المشهد الأول
(طريق الحدود، الدنيا ليل، كوخ الرجل العجوز وعلى بابه الشمعة الصغيرة. الأم العجوز
ورجل الكوخ واقفان أمام الكوخ يتطلعان إلى الطريق في انتظارٍ وقلق.)
الأم
:
تأخَّروا! أخشى أن يكون أحدٌ من الجنود قد رآهم. إني خائفة.
رجل الكوخ
:
لا تخافي. الطريق طويل والدنيا ليل.
الأم
(في قلق)
:
أخشى أن … (تسكت لحظة) أخشى أن تلد في
الطريق.
رجل الكوخ
:
أنصتي … إني أسمع صوت أقدامٍ مُقبِلة.
(تظهر الملكة جنات ملتفة بعباءة واسعة، يسندها من ناحيةٍ
الرجلُ، ومن الناحية الأخرى الجندي عبيد. يبدو على الملكة أنها مُنهَكة القوى، لا
تكاد تقوى على المسير. الأم تجري نحوها.)
الأم
:
تعالي يا ابنتي، تعالي إلى داخل الكوخ.
الرجل
:
هل أعددتِ كل شيء؟
الأم
:
نعم يا ابني. اطمئن عليها، اطمئن يا ابني.
(تدخل الملكة وأمها إلى داخل الكوخ. يجلس رجل الكوخ العجوز
ويجلس إلى جواره الرجل وعبيد. الرجل العجوز يمسك مزماره، ويرن في هدوء الليل لحنًا
راقصًا طروبًا. الرجل العجوز يغني.)
الكل
(يغنون ويرقصون)
:
سيعم الخير بلدتنا … والعقم راح وزال الهم …
(يُسمَع في تلك اللحظة صوتُ بكاء طفلٍ ينبعث من داخل الكوخ.
ينهض الجميع في سرور ويرقص على نغمات اللحن الراقص. الرجل يُسرِع إلى داخل
الكوخ. عبيد والرجل العجوز يرقصان ويغنيان معًا):
سيعم الخير بلدتنا … والعقم راح وزال الهم.
فالمرأة منا أنجبتنا … ولدًا حرًّا يصرخ هم هم.
(يخرج الرجل من الكوخ حاملًا الطفل بين يديه، وإلى جواره
الملكة جنات تستند إلى ذراعه. الغناء والرقص يتوقَّف. ينظر إليهم الجميع في
دهشة وانبهار، ثم ينطلقون إليهم فَرِحين بالطفل، يقبِّلونه في سعادة وحب،
وينظرون إليه في انبهار.)
الرجل العجوز
:
علينا ألَّا نضيع الوقت؛ فالصبح سيطلع ويستيقظ الحاكم بأمر الله ولا يجد
الملكة في القصر.
الأم العجوز
(في قلق)
:
ماذا نفعل الآن؟
الرجل العجوز
(يخاطب الرجل الغريب)
:
نخفي الطفل في الكوخ.
الرجل
:
وجنات؟
الرجل العجوز
:
جنات لا بد أن تعود إلى القصر قبل طلوع الشمس. لو عادت الملكة الآن فسوف تصل
القصر قبل طلوع الشمس. عبيد يعرف الطريق ويستطيع أن يوصلها حتى باب القصر، ثم
يلحق بك في الطريق.
الرجل
:
جنات مرهقة، وخطوتها بطيئة، وأخشى أن يدركها الصباح وهي في الطريق (يخاطب الملكة): أَلَا يمكن أن تبقي معنا
يا جنات؟ (الملكة تنظر إليه في حيرة ولا
ترد).
الرجل العجوز
:
لو بقيت معكما الملكة، فسوف يستيقظ الحاكم بأمر الله ويكتشف الأمر.
عبيد
:
وإذا وصلتْ سيدتي إلى القصر قبل طلوع الشمس، فلن يعرف الحاكم بأمر الله
شيئًا.
الأم العجوز
:
وإذا سبقها النهار يا عبيد فسوف يقتلها.
الرجل العجوز
:
وإذا لم تَعُد إلى القصر فسوف يقتل الطفل.
عبيد
:
علينا أن ننقذ الطفل بأي ثمن.
(الملكة تتقدم وقد دب فيها بعض النشاط والقوة.)
الملكة
:
نعم، علينا أن ننقذ الطفل بأي ثمن، ولو كانت حياتي هي الثمن. حياتي لم تَعُدْ
تهمني بعد الآن (تنظر إلى الطفل) كنت أخاف
قبل الليلة، لكني الآن لا أخاف، لم أَعُدْ أخاف شيئًا (تقترب من الطفل وتقبِّله في حب وحنان. تكلم الطفل): لم أَعُدْ
أخاف الموت يا حبيبي لأنك ستعيش … ستعيش. (تسير
الملكة بضع خطوات تردِّد لنفسها) سأعود (تلتفت مرةً أخرى ناحية الطفل، تعانقه بقوة وتضمه، ثم تسير بخطوات سريعة
ثابتة نحو عبيد وتعطيه ذراعها، ويسيران معًا مبتعدَيْن عن
الآخرين).
عبيد
(يلتفت إلى الرجل قائلًا)
:
سأعود إليك، المهم أن تختفي أنت والطفل.
الرجل
:
اطمئن. لن تستطيع قوة مهما كانت أن تمسَّ الطفل بسوء.
(الأم العجوز تبكي بصوت مكتوم. رجل الكوخ يمسح بكفه دمعةً
تساقطت على وجهه. الرجل يظل واقفًا في مكانه يحمل الطفل بين ذراعَيْه وينظر إلى ظهر
الملكة وهي تبتعد، حتى تخرج من الطرف الآخر للمسرح ومعها عبيد يمسك ذراعها. يستدير
الرجل حاملًا الطفل ويدخلان في الكوخ.)
(ستار)
المشهد الثاني
(في قصر الحاكم بأمر الله. الدنيا نهار. الحاكم في حالة من الهياج والغضب الشديد،
يروح ويجيء في الصالة ويكلِّم نفسه بعصبية شديدة.)
الحاكم
(يكلِّم نفسه)
:
غير معقول! غير معقول!
(يقف مفكِّرًا) أين ذهبت؟ أين ذهبت؟ أين
يمكن أن تذهب؟! أول مرة تخرج من القصر، أول مرة تخرج … أول مرة تخرج منذ عشرين
عامًا! (يسير نحو غرفتها ويطل داخل الحجرة)
لا أكاد أصدق!
(يظهر الخادم.)
الخادم
:
بحثت يا مولاي في كل مكان من القصر والحديقة.
الحاكم
(في غضب شديد)
:
إذًا هي ليست في أي مكان من القصر والحديقة، إذًا هي خرجت … خرجت! (يقترب من الخادم متمايلًا في غضب)
خرجت؟!
الخادم
(في خوف)
:
لا أدري يا مولاي.
الحاكم
:
لا تدري؟! ألستَ هنا؟ ألستَ هنا في القصر؟ ألم تَرَها وهي خارجة؟
الخادم
:
لا يا مولاي.
الحاكم
:
لماذا؟ لماذا لم تَرَها؟ هل أنت أعمى؟!
الخادم
:
ربما خرجت وأنا نائم يا مولاي.
الحاكم
:
وأنت نائم؟ لماذا نمتَ يا أحمق؟ (يضغط بيديه على
عنق الخادم كأنه سيخنقه) لماذا نمتَ؟! لماذا نمتَ؟!
(تظهر الملكة جنات تستند على الحائط من شدة الإعياء.)
الخادم
(في استنجاد)
:
هذه سيدتي!
(الحاكم يستدير ويرى الملكة. ينظر إليها مندهشًا ويقترب منها
كالمذهول.)
الحاكم
(في دهشة شديدة)
:
أهو أنتِ؟ أكاد لا أصدِّق عيني (يمد يده
ليلمسها).
الملكة
(تمنعه بحركة من يدها)
:
لا تلمسني!
الحاكم
:
هل فقدتِ عقلك؟
الملكة
(في كبرياء)
:
لا، لم أفقد عقلي.
الحاكم
:
ماذا حدث إذن؟ أين كنتِ؟
الملكة
:
كنت هنا (تشير إلى أرض الصالة) كنت أصلي
وكانت الدنيا ظلامًا دامسًا، وفجأةً … رأيتُ نورًا يأتي من هنا (تشير إلى أعلى) نورًا عجيبًا؛ لا هو قمر، ولا
هو شمس، ولا هو نجم. نورًا عجيبًا كاد يخطف بصري، وسمعت صوتًا عجيبًا يناديني
من بعيد ويقول: «اتبعيني يا أيتها الزوجة الطاهرة.» وهتفت وأنا مبهورة: إلى أين
أتبعك؟ وجاءني الصوت يقول: «اتبعيني إلى الجنة.» ولم أحس بنفسي إلا وأنا سائرة
… سائرة … سائرة … سائرة …
الحاكم
:
وإلى أين ذهبتِ؟
الملكة
:
إلى الجنة (تبتسم في سعادة).
الحاكم
(يبدو عليه الضيق والغضب)
:
جنة؟ جنة ماذا؟ إلى أين ذهبتِ؟
الملكة
:
إلى الجنة … أَلَا تعرفها؟ ألم تحدِّثني عنها كثيرًا؟ أَلَم تصفها لي شبرًا
شبرًا؟
الحاكم
:
هذه جنة السماء، أما الأرض فلا توجد عليها جنة.
الملكة
(في اندهاش)
:
لا توجد على الأرض جنة؟ هذا شيء غريب أسمعه لأول مرة! أَلَمْ تقل لي مئات
المرات أن الأرض عليها جنة، وأن هذه الجنة هي حياتنا … زواجنا السعيد؟! زواجنا
الطاهر! (تضحك في سخرية) طهارتنا
الزوجية!
الملك
(في دهشة وغضب)
:
ماذا تقولين؟ لا أفهمكِ.
الملكة
(ساخرة)
:
لا تفهمني؟ لا داعي لأن تفهمني اليومَ فقد عشتُ معك عشرين عامًا لا
أفهمك.
الملك
:
هل فقدتِ عقلكِ؟
الملكة
:
بل استرددتُ عقلي. لأول مرة أحس أن لي عقلًا. لأول مرة أستطيع أن
أفكر.
الملك
:
عقلكِ مريض يهلوس، أنتِ تخرفين يا حبيبتي، تخلطين بين الحلم والحقيقة.
الملكة
(تقول ساخرةً تقلِّده)
:
تعالي إلى جواري واستمعي يا حبيبتي إلى رسالتي الغرامية … (تغضب) عشرون سنة وأنا أصدِّقك، عشرون سنة وأنت
تخدعني، والآن انتهت المهزلة. فتحت عيني ورأيت النور، عرفت الحقيقة. لم أكن
أهذي ولم أكن أهلوس، أنت الذي كنت تهذي وتهلوس، أنت الكذب والخديعة … (تسير بعصبية تفتح الصندوق الخشبي الكبير وتُلقِي
بالرسائل على الأرض وتدوس عليها بغضب واحتقار) رسائل الكذب
والخديعة … رسائل العجز والعقم!
الملك
(يصفعها على وجهها بشدة)
:
اخرسي. سأعرف كيف أُخرِسكِ (يرفع سيفه
مهدِّدًا).
الملكة
(ساخرة)
:
كنتَ تستطيع بالأمس، ولكن اليوم … (تضحك
بسخرية) اليومَ لن تستطيع … (في كبرياء
وثقة) ورائي رجل!
الملك
(ساخرًا)
:
رجل؟! لا يوجد رجال في البلد!
الملكة
:
يوجد رجل واحد، أَلَا تذكره؟ الرجل الوحيد الذي لم تستطع أن تسلبه رجولته،
الرجل الذي رفع عينَيْه في عينَيْك. أيمكن أن تنساه؟!
(الملك يرجع خطوةً إلى الوراء مذعورًا.)
الملك
(متلعثمًا)
:
هل … هل … هو … هو …
الملكة
:
نعم هو.
(الملك يسترد قوته … يظهر عليه الغضب الشديد … يمسك سيفه مرةً
أخرى.)
الملك
:
يا فاجرة! يا أفجر امرأة في العالم، أهدرتِ القِيَم الشريفة، انتهكتِ الطهارة
والفضيلة، أهدرتِ كلَّ شرف المدينة!
الملكة
(في سخرية)
:
شرف المدينة؟ وما هو شرف المدينة؟ العبودية … الخضوع والعقم الأبدي!
(الملك يقترب منها شاهرًا سيفه.)
الملك
:
حكمت عليكِ بالموت!
الملكة
:
ميتة منذ عشرين سنة، ولكني بُعِثتُ اليوم من جديد، أَلَا تصدق؟ جنات التي
ماتت عشرين سنة ليست هي التي تقف أمامك بالتأكيد، أنا جنات أخرى خصبة جديدة
متجددة كالحياة.
الملك
:
ستموتين يا عاهرة!
الملكة
:
سأعيش وأُبعَث كل يوم من جديد.
(تتراجع بضع خطوات. يرفع السيف ويضربها فتسقط على الأرض. يدخل
مروان وبعض الجنود في حالة الاضطراب والتأهُّب للقتال.)
مروان
:
مولاي، مولاي … رأى بعض الجنود رجلًا يجري هاربًا من باب القصر.
الملك
(يترك الملكة)
:
لا بد أنه هو. أمسكوه! (في اضطرابٍ يخاطب مروان
والجنود) أمسكوه … أرسلوا وراءه الجنود … كل الجنود … كل الأسلحة
… وأنتَ يا مروان اذهبْ في المقدمة … بسرعة … بسرعة … أنا أيضًا سآتي معكم … لن
يفلت مني هذا الوغد (يخرج مهرولًا شاهرًا سيفه مرددًا
في اضطراب وحماس) لن يفلت مني هذا الوغد!
(الملكة جنات وحدها على المسرح، راكعة على ركبتَيْها.)
الملكة
(في إعياء من الضربة ترفع يدَيْها نحو السماء)
:
… أَعْمِ عيونهم يا رب! أَعْمِ عيونهم يا رب!
(ستار)
المشهد الثالث والأخير
(في طريق الحدود. كوخ الرجل الفقير. الدنيا نهار. رجل الكوخ العجوز والأم العجوز
جالسان.)
الأم العجوز
(في قلق)
:
عبيد لم يَعُدْ. تأخَّرَ عبيد.
(الرجل العجوز ينهض ويتطلع إلى الطريق، ثم يبدو عليه الانشراح
والأمل.)
الرجل العجوز
:
ها هو قادم يجري وكأن أحدًا يُطارِده.
(الأم العجوز تنهض بسرعة، ويندفع عبيد إلى المسرح وهو يلهث من
الجري. ينظر خلفه وكأن أحدًا يُطارِده.)
الرجل العجوز
(في لهفة)
:
تأخرت يا عبيد. طَمْئِنَّا، ماذا حدث؟ هل وصلَتِ الملكة قبل شروق
الشمس؟
عبيد
(يجفف عرقه ويتلفت وراءه)
:
أدرَكَنا النهارُ قبل أن نصل.
الأم العجوز
(في لهفة وقلق)
:
وماذا حدث؟
عبيد
:
لا أدري. دخلت الملكة إلى القصر وأطلقتُ أنا ساقي للريح.
الرجل العجوز
:
هل رآك أحد؟
عبيد
:
لا أدري. كنت أجري بسرعة، ربما رآني أحد الجنود من على بُعْدٍ.
الأم العجوز
:
والملكة؟! وجنات ماذا حدث لها؟
(عبيد يبدو عليه الإرهاق والألم. يسكت لحظةً شاردًا حزينًا،
يطأطئ رأسه في أسًى.)
عبيد
:
لا أدري يا أمي … (تظهر الدموع في عينيه)
لا بد أنه قتلها … (يُخفِي وجهه بيده ويبكي)
لا بد أنها ماتت!
(الأم العجوز تجلس على الأرض. يبدو عليها الحزن الشديد والشرود.
تكلِّم نفسها كالشاردة.)
الأم العجوز
(في شرود)
:
جنات لا يمكن أن تموت، لقد خُلِقت لتعيش.
الرجل العجوز
:
لا تقف هكذا يا عبيد. إنهم يطاردونك، لا بد أن تختفي.
(عبيد يظل واقفًا لا يتحرك.)
الرجل العجوز
(يهزه في كتفه)
:
اختفِ يا بني. ماذا حدث لك؟ كيف تقف هكذا في الطريق؟
(عبيد ينظر إليه نظرةً ثابتةً غريبة.)
عبيد
:
لن أختفي.
الرجل العجوز
:
لن تختفي؟ أتريد أن يأتوا هنا ويقتلوك؟
عبيد
:
إنهم يطاردونني الآن، إنْ لم يجدوني هنا فسوف يبحثون داخل الكوخ، وهكذا
يعثرون على الطفل. إنهم حتى الآن يطاردونني وحدي ولا يعلمون شيئًا عن
الطفل.
الرجل العجوز
:
أليس من الجائز أن الملكة … (يسكت لحظةً
مفكِّرًا) أليس من الجائز أن تكون كلمة قد أفلتَتْ منها دون أن
تدري؟
عبيد
:
إذا كان ذلك قد حدث لأي سببٍ وعرفوا شيئًا عن الطفل، فإذن يجب أن أنتظرهم هنا
وأقتلهم قبل أن يقتلوا الطفل.
الرجل العجوز
(في كبرياء وثقة)
:
لا تحمل همًّا يا سيدي، الطفل في أمان ما دام في حِمى الرجل.
(يصاب الرجل العجوز بذعر مفاجئ.)
الرجل العجوز
:
إني أسمع أصواتًا قادمة.
عبيد
(بسرعة)
:
اجلس أنت أمام كوخك وكن طبيعيًّا، وأنتِ يا أمي ضعي رأسكِ في حجركِ وكأنكِ
نائمة. لا تجعلي أحدًا يرى وجهكِ وإلا عرفوكِ وقتلوكِ.
(عبيد يختفي وراء صخرة. الرجل العجوز يجلس أمام الكوخ ويُمسِك
مزماره ويدندن بأغانيه. الأم العجوز تضع رأسها على ركبتيها كأنها نائمة وهي جالسة
كعادة النساء العجائز.)
الرجل العجوز
(يغني)
:
أنا صاحي والناس نايمين … إلخ.
(يظهر على المسرح الحاكم بأمر الله ممتطيًا سيفه، وإلى جواره
رئيس الجند مروان، ومن خلفه عدد من الجنود المسلَّحين. يتوقَّف الملك لحظةً
ويتطلَّع إلى الطريق أمامه.)
مروان
:
هذا هو طريق الحدود يا مولاي.
الملك
(مشيرًا إلى طريق آخر)
:
وما هذا الطريق؟
مروان
:
هذا طريق القبور.
الملك
:
لا أظن أنه سلك طريق الحدود؛ لأنه يعرف أننا سنطارده في هذا الطريق.
مروان
:
رأيك سليم يا مولاي.
الملك
:
ولكن … ربما فكَّر بنفس الطريقة التي فكَّرتُ بها وسلك طريقَ الحدود
ليضللنا.
مروان
:
رأيك سليم يا مولاي.
الملك
:
ولكن … ربما خطرَتْ له نفس الفكرة فسلك طريق القبور.
مروان
:
رأيك سليم يا مولاي.
الملك
:
ولكن طريق القبور مسدود، ولا بد أنه سلك طريق الحدود ليهرب.
مروان
:
رأيك سليم يا مولاي.
الملك
(متردِّدًا)
:
ولكن …
(يقف الملك بين الطريقين حائرًا.)
الملك
(يسأل مروان بشيء من الغضب)
:
طريق الحدود أم طريق القبور؟
مروان
(في اضطراب متلعثمًا)
:
طريق الحدود أم طريق القبور؟!
الملك
(غاضبًا)
:
طريق الحدود أم طريق القبور؟
مروان
(متلعثمًا)
:
ط … ط … طريق …
الملك
(في غضب)
:
فكِّرْ! استعمِلْ رأسك!
مروان
(متلعثمًا أكثر)
:
ط … ط … ط …
الملك
:
أَلَا تستطيع أن تفكِّر؟! أليس لك عقل؟! أَلَا يمكن أن تعرف طريق الحدود أم
طريق القبور؟
مروان
:
مولاي أنت الذي … أنت الذي تعرف كل شيء.
الملك
:
وأنت؟ أليس لك مخ؟ أَلَا تفكر في حياتك مرة واحدة ويكون لك رأي؟
مروان
(مستغفرًا)
:
حاشا لله يا مولاي أنْ يكون هناك رأيٌ غير رأيك! حاشا لله يا مولاي!
الملك
:
كالحيوانات تمامًا بغير عقل!
مروان
:
أنت عقلنا يا مولاي، أنت الذي تفكِّر لنا يا مولاي. لسنا إلا عبيدك
المطيعين!
الملك
:
كفى! لا تضيع الوقت.
(أحد الجنود يرى الكوخ.)
أحد الجنود
:
هذا كوخ يا مولاي، وهذا صاحبه جالس أمامه.
الملك
:
إذا كان الرجل قد سلك هذا الطريق، فلا بد أنه رآه. اسأله بسرعة.
(الجندي يسير ناحية الكوخ.)
الجندي
(مخاطبًا رجل الكوخ)
:
هل رأيتَ رجلًا يجري في هذا الطريق؟
رجل الكوخ
(متظاهرًا بالبلاهة)
:
رجل يجري؟
الجندي
:
نعم، رجل يجري وكأنه خائف.
رجل الكوخ
:
لم أَرَ في حياتي رجالًا يجرون وكأنهم خائفون.
رئيس الجند
(في عصبية)
:
لا تضيع وقتَ مولانا الحاكم بأمر الله.
رجل الكوخ
(يقاطعه في دهشة واضطراب)
:
مولانا الحاكم بأمر الله؟! أهذا هو مولانا الحاكم بأمر الله؟ اعذرني يا سيدي
لأنني لم أعرفه؛ فأنا لم أَرَه أبدًا. هذا شرف عظيم يا مولاي الحاكم.
الحاكم
(في غضب)
:
كفى ثرثرة أيها الرجل الأبله. تكلَّمْ، هل رأيتَ ذلك الرجل؟
رجل الكوخ
:
أي رجل؟ لا يوجد عندنا رجال يا مولاي!
(الحاكم ينظر إلى الأم العجوز النائمة وهي جالسة ووجهها مختفٍ
فوق ركبتَيْها.)
الحاكم
(يشير إليها)
:
وما هذا الجالس إلى جوارك؛ رجل أم امرأة؟
رجل الكوخ
:
إنها امرأتي العجوز يا مولاي.
رئيس الجند
(مخاطبًا الحاكم)
:
لعلها هي رأت شيئًا يا مولاي.
رئيس الجند
(بلهجة آمرة)
:
ارفعي رأسكِ يا امرأة وجاوبي مولانا الحاكم بأمر الله.
(الأم العجوز لا ترفع رأسها.)
الرجل العجوز
:
إنها نائمة يا سيدي، إنها تنام دائمًا هكذا وهي جالسة. إنها امرأة عجوز ضعيفة
البصر.
(الملك يلكزها بقدمه في قسوةٍ ليوقظها. يظهر عبيد في تلك اللحظة
قبل أن ترفع الأم رأسها.)
الملك
(في دهشة)
:
عبيد؟! (في غضب واحتقار) أنتَ … أيها
العبد؟!
(الحاكم يرفع سيفه مستعدًّا للهجوم عليه. عبيد يتراجع
قليلًا.)
عبيد
:
انتظر يا مولاي، لا تقتلني قبل أن أدلك على الرجل.
الملك
:
الرجل؟! أين هو؟ انطق بسرعة.
عبيد
:
ليس هنا يا مولاي، أخذه عثمان ليقتله.
الملك
:
عثمان؟ وأين هما؟
عبيد
:
عثمان لم يستطع أن يقتله فقتل نفسه.
الملك
:
عثمان قتل نفسه؟ والرجل؟
عبيد
:
لقد حرَّرَني …
الملك
:
ماذا تقول؟
عبيد
:
نعم تحرَّرتُ يا مولاي، لم أَعُدْ عبدًا، شُفِيت يا مولاي من العقم، أصبح لي
عقل يفكِّر. أستطيع أن أنظر في عينَيْك الآن؛ أصبحتُ رجلًا يا مولاي (عبيد يصاب بنوبةٍ من الفرح تشبه الجنون. يردِّد في
سعادة): أصبحت رجلًا! أصبحت رجلًا!
(الملك يرفع سيفه ويضربه فيقتله. عبيد يسقط على الأرض ويبتسم في
سعادةٍ قبل أن يموت وهو يردِّد: «أصبحت رجلًا.» يخرج في هذه اللحظة الرجل الغريب من
الكوخ. كل الأنظار تتجه إليه. الملك يراه فيتراجع إلى الوراء خطوة في ذعر واضطراب،
لكنه يستردُّ قوتَه بعد لحظة ويظهر عليه الغضب المجنون.)
الملك
:
أنتَ؟
الرجل
:
نعم أنا.
(يرفع الملك سيفه ليضربه، لكن الرجل يناوله بيده ضربة واحدة
فيقع الملك على الأرض ويسقط سيفه بعيدًا عنه.)
الرجل
(آمِرًا الملك)
:
انهض (الرجل يقف أمامه ينظر في عينيه. الملك
ينهض) اخفض عينيك (الملك يخفض رأسه أمام
الرجل في خشوعٍ وذل).
الرجل
(مخاطبًا مروان)
:
خذه يا مروان إلى طريق الحدود. رافِقْ هذا الضيف الغريب حتى يخرج سالمًا
آمنًا من بلدنا.
(الأم العجوز وقد نهضت من مكانها منذ خروج الرجل من
الكوخ.)
الأم العجوز
:
اقتله … اقتلْ سفَّاك الدماء … اقتل عابد الحمار.
الرجل
:
أنا لا أضرب في جسد ميت يا أمي. هاتي الطفل من الكوخ يا أمي.
(الأم العجوز تتجه نحو الكوخ.)
الرجل
:
وجنات؟ أين جنات؟
رجل الكوخ العجوز
:
ماتت … جنات ماتت.
الأم
(تستدير قائلةً)
:
لا، لا … جنات لا تموت.
الرجل
:
جنات لا تموت. امرأة مثل جنات لا يمكن أن تموت، كالشجرة القوية في الأرض
الخصبة تورق كل يوم ورقة، ومن كل ورقة ثمرة …
رجل الكوخ
(في دهشة)
:
يا إلهي! جنات تعيش! هيا بنا نذهب إليها … هيا.
(الأم العجوز تخرج من الكوخ حاملةً الطفل الصغير، تحتضنه
وتقبِّله. الرجل والطفل ومن حولهم الأم العجوز ورجل الكوخ والجنود وكثير من أهل
البلد وقد تجمَّعوا. الحاكم بأمر الله ومروان اختفيا من فوق المسرح.)
الجميع
(ينشدون في سعادة)
:
سيعم الخير بلدتنا،
والعقم راح وزال الهم،
فامرأة منا أنجبتنا،
ولدًا حرًّا يصرخ هم هم!
(ستار)