … وكن ما تشاء!
دليل نفاق البني آدم … أنك إذا سألته عن طعامه وشرابه، قال إن أي شيء يرضيه وأي كمية تكفيه، وإنه يأكل لكي يواصل حياته، ويتساوى عنده الطعمية والكافيار، ولا يجد فرقًا بين مطعم مكسيم ومسمط الحاج جعلص!
صدقوني إذا قلت لكم إنه لا يوجد على ظهر الأرض من يكره الطعام، أو يكتفي بلون واحد، ولا يتطلع إلى الطعام الدسم ولا تشتهي نفسه المائدة العامرة التي تشبه معرضًا للطعام.
نعم لا يوجد أحد من هذا النوع على ظهر الأرض، إلا الأنبياء والمرسلون وبعض القادة والزعماء الذين نذروا أنفسهم للقضية. هكذا كان سيدنا محمد ومن قبله كان عيسى — عليه السلام. وهكذا أيضًا كان الفاروق عمر بن الخطاب، الذي فرض العدل والزهد في زمانه وكان هو القدوة الحسنة للمسلمين. عاتبه بعض المسلمين على إسرافه في زهده، وعلى التزامه بشظف العيش. فقال لهذا النفر من أصحابه: «أتراني أعجز أن آمر بشاة فيُلقى عنها شعرها، وآمر بدقيق فيُنخل ثم يخبز خبزًا رقاقًا، وآمر بصاع من زبيب فيقذف في قربة ثم يصب عليه الماء فيصبح كأنه دم غزال.» وعلق أحدهم قائلًا: «إني لأراك عالمٌ بطِيب العيش.» فقال عمر — رضوان الله عليه: «أجل … والذي نفسي بيده، لولا أنها تنتقص من حسناتي، لشاركتكم في لين العيش.»
الرجل الكبير عمر بن الخطاب لا يكره لين العيش ولا يرفضه، ولكنه يتجنبه. وهو لديه من العزم والحزم ما يجعله قادرًا على القيام بهذه المهمة الصعبة التي لا يقدر عليها إلا أولو العزم الشديد من الرجال. ولذلك أيضًا صار طعام ابن الخطاب مثلًا يُحتذى به على مر العصور … وبعد رحيله عن دنيانا نظر البعض إلى أحوال المسلمين بعد وفاة عمر، ثم ذهبوا إلى الخليفة عثمان فوجدوا عنده الطعام الدسم، فصاحوا في وقت واحد: «… ليس هذا بطعام ابن الخطاب!» طعام ابن الخطاب سيصير من هنا وإلى الأبد ماركة مسجلة على الرجال الذين يتجنبون لين العيش بمزاجهم وبقرار منهم. إنها عملية مقاطعة وليست عملية كراهية أو عداء.
ولكن هناك أنواعًا أخرى من البشر تحسبهم ملائكة من الزهد، وهم عكس ذلك في واقع الأمر. البخيل مثلًا لا يأكل إلا الخشن من الطعام إذا كان على حسابه ومن جيبه الخاص. أما إذا كان الأكل على حساب الغير، فهو ينهض بالأكل كله، ويمسح كل ألوان الطعام من فوق المائدة. والسبب أن البخيل إذا أكل على حسابه فهو لا يشعر باللذة التي يشعر بها غيره من الآكلين. لأنه لا يمضغ بين أسنانه أصنافًا ولكنه يمضغ أثمانًا. إذا مضغ تفاحًا فهو يمضغ عشرة جنيهات، وإذا مضغ لحمًا فهو يمضغ عشرين جنيهًا، وإذا مضغ سمكًا وقارًا فهو يمضغ الشيء الفُلاني. ومضغ الفلوس مُر وصعب. والعكس صحيح … إذا تناول البخيل طعامًا على حساب الغير، لأنه في هذه الحالة يمضغ ألوانًا وأصنافًا ويستمتع بها. وأبلغ مثال على هذا النوع من الناس هو رئيس حزب الكهرباء الذي لا يستسيغ إلا طعام الآخرين!
وهناك لون آخر من البشر كذاب وهجَّاص، أنا أعرف أحدهم، وهو مناضل من فصيلة النار، وهو يُشيع عن نفسه أنه لا يحب إلا الفول المدمس ولا يأكل غيره، لكنه ينسى نفسه إذا وجد أمامه صينية بطاطس بالفرن، أو ورقة لحمة صنعتها يد خبيرة، أو طاجن ماركة المعلم سرور أبو هاشم، عندئذٍ يتحول الزعيم الذي هو من فصيلة النار كأنه أسدٌ مفترس في غابات كاتنجا! والمدهش أن الزعيم إيَّاه لديه أسطوانة مشروخة يديرها عقب كل أكلة من هذا النوع فهو يقسم بكل المقدسات أنه لم يأكل في حياته كما أكل هذه المرة، أما الأسباب التي يسوقها صاحبنا دائمًا فهي كرم أصحاب البيت وأصالة معدنهم!
وكنت أعرف صديقًا عميق الإيمان، شديد التمسك بدينه، وكان يقضي نهار رمضان في الصوم، ويقضي ليله في الصلاة … فإذا جاء موعد الإفطار فلا بد من مائدة عامرة سلطانية المرق على رأسها، ثم لا بد من طبق الأرز بالكبد والكلاوي، ثم كتف خروف … ولا بد أن يكون الكتف تشبهًا برسول الله الذي كان يحب من ضلع أعلاه، وله حديث شريف … «أفضل اللحم ما جاور العظم»!
أذكر أننا دُعينا إلى مائدة إفطار وكنا نقيم وقتئذٍ في الكويت، وكانت الدعوة في بيت أحد المصريين. واكتفى صاحبنا بكوبٍ من عصير البرتقال ثم نهض للصلاة، وبعد الصلاة جلس إلى المائدة، وإذا بالطعام الموضوع أمامه هو بامية علب، ولحم أسترالي مجمد ولا توجد شوربة ولا سلاطة ولا شيء مما يطلبه الصائمون … ولم يتمالك صاحبنا نفسه فلعن صاحب الدعوة ولعن العبد لله الذي جاء به إلى هذا البيت، وخرج غاضبًا وقاطعني عدة أسابيع … وعندما اتصل الود بيني وبينه من جديد، قلت لصاحبنا: أنت مسلم عميق الإيمان شديد التمسك بالدين، ورسول الله — صلوات الله عليه — كان يعيش على الأسودين … التمر والماء. فقال صاحبنا: هذا صحيح … ولكن محمدًا رسول الله كان نبيًّا وصاحب رسالة. وكان يستطيع أن يأكل الشهد لو أراد، ولكنه كان يريد أن يضرب المثل للمسلمين الذين آمنوا بدعوته. أما «أنا» فمجرد مسلم من عامة المسلمين أومن بالله وبرُسله وكُتبه واليوم الآخر، وأشهد بألَّا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ولكني أحب أطايب الطعام خصوصًا في رمضان بعد يوم طويل من الصيام، وهذا حقي خضوعًا لقوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
ولكن بعض الجهلاء من وُعَّاظ السلاطين يدعون الناس إلى شظف العيش كدليل على صدق الإيمان. وهي مسألة سياسية وليست دينية، لأن عمنا القطب الصوفي الكبير سيدي الحسن الشاذلي كان لا يأكل إلا أطايب الطعام، ولا يرتدي إلا اللين من الملابس، وصادفه رجل في الطريق يرتدي ملابس مُهلهَلة بينما الحسن الشاذلي كان يرتدي الحرير وصاح في وجهه: وهل يعبد الله بهذه الملابس؟ فرد عليه الحسن الشاذلي وهو يشير إلى ملابس الرجل المهلهلة: وهل يعبد الله بهذه الملابس؟ ملابسي تقول للناس أنا غني عنكم فلا تعطوني، وملابسك تقول أنا فقير إليكم فأعطوني!
وقد سأله أبو العباس المرسي: هل يأكل الخشن من الطعام ويلبس الخشن من الملابس. وكان جواب الحسن الشاذلي لتلميذه المرسي أبي العباس: يا أبا العباس اعرف الله وكُن كيف تشاء.
وكان أبو الحسن الشاذلي يتعمد أن يأكل اللين من الطعام وأن يشرب البارد من الشراب، وكان يقول: يا بُنيَّ برِّد الماء فإنك إن شربت الماء الساخن وقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد وقلت الحمد لله استجاب كل عضو فيك لحمد الله!
ووصفه بعض معاصريه فقالوا: كان الشاذلي يلبس الفاخر من الثياب ويركب الفارِه من الدواب.
وكان له رأي في الصوفية: «ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر وباليقين في الهداية.» ولم يكن كل رجال الصوفية من طراز عمنا الحسن الشاذلي. وكان القبَّاري يرفض أن يأكل ثمرة سقطت من شجرة على أرض حديقته لأن أكلها حرام، ومن يدري؟ ربما جاء بها طائر من حديقة أخرى وسقطت منه على أرض حديقته أثناء طيرانه، ولذلك حرم على نفسه أكل ثمار حديقته إلَّا إذا كانت مكانها على الشجرة؟
وكان أبو القاسم الجنيد من أنصار: خير الأمور الوسط؛ يعيش حياته بلا تقتير ولا رفاهية، لا إفراط ولا تفريط، وكانت في بستانه شجرة عالية منع أسرته وضيوفه من الاقتراب منها قائلًا لهم: «ثمر هذه الشجرة حلال للطير السارح والأكل منها حرام.»
وكان عبد الله الرازي يرى أن الجوع هو طعام الزاهدين، وكان يرى أن الشكر ليس الشكر على النعمة ولكن الشكر على البلاء!
والطعام هو وقود الحياة … هذه مسألة ليس فيها أي شك. بل هذا أساس كل شيء. واليهود مثلًا رفضت أن تصدق دعوة موسى، إلا إذا … وكما جاء في القرآن الكريم: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ.
واليهود أيضًا خاطبوا عيسى ابن مريم: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وفي القرآن الكريم: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ صدق الله العظيم.
وحتى رب العالمين — سبحانه وتعالى. يغفر الخطايا وفرض على صاحبها إطعام الفقراء والمساكين. حتى الذي لا يطيق الصوم يستطيع أن ينجو من العذاب إذا وفَّر الإفطار لجماعة من فقراء المسلمين.
وإذا كان توفير الطعام للفقراء واجبًا، فهو شرط من الشروط الواجب توفرها في كل من أراد أن يتصدر المسيرة وأن يسلك الطريق. لذلك كان القطب الكبير رضوان يأمر أتباعه بسلق اللحم، ثم يأمرهم بفتح النوافذ والأبواب لكي تسري رائحتها في الجو فتصل إلى خياشيم الجائع والفقير والمحتاج فيهرعون إلى حيث تنبعث الرائحة فيطعمون ويحمدون الله. وبعض أصحاب الطريق ذهب إلى أن تقديم الطعام للحيوان وللطير واجب أيضًا، بدليل الحديث الشريف: «دخلت امرأةٌ النارَ في هرةٍ حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل مما تمتلئ به الأرض!» وقيل إن أجر إطعام الإنسان الجائع يساوي قدر إطعام الحيوان الجائع … ولذلك يُحكى عن سيدنا البخاري أنه كان يطوف بقُرى بلاد ما بين النهرين بحثًا عن كل من يحفظ حديثًا عن النبي — صلوات الله عليه — وعثر على ضالته أخيرًا، فلاح كان يرعى شئون مزرعته، فلما علم بأن القادم هو قطب الزمان وركن الدين الإمام البخاري، رفض أن يستقبله في مزرعته وأصرَّ على أن يذهب معه إلى البيت، فيذبح له شاة ويُولم له وليمة. وكان مع الرجل قطيع صغير من الماعز، فوضع في كمه كمية من الزلط وراح يشخشخ له بها حتى يجبره على أن يتبعه، ظنًّا من الحيوان البريء أن ما يشخشخ له به هو حبوب حمص أو فول. ولما وصل الرجل وضيفه إلى المنزل، رفض الإمام البخاري أن يأكل من وليمته، ورفض أن يدوِّن الأحاديث التي يحفظها، وقال له: «من يكذب على الماعز لا يستحيي أن يكذب على رسول الله!»
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن أكل البخيل لا يؤكل، وأكل الكريم يتناوشه الناس لأنه يبذله بنفس راضية ونية طيبة.
من هنا … وحيث إن، وليس إلَّا، وثم إن، وإذ ربما … عندما نطق الطبيب المعالج بحكمه القاسي على العبد لله وقال: «من اليوم طعامك هو المسلوق ومأكولك هو المرق، ومحكوم عليك بالعيش بلا دسم ولا سُكر، وستصبح زاهدًا رغم أنفك وصوفيًّا دون إرادتك» … عندئذٍ فرَّت الدموع من عيني، لأنه ليس بهذا الطعام يعيش الإنسان.
شهداء التركي!
أول مرة داهمني فيها مرض المصران الغليظ كان قبل قيام ثورة يوليو، ولجأت إلى العم زكريا الحجاوي فسحبني من يدي إلى صديقه يس عبد الغفار. واندهش عمنا يس لأنه اكتشف أني مريض فعلًا، وأن المسألة غاية في الجد، ولا بد من الالتزام برجيم قاسٍ، رجيم أشبه بالرجيم الذي اتبعه العبقري عبد الوهاب مدة خمسين عامًا طويلة. ولكن عبد الوهاب كان عبقريًّا ويعرف ذلك، والعبقرية مسئولية، ولذلك التزم بأوامر الطبيب وسار عليها لأنه ثروة قومية، أما العبد لله فوضعه مختلف.
ولذلك سألت عمنا يس عبد الغفار: وإذا خالفت الرجيم … هل أموت؟
– لن تموت طبعًا، ولكنك ستعيش عليلًا كليلًا، يوم في العمل وأسبوع في الفراش. يوم في المكتب وعشرة في المستشفى.
وقلت لنفسي: ولو … ما دام أكل الكوارع والكلاوي والمسبك والمشبك لا يقتل فكل شيء محتمل، المرض والعجز والتعب والوهن إلى آخر هذه المنظومة من الصفات.
وعندما جلست على قهوة عبد الله في المساء نظر نحوي العم زكريا الحجاوي وقال في لهجة أسف صادقة: قتلك التُّرك يا محمود.
وكان كلام العم زكريا صحيحًا، فالمطبخ المصري مطبخ تركي، أدخله الأتراك مصر كما أدخلوه في أنحاء الإمبراطورية العثمانية. كل أنواع المحشي وكل أنواع السلطة وكل أنواع الأكل المسبك، دِقِّية البامية، والكوسة، والمسقعة باللحمة وبدون، وكل أنواع الكباب والكفتة، وكل أنواع الأرز بالخلطة وبدونها. وكل أنواع الطرشي والمخلل صناعة تركية، وكل أنواع الحلويات من البقلاوة إلى الكنافة إلى لقمة القاضي تركية، وتستطيع أن تتناول دقية البامية على مساحة من الكرة الأرضية تمتد من طنجة في المغرب إلى سراييفو في البوسنة. ولكن دخلت تعديلات بسيطة في كل بلد، في مصر مثلًا دخل الأسلوب الفرنسي على المطبخ التركي، وفي المغرب اختلط المطبخ الإسباني بالمطبخ التركي، وهكذا. ولكن تبقى الغلبة للمطبخ التركي. ولكن … هل صحيح أن هذه الأصناف هي بنت المطبخ التركي؟ الصحيح أن الأتراك هم الذين أدخلوها عندنا. ولكن المطبخ التركي في الحقيقة هو مطبخ فارسي باعتبار ما كان، وإيراني باعتبار حقائق الجغرافيا اليوم. لأن الترك قومية داخل الوطن الإيراني. والأتراك الذين يقيمون في تركيا اليوم هم تركمان نزحوا من فارس. ولم ينزح جميع صنف التركمان من فارس، ولكن نزحت قبيلة واحدة منهم، هي قبيلة ابن عثمان، والتي أصبحت الدولة بعد ذلك باسمها، وصار اسمها الإمبراطورية العثمانية.
وكلمة طرشي كلمة فارسية وتنطق «ترشي» بالتاء وليس بالطاء. ولكن الأتراك لهم فضل إدخال تحسينات على المطبخ الفارسي، ونجح اللُّبنانيون في إدخال تحسينات أخرى، فصار هو الأفضل، ونجح المغاربة في إدخال تحسينات أخرى، فصار المطبخ المغربي الحالي هو أفضل مطبخ على مستوى العالم العربي، ولكن بشرط أن يكون الطباخ ماهرًا للغاية، والمواد الأولية جيدة للغاية.
أذكر أنني تناولت الغداء ذات يوم منذ أعوام قليلة في بيت السيد أحمد بن سودة مستشار الملك الحسن الثاني ملك المغرب. وكنا ثلاثة على المائدة، ابن سودة وأحمد الجار الله والعبد لله. وأعترف بأنني، بالرغم من السنين الطويلة التي عشتها، والبلاد المتعددة التي زرتها، لم أتناول أشهى ولا أطعم من طعام ابن سودة. خليط من المطبخ التركي مع إضافات إسبانية مع نفس مغربي، خلطة لا أعتقد أن لها شبيهًا في أي مكان. وسألت المستشار ابن سودة عن طبَّاخه وكم من السنين قضاها في بيته، فأجاب: نحو أربعين سنة. وقال ابن سودة: لقد سألني جلالة الملك الحسن نفس السؤال، وطلب مني أن أرسل له بالطباخ فترة من الوقت ليلتحق بمطابخ القصر الملكي. ولكني رفضت طلب الملك. فما كان منه إلَّا أن نظر نحوي نظرة تحمل كل معاني الدهشة، فكيف أرفض له مثل هذا الطلب، مع أنه يعلم أنه لو طلب روحي لبذلتها من أجله مسرورًا. وزادت دهشة الملك عندما قلت له أنا لا أعطي طباخي لأحد، حتى ولا لجلالتكم! وصمت ابن سودة بعض الوقت … وقال: لأن طباخي يا جلالة الملك هو مَرَتي … يعني زوجته! وضحك الملك الحسن كثيرًا، وأعلن قبوله لرفض ابن سودة.
وقد يسأل سائل: ولكن أين المطبخ العربي في مصر؟ خصوصًا والعرب دخلوا مصر قبل الأتراك بقرون طويلة. والحقيقة أن العرب لم يكن لديهم مطبخ من أي نوع. فقد كانت صحراء العرب شحيحة، ولم يكن لدى العرب من أطايب الطعام إلا شواء اللحم على النار، أو سلقه فيصبح مرقًا، وأضاف الفرس إلى المرق الخبز والأرز فصارت الفتة. وهذا المطبخ الإيراني الأصل، التركي بالتجنُّس، العربي بالاستعمال، هو سبب كل النوائب والمصائب التي أصابت بلاد الشرق. فالرجل الشرقي عصبي وعديم الصبر لأن مصرانه الغليظ ملتهب. وهو كسول وبطيء الحركة وتتلون حياته بلون الزفت إذا لم يتمدد ساعتين في الظهيرة. والسبب أن معظم هذه المواد المتفجرة تحتاج إلى دم كثير، فتسحب المعدة الكمية اللازمة لها وتترك باقي الجسم يعاني من نقص السيولة، ولذلك فهو ينام في المكتب وينام في الأوتوبيس وينام على القهوة، وأحيانًا ينام البعض وهم سائرون في الطريق العام. والرجل الإنجليزي مثلًا يأكل ما يفيده ونحن نأكل ما يلذ لنا ويفسد حياتنا. ولذلك لا نجد إنجليزيًّا أو فِنلَنديًّا نائمًا بالنهار. إنهم ينفذون تعاليم القرآن ونحن نصنع عكسها. قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (النبأ: ١٠، ١١).
ولكن أغلب العرب حتى الموجودين في لندن ينامون فترة الظهيرة، مع أن الجو هناك لا يشجع على النوم بالنهار، وهي مسألة تثبت أن الطقس بريء من جريمة نومنا في النهار، لأن العرب ينامون بالنهار في لندن مع أن الحرارة عشرة مئوية والجو منعش ويميل للبرودة. إنه الأكل وليس شيئًا آخر.
دعاني السفير أحمد والي إلى مطعم دِنْماركي في كُوبِنْهَاجِن، وملأت معدتي بلا لذة وبلا طعم، وخرجت أحجل في الشارع كعصفور أبو فصادة. آخر نشاط وآخر عفرتة!
ودعاني بعد ذلك إلى مطعم مصري يمتلكه رجل من بورسعيد، بلد الكابتن الضيظوي والسمك الشَّبار، ومديره ولد مصري آخر كان معيدًا بكلية الهندسة، ثم ترك الهندسة وترك مصر كلها وتفرغ لإدارة المطعم المصري في كوبنهاجن. وأشهد أنه مطعم مصري بحق وحقيق، والسمك الذي أكلته فيه لم أذُق مثله منذ أيام الزعيم البورسعيدي حامد الألفي — يرحمه الله — والطرشي الذي تناولته هناك فَشَر طرشي عبد النبي، لأن الخيار نظيف وخالٍ من الفاشيولا، والخس أوراقه مثل أوراق القطيفة الخضراء … والفلفل … الفلفلة تضرب لها تعظيم سلام وتنام لها عدة ساعات في النهار.
والأكل هو موحِّد الشعوب بلا جدال. فالمكسيكي يسلك سلوك المصري واللبناني والليبي وكل أبناء الطائفة من طنجة للكويت، لأن الأكل المكسيكي نسخة من الأكل الشرقي، ولا أعرف كيف اخترعوه، مع أن الإيرانيين والأتراك لم يذهبوا إلى هناك. وأهل المكسيك فرضوا أكلهم على شعوب أخرى مجاورة، وأصابوهم بنفس الأمراض، والعبد لله أكل الفول المدمس في مطعم مكسيكي في ضاحية باسادينا بلوس أنجلوس. فول مدمس دكر، من يتناوله يحتاج إلى سيارة إسعاف ومستشفى من نوع مستشفى أم المصريين. وأغرب شيء أن آكلي الفول في المكسيك بَنَوا أهرامات مثل التي بناها آكلو الفول على ضفاف النيل. دليل على أن هناك صلة وثيقة بين الفول والأهرامات. ولكنهم في المكسيك تفننوا في صنع الفول، وعملوا من الفول ألف صنف، وخلطوا كل الأصناف بالفلفل الصعيدي والهريسة التونسي والتاباسكو الإيطالي. والعبد لله الحاصل على الدكتوراه في الشطة والشطيطة، لم أذُق طعم النوم بعد عشاء على مائدة مترامية الأطراف من كل أنواع الشطة. والمكسيكي لا يشعر بلسعة الشطة بعد كأس واحدة من التكيلة، وهي نوع من الخمر شديد الشبه بعصير البراطيش، لكن كأسًا واحدة منها تجعلك تفقد الإحساس وتفقد الاتزان وترقص السامبا وأنت أمام المحكمة!
وأغرب شيء أن عندهم في المكسيك كبابًا، ولكنه كباب مختلف، قطع لحم في حجم نصف الكف، توضع على أسلاك فوق الفحم، والكبابجي يمسحها بين الحين والآخر بفرشاة مثل فرشاة المُبيِّض الذي يدهن الجدران، وقبل مسح اللحمة يغمس الفرشاة في سائل، وعرفت بعد أن أكلت أن السائل إيَّاه هو شطة مذابة في عصير من الليمون والخل. وليست المكسيك وحدها هي التي تعشق الشطة وتأكلها، ولكن السودان الشقيق أيضًا من هواة الشطة. والشطة السوداني مشهورة وذائعة الصيت. الحبشة أيضًا شطتها معروفة، والعبد لله أكل أكلة اسمها «زِغِنِّي» بكسر الزاي والغين وتشديد النون، وهي أكلة حمام مطبوخة بالشطة، وأكلتها في معسكر الشجرة بالخرطوم، ومع اللواء أحمد عبد الحليم قائد الجيش السوداني أيامها، في الزمن الذي كانت فيه زيارة السودان ممكنة والإقامة فيه متعة!
هناك أيضًا الصين، وهي تأكل الشطة ولكن بحساب، وتخلطها بأصناف تقضي على خطورتها. والمطبخ الصيني هو أغرب وأعجب مطبخ على ظهر الأرض، ولكنه مطبخ مفيد؛ لأنه يطبخ أي شيء وكل شيء، حتى الدود والصراصير والدم والعظام.
وقد روى الأستاذ الكبير هيكل قصة عن غَدوة أكلها مع شوان لاي أحد رموز الصين في القرن العشرين. وكيف أن البطة عملوا منها عشرة أصناف، فالعظام شوربة، والجوانح خلطوها بالسبانخ، والصدر شرائح، والأفخاذ جردوها من العظام وجعلوا منها شطائر، أما الرءوس فقد دقوها وعملوا منها مخللًا أشبه بالطحينة!
وتصوروا، كيف أصبح حال العبد لله عندما أخبرني الطبيب أنني صرت مريضًا وعلى العبد لله أن يأكل بحساب ويشرب بحساب، أما الطرشي فممنوع، أما المسبك والملبك فهو رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه يا أولي المزاج.
وهتفتُ مثل الشاعر طَرَفة بن العَبد: الآن، بطن الأرض خير لنا من ظهرها!
النار … النار!
لم يكن العم زكريا الحجاوي هو المخطئ الوحيد عندما اتهم التُّرك بأنهم المسئولون عن أزمة مصاريني، لأن الفرس هم المسئولون وليس الترك. ولكن العبد لله أخطأ أيضًا عندما اتهم الفرس، لأن المسئول الحقيقي عن مأساتي ومأساة كل البشر هو أول بني آدم اكتشف النار واهتدى إليها.
فقبل اكتشاف النار كان عمر الإنسان على الأرض يمتد إلى نحو قرنين من الزمان، لأن البني آدم في ذلك الزمان البعيد كان يأكل أكله، وكان مأكول البني آدم وقتئذٍ هو مأكول القرد، ولعل هذه الرابطة هي التي أوحت للأخ داروين بأن الإنسان أصله قرد. وإن كان العم داروين لم يستطع إثبات نظريته، وظلت هناك فجوة لم يستطع داروين سدها، أو بمعنًى آخر، كان هناك «كوبري» لم يستطع داروين عبوره، لأن داروين لم يستطع أن يدلنا على واحد من صنف البني آدمين في الهيئة التي كان عليها في مرحلة الانسلاخ من هيئة القرد إلى هيئة الإنسان.
المهم أن مأكول البني آدم كان هو المكسرات بكل أنواعها، بندق على فستق على لوز على جوز. وكان يأكل لحاء الشجر ويأكل الفواكه ويلتهم الخضراوات طازجة، ولذلك كان جهازه الهضمي صاغ سليم وكانت معدته تهضم الحجر.
ولا يقتل البني آدم مثل الجهاز الهضمي، فلما اهتدى الإنسان إلى النار، وبدأ يطبخ طعامه، اختلف الحال وانقلبت حياة الإنسان رأسًا على عقب.
وأول مرة اصطاد الإنسان أرنبًا في الغابة وشواه على النار وأكله، كانت هي بداية الرحلة إلى قرصة المعدة وتشنجات المصران الغليظ ودستة أمراض أخرى ابتداءً من التعنية إلى الإسهال إلى الغازات والانتفاخ، مع أن الإنسان البدائي استعمل في الشواء أعواد الحطب، وكانت أكثر أمانًا من الفحم الذي اكتشفه الإنسان بعد ذلك، والفحم أكثر أمانًا من غاز البوتاجاز وأفران الميكروويف التي ثبت أنها تسبب السرطان. هناك مادة أخرى اكتشفها الإنسان القديم واستخدمها في الشواء وهي مادة الزَّلَط، وهو زلط له مواصفات خاصة، أملس وشفاف وكانوا يرصُّونه بعضه فوق بعض ثم يشعلون فيه النار فيشتعل، ولا يزال هذا النوع من الزلط يستعمل حتى اليوم، تستعمله قبائل البشارة، خصوصًا أثناء رحلاتهم المتكررة عبر التاريخ في درب الأربعين بين السودان ومصر وبالعكس. والرجل البشاري يضرب عينه في الصحراء المحيطة به، ويجمع الحصى إيَّاه ويستطيع أن يفرق بينه وبين كل أنواع الحصى المتناثرة على الرمال، وبعد أن يشوي ويأكل ويشرب الشاي ويحمد الله، يصب الماء على الحصى إيَّاه، ثم ينثره على الرمال ليستفيد منه آخرون يمرون بالمكان.
ولكن الأمر في فجر التاريخ كان سهلًا وهيِّنًا. الطامة الكبرى حطت على رأس الإنسان عندما اهتدى إلى أسلوب قدح الزبد وتحمير اللحم، وازداد الأمر خطورة عندما اكتشف التقلية والتخديعة، هنا بدأ عُمر الإنسان في التناقص حتى صار يصاب بالشيخوخة في سن الخمسين، ويموت قبل أن يبلغ الستين، وأصبح لسان حال البشرية كلسان حال الشاعر الجاهلي الذي وصف أحوال قومه ذات يوم فقال: والشَّيب شَين لمن يشيب!
كان الشاعر الجاهلي يتباهى بقومه الشجعان، الذين هم لفرط شجاعتهم يموتون شبابًا ولا يبلغون مرحلة الشيب. فإذا شاب الفرد منهم كان ذلك عارًا، فالشيب شين لمن يشيب، هذا الوصف انطبق على البني آدمين جميعًا في مرحلة من المراحل فأصبح الشيب شينًا، ليس لشجاعتهم ولكن للفجعة التي أصيبوا بها، فانهالوا على المحمَّر والمشمَّر والمكبوس والملفوف. وجاء العلم الحديث ليكتشف الكولسترول وضيق الشرايين وتلف الصمامات وقرحة الاثني عشر.
ثم تقدم العلم أكثر ليضع يده على القتلة الثلاثة ويطلق عليهم الأطباء «القتلة البِيض الثلاثة»، ووصف البِيض لأن لون الثلاثة أبيض، الملح والسكر والخبز الأبيض، والوصفة السحرية للإنسان هي أن يأكل الردة والنخالة ويأكل الخضراوات بدون طهي، ويبتعد عن أكل اللحم ويبتعد عن أكل السمن، لأن كل ملعقة سمن تخصم شهرًا من حياته، أما إذا تم قدح السمن فكل ملعقة منه تخصم عامًا من حياته.
والناس قسمان … ناس تأكل لتعيش وناس تعيش لتأكل، ولكن قلة قليلة ونادرة هي التي تأكل لتعيش، أما البقية الباقية من البشر فتعيش لتأكل. والبشر يأكلون كل شيء وأي شيء، الدود والنمل والذباب والكلاب والجراد، وفي دول الخليج قبل النفط كانوا يكرهون أكل الجمبري، وكان الصيادون إذا اصطادوه عن طريق الخطأ ألقوه في البحر أو على الأرض، ولكنهم كانوا يأكلون الجراد وينتظرون موسمه على أحر من الجمر. فلما وفد على الخليج مئات الألوف من العرب الآخرين، من مصر وسوريا ولبنان والمغرب العربي، آكلي الجمبري والكابوريا واكتشف عرب الخليج أن إخوانهم في العروبة يأكلون هذا الشيء، باعوه لهم ثم أكلوه معهم! نفس الشيء حدث بالنسبة لسقط الحيوانات، وأيضًا بالنسبة للكبدة والقلب والحلويات، كان الجزارون في الخليج يلقون بهذه الأشياء في الزبالة، فلما ذهب عرب البحر المتوسط إلى هناك صار لهذه الأشياء سعر بعد أن أصبحت مطلوبة من الجميع.
وفي أفريقيا قبائل لا تسعى للصيد ولا تجد نفسها فيه، ولكنها تتعقب الأسد وتنتظر حتى ينقض على فريسته وتنقض عليه وتزعجه بالطبول وترهبه بالرماح حتى يضطر إلى الهرب، وبعد ذلك يقطعون من الفريسة ما يحتاجونه ويأخذونه وينصرفون تاركين بقية الغنيمة للضباع والنسور!
وفي أستراليا يأكلون التماسيح الصغيرة شرط ألا يتعدى عمرها العامين. وفي حوض الأمازون يأكلون السَّحالي، وفي جبال الأنديز أشهى أكلة عندهم هي عجة النمل. وبعض قبائل أفريقيا تأكل حتى هذه اللحظة لحم البشر، ولكن لأن الحكومات تحرمه وتعتبره نوعًا من أنواع القتل وتحكم على مرتكبه بالإعدام، لذلك تألفت جمعيات سرية يأكل الأعضاء بعضهم بعضًا على طريق القرعة. ويقال إن أشهى قطعة في جسم الإنسان هي كفوف اليد، ويقال أيضًا، والعهدة على الآكلين، إن لحم البشر هو اللحم الوحيد الذي لا يحتاج إلى ملح، لأن ملحه منه فيه كجورب سعيد صالح الذي كان أَسْتِكُه منه فيه!
ولكن ليس كل الطعام المكوي بالنار يؤدي إلى قصف الرقبة. هناك المسلوق وضرره أقل. أقل بكثير من المشوي ومن المسبك والمقلي، ولذلك ينصح الطبيب مريضه بأكل المسلوق لأنه أهون. ولكن من قال إن البني آدم يفعل ما يفيده، الإنسان يفعل ما يلذ له وليس ما يطيل حياته. والعبد لله يدفع من حياته ولا يتوقف عن أكل المخلل ورشف مية الطرشي بالدقة والتهام الباذنجان أبو خل. عندما كان عم عبد النبي حيًّا يُرزَق كنت أمرُّ على دكانه في شارع عباس بالجيزة وأنا في طريقي إلى المدرسة الابتدائية وأشرب من عنده على الريق كوب مية طرشي بالدقة والخل، ولو خيَّروني في تلك الأيام بين بئر مية طرشي وبئر بترول لاخترت البئر الأول على الفور … وكان معنا في المدرسة ولد فلاح اسمه كَرَنْك … بفتح الكاف والراء وتسكين النون، والعبد لله هو الذي أطلق عليه هذا الاسم لأنه توسل إلينا ذات مرة أن نذهب به إلى المقهى ليسمع أغنية «الكَرْنَك» لعبد الوهاب، ولكنه نطقها كَرَنْك كما ذكرت لكم من قبل. الأخ كرنك كانت ألذ أكلة عنده هي الليمون المخلل مع البصل الصعيدي. وكان يفضلها على الفراخ واللحوم وكافة شيء يسيل له لعاب البني آدم، ولولا أن الإنسان مخالف بطبعه والناس طبائع شتى وأمزجة مختلفة، لولا هذا لأصبح بطن الأرض خيرًا لنا من ظهرها.
هذا هو الإنسان، الثائر يعرف أن نهايته على أعواد المشانق ومع ذلك يواصل المشوار، والمقاتل يعرف أنه قد يأتي عليه وقت يصبح فيه طعامًا للذئاب، ومع ذلك لا يتوقف عن القتال … والعبد لله من هذا الصنف، مع فارق بسيط … إنني لا مقاتل ولا ثوري، ولكنني أكِّيل طواجن ومحشي كرنب ومحشي باذنجان وملفوف ومكبوس، وأكلت الدوسرة مع عمنا الحاج أبو حسن والحاج إبراهيم نافع.
ولكن ما هي الدوسرة؟!
دوسرة الحاج أبو حسن!
هل تعرف الدوسرة؟ إنها كلمة غامضة وغريبة، ولكنها بسيطة للغاية، ومع ذلك تعمل عمل السحر في نكهة الطعام ومذاقه، الدوسرة باختصار هي علبة صفيح أخذت شكلها واستدارت حوافُّها بدون لحام. هذا هو شرط الدوسرة … أن تكون بلا لحام. أما إذا خالطها اللحام فلا تصلح لشيء وتصبح علبة عادية … يعني مش دوسرة.
المهم أن عمنا الحاج أبو حسن كان يقوم بعملية داخل معسكر الإسماعيلية خلال الحرب، وكانت العملية هي تنجيد ثلاثة آلاف مرتبة، ولذلك اضطر عمك أبو حسن إلى البقاء داخل المعسكر مع عُمَّاله لمدة شهر. وذات يوم سأله الشاويش الإنجليزي الذي كان يتولى مهمة الإشراف على عملية التنجيد أن يحسب حسابه في غدوة اليوم. وأصل الحكاية أن الشاويش الإنجليزي لاحظ أن عمنا أبو حسن كان يتولى في كل يوم إعداد وجبة لنفسه في فترة الغداء. ورقة لحمة، صينية بطاطس، أكلة عكاوي، طاجن تورلي، كباب حلة. وكانت رائحة الطعام الذي يعده أبو حسن تُسِيل لعاب الشاويش الإنجليزي الذي التَوَت مصارينه من أكل المسلوق. ولذلك تجرَّأَ وطلب مشاركة أبو حسن الطعام. وبحث عمنا أبو حسن في ذلك اليوم عن إناء لينضج فيه الطعام ولكنه لم يعثر على شيء فقد استولى العمال على الطاجن وعلى الصينية وعلى الحلة لاستخدامها في إعداد الغداء. ولم يجد أمامه إلا علبة بسكويت إنجليزي، علبة صفيح ملونة مزينة برسومات من الخارج وبيضاء لامعة كالفضة من الداخل، ولاحظ أبو حسن ملاحظة ذكية هي أن العلبة بلا لحام. ومن أجل إكرام الضيف الإنجليزي، أرسل أحد عماله إلى منزله فجلب له دكر بط مزغط كان إذا تحرك زحف على الأرض من شدة السمنة … ووضع دكر البط في العلبة، وعليه عشرة فصوص توم من النوع الصعيدي الذي كل حبة منه في حجم العنكبوت. وسبع ملاعق سمن بلدي بملعقة أبو حسن التي في حجم السلطانية، وثلاث حبات من البصل البحيري، كل حبة في حجم الكرنبة، وضعها أبو حسن كما هي بعد تقشيرها بلا تخريط ولا تفصيص. وفوق كل شيء أربعة قرون فلفل شطة لو أكلها ثور صومالي عنيد لقفز كلاعب كرة سلة من الفريق الذهبي الأمريكي! وركن عمنا أبو حسن العلبة الدوسرة على باب الفرن الذي كان يقوم بإعداد العيش للمعسكر، وتركها مكانها هناك لمدة خمس ساعات كاملة. وعندما أبعدها أبو حسن عن النار كانت رائحة الطبخة قد وصلت إلى نخاشيش المارشال مونتجمري في العلمين. وعندما كشف أبو الحسن الغطاء عن العلبة الدوسرة لم يكن فيها دكر بط ولا بصل ولا ثوم، ولكن كل المواد تحولت إلى عجينة ولا الشيكولاته السايحة. وأكل الإنجليزي مع أبو حسن كما لم يأكل من قبل. ولكنه بعد ساعتين من موعد الغداء كان يتمدد على سرير في المستشفى العسكري، واحتار الأطباء في وصف الداء، ولم يكن هذا ذنب الأطباء، ولكنه ذنب كتب الطب التي خلت تمامًا من أي ذكر لطبخة الدوسرة التي ألزمت الإنجليزي سريره بالمستشفى عدة أسابيع.
ولكن حكمة الله أن عمنا أبو حسن كان يأكل الدوسرة أحيانًا في الظهر وأحيانًا في المساء وأحيانًا في الفجر، فقد كان من عادته السهر أحيانًا على شاطئ بحيرة التمساح عند قرية أبو جاموس. وكان يعد أكلة الدوسرة ويرسلها إلى الفرن البلدي في منتصف الليل. ثم يحضرها له عامل الفرن في الفجر، فيأكلها وينصرف إلى بيته في مدينة الإسماعيلية لينام حتى العصر ويقوم آخر صحة وآخر نشاط. لم يشعر أبو حسن بألم في مصرانه الغليظ في أي وقت، ولم يذهب إلى طبيب في حياته إلَّا في حالة واحدة فقط، هي اضطراره إلى خلع ضرس من أضراسه التي نخر فيها السوس بعد أن تعدى الستين بسنوات. ومع أن الدكتور حليم جريس قال للعبد لله إن من يأكل هذه الطبخة ليلًا وهو فوق الخمسين لا بد أن يموت ولا يطلع عليه صباح. إلا أن عمنا أبو حسن عاش حتى قارب الثمانين ومات محروقًا بالنار وتفحمت جثته بعد أن أدركه النعاس وهو جالس بالقرب من منقد الفحم في ليلة الشتاء.
والدكتور حليم جريس هو الأول على دفعة من الأطباء العباقرة من بينهم أنور المفتي ويس عبد الغفار وعلي عبد العال. ولكن أنور المفتي كان له رأي مختلف. حكيت له عن جدي الشيخ خليل الذي عاش إلى سن المائة والعشرين، والذي كان من رأيه أنه لا يقصف الأعمار إلا أكل اللحم الأحمر الخالي من الدهون، وهو نفسه لم يكن يأكل إلا اللحم السمين الذي يلظ. وأفضل قطعة لديه من لحم الخروف هي «اللية» التي تلظ وتبظ بالدهن القاتل. وكان تعليق عمنا المفتي أن المعدة كالماكينة تعمل وفقًا لنوع الطاقة الذي تعودت عليه. إذا نشأت على السمين كان السمين لها أفضل، وإذا تعودت على الناشف الحاشف فهو لها أفضل. والخطر أن تحاول التغيير أثناء الطريق. إذا كانت الماكينة متعودة على الناشف وأعطيتها سمينًا كانت الكارثة. وإذا كانت متعودة على السمين وأعطيتها ناشفًا كانت القارعة. وأعتقد أن رأي المفتي هو الرأي الصواب، لأن عمنا المفتي كان طبيبًا باطنيًّا عبقريًّا، بينما عمنا حليم جريس جراح عبقري له مشرط ينطق ويفكر ويتأمل. ومهمة الدكتور المفتي هي علاج الأعضاء الموجوعة، أما مهمة عمنا حليم فهي بتر هذه الأعضاء.
المهم أنني أكلت الدوسرة مع عمنا أبو حسن وعشت بعدها أسبوعًا أعوي من شدة الألم في المعدة وفي المصران الغليظ، وانتفخت بطني كأنها كرة قدم نفخوها عند عجلاتي في سوق الإثنين، ولكن لم أكف عن أكلها بعد ذلك. وأعظم الكوارث التي لحقت بعمنا أبو حسن أن علبة الدوسرة تبعه أصابها البلى فانخرمت ولم تعد تصلح لطهي الطعام وكان يجبرني على القسم بأغلى المقدسات أن أحضر له معي علبة دوسرة من الخارج، وكنت أحضر له معي علبة بسكويت من السوق الحرة بمطار لندن، يعطي ما بداخلها لأي عابر سبيل ويحتفظ بالعلبة الدوسرة، ولكنه صادف مشكلة أخرى هي عدم وجود بط بلدي مزغط كالذي كان يقوم بتربيته في الشارع الذي يسكن فيه بعد أن تحول الشارع إلى سويقة، ولم يعد فيه مكان لقدم، وأصاب الوهن خالتي أم حسن التي كانت تتولى تزغيط البط حتى يصبح الدكر منه كسمكة العجلة في نهر النيل عند السودان. ولكن عندما حدثت الهزيمة عام ١٩٦٧م واضطر أبو حسن إلى الهجرة من الإسماعيلية، عاد إلى أكل الدوسرة لأنه سكن في قرية سندوب على مرمى حجر من المنصورة. وكنت أهتف كلما رأيت أبو حسن سعيدًا بعد أكل الدوسرة … صحيح مصائب قوم عند قومٍ فوائدُ، ولكن أبو حسن لم يكن سعيدًا من أعماقه، كان يتمنى أن يرى الإسماعيلية قبل موته. وكان يحلم بيوم من أيام الإسماعيلية قبل أن يفارق الحياة.
بعد حرب أكتوبر وبداية عملية التعمير في مدن القناة، وعندما كان أهل الإسماعيلية ممنوعين من دخولها، استطاع أبو حسن أن يتسلل إلى هناك مع عائلته بحجة القيام بمهام وظيفته. وكان يشغل في الواقع وظيفة وهمية، وهي وظيفة مفتش مساجد شركة «المقاولون العرب» بالإسماعيلية. وهي وظيفة أسندها إليه المهندس عثمان أحمد عثمان مقابل مرتب شهري قدره ثلاثون جنيهًا كانت لها قيمة في ذلك الزمان. وعندما عاد إلى الإسماعيلية كانت المدينة شبه خالية، واستطاع أبو حسن تربية البط من تاني. وذات مساء … لزم أبو حسن بيته وأشعل فحمتين وجهَّز المعسل وجلس يشفط أنفاسًا من الجوزة لتعمير الدماغ. ثم وصلت علبة الدوسرة من الفرن البلدي، وأكل أبو حسن وحمد الله وشكره كثيرًا، ثم استأنف شفط الجوزة ليحبس بنفسين. ويبدو أن دكر البط كبس على مراوحه فذهب في إغفاءة، ولكنه لم يستيقظ منها على الإطلاق. فقد امتدت النار من الفحم إلى ملابسه ولم تتركه إلا جثة متفحمة، بعد أن وجدت النار في جسمه السمين مجالًا صالحًا للتوهج والانتشار. وهكذا مات عمنا أبو حسن — يرحمه الله — أول وآخر شهيد للدوسرة في تاريخ العرب الحديث والقديم. ولا أعتقد أن هناك أملًا في ظهور الدوسرة مرة أخرى، بعد أن تحول البط إلى بط مزارع يحقن بمحلول الجفاف، وتحولت الأطعمة — بسبب المبيدات وحقن منع الحمل — إلى شيء يشبه أوراق الكرتون.
وذهب أبو حسن وأخذ الخير معه، ولم يترك لنا إلا حكايات وروايات وخرابيط! ولكن اختراع الدوسرة سيظل مكتوبًا باسمه على قوائم الطعام في جميع مطاعم العالم!
الصيت ولا الغِنَى!
حكمة الله أن الحيوان والطير أيضًا يختار أكله ويتذوقه … وهناك حيوانات نباتية وأخرى مفترسة تأكل اللحم الحي. وحكمة الله أيضًا أن أقوى حيوانات الغابة هم أكلة النبات وليس أكلة اللحوم. الجاموسة هي أقوى حيوانات الغابة ووحيد القرن يأتي بعدها والفيل يأتي بعد وحيد القرن. ولكن بتجربة الحياة، الفيل هو أقوى المملكة النباتية مع أنه بلا قرون وبلا قرن، والسبب أن الجاموسة غبية ووحيد القرن أغبى منها.
ولكن وبالرغم من غبائها فلا يستطيع افتراس الجاموسة أسد واحد، ولكن لا بد من ثلاثة أسود واحد يهاجمها من الأمام وواحد من الخلف وواحد يقفز فوق ظهرها. ولكن هل هناك علاقة بين الغباء وأكل النبات؟ لم يستطع أحد تأكيد هذه النظرية، لأن الفيل مثلًا ذكي رغم كميات الحشيش والبرسيم التي يتعاطاها. والأسد مثلًا صاحب مزاج لا يأكل من الفريسة إلا فخذها، أما بطنها فلا يقترب منها. لأن البطن هي مخزن كل الأمراض، والنمر يأكل الرقبة والأكتاف. ولكن الضبع يأكل كل شيء خصوصًا المعدة والمصارين. وفي عالم السمك هناك أيضًا سمك نباتي وسمك مفترس. على رأس السمك النباتي البُلطي. ويقال إنه أكثر الأسماك عرضة للتلوث، وهو قول صحيح ومع ذلك فأكل السمك البلطي هو الذي ينجيك من شر التلوث. هل هي فزورة؟ أبدًا … ولكن بسبب أن عملية التمثيل الغذائي للبلطي بالذات لا تدع السموم تتسرب أو تتوزع على كل أنحاء الجسم، ولكنها تخزن المادة الضارة في الجهاز الهضمي وفي المنطقة الخلفية من النخاشيش. ولذلك تستطيع أن تأكل البلطي باطمئنان وتقرأ الفاتحة للسلطان!
وهناك سمك ناصح يعف عن أكل لحوم الأسماك، ولكنه يختصر الطريق ويأكل بيضها. وأكل البيض كما تعلمون هو خلاصة أنواع الأكل، والكافيار كما تعلمون هو بيض السمك. وفي أستراليا يأكلون بيض التمساح، وفي إفريقيا وآسيا يأكلون بيض الثعبان.
وكما في دنيا الإنسان هناك أيضًا ما يشبهه في دنيا الحيوان والطيور. هناك بين البني آدمين من يطفح الكوتة في سبيل أبنائه، وهناك من يعيش أيامه على هواه ولا يرتعش له رمش إذا تشرد أولاده أو ماتوا جوعًا. والنسر مثلًا من النوع الذي يعيش عامًا وبعض العام متفرغًا لتربية وليده، يتناول جمع الغذاء مع الأم ويتناوبان الحراسة، ولا يتركان وليدهما إلَّا بعد أن يعلماه الطيران والصيد. وأنثى النمر هي التي تهتم بتربية ابنها، تطعمه وتدربه وتعلمه كيف يفترس، فإذا أتقن ما ينبغي عليه أن يتعلمه، قامت هي نفسها بطرده لكي ينشئ لنفسه حياة مستقلة. وأحيانًا يرفض النمر الصغير أن يفترق عن أمه، وتضطر الأم حينئذٍ إلى ضرب ابنها علقة سخنة يسيل فيها دمه حتى يضطر إلى الذهاب بعيدًا عن أمه؛ لأنه إذا بقي إلى جوار أمه لا يصلح ليكون نمرًا، وإنما يتحول بعد قليل إلى قطة تفترسه الضباع والثعالب!
ولكن هناك حيوانات صايعة مثل القط، لا يكتفي بإهمال أولاده ولكنه يأكلهم أيضًا، ويتعشَّى كل مساء بواحد منهم. وأنثى العقرب عندما تصل إلى الذروة أثناء الجماع تأكل الذكر، تأكله كله على بعضه، لأن من يكون السبب في كل هذه اللذة لا بد أن يكون هو نفسه لذيذًا ومهضومًا على رأي إخوانَّا الشوام، وهناك حيوانات تأكل السم ولا يصيبها منه أي شر. والثعابين تبلع الثعابين الأخرى دون أضرار، وبعض الناس تأكل دهن السمك للتخلص من دهونها وخصوصًا دهن الشريان (الكولسترول).
وإذا كانت بعض أنواع الحيوان والطيور تضحي بالغالي والثمين من أجل ذريتها، فطائر السنونو يضحي بالحياة نفسها من أجلهم. إذا عجز عن الحصول على غذاء مناسب لفراخه، نقر صدره بمنقاره الحاد، واستخرج قلبه وأطعمه لهم!
ولأن الأكل هو بترول الحياة، فكل حيوان يصطاد أكله ما عدا الأسد، ولكنه يشارك ويساعد أحيانًا في الصيد، وهو ضامن بالرغم من ذلك وصول طعامه إليه، بسبب كرم اللبؤة وحرصها على مده بالطاقة، لأن الأسد ليس مهمته تدبير الطعام للأسرة، ولكن مهمته الوحيدة هي الإنجاب، وإدخال السرور على قلب الست حَرَمه، ولذلك … وبينما كل الذكور يتقاتلون على الأنثى، ستجد أن اللبؤة هي التي ستخوض معارك الهول دفاعًا عن أسدها ولكي يبقى ملكية خاصة لها. وفي عالم الإنسان صنف بني آدمين من فصيلة الأسد. هو صنف الغجر. فالغجرية هي التي تختار الرجل، ولذلك فهي تسعى من أجل المعايش، وستطعمه الشهد وتسقيه عصير الدوم (الدوم لا يعصر) إذا أثبت كفاءته التي من أجلها اختارته من دون الرجال. حيوان آخر لا يصطاد مثل الأسد … ولكن لأسباب مختلفة … الحيوان الذي لا يصطاد أكله هو الضبع، والسبب أنه جبان ونتن، لا يصطاد الأرنب لأن الأرنب له أظافر وقد يخربشه، ولا يصطاد الماعز لأن الماعز لها حوافر وقد تضربه بالحافر فتبطحه. ولذلك يمشي وراء الحيوانات المفترسة كالمخبر النشيط الذي يتعقب المشبوه وعندما يصطاد الوحش فريسته ويأكل منها ما يحتاجه، ينصرف لحال سبيله تاركًا ما تبقى من الأشلاء للضبع وجماعته. أما جماعته فهم خليط من الطيور والحيوان. وأغرب شيء أن الضبع النتن يشاركه الجيفة طائر المفروض أنه ملك الطيور وهو النسر. إنه الآخر صايع وجربان ولا يأكل إلا الجيف وفضلات الوحوش، ومع أنه مشهور بالأنفة والكبرياء والعظمة، ولكنه الصيت، كما يقولون، ولا الغِنى!
أما العلو والسمو والاستعلاء فهي صفات الصقر، فالصقر يصطاد فريسته بنفسه، وهو قادر على إلحاق الهزيمة بها مهما كان حجمها. ولأنه صياد وغاوي صيد لذلك استغله لوردات أوروبا ومهراجات الهند وأصحاب الذوق من أثرياء العرب في صيد الطيور الموسمية، وهو يفرح برحلات الصيد بنفس القدر الذي يشعر به الإنسان، وسيجند نفسه لخدمتك فترة طويلة من الزمن، ولكن بشرط أن يأكل من الصيد أولًا. ولذلك يحرص هواة الصيد على أن يكون معهم آلة حادة أثناء الصيد، فإذا تمكن الصقر من فريسته أسرعوا بذبحها وقدموها للصقر لكي يطعم منها أولًا. أما إذا تغافل الصياد أو تناسى أو صَهْيَنَ أو غطرش عن هذه العادة المقدسة، فلن يصطاد الصقر مرة أخرى، ولن يمكث مع الصياد الذي يبخل عليه بصيده! فهو ليس خادم صيد ولا يصلح لهذه المهنة، ولكنه صياد لمزاجه ويصطاد ما يأكل منه. الصقر هو ملك الطيور بلا منافس. وأي طير سارح في السما يخشى الصقر ويعمل له ألف حساب. ولو فشل في الصيد مائة يوم فلن يهبط على بيته ولن يأكل من جثة، ولن يتذوق لحمًا لم يكن هو صائده. فإذا اشتدت الأزمة لجأ إلى قمة من القمم وظل بها حتى يموت. ولذلك قال المطرب الشعبي في الصقر:
النزول على الرمة ليس من طبيعة الصقر، ولكنها وظيفة الضبع والنسر والغراب … بينما الإنسان يأكل لحم أخيه لو اضطره الجوع إلى ذلك. وحكاية الطائرة الإسبانية التي سقطت على قمم جبال الأنديز معروفة. هوت الطائرة على منطقة ليس فيها حياة، وقُتل بعض الركاب وعاش البعض الآخر، فلما جاع الذين كتبت لهم النجاة أكلوا زملاء الرحلة الذين انتقلوا إلى رحمة الله!
وحدثني صديق عربي صاحب تجربة وحكمة عن مأزق تعرَّضَ له مع شلة من أصدقائه وهم صبية. ضلوا طريقهم في الصحراء وجاعوا فقرروا أن يأكلوا أحدهم، وتآمروا فيما بينهم على الانقضاض على الصديق وذبحه والتهامه. ولكن الذي حدث بعد ذلك كان أغرب من الخيال!
حساء شبل الأسد!
اتفق الصحاب على أكل أحدهم، واختاروا موعدَ التنفيذ عندما يخلد الجميع للنوم، هذا إذا كان النوم يعرف طريقه للجائع، وبالطبع كان الصديق الذي وقع اختيارهم عليه أضعفهم جسدًا وأضعفهم عشيرة، وهكذا حال الدنيا، والويل للضعيف والغلبان والمقهور، ورحمة الله على عمنا أبو العلاء المعري، نظر إلى الكتكوت المسلوق الذي وصفه له الأطباء وقال قولة صدق أصبحت مثلًا:
استضعفوك فوصفوك فهل وصفوا لي شبل الأسد؟!
بالتأكيد شبل الأسد أكثر فائدة للمريض، وشوربة شبل الأسد أكثر دسامة، ولكن من يجرؤ من الأطباء على أن يكتب روشتة شوربة الأسد؟ وإذا جرؤ الطبيب فهل يجرؤ المريض على صيده وذبحه؟
ليس أسهل من الكتكوت وشوربة الكتكوت ليتناوله المريض والتعبان والذي أصابه وجع! كان مع الجماعة سكين أمضوا وقتًا في إعدادها وترقيق حدها، والغريب أن الضعيف المسكين اشترك في إعداد السكين التي سيذبح بها. ولكن قبل موعد النوم بقليل تراءى لأسماعهم صوت رهيب صادر من جوف الليل كان الصوت لذئب جائع وهائج ومجنون، وربما رائحة الإنسان وصلت إلى خياشيمه فازداد جنونه وهياجه، وما هي إلَّا لحظات إلَّا وصار الذئب في مواجهتهم. نحن الآن على أبواب معركة ضارية بين ذئب جائع يبحث عن شيء يأكله ومجموعة من الشباب يعانون الجوع ويبحثون عن عشوة تنقذهم من الهلاك، وعندما بدأت المعركة كانت نتيجتها محسومة، سبعة ضد واحد، أشعل أحدهم نارًا واستخدم الثاني عصا طويلة وتسلح الثالث بالأحجار وهجم الرابع بالسكين وكانت النار هي صاحبة الكلمة الأولى في المعركة ارتعد الذئب من وهجها ولهبها وتقهقر مذعورًا فهوى عليه صاحب العصا ثم قذفه صاحب الحجارة في رأسه ثم تناوشه صاحب السكين في ساقه ثم قذفه أحدهم بحفنة رمل أصابته بالعمى المؤقت، وهكذا انغرزت السكين في رقبته وانهالت العصا على رأسه وانهمرت الحجارة على جثة الذئب الجائع التعبان، ولم تمضِ لحظات حتى كان الذئب كله على جمر النار ورائحة الشواء تملأ الصحراء.
وهكذا نجا الصديق الضعيف من الذبح، وافتدته الأقدار بذئب كان عظيم الجثة ومسخه الجوع فأصبح أشبه بمريض أصابته البلَّاجرا! وأكل الأصدقاء وشبعوا واستغرقوا في النوم ولم يستيقظوا إلَّا بعد أن لسعتهم الشمس في منتصف النهار. وهكذا أثبتت شلة الأصدقاء أن كل الطعام كان حلًّا لبني إسرائيل إلَّا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، وحتى ما حرَّمه على نفسه يمكن السماح به عند الضرورة، وإذا حبكت الضرورة يمكن للإنسان أن يأكل الذئب، مع أنه في كل القصص وعبر كل العصور كان الذئب هو الذي يأكل الإنسان!
المضحك في الأمر أن أحد هؤلاء الشبان الذين حضروا وليمة الذئب، ممنوع عليه الآن أكل اللحم ومسموح له بأكل الدجاج المسلوق فقط مع الأرز … ويا سبحان الله! … مغيِّر الأحوال. الذي هضمت معدته لحم الذئب لم تعد تقوى الآن على هضم لحم الضأن، والولد الساحر عبد الحليم حافظ الذي أكل معي ساندوتش كشري عاش حياته بعد ذلك على الخضار المسلوق، وعمك الحاج إبراهيم نافع الذي كان لا يأكل إلا الضلع بقرقوشته أصبح الآن لا يأكل إلَّا الكفتة! والمعلم رضا الذي كان يكسر عظم العجل بأسنانه ليمص النخاع صار من أكَلة الكتاكيت المسلوقة المخلية من العظام! والعبد لله الذي كان يفتح نِفْسه بكوز مية طرشي بالدقة والخل، أصبح يعوي طول الليل إذا لحس لحسة ملوخية أو إذا لهط لهطة فتة. الأكل هو علامة الزمن والزمن متقلب وغدار، وحكمه نافذ ولا حكم محكمة، والبني آدم يأكل السوائل في طفولته ويأكل الخشب في شبابه ويعود إلى السوائل عندما تضمر العضلات وتجف المعدة وتطقطق العظام وتصبح اللثة عارية كرأس الأصلع، وها أنا ذا الآن ملطشة للدكاترة ومزرعة للأدوية وأمنيتي الوحيدة أن أعود إلى كوز الطرشي وسندوتش الكشري وأعواد القصب التي كنت أمصها بقشرها كسلًا وإيمانًا مني بأن قشر القصب يحمل من الفوائد ما تعجز عن إدراكه الألباب، الأكل يكون بحساب والشرب بحساب.
وأسوأ الأزمنة هي التي لا يأكل الإنسان فيها ما يعجبه ولكن ما يعجب الأطباء، وأكبر مصيبة تصيب الإنسان أن يسلم نفسه للأطباء، والطبيب بني آدم يخطئ ويصيب، وإذا استسلم البني آدم لهم فتح على نفسه فتحة لا يمكن سدها، والعبد لله له تجربة في هذا الأمر. فقد ذهبت إلى الدكتور حسام بدراوي أشكو له من السكر فنصحني بإجراء فحص شامل على كل شيء ثم اكتشفوا أنني أعاني من تضخم في الكبد وحصوة كبيرة — في عين العدو — تنام مستريحة داخل المرارة. ومرارة العبد لله كانت دائمًا ضعيفة وحيطة مايلة، ولكنها كانت صاحبة الفضل في إقلاعي عن شرب الخمر وحتى البيرة، ونصحني حسام بدراوي بترك الحصوة مكانها وعدم الاهتمام بها لأنها كبيرة ولا تتحرك، فإذا تحركت تكون الجراحة لازمة لانتزاعها من مكانها، ولكن الدكتور فايز بطرس في لندن نصحني بإجرائها وأنا في كامل لياقتي لأنها قد تتحرك عندما يكون العبد لله متوكئًا على العصا ونموذجًا لقول الشاعر: لولا مخاطبتي إيَّاك لم ترَني!
هل أذهب لإجراء البحوث والفحوص؟ أم أمزِّق الورقة على أساس أن ما قُدِّر سيكون، والمكتوب على الجبين لازم تراه العين؟ ثم اهتديت إلى الحل الأمثل عملًا بقول سيدنا علي بن أبي طالب: سل فؤادك.
مزَّقت الورقة ولم أذهب لإجراء أي بحوث أو فحوص، ولكني ندمت بعد ذلك لأن كل الأفئدة ليست كفؤاد ابن أبي طالب، هناك أفئدة خربانة وأفئدة مش مضبوطة وأفئدة حكمها مش ولا بد، وعندما أبلغت الدكتور عبد المعز بالقرار الذي اتخذته. سألني: ليه؟ فأجبته بأنه كان نتيجة لتجربة طويلة مع جدي الشيخ خليل — يرحمه الله — عاش مائة وعشرين عامًا إلَّا قليلًا لم يرَ الطبيب إلَّا في العام الأخير من حياته، وكان الدكتور هو عبد المعز نفسه، ولم يعطه الدكتور عبد المعز إلَّا المقويات فقط.
لم يكن جدي الشيخ خليل محتاجًا لدواء وما أصابه كان نتيجة مرور الزمن. لم يكن محتاجًا إلَّا لجرعة من الفيتامينات تساعده على الاندفاع عدة خطوات أخرى على الطريق، ولم يمرض في حياته إلَّا بالبرد وبالزكام وبوجع الأسنان. لم يعرف السكر أو الضغط الطريق إليه، ولم يتسلل الفشل إلى كلاويه أو الفيروس إلى كبده، لأنه كان يأكل طعامًا بلا كيماويات، ويشرب مياهًا غير مختلطة بمياه المجاري، ويتنفس هواء لم يفسده عادم السيارات، لأن قريته لم يكن يمر بها أي نوع من الموتورات، وأرضه لم تعرف أي نوع من الأسمدة إلا الأسمدة العضوية. وكان رغيفه من القمح ويتم نضجه في فرنه داخل الدار، وكانت دجاجته من عشته وكان أكلها من نبش التراب، وكان حليبه من الجاموسة وسمنته صنع يد ستي عزيزة وهي زوجته الرابعة التي عاشت معه حتى النهاية، وعندما مات جاءه ملاك الموت وهو نائم. وهو لم يمت، ولكنه توقف عن الحياة. القلب سئم النبض المستمر على مدى العقود الاثني عشر، والدم لم يعد يطيق التدفق خلال الدورة الدموية والمخ أصابه الملل من كثرة التفكير والتدبير.
توقف القلب أولًا ثم استجاب له المخ ثم توقفت الدورة الدموية، وقدر للشيخ خليل أخيرًا أن يستريح بعد أن امتلأت القرية ضجيجًا وزحامًا وفراخًا من الجمعية وخبزًا من المخبز الآلي. يبدو أن الشيخ خليل نفسه سئم الحياة بعد أن أصابها التغيير إلى الأسوأ، والقرية تحولت إلى ورشة، ومساكنها ودروبها تحولت إلى جراج. لم يعد لها وجود تلك الدنيا التي كان يعرفها الشيخ خليل وعاشها بانسجام، ولذلك رفع قبعته فجأة وغادر دنيانا في سلام.
ولكن … هل يستطيع العبد لله أن يقطع نفس الطريق الذي قطعه الشيخ خليل؟ لا أظن … فمصاريني غير مصارينه، وكبدي غير كبده، ومعدتي غير معدته، وطعامي يختلف عن طعامه. وأنا الآن لا أطعم إلَّا خليطًا من عصير الكيماويات، ولا أشرب إلَّا مياه البِرَك مخلوطًا بالمجاري، ومائدتي ليس عليها إلَّا اللحوم الفاسدة والفراخ المحقونة بمسحوق حبوب منع الحمل والزيتون المدهون بورنيش الأحذية.
لم يهزمنا الاستعمار الإنجليزي ولم يهزمنا العدوان الإسرائيلي، ولكن هزمتنا أغذية السيد المستورِد عديم الذمة قليل الأصل، وطاردونا بسلعهم المغشوشة على شاشة التليفزيون وربحوا الملايين وقتلوا الألوف من شعبنا، الله يخرب بيوتهم ويكُب زيتهم.
غاندي ومعزته!
زمان … وأيام الشباب كنت عديم الوزن؛ لأنني كنت عديم اللحم، وكانت عظامي بارزة كأنها أسلاك شائكة حول بعض المعسكرات! وفي المدرسة الابتدائية كنت لعيب كورة محترمًا، ومشهورًا ويشار لي بالبنان وبالنعال! وعندما ذهبت إلى المرحلة الثانوية، أبدوا إعجابهم بلعبي، ولكنهم أبدَوا احتقارًا لحجمي! ولذلك ارتديت ملابس الكورة واكتفيت بالجلوس على الخط وتشجيع اللعيبة أثناء اللعب وتوزيع البرتقال عليهم بين الشوطين! وعندما اشتغلت بالصحافة كان منظري يوحي بأنني مريض بسُل العظام هربان من مستشفى قصر العيني، وطالب حسنة منك يا كريم … يا حليم … يا ستَّار!
وذات رحلة مع عبد الناصر إلى دسوق في بداية الثورة، وكنا مجموعة من الصحفيين الشبان، وكلنا مرضى ومرهقون وعجاف، انهال علينا محافظ كفر الشيخ ضربًا عندما رآنا نحجل خلف عبد الناصر كالغربان، فقد ظن أننا شلة عيال صياع، وأننا جئنا خلف البطل نهتف بحياته وحياة الثورة المباركة ورجالها الكرام!
وانتقمنا من المحافظ انتقامًا رهيبًا، وكان رجلًا من باشوات العهد الملكي، وكان في حجم الفيل، وشكله كالطاووس، أحمر الوجه، منتفخ الأوداج، شديد الصلف والغرور والكبرياء! وكان اسمه محسن بك عزت، ولكننا حرفنا اسمه في جميع الجرائد الصباحية القاهرية وكتبنا أن أعيان دسوق كانوا في استقبال عبد الناصر وعلى رأسهم عبد الصبور بك عبد البصير محافظ كفر الشيخ! ويومها بكى الرجل من شدة القهر، وحاول الاعتذار لنا دون جدوى، مع أن الحق كان معه، فقد كان منظرنا ولا منظر جرابيع شاردة في صحراء العرب بعد عام من الجفاف!
ولذلك ظللت العمر كله أحلم بأن يكون لي كرش يتدلى أمامي نصف متر، وأن يكون لي لُغد يتدلى تحت ذقني وزنه عشرة أرطال! وأن أتنفس بصعوبة نتيجة اللحم والشحم، أحجام وأكوام بعضها فوق بعض!
وكان طمعي في جلب المهابة والاحترام يزداد أكثر. فالطمع في ذبحة صدرية تصيبني وتجعلني ألهث ككلب عطشان، وصار اقتناعي لا حدَّ له بأنني بكرش ولُغد وذبحة محترمة، سأحظى بالهيبة والرفعة وعظيم الاحترام. ويبدو أن الله استجاب لدعائي. فبرز لي كرش، وتدلى لحضرتنا لُغد، وصرت ألهث بعد كل خطوة أخطوها، ولكني لم أحظَ إلَّا باحترام البوَّاب! قُتِلَ الإنسان ما أكفره!
زمان ضقت بالحياة، لأنني كنت في حجم غاندي، واليوم أتمنى أن أعود في حجم معزة غاندي!
ويا سبحان الله … عندما كانت بطني في ظهري، ورقبتي في حجم السمسمة، كان يحسدني أصحاب الكروش واللغود. وعندما صرت من أصحاب الكروش واللغود، صرت أحقد على المسلولين والمقشفين! وزمان كان الأطباء حريصين على زيادة وزن العبد لله بالمقويات والفيتامين … واليوم يحاول الأطباء العودة بوزني إلى أيام زمان. وحلمهم أن أعود كما قال الشاعر: لولا مخاطبتي إيَّاك لم ترَني. والعبد لله يحاول معهم بالمشي أحيانًا، وبالجري أحيانًا، وبالصوم عن الطعام في بعض الأحيان، ولكن لا المشي ينفعني ولا الجري يشفع لي، ولا الصوم يعصمني من الدهون والشحوم. وبالرغم من الرجيم والتمرينات الرياضية، التي تؤديها خالتي ذكية في برنامج صباح الخير يا بهية، فالعبد لله يذهب أول كل شهر إلى الترزي لتوسيع البدل التي ضاقت، ولتطويل البيجامات التي قصرت، والجلاليب التي انحسرت. ولكن سعي العبد لله من أجل تحقيق الحلم لا يتوقف، والأمل في تحقيق ذلك لا ينقطع، ويعيش العبد لله الآن في حلم طويل ومتصل. والبني آدم يعيش حياته يحلم ويأمل، والحياة قصيرة لولا فسحة الأمل. وكل الناس تعيش وتحلم، وكلهم يجري ويعرق من أجل تحقيق الأحلام، وأحيانًا يصيب وأحيانًا يخيب. ولكن أغرب المصادفات أنه — غالبًا — عندما يتحقق حلمه يسقط ميتًا فجأة وبلا مقدمات. مات وكأن حلمه كان هو الخيط الذي يشده إلى الحياة، فإذا تحقق الحلم انقطع الخيط وضاع في الكازوزة يا وِلْداه!
أعرف ممثلًا مغمورًا داخ السبع دوخات في حياته … ولم يكن يحلم بأكثر من بيت يستره وامرأة ترضى به زوجًا، ووجبات طعام منتظمة، ودخل يعينه على ركوب الترام! وفجأة … تحقق له كل ما كان يحلم به، وجاء الفرج وهو في خريف العمر. وعثر على شقة تؤويه، والتقى بامرأة شابة ارتضته زوجًا، وضمِن دخلًا يسمح له بركوب الترام والأتوبيس، وصار في مقدوره الحصول على صندوق سجاير كل يوم لزوم التدخين! وعندما جلس في بيته وضم زوجته إلى صدره، وأشعل السيجارة وسحب منها نفسًا عميقًا، خرجت روحه مع الأنفاس التي لفظها من صدره، ولم ينعم الممثل المغمور بحلمه الذي تحقق إلَّا فترة امتدت عشرة أيام فقط لا غير!
وأعرف محاميًا شابًّا كان يعاني من ضيق ذات اليد، وكان يحلم برصيد يكفيه شر العمل والسعي على لقمة العيش، وابتسمت له الحياة عندما اختارته الصدفة ليكون وكيل أعمال البوليس الدولي في سيناء، وصار المحامي مليونيرًا في ظرف ثلاث سنوات، وعلى الفور قام بتصفية مكتب المحاماة الذي كان يديره، ووزع الثروة على ولديه، وأبقى لنفسه ما يكفيه للفسحة والتجول عبر القارات، وقرر أن يقوم بأولى جولاته في أمريكا اللاتينية، وحجز التذاكر واستخرج الشيكات السياحية المطلوبة، واشترى الملابس المناسبة للشتاء والصيف. وقبل الموعد المحدد لبدء الرحلة بيوم واحد، سقط المحامي الثري ميتًا بدون أسباب!
ولقد حدث نفس الشيء مع نجم مشهور هو أنور وجدي. وكان أنور وجدي فقيرًا في شبابه، لدرجة أنه اضطر إلى التهام قطعة عجين ليسكت عصافير بطنه، وكان ينام أحيانًا في كواليس المسرح، وأحيانًا يفترش الأرض ويتغطى بنجوم الليل. وكان حلمه الوحيد أن يصبح يومًا ما مليونيرًا ينثر الجنيهات ويوزع الشيكات. وقيل له يومًا إن الممثل فلان يملك مليون جنيه ويعاني من مرض السرطان، فقال … أتمنى أن أحل محله، أمتلك المليون وأعاني من السرطان! وتحقق حلم أنور وجدي، فأصبح ثريًّا ألمعيًّا ومليونيرًا بنكيرًا، ومريضًا مرضًا خبيثًا، حرمه لذة الأكل، وحرمه نعمة النوم، ثم ما لبث أن ترك الدنيا كلها وتوكل على الذي لا ينام!
وأعرف شاعرًا بائسًا كان يتخذ من قهوة إيزافتش محلًّا مختارًا له خلال النهار والليل، وكان يرتدي على مدار العام بدلة تيل بيضاء وحذاء أبيض وقميصًا معجونًا بالتراب … ثم حدث أن التقى الشاعر بثري عربي من دول الخليج، أنشد في عظيم خصاله وكثير أمواله قصائد ولا قصائد المتنبي في سيف الدولة. وأصبح الشاعر ثريًّا ولا أوناسيس، أنيقًا ولا عمر الشريف، وأثرى من وراء قصائده إلى الدرجة التي أتاحت له شراء قصر لنفسه على ضفاف بحيرة جنيف. وغادر الشاعر مصر واستقر في عاصمة سويسرا. وفي أول يوم دخل فيه قصره، وجلس في الشرفة، ومسح بنظره سطح بحيرة جنيف، وبعد أن انتهى من تدخين سيجارته المفضلة وارتشاف آخر رشفة من كأسه، فارق الحياة!
ولذلك يعمر أصحاب الأهداف البعيدة والأحلام المستحيلة، ويموت أصحاب الأحلام الصغيرة والأهداف القصيرة. ولذلك العبد لله يتمنى عدم تحقيق حلمه إلا بعد مائة عام، وأن يزداد كرشي اتساعًا، ويزداد لحمي ترهلًا، ويزداد لغدي ترجرجًا، وأن أصبح في حجم الممثل فتله — يرحمه الله.
وأدعو الله أن يفشل الأطباء في مسعاهم، فلا أعود أبدًا رشيقًا كما كنت، أو جلدًا على عظم كما كانت حالي في الأيام الخوالي، فما أحلى الحياة على أي هيئة وبأي شكل، وما أبغض الموت ولو كان حضرتك في خفة الغزال ورشاقة محمود حميدة وأناقة كمال الشناوي ولياقة حمزة الجمل.
ولكن الكارثة الكبرى أن الناس تموت أحيانًا بالسِّمنة، وتموت أحيانًا بالسل، وكل الطرق تؤدي إلى المقابر، سواء كنت من أكَلة مطعم مكسيم أو أكلة صناديق الزبالة. والحلم بالبدانة مثل الحلم بالنحافة، كلاهما ينتهي بالموت، ولذلك العبد لله يبحث عن أحلام بعيدة المدى، ويتعلق بأمل لا يمكن تحقيقه إلا صباح يوم القيامة. هل تعلمون بماذا يحلم العبد لله الآن؟ أحلم بأن أصبح بطل العالم في الملاكمة، وأحلم بالحصول يومًا ما على كأس العالم في كرة القدم، وأحلم أيضًا بقيادة جيش يلحق الهزيمة بجيش الولايات المتحدة الأمريكية في معركة خاطفة، وأحلم أيضًا بالعثور على كنز يكفي لتسديد ديون مصر وديون العبد لله. ولكن الحلم الذي يقلقني الآن ويؤرِّقُني هو أن أتمكن يومًا ما من الزواج من ملكة جمال الكون، وبشرط أن تتزوجني عن حب، وأن تتعقبني في كل مكان أذهب إليه، وأن تستجيب لأوامري وتطيع إشاراتي، وأن تكون بنت ناس ومن عائلة محترمة وأسرة ثرية، وتجيد طبخ الملوخية وإعداد لحمة الرأس والفتة بالثوم والخل، وأن يكون معها فلوس تغطي مصاريف العبد لله، وما يكفي أيضًا للقضاء على الجوع في أفريقيا.
والعبد لله يعتقد أن السعي لتحقيق هذا الهدف هو الذي سيُبقيني على قيد الحياة، بالرغم من السكر الذي ارتفعت نسبته في الدم، والملح الذي ترسب بالعظام، والمياه البيضاء التي غرق فيها البصر، والخشخشة التي تصدر من الصدر، والكركبة التي تحتدم في المصارين. وبالرغم من نصائح الأطباء للعبد لله بالإقلاع عن أكل اللحوم والخبز والنشويات والسكر وعدم التدخين وعدم السهر وعدم الإجهاد وعدم الكلام وعدم الكتابة وعدم التركيز وعدم التفكير وعدم القراءة، وباختصار … إنهم ينصحونني بعدم الحياة! ولكنني وبالرغم من ذلك سأحيا، لأن أحلامي لم تتحقق، وأتمنى على الله عدم تحقيقها حتى سنة ٢٩٠٠م، إن شاء الله!
عن الكوارع والقواقع!
الله يرحمه ويحسن إليه جدي الشيخ خليل الذي طالت أيامه على الأرض إلى ما يقرب من ١٢٠ سنة، وعاش في تبات ونبات وخلِّف صبيانًا وبنات وعاش حتى شاهد الجيل الخامس من أحفاده … الله يرحمه … فقد كان ينسب كل خلل في الحياة إلى وابور الجاز البريموس، وعندما شاهد البوتاجاز أيقن أن الحياة انتهت! وظل مُصِرًّا على أكل الطعام المطبوخ في نار من صنع ربي، بالحطب وفي الفرن البلدي الذي ينتصب كقبة الشيخ في فناء الدار. وكان ينضج البيض في تراب المحمة. أي في الرماد المتخلف من حريق الفرن. وكان ينضج قهوته على قوالح الذرة. وأقسم لكم أنني لم أتذوق في حياتي طعامًا أشهى من طعامه، ولم أرشف قهوة في روعة قهوته، ولكن السوق لم يهتم كثيرًا بأسلوب جدي الشيخ خليل، فتنوعت الوسائل لإنضاج الطعام ولإعداد الشاي، حتى توصلوا أخيرًا إلى الميكروويف … وهي طريقة تنضج الطعام في دقائق، وتعد الشاي قبل أن يرتد إليك طرفك.
قالوا إنها الطريقة المثلى لإعداد وجبات الطعام في عصر البيزنس والبورصة وبنوك التقوى والبركة وشركات توظيف الأموال. ولكنهم عادوا بعد قليل فسحبوا الأجهزة من السوق وتوقفوا عن إنتاج الميكروويف بدون إبداء الأسباب، ولكن السر انكشف بعد ذلك فإذا بطعام الميكروويف يسبب السرطان، ويدمر الجهاز الهضمي، وإذا بنظرية الشيخ خليل تنتصر في النهاية، فليس أكثر أمانًا من استخدام الوسائل الطبيعية. النار من الحطب أو الخشب أو روث البهائم. والأواني من الفخار أو من النحاس. وكل شيء ينضج على مهله ويأخذ وقته، وإذا كانت العجلة في كل شيء من الشيطان، فهي في عملية إعداد الطعام من عزرائيل! ولذلك يلجأ الناس الآن في البلاد الغنية إلى هجر المدن وأجهزتها الكهربائية إلى الخلاء والعودة إلى استخدام الوسائل القديمة. في اليابان يخرجون إلى الغابات ويقضون أسابيع داخل الغابة ويتصرفون كما كان يتصرف الإنسان البدائي. قضاء الحاجة في الخلاء والجلوس على قرافيصهم، وإنضاج الطعام على أعواد الشجر الجافة. وجلب المياه من مساقطها الطبيعية ومن الأعماق البعيدة. وفي إنجلترا يذهبون إلى الريف، ويعيشون أسابيع في المزارع، يحلبون البقر بأيديهم وكما كانت تفعل ستي هدية، ويشوون الفراخ على نار القش المتخلف من حصاد القمح، ويشربون من الآبار. وفي اسكتلندا يصعدون إلى الجبال يصطادون أكلهم أو يخبزون خبزهم ويعيشون عيشة الإنسان الأول. لا بوتاجازات ولا ثلاجات ولا سخانات كهربائية. ولكن في بلدنا اختلف الحال عنه في جميع أنحاء العالم، حتى في الريف دخلت الغسالات والبوتاجازات والثلاجات الكهربائية، وفي الصيف الماضي دعاني الحاج رفعت السعدني عمدة نتمة على كوب شاي تم إنضاجه على سخان كهربائي. ودعاني صديق في الإسماعيلية على خبز بلدي مخبوز في فرن صاج من مخلفات اليهود في سيناء!
ولكن نظرية الشيخ خليل معوض تقابلها نظرية أخرى تطلب الطعام في أي مكان وبأي طريقة، شرط أن يكون الطاهي ماهرًا. على رأس أتباع هذه النظرية المهندس علي والي وزير البترول الأسبق. إنه أكِّيل ممتاز وهو يأكل أي شيء وكل شيء ما عدا السكر والخبز. ثم بعد ذلك … مرحبًا بطبق كوارع أو طبق قواقع، صحن كرشة أو سمكة قرش. الشرط الوحيد أن يكون الطباخ على دراية بمهنته، وأن يكون موهوبًا وليس مجتهدًا. وهو يحفظ عناوين كل المطاعم الجيدة، وليس بالضرورة أن تكون المطاعم الجيدة مطاعم مشهورة. وهو يؤمن بأن الأكل لا يضر البني آدم إذا كان معتدلًا، لا يدخن ولا يسهر حتى الفجر. وإذا كان عمنا الدكتور حليم جريس يؤمن بأن الذي يتعشى لحومًا أو أسماكًا أو فتة كوارع في منتصف الليل، فهو حتمًا من سكان المقابر في صباح اليوم التالي، فإن عمنا علي والي يأكل أي شيء في منتصف الليل حتى القواقع وحتى الأعشاب الصينية وحتى الكافيار الروسي!
وهناك نظرية ثالثة بين الشيخ خليل والوزير علي والي وهي نظرية أحمد الكليفتي. وهي نظرية تقول: كل أكل ابن آدم مفيد خصوصًا إذا كان دسمًا. وهو بالرغم من أعوامه اﻟ ٧٩ كان يتبرع بالخدمة في موائد الرحمن التي يقيمها الحاج إبراهيم نافع في رمضان، مقابل أن يمنحه الحاج إبراهيم الخلاصة التي تترسب في قاع الحلة من عملية تحمير اللحم بالسمن. ولو استشرت أي طبيب أمراض باطنة أو أخصائيًّا في الجهاز الهضمي سيؤكد لك أن هذا الطعام كفيل بقتل فيل شاب، ومع ذلك فعمك أحمد الكليفتي كان يأكل يوميًّا كمية تكفي عشرة أفراد من هذه الخلطة … ولا خطورة على الإطلاق! وعلى العكس … كان الكليفتي يزداد شبابًا وحيوية عقب كل رمضان … على طريق الكليفتي، فإن عمك سمكة — قبل أن تهجم عليه الأمراض — كان يلتهم كل ما يصلح للأكل دون تدقيق، وأحيانًا كان يأكل الحلو … فاكهة ومهلبية، ثم يعود إلى التهام هبر اللحمة المسلوقة أو المحمرة ويدعم ذلك كله بالمخلل! فالأكل عنده هو أن تمضغ وتبلع، وكل الأصناف والألوان مطلوبة ومقبولة وبدون ترتيب! لأن بروتوكول الطعام ليس أصيلًا ولكنه مستحدث … فقد دخل في حياة الإنسان بعد أن سكن المدينة وترهل وأصبح يأخذ بقشور الحياة وليس بجوهرها، وهو لا يفهم لماذا الشوربة أولًا ثم اللحم ثم المهلبية والكنافة أو الفاكهة ثم الشاي في نهاية الأمر؟ ولم يكن لدى العم سمكة مانع من تناول الموضوع بالعكس. وما المانع من أن يكون الشاي أولًا ثم الفاكهة ثم اللحم ثم الشوربة؟!
وبين كل هذه النظريات هناك نظرية أخرى كان يطبقها المهندس عبد الحميد حمدي أو عبد الحميد حريقة كما كان يناديه الأصدقاء المقربون. نظرية عبد الحميد حريقة تقول إن الطعام شر لا بد منه. والإنسان الحصيف هو الذي يبعد عن الشر ويغني له! وكل وجبة لا تأكلها تضيف إلى عمرك. وأن الجوع هو عدو عزرائيل الأول، بدليل أن الفقراء يعيشون أطول من السادة أصحاب الكروش. ولذلك كان عمك حريقة يفطر شايًا في الصباح، ويتعشى ساندويتش جبنة رومي، وبين الإفطار والعشاء قد يأكل برتقالة أو موزة أو طمطماية … وبشرط عدم التهام أكثر من حباية واحدة في كل الأحوال. وعاش عمك حريقة حتى اقترب من الثمانين وكان في صحة جيدة ومزاج رايق ومرح وضحك في كل الأوقات!
وهذه النماذج تثبت أن سكة أبو زيد كلها مسالك، وكل الطرق تؤدي إلى روما، وأن الجوع والتخمة قد يؤديان إلى الموت وقد يؤديان إلى أرذل العمر. ولكن لو كانت مسيرة الحياة بالاختيار الحر، لاخترت مسيرة جدي الشيخ خليل، أعيش كما الإنسان الأول، أطهو طعامي على الحطب، وأنضج البيض على تراب المحمة، وأخبز العيش على بلاطة الفرن وأضع براد الشاي على قوالح الذرة، وأزرع الملوخية في الأرض المجاورة، وأربِّي الفراخ في فناء الدار، وأترك البط يبلبط في مياه الترعة، وأحلب البقرة بيدي لا بيد عمرو، وأشرب الماء من القلة، فليس أمتع ولا أروع من العودة إلى الطبيعة، وخيبة الله على مياه الثلاجة وطعام البوتاجاز وفراخ الجمعية ولحمة الحرامية المجلوبة من خارج الحدود … اللحمة التي تأكلها فتصبح من زباين ماكينة غسيل الكلى في مستشفى المعلم الدكتور غنيم بالمنصورة، أو تصبح عضوًا مترددًا على معهد الكبد تبع المعلم الدكتور يس عبد الغفار بالمنوفية!
زمان … أيام اللحمة الطازة … من الجزار إلى الحلة لم يعرف الشعب المصري طريقه إلى طبيب الكبد. وكان الجزارون يذبحون ما يحتاجه الناس وليس ما تحتاج إليه الثلاجة، والناس تفرح باللحمة الملفوفة في ورق سيلوفان، مع أن الورقة نفسها من أسباب فساد اللحمة؛ لأنها تحتاج إلى معالجة خاصة يجيدها المنتج في بلاد الخواجات، ومن لا يجيدها هناك فالمحكمة في انتظاره وحراس السجن على أهبة الاستعداد للترحيب به، ولكن في بلادنا … البساط أحمدي، وبلاش تفتش في لقمتك. وتجارة اللحمة المستوردة تحقق ربحًا أضعاف ربح المخدرات والعبد لله يعرف أحدهم وكان على باب الكريم، ولكنه خلال سنوات قليلة صار يمتلك اسطبلات في نادي السباق، ويُخوتًا في البحر.
والمصائب لا تأتي فرادى، على رأي المثل. والمصريون الغلابة لا يعانون فقط من سوء الطهي، ولكن يعانون أيضًا من فساد الصنف … وأخطر من فساد الصنف، فساد الضمير، وأسوأ من فساد الضمير فساد الذمم! بتوع الجمرك لهم جُعْل، ومفتش الصحة له نصيب، ومفتش التموين له معلوم، ووزير الصحة طبيب وعلى نياته، ولذلك نسب في بيانه «التاريخي» فساد اللحمة إلى بخل البقالين وأصحاب السوبر ماركت، ليه؟ لأنهم يقطعون النور عن الثلاجات في فترة الليل، فتصاب اللحمة بالعفن وتصبح غير صالحة للاستهلاك الآدمي، مع أنها كانت صالحة في فترة النهار!
ولكن لماذا البكاء على فساد اللحمة فقط؟ مع أن المواصلات فاسدة والمرور أفسد، والشارع المصري أصبح جزءًا من مؤامرة عالمية للإطاحة بالجهاز الهضمي عند المصريين. ومعذرة لأنني نسيت أن أقول لكم … لا يهنأ الجهاز الهضمي بطعامه وسط مجتمع مشحون بالتوتر والضوضاء، وهواء ملوث بالأتربة والرمال، ومياه تختلط بالمجاري وتجري مع مخلفات المصانع، وحوادث إرهابية تأخذ البريء مع المذنب، وتضرب الصالح والطالح، وتطعن نجيب محفوظ في الرقبة وتصفح عن المعلم مصطفى مرزوق والمعلم كتكت!
من يأخذ بيد العبد لله من غابة الانفتاح والانبطاح، إلى عصر البداوة والنقاوة والبال الهادئ والعيش الرغيد؟!
الضيوف … والضيافة!
وإذا كان الأكل له فوائد وله مضار، فهو أيضًا صاحب فضل في كشف سلوك الناس وعاداتهم، روى الملك الحسن في مذكراته عندما كان صبيًّا، أنه في رحلة النفي مع والده الملك محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر، وهي الرحلة التي استغرقت أكثر من عشرين ساعة طويلة ومملة. ولما كانت الطائرة حربية، فقد كان الطعام الذي قدموه للملك وأولاده حربيًّا أيضًا؛ قطع بسكويت مع الشاي. وبعد وصولهم إلى الجزيرة قدموا له طعام العشاء. ولم يأكل الملك محمد الخامس إلَّا ملعقتين من الأرز وملعقتين من السلطة، ثم تناول ربع تفاحة وشرب كوبًا من الشاي، وحمد الله على عظيم فضله وجزيل نعمته. أما الأمير الصغير الحسن الذي صار ملكًا بعد ذلك، فقد جلس على المائدة وقتًا طويلًا، وراح يأكل من كل الأصناف.
وكان الملك بين الحين والآخر يسدد إليه نظرات حادة، ولكن الأمير الصغير لم يدرك معناها. وبعد انصراف حاكم الجزيرة الفرنسي من حضرة الملك، قال الملك للأمير الصغير: كيف تأكل بهذه الصورة أمام الفرنسيين؟ ألا تشعر بالخجل؟ وقال الأمير الصغير معتذرًا: لقد كنت أشعر بالجوع، فأنا لم آكل شيئًا منذ ٢٤ ساعة. وقال الملك: كان ينبغي عليك أن تتحمل أمام الفرنسيين. إنهم يريدون إذلالنا، وأنت أمير وابن ملك، وعليك أن تتحمل!
وفي كتاب «آداب السلوك في معاملة الملوك» أن الأكل مع الملوك شرف، ولكنه يحذر الآكلين من التصرف بحرية على مائدة الملك؛ لأن الشرف في المؤاكلة وليس الأكل. ولأن هناك محاذير في الأكل مع الملك، فليس هناك أبشع من منظر رجل يأكل على راحته، وقد يؤذي الملكَ منظرُه، فتكون الفاصلة ولا يعود الملك يراه بعد ذلك. وقيل عن ابن تيمية إنه كان إذا دعي إلى وليمة، أكل في بيته أولًا، ثم جلس في الوليمة يمثل أنه يأكل معهم!
وللإسلام آداب وتقاليد في الأكل. وعلى الآكلين احترامها والالتزام بها. فإذا دعيت إلى وليمة فلا تصطحب معك أحدًا، فقد يكون صاحب الدار غير مستعد لاستقبال هذا الضيف. وفي البخاري عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي — صلوات الله عليه وسلامه — دُعِيَ إلى طعام مع أربعة من الصحابة ثم تبعهم سادس وهم في طريقهم إلى الوليمة، وعندما وصلوا إلى الدار وقف الرسول عند الباب واستدعى صاحب الدار واستأذنه بالنسبة للضيف الجديد … فأذن له بالدخول. ولكن الرسول لم يستأذن صاحب الدار في وليمة أخرى في اصطحاب أنس بن مالك معه، لأن سيدنا «أنس» كان خادم الرسول، وخادم الضيف يتبعه أينما ذهب، وهو أمر مألوف حتى اليوم، بالنسبة للسائق مثلًا. ومن آداب الإسلام أيضًا أن ينصرف الضيف بعد الانتهاء من الطعام بفترة وجيزة؛ لأن المكوث طويلًا قد يؤذي صاحب الدار. وحدث أن بعض ضيوف النبي كانوا يطيلون الجلوس والحديث بعد تناول الطعام، وكان الرسول يشعر بالضيق، ولكنه يستحيي منهم، حتى نزلت الآية الكريمة: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.
والشكر لصاحب الدعوة واجب، والدعاء له باستمرار النعمة ومواصلة العيش الرغد سُنَّة، وعن أنس بن مالك أن الرسول ذهب إلى سعد بن عبادة فجاءه بخبز وزيت، فأكل الرسول ثم قال: «أفطَرَ عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكةُ.» وبالنسبة للضيف الذي يصطحب معه رفيقًا لم يدَعْه صاحب الدار، فقد أسماه الشاعر ضيفنن، وقال الشاعر في هذا المعنى:
ولا يجوز الأكل وأنت كاوع على جنبك، أو منبطح على بطنك، أو واضعٌ ساقًا على ساق، لأن الطعام نعمة وعليك احترامها. وإذا كنت تجلس على هيئة مرتبة في حضرة وزير أو أمير، فأَولى بك احترام النعمة؛ لأنها من عند الله، وواجبك أن تشكر الذي رزقك بها وأن تسأله عدم الانقطاع. أما الأكل مُتكئًا أو مُنكفئًا فهو جهل وسوء أدب وكفر بالنعمة. وكان النبي يجلس في حضرة الطعام كأنه يُصلي. وسأله أعرابي مرة عن سر هذه الجلسة فقال النبي: «إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبدُ، وآكل كما يأكل العبدُ، وأحمد الله الذي جعلني عبدًا شكورًا ولم يجعلْني جبارًا عنيدًا.» وروى النسائي عن الرسول أنه قال: «من أكل طعامًا وقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حولٍ لي ولا قوة. غفر الله ما تقدم من ذنبه.» ونسبه إلى معاذ بن أَنَس — رضوان الله عليهم أجمعين. وهناك مبدأ ثابت ولا يتغير، إذا خيَّرك صاحب الدار بين نوعين من الطعام، فاختر الأسهل والأبسط. أذكر أننا طرقنا باب أحد الأصدقاء بعد منتصف الليل بكثير في قرية من ريف الجيزة، وكان معنا زكريا الحجاوي والشيخ عبد الحميد قطامش والشاعر محمود حسن إسماعيل وأحد الفنانين الذين يتصرفون على طبيعتهم وببساطة وبدون تكلف حتى مع الغرباء … ونهض صاحب الدار مرحبًا ومبتهجًا وقال مجاملًا: لقد كنا على وشك إشعال الفرن، ثم سألنا: هل تفضِّلون طعامًا بسيطًا من أطعمة الريف، فطير مشلتت وبيض وزبدة وعسل أبيض وجبنة حلوم؟ أم تفضلون ملوخية وديوكًا رومية؟ وكان الذوق يفرض علينا أن نختار الأبسط والأسهل حتى لا نسبب الضيق لصاحب الدار، ولكن صاحبنا الطيب النية المفلوت اللسان أجاب على الفور: ديوك رومي أحسن. وشمرت سيدة البيت عن ساعديها وقضينا ثلاث ساعات في انتظار الطعام، وعندما وضعوه على المائدة لم نأكل منه شيئًا، لأنه لم يكن قد نضج بعد.
وكان المرحوم زكريا الحجاوي يأكل بشراهة في بيوت الأصدقاء الذين يحبهم ويثق في كرمهم، وكان لا يأكل شيئًا في بيوت البخلاء، حتى ولو كانوا في ثراء المرحوم أوناسيس. وكان المرحوم عبد الحميد قطامش يأكل أي شيء وكل شيء في بيوت الجميع دون استثناء. وكان المرحوم الفنان محمد رضا يأكل براحته وعلى كيفه في بيوت الأصدقاء، أما في الدعوات الرسمية فكان يكتفي بشرب الماء فقط، معتذرًا بأنه يطبق رجيمًا قاسيًا للغاية بأمر الأطباء. أما الحاج إبراهيم نافع فهو لا يأكل عند الأصدقاء ولا عند الغرباء، لأنه ينشغل في الدعوات بالإشراف على المائدة وتوزيع الطعام على الحاضرين.
وفي السجن تنكشف حقيقة الإنسان على مائدة الطعام. كنا في زنزانة واحدة تضم الفنان حسن فؤاد وعشرة زملاء آخرين، وكان السجن يقدم لنا قروانة لحم ليس فيها من اللحم إلا الاسم فقط، أما الحقيقة فهي خليط من العروق والشغت والدهن. وكان معنا في الزنزانة زميل ثقيل الدم، وكان من عادته إذا جاءت قروانة اللحم أن يسرع بمد يده فيلتقط بأصابعه المدببة القطعة الوحيدة في القروانة التي تصلح للأكل، ونهره حسن فؤاد بعد أن تكرر منه هذا العمل على مدى عشرة أيام لافتًا نظره إلى مراعاة الزملاء الآخرين، فأجاب بغباء منقطع النظير: أصل أنا باحب اللحمة الحمراء. ورد عليه حسن فؤاد ساخرًا: وأنت فاهم إن إحنا بنحب اللحمة الوحشة؟!
ولا يذهب بعقل الإنسان ويصيبه بالجنون إلا الجوع، إذا جاع الإنسان أكل أي شيء حتى لحم أخيه. يذكر العبد لله أننا ونحن طلبة في السنة أولى ثانوي أننا هربنا من المدرسة ومن البيت، وسافرنا إلى الإسكندرية وقضينا ثلاثة أيام هناك، وكانت الحرب العالمية على وِدنه، وطيارات الألمان تدك الإسكندرية كل مساء، وعندما فرغت النقود من جيوبنا قررنا العودة إلى القاهرة سيرًا على الأقدام. تصورنا لسذاجتنا أننا سنقطع المسافة في سبع ساعات، وبعد سبع ساعات من المشي المجهِد، اكتشفنا أننا ما زلنا في كفر الدوار، وكان الجوع قد عضنا بشدة، فنزلنا في حقل فِجل على جانب الطريق وأتينا على نصفه، ثم اكتشفنا بعد أن أكلنا وامتلأنا أنه لفت. والغريب أننا أكلنا وشعرنا أثناء الأكل أنها ألذُّ وجبة أكلناها في الحياة. وصدق من قال الجوع كافر، ولكن أكثر كفرًا منه من يتطفل على موائد الناس!
الحاج بُندُق الكنتكاوي!
وإذا كنا نقترب الآن من نهاية فصول «وداعًا للطواجن» فلا بد من الوقوف لحظات أمام ظاهرة خطيرة، وهي اختفاء المطاعم المتخصصة في القاهرة. سيقول أحدكم هناك المطعم الصيني والمطعم اللبناني ومطعم الشعوب إلى آخره. ولكن العبد لله لا يقصد هذا النوع من المطاعم، ولكن أقصد المطاعم المصرية المتخصصة.
في النصف الأول من هذا القرن العشرين كانت القاهرة تزخر وتفخر بعشرات المطاعم المتخصصة المنتشرة في كل الأحياء، مطعم أبو ظريفة للفول المدمس في باب اللوق، ومطعم السمك لصاحبه زكي السماك في بولاق، ومطعم لحمة الرأس للمعلم جعلص في الجيزة، ومطعم الدَّهَّان للنيفة في سيدنا الحسين، ومطعم خميس للملوخية بالأرانب في شارع الألفي، ومطعم الحمام بكل أنواعه لصاحبه الكرداسي في بين السرايات، ومطعم الطعمية للحَلْوَجي في سيدنا الحسين، ومحل البليلة للحاج صبحي الحلواني في شارع عبد العزيز، محل مهدي للفول المدمس في البراد بشُبرا. ومطعم وكازينو الحمام المشوي على شاطئ النيل بالجيزة، ومطعم الشيمي للكباب في التوفيقية، ومطعم البصل (الأونيون) بشارع فؤاد، ومطعم أبو شقرة للكباب في المنيرة، ومطعم أبو زيد للمُخ والكبدة في معروف. وفي الإسكندرية كان هناك مطعم درويش الذي كان مشهورًا بدِقِّية الخضار باللحم، وهذا المطعم كان موجودًا في محطة مصر وفي مواجهة محطة السكة الحديد. وفي دمياط كان هناك مطعم أبو طريَّة. وفي بورسعيد كان هناك مطعم الشيخ الذي كان متخصصًا في الأكلات البحرية، وكان موقعه بالقرب من الميناء، وعلى مرمى حجر من البيت الجديد. وفي السويس كان هناك مطعم السُّني للسمك المشوي، وكان مقره في شارع صغير متفرع من شارع النمسا.
وإلى جانب هذه المطاعم كانت توجد عربات يد متخصصة أيضًا في لون من ألوان الطعام. كان هناك المعلم أبو لاشين الذي يقدم كبابًا لم أتذوق مثله في رحلة الحياة، وكان مكانه خرابة يقوم محلها الآن فرع بنك القاهرة بميدان الجيزة … وكان هناك عم عثمان بجوار المدبح الإنجليزي وكان يقدم كفتة ليس لها شبيه في أي مكان. وهناك عم سليمان الذي كان يدور على بارات ومقاهي شارعَي توفيق وعماد الدين بلحمة رأس ليس لها مثيل إلا في سوق البازار بطهران. أما الدكتور فكان يسرح بفانوس في شارع شريف وميدان باب اللوق وكان متخصصًا في بيع السميط والجبنة الرومي البلكان.
أين هذا كله مما نحن فيه الآن؟ حاول أن تذكر لي أي مطعم مصري متخصص الآن وعلى مستوى.
والعبد لله على صلة بعدد من خبراء المطاعم؛ منهم المهندس الكبير والوزير السابق علي والي والسفير الدكتور مصطفى الفقي والصحفي المتفجر كالبركان إبراهيم حجازي، والمعلم العجوز والكاتب الفنان محمد عودة والممثل الكوميدي الكبير حسن مصطفى والولد العكروت الصحفي فرفور … وكان من بينهم أيضًا الممثل الراحل علي الغندور والفنان الكبير الذي غادر دنيانا منذ أسابيع المعلم محمد رضا.
ولكن لأن الحال في عالم المطاعم وصل إلى حد «يا مولاي كما خلقتني» فلم يعُد لدى أغلبهم ما يشير به على العبد لله. أحيانًا يقترح حسن مصطفى مطعمًا هنا أو مطعمًا هناك. ولكن تجربة العبد لله مع مطاعم حسن مصطفى جعلتني أومن بالحكمة القائلة: «اللي ما تعرفوش أحسن م اللي تعرفه». أذكر منذ ربع قرن على وجه التقريب أن دلني علي الغندور على مطعم صغير على الطريق بين القاهرة وبنها، وبالقرب من قرية صغيرة اسمها ميت عاصم، وكان متخصصًا في تقديم أكلة من لحم الماعز المشوي، وكانت نصيحة في محلها، ولكن المحل والمنطقة التي حوله مسحهما صاروخ إسرائيلي خلال الحرب، وقضى على حياة عشرات من الأطفال الأبرياء، مع أنني كنت أغفر لإسرائيل جريمتها لو صوبت هذا الصاروخ إلى محل فول مدمس نصحني بالتردد عليه حسن مصطفى، ولن أحدد موقعه حتى لا يتحاشى الأعداء ضربه في الحروب القادمة.
وآخر مطعم لحمة رأس جربته كان منذ عدة سنوات قليلة مضت، وكان المطعم فخيمًا وديكوراته غالية وجرسوناته في أحسن هيئة وفي أغلى ملابس، ولكن صلة المطعم بلحمة الرأس كانت أشبه بصلة العبد لله بالكمبيوتر! ولم يستطع المطعم إيَّاه والذي تكلف إنشاؤه الشيء الفلاني الصمود أكثر من عامين ثم أغلق أبوابه. لأن المطاعم بالطعام الذي تقدمه وليس بالديكور والجرسونات ونوع الأطباق والأكواب!
ولكن ما السبب في هذا الإفلاس الذي نعاني منه الآن في هذه النوعية من المطاعم المتخصصة؟ السبب في رأي العبد لله هو عدم وجود المعلِّم، وأن أغلب أصحاب المطاعم الجديدة يملكون الفلوس ولا يملكون سر الصنعة. وغالبًا علاقة هؤلاء بالصنعة مفقودة ومقطوعة. هم في ظنِّي من المصريين الذين نزحوا إلى منطقة الخليج وعادوا بعَكْمة لا بأس بها، وأرادوا استثمارها في أي شيء، ثم سمعوا أن المطاعم تربح فدخلوا السوق على طمع وليس على رغبة في تقديم صنعة يملكون سرها ولا يملكه غيرهم.
في مطعم الكرداسي للحمام الذي كان يقع في حي بين السرايات وأمام جامعة القاهرة، كان يعرض على الزبون الحمام في أقفاصه، وكان الزبون يختار ما يلزمه، فيذبحه وينظفه أمامك ويعده لك بالطريقة التي تختارها. وأراهنك إذا لم تأكل أصابعك العشرة مع الحمام. وكان المعلم جعلص يشعر باللذة الفائقة وهو يقف أمام النار أثناء إنضاج لحم الرأس، وكان يدندن وهو يصنع الأرز لزوم الفتة.
الآن اختلف الحال وتغير السلوك. أعرف صاحب مطعم مشهور اشتهر بتقديم لون من ألوان اللحم المشوي، وأصبح اسم مطعمه نهبًا مباحًا لعشرات المطاعم التي انتشرت في الخليج، الرجل نفسه لم يعد يتردد على مطعمه في القاهرة وترك الأمر لصبيانه، ومعظمهم لا علاقة له بالصنعة، وهم يعملون بالمهنة لعدم وجود وظائف خالية في أي مكان، لأن الزبائن كثير فقد أصبحت العجلة هي طابع المحل، وأخشى عليه إذا لم يهتم صاحبه بالعودة إلى الأيام الأولى عند البداية في فترة الأربعينيات.
وأعتقد أن على وزير السياحة واجب الاهتمام بهذه الناحية على أساس أن هذه المطاعم جزء هام في تشجيع السياحة العربية. ولأن بعض المدن تُعرف بمطاعمها. فالذي يزور دمشق الشام ولا يأكل عند أبو كمال لم يزُر الشام، والذي يزور بغداد ولا يأكل عن ابن السمينة لم يزُر بغداد، والذي يزور الكويت ولم يأكل عند مطعم الشجرة لم يزُر الكويت، والذي يزور الرياض ولم يأكل عند أبو شَقْرة السعودي لم يزُر الرياض. وزمان كان الذي يزور عمان ولا يأكل عند السنترال لم يزُر عمان، وزمان أيضًا كان الذي يزور بيروت ولم يأكل في اليِلْدِزْدَار لم يزُر بيروت.
وفي المدن الشهيرة بأوروبا مطاعم كثيرة تقدم مختلف ألوان الطعام. والطبَّاخ الذي يصنع الوجبات يتقاضى راتبًا أكبر من راتب الرئيس ميتران. وباريس بالذات لها نظام خاص … فلها أطلس للمطاعم، وكما يحدد أطلس الجغرافيا طبيعة مناطق العالم … ويصنفها أيضًا، يفعل أطلس المطاعم نفس الشيء. وضربتُ كفًّا بكفٍّ وأنا أتصفح أطلس المطاعم مع الصديق الدكتور صفوان عالم النفس الشهير في باريس، الأطلس يقول إن المطاعم أربعة. مطعم الشعب … وهو المطعم الذي يقدم وجبات خفيفة وسريعة وعَ الماشي لمن يريد من المارة وعابري السبيل! ومطعم الريف … ويقدم وجبات الريف الفرنسي، فَطيرًا مشلْتَتًا بالزبدة الفرنساوي، وأرزًا معمَّرًا بالأرانب وبيضًا مشويًّا في تراب الفرن! ومطعم النسوان … ويقدم نفس الأكل الذي تقدمه ربات البيوت، فاصوليا مسبكة، ولوبيا باللحم، وفراخًا مشوية، ومكرونة بالجبنة، وسلطة بالخل والثوم! ومطاعم «الشيف» … وهي مطاعم تخترع الطعام، وكل مطعم حسب هِمة «الشيف» ومقدرته!
واخترت مطعم «الشيف» لأنني لا أستطيع مواجهة تكاليفه على حسابي، وأيضًا لأن أصدقائي الذين سبق لهم دعوتي من قبل كانوا من أنصار المطعم الشعبي! وفي مطعم البذور تناولت عشائي الذي اخترعه «الشيف»، ومن عادته الطواف على الزبائن يسألهم رأيهم فيما أكلوه.
كان عشائي مكونًا من لحمة مخللة وعش غُراب مقلي مع فواكه، وعصير سمك، وحمام مدقوق بأعشاب برية! وعندما طلبت شريحة بطيخ عقب العشاء، ضحك الجرسون لأن مطعم الشيف لا يقدم موادَّ معروفة، وعندما سألت عن نوع الحلوى التي يقدمونها، أجابني الجرسون: لدينا فراولة بالأرانب، وخوخ بالبطارخ! ولذلك … اكتفيت بالعشاء، وفضلت تناول الشاي في قهوة بلدي في الحي العربي!
ولكن أغرب شيء أنه — رغم الفاتورة التي حملت أرقامًا فلكية — لا يوجد في المطعم مكان لقدم، وعلى باب المطعم طابور كطابور الجمعية الاستهلاكية! ولذلك أيضًا قررت أن أوطِّد صداقتي بالكابتن جابر يحيى مدير مطعم فول نوَّارة بالكويت، وأعتقد أنه لو ذهب إلى باريس لاحتل مكانة لا بأس بها على رأس قائمة مطاعم الشيف في أطلس المطاعم، فقط لو أدخل بعض التطوير وبعض التغيير.
ولا شك أن أبو شَقْرة الكبابجي، أو العَجَاتي الحاتي بدأ المهنة قبل كِنْتاكي فرايد تشِكِن، ولا شك أيضًا أن صنعة العجاتي وأبو شقرة أو أبو لاشين أفضل ألف مرة من صنعة العم كنتاكي.
ولكن المعلمين المصريين توقفوا عند أول خطوة على طريق النجاح، وقَبَّلَ كل منهم يده ظهرًا وبطنًا، وكده رضا وربنا يديمها نعمة، وارضَ بنصيبك … ما يصيبك إلَّا المكتوب على جبينك، ولكن العم كنتاكي طوَّر وغيَّر وفرض خلطته على العالم كله، وهذا هو الفرق بين الأسطى الأمريكي والأسطى المصري، الأسطى المصري بالتأكيد أفضل وأحسن، ولكنه يخشى العين الشريرة إذا اتسعت أعماله أو امتدت تجارته. وبينما شعار الصانع الأمريكي: اسعَ تسعَ معك الحياة، تجد شعار المصري: القناعة كنزٌ لا يفنى.
ولو كان المعلم جعلص خبير لحمة الرأس اهتم بتوسيع مشروعه، ولو أنه اهتم باختراع وسيلة لحفظ المرَق ولحمة الرأس والفتة بالخل والثوم ونشرها في أنحاء العالم، فهو بالتأكيد كان سيصبح مليونيرًا ولا الخواجة ماكدونالد، وأكثر شهرة ربما من الملاكم فورمان! ولكن الذي حدث أن العم كنتاكي صار مشهورًا حتى في الغابات، بينما أغلق محل جعلص أبوابه بعد وفاته بالضبة والمفتاح.
وما حدث لجعلص — يرحمه الله — حدث لكثير من الصناع في مصر، وحدث أيضًا في مجالات أخرى من ياسين بتاع الزجاج، إلى الشوربجي بتاع النسيج، إلى الأسطى أمين الجب بتاع الجِزَم، وكانت أحذيته — يرحمه الله — أفضل كثيرًا من أحذية ساكسون وباللي والخواجة كلارك!
من طأطأ لسلامو عليكو!
الآن أيها الإخوة والخلَّان، ما رأيكم دام فضلكم فيما يجب أن يفعله العبد لله في قادم الأيام؟ خصوصًا بعد أن عرضت على حضراتكم المسألة كلها ومن طأطأ إلى سلام عليكم؟ والسؤال الذي يحير العبد لله ولا أجد في نفسي الجرأة على الإجابة عليه هو بالتحديد: هل أسلِّم بطني لمشرط الجراح يفتح ويقص ويبتر ويزيح ما يشاء؟ أم أمضي إلى نهاية العمر كما مضى الأجداد الذين لم يعرفوا طبيبًا في حياتهم؟ ولم تعرف المشارط طريقها إلى أجسامهم؟
صحيح أنه سؤال محير ويجعل الإنسان في حيص بيص، لأنني، وإن كانت علاقتي بالطب كعلاقة خالتي أم عبد الشكور بصيد اللؤلؤ، إلا أنني مؤمن تمامًا بأن العمليات الجراحية ليست مباراة كرة قدم تبدأ وتنتهي ثم يعود كل شيء إلى أصله.
كما أن إزالة جزء من جسم الإنسان ليست مسألة روتينية، ولكنها مسألة خطيرة وينطبق عليها قول المطرب: والفرع لو مال … مين يعدله تاني؟
فكل شيء وأي شيء في جسم الإنسان خلقه الله لحكمة ولضرورة. حتى الزائدة الدودية وحتى اللوزتين. وأعترف لحضراتكم بأن تجربة الحياة أثبتت للعبد لله أن المستشفيات والأطباء والدواء والتحاليل والاختبارات، هي مسائل واردة على البشرية حديثًا، ولم يكن لها وجود خلال القرون الطويلة التي عاشتها البشرية ومنذ أبينا آدم.
وفي رأي العبد لله أن الذي اخترع مهنة الطب لم يكن يخطر على باله أن المهنة نفسها ستتحول في النهاية إلى تجارة. وهناك تجارة مشروعة وتجارة خبيثة، وللأسف الشديد أصبحت تجارة الطب من التجارات الخبيثة، خصوصًا في أوروبا، وعندما يكون المريض من أصحاب الغُتْرة والعقال أو من ذوي الطواقي المزركشة من أبناء القارة السمراء، وبالتحديد من أبناء الدول الأفريقية البترولية. يا ويل المريض منهم إذا وقع في يد عصابة الطب هناك. سيدوخ دوخة الأرملة وسيدفع كاش ومقدمًا وسيجري أكثر من عملية، أكثرها عمليات ليس لها عايدة ولا فايدة ولا علاقة لها بالمرض الذي يعانيه. المهم استنزافه إلى آخر فلس في جيبه. كما شبكة المخدرات، وتنظيمات المافيا.
أيضًا أطباء أوروبا اليوم كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا. يسلمك طبيب الأذن والأنف والحنجرة لطبيب الأعصاب، وطبيب المخ يشقطك لطبيب العظام، وطبيب العظام يحولك إلى طبيب الدورة الدموية الذي يقذف بك إلى طبيب القلب!
في الصيف الماضي كنت مع ابني أكرم في عيادة طبيب أذن وأنف وحنجرة للبحث عن السر وراء الكحة التي تهاجم أكرم أحيانًا، وقد حضرنا عند الطبيب إيَّاه من خلال طبيب الصدر، وكنا عند طبيب الصدر من خلال طبيب القلب. وفوجئت بطبيب الأذن والأنف يتقدم نحوي بورقة لتوقيعها وألقيت نظرة على الورقة فإذا بها إذن بإجراء جراحة عاجلة لأكرم لإزالة لحمية الأنف.
وسألت الطبيب: وهل هي السبب في الكحة؟ فأجابني بأعصاب قاتلٍ محترف: لا ليس لها علاقة! سألته: ولماذا نجريها إذن؟
أجاب: هذا، أفضل. عدت أسأله: كم تكلف؟
أجاب: ألفين من الجنيهات بخلاف أجر المستشفى وطبيب التخدير والدواء!
ألفان علاج في عملية تستغرق ربع ساعة، وهي عملية ليست مطلوبة وليست مفيدة، ولناس ليسوا من بلاد بترولية ولا حتى من بلاد تحصل على الذهب من باطن الأرض!
والغريب أنه يشترك مع المافيا الطبية في أوروبا مكاتب طبية رسمية تتبع السفارات العربية، مكتب من هؤلاء في عاصمة غربية كبرى يديره طبيب معتوه، ويصر على أن يناديه الآخرون بلقب المستشار، وهذا السيد المستشار المزعوم تسبب في قتل خمسة من المرضى من مواطنيه، لأنه أصرَّ على إجراء عمليات جراحية لهم في مستشفيات مشبوهة ولدى أطباء غير مؤهلين. ولكن ارتباط السيد المستشار بهم سببُه الحكمة الخالدة شَيِّلْنِي وأشيِّلَك وراعيني قيراط أراعيك قيراطين!
ويا ألف رحمة ونور على عبقري الطب المصري، ذهبت إلى عيادته عقب خروجي من سجن الواحات وكنت في حالة صحية يُرثى لها وكشف الطبيب العبقري أنور المفتي على العبد لله ونصحني بعمل تحاليل كاملة، وعدت إليه بعد التحليل فنصحني بعمل قياس للغدة الدرقية في مستشفى القوات المسلحة، وعدت إليه بعد عمل القياس، فنصحني بعمل قياس آخر، في مستشفى آخر، ثم وبعد شهرين من الدوخة، قال لي: ليس بك أي علة وصحتك بُمب. قلت للدكتور المفتي: ولِمَ لم تقُل لي ذلك من البداية؟ قال: لأنك كنت خارجًا من السجن في حالة يُرثى لها، وكنت عصبيًّا وقلِقًا وشديد الثقة بأنك مريض بمرض خطير، ولو قلت لك إنك لا تعاني أي مرض في أول مقابلة لحكمتَ عليَّ بأنني جاهل، وبالتأكيد كنت ستذهب إلى طبيب آخر. والمرضى من أمثالك يصبحون مورد رزق لبعض الأطباء الذين هم بلا ضمير.
قد يقول بعضكم إن الدكتور أنور المفتي جعلك تنفق كثيرًا في عمليات التحاليل والاختبارات وقياس الغدة الدرقية. ولكني في الحقيقة لم أتكلَّف شيئًا، لأن الدكتور المفتي كان يبعث بي لتلاميذه الذين أصبحوا مسئولين في أكبر المستشفيات، وكانت مكالمة من المفتي لأحدهم تجعله يقف على أطراف أصابعه حتى ينتهي من المهمة التي كلَّفه بها أستاذه العظيم. ولكن الدكتور المفتي مات وماتت أيامه. ولم يبقَ من أيامه الآن إلا ومضات هنا وهناك.
محمد غنيم في المنصورة، وحسام بدراوي في مستشفى النيل بدراوي، وإسماعيل سلَّام في مركز القلب بمصر الجديدة، وحليم جريس في مستشفى الأنجلو بالجزيرة، وخيري السَّمْرة وهاشم فؤاد وصلاح عيسى وعبد المعز في مستشفى بولاق الدكرور، وعدد آخر من الأطباء هم في الحقيقة مجرد نقطة في بحر!
نعود من جديد إلى سؤالنا الأول، هل أُسلم جسمي لجراح يعبث فيه بمشرطه كيف يشاء؟ أم أقضي حياتي إلى نهايتها كما قضاها الحاج محمد السعدني، جدي الذي عاش مائة عام وخمسة دون أن يمر على طبيب، ومات دون أن يكون في جسمه أثر لمشرط، مع أنه كان يشكو أحيانًا مواضع في بطنه لو رآها طبيب لاقترح عليه إجراء عملية فورًا، ولو كان هذا حدث لجدي الشيخ محمد، فربما مات قبل أن يبلغ الخمسين، لأنه لا ضمان في أي عملية جراحية حتى أصغرها وأبسطها، والملك محمد الخامس ملك المغرب مات أثناء إجراء عملية جراحية لإزالة المصران الأعور. وهي عملية يجري مثلها ألوف الفلاحين في أنحاء مصر كلها ويخرجون بعدها إلى الحقول، ولكن الملك محمد الخامس مات مع أن الذي أجرى له العملية فريق طبي من فرنسا! والمؤرخ المصري الكبير محمد أنيس جاء ذات يوم إلى لندن لإجراء جراحة في شرايين القلب، وكان الدكتور أنيس في السبعين من عمره وقتئذٍ، ونصحه العبد لله بعدم إجراء أي عملية في هذه السن، ولكن أخانا أحمد عباس صالح شجعه بشدة، وطمأنه على أن كل شيء سيكون على ما يُرام.
والمدهش أن الدكتور أنيس استجاب لنصيحة عباس صالح، مع أنه كان يدرك تمام الإدراك أن عباس صالح عضو في رابطة الأدباء، وليس عضوًا بنقابة الأطباء، ودخل الدكتور أنيس المستشفى ولم نرَه بعد ذلك على الإطلاق، فقد أرسلته نصيحة عباس صالح إلى مقابر الإمام.
أعرف شابًّا فَتِيًّا ذهب إلى لندن للعلاج لإجراء عملية في الجهاز الهضمي، وبالمرة ولزيادة الخير خيرين، طلب من الجراح إجراء عملية أخرى لإزالة ورم حميد في الفخذ، وأجريت العملية الأولى بنجاح، وفي العملية الثانية مات المريض ليس من العملية ولكن من البِنج!
فالبُعد عن العمليات غنيمة، وهذا رأي العبد لله بالطبع، وليس رأي الطب. ورأي العبد لله هو نتيجة تجربة لمستها بنفسي، والمثل عندي هو جدي الشيخ خليل معوض الذي عاش ١١٧ سنة دون أن يدخل المستشفى، أو يسلم نفسه لطبيب، وكان طبيب نفسه ولم يسمح لطبيب بالكشف عليه إلَّا في العام الأخير من حياته وبإلحاح من العبد لله.
هناك سؤال آخر ينتظر الإجابة عليه. هل أكُف عن أكل اللحوم بأنواعها؟
هل أودِّع الطواجن وورق اللحمة وسلطانية الطرشي؟ هل أودِّع الملوخية بالتقلية، والعكاوي بالتخديعة والكشري بالدقة، والباذنجان المخلل بالثوم والخل؟
هل يقتصر طعام العبد لله على كوب شاي في الصباح وقطعة بقسماط ناشف، وشوربة خضار في الغداء، وطبق فواكه في العشاء؟
وهو الطعام الذي يليق بشيخ في عمر العبد لله.
الحق أقول إنني في هذه المسألة بالذات أحب الجمع بين جميع الوظائف، ألتهم ما أشتهيه من الأطعمة، وأبتعد قدر المستطاع عن سكة الأطباء، لأنها سكة غير مأمونة وغير مضمونة، ولأنه لا قيمة لحياة يعيشها الإنسان تحت إشراف الطبيب أو هيمنة السجَّان.
والعبد لله يعرف نماذج من البشر لديها من الأدوية ما يكفي لفرش شقة من أربع حجرات، وأعرف صديقًا يتناول خمسة أدوية في كل وجبة، وأعرف صديقًا في لندن يتناول حبات الدواء كما يقزقز الطفل الشقي اللب الأسمر على قارعة الطريق. ولكن العبد لله ينتمي إلى صنف آخر من البشر، فأنا أتناول من الدواء حبة أو اثنتين وألقي بالباقي في سلة المهملات، ولا أذكر أنني أكملت دواء وصفه الطبيب خلال رحلة الحياة، ولا أتردد على عيادات أطباء الأسنان إلا إذا شعرت بالألم الشديد الذي يحرمني من الأكل ومن الكتابة ومن القراءة ومن النوم.
وبالرغم من أنني زرت أوروبا أكثر من ألف مرة في حياتي، إلا أنني لم أعرض نفسي على أطباء إلا مرتين، مرة عندما زرت دكتور «تانر» الذي كان يعالج عبد الحليم حافظ ولم يوقع الكشف على العبد لله؛ لأنه قطع المقابلة أثناء المناقشة المبدئية عندما علم أنني مصري، وقال: «أنتم المصريين تأكلون …» ووصف طعام المصريين بوصف أرى من اللياقة عدم تكراره مرة أخرى، والمرة الثانية عندما زرت طبيب أمراض جلدية للكشف على «حسنة» على جلد صدري ظلت تتضخم حتى صارت في حجم الريال الفضة بتاع السلطان حسين كامل — رحمة الله عليه — وخفت أن يكون وراء هذه الحسنة شيء لا تحمد عقباه، فهرولت إلى الطبيب فلما طمأنني بأن كل شيء على ما يرام، سألته هل هناك شيء يمكن أن يفعله؟ أجابني بأنه على استعداد لإزالتها بالجراحة. وسألته مرة أخرى: هل تقتلني إذا تركتها في مكانها؟ فأجابني: أبدًا إن وجودها كعدمها لا تضر ولا تفيد.
وعندئذٍ قررت أن أتركها مكانها، ولا تزال مكانها حتى كتابة هذه السطور.
وأعتقد أنني سأعيش حياتي على النحو الذي اخترته وعلى الطريق الذي سلكته منذ البداية. لا أطباء … لا دواء … لا حظْر على أي طعام، لا حساب للمقادير والسعرات. لا تفتيش على الكولسترول أو نسبة السكر، ولا حتى اهتمام بالضغط وقياسه والنبض واختباره، باعتبارها كلها أشياء حديثة ودخيلة على حياة الإنسان.
هذا هو الذي قررته وهذا هو الذي اعتقدته، وهذا رأي العبد لله فما رأيك أنت؟
وأخيرًا … لا أقول وداعًا للطواجن، ولكن أقول وداعًا لعيادات الأطباء!