المرأة والشعر
إخوان الفضل وربات الأدب، ويا أبناء هذا الربع الزاهر سلام، أحييكم وأمام عيني أشباح الأدباء والخطباء والكُتاب الذين خرجوا من تحت هذه القبة المنيرة، والذين وقفوا من قبلي على هذا المنبر السامي ولا تزال ترن بأصواتهم جدران هذا البناء، أحييكم وفي الفكر تذكارات عذبة لأيام كنت فيها صغيرًا في الثالثة عشرة أو أقل، فكنت أسعى على قدمي من مكان بعيد لحضور مثل هذه الحفلة، والتقاط بعض اللآلئ التي تدفعها أمواج هذا المحيط المرتفع فوق شاطئ المحيط. أذكر ذلك العهد أيها السادة، وأنا على أحد المقاعد صغير خامل لا أكاد أُرى، وهناك كانت عواطفي تتدافع في صدري وإحساسات أكبر من جسدي الضئيل تحاول الطيران بي عن مقعدي، وبينما كان الخطيب يتكلم كانت عيناي تغادران أذنيَّ عند قدميه وتجولان في الجمع متأملة ما يرسم قوله من الإعجاب والسرور على الوجوه، وإذ ذاك كنت أنسى المقام الذي أنا فيه وأطير بالتصور فأتمثل نفسي وقد جزت مرحلة الفتوة، وبلغت الغاية من دروسي ودعيت لمثل ذلك الموقف خطيبًا يسمع فيستحسن فتأخذني هزة الطرب، وتسكرني خمرة الفوز، وأسبح في بحر الأحلام. نعم، إن آمالي لم تتحقق بدخولي المدرسة الكلية، ولكن الكلية مدرسة الجميع وإذا لم يكن فضلها عليَّ سوى إحيائها فيَّ الميل إلى الأدب والخطابة فكفى، ولربما يسمع كلامي الآن كثير ممن هم في الحالة التي وصفتها لكم، ولا يبعد أن يقفوا يومًا ما نظيري في مثل هذا الجمع قائلين قولي شاعرين مثل شعوري.
ولقد كلفتني جمعية التعاون الأخوي وغيرها للخطابة قبل هذه المرة فرفضت؛ لأني أخذت العهد على نفسي أن أهجر المنابر وإن كان ذلك على الكره مني، وأن أقتنع من نفسي بالطبيب دون الخطيب، ثم تكرر الطلب فنظرت إليهم نظري إلى مرضاي، وتقاضيتهم أجرة الزيارة وكتبت لهم هذا الخطاب، وهي أول مرة رزقت بها من المنابر، وما أنكر الحيرة والتعب اللذين وقفا في سبيل اختيار الموضوع وكتابته، فبقيت مترددًا حينًا، ولم أشعر أبدًا بمثل ما شعرت به اليوم، مع أني كنت عالمًا سلفًا أنني سأرى وجوهًا تعودتها وأنظارًا ألفتها؛ لأن حضَّار الحفلات الأدبية بيننا هم هم لا يتغيرون، وهم نخبة الأديبات والأدباء المتعلمين، وقد نال صوتي الضعيف رضاهم في كل مرة أسعدني الحظ بمحادثتِهم فيها؛ وكان هذا الفكر داعيًا إلى تشجيعي، وبقيت مع ذلك مضطربًا؛ لأن هذه الدعوة أعادت لي ذكر أيام الصبا، فكنت كلما قبضت على القلم لأكتب يتمثل لي ذلك الفتى الأصفر النحيل داخلًا بخشية إلى هذا المعهد ضائعًا بين الجمع وهو ينظر إلى هذا المنبر نظرة إسرائيل إلى الطور، فتعيق هذه الرؤيا قلمي. هذا الطور أيها السادة انتهت بي الأيام إلى الوقوف عليه، وهذا الشعب المنتخب إسرائيل الأدب مستعد لسماع كلامي فلأبتدئ.
جال في خاطري بادئ بدء أن أجعل حديثي معكم هذا المساء في الطب أو ما يقارب الطب، وإن كان في ذلك جناية على نفسي وعلى السامعين إرضاءً للبعض ممن يزعمون أنه لا يحق للطبيب أن يتعدى دائرة صناعته، ويتوهمون أن بعض صفحات في الأدب يكتبها كل سنتين تشغله عن واجباته، ثم تركت هذه الفئة وشأنها واتخذت لكم موضوعًا أقل خطرًا في تغميض الجفون يجمع بين الأدب والفكاهة والتاريخ والغرام، وفي الغد إذا احتاج أحد منكم إليَّ، لا سمح الله، جعلت منبري أمام سريره وحادثته عن الطب ما شاء.
موضوعي المرأة والشعر، أو الشعر والمرأة، وإذا قلت المرأة فليس غرضي الأخذ في بيان حقيقتها وإثبات حقوقها، ولا سرد تاريخها العجيب المحزن من عهد إنكارهم عليها الذات ليومنا هذا، ولا المقابلة بينها وبين الرجل، والنظر فيما إذا كانت هذه الرءوس الجميلة الطويلة شعورها كالأفاعي الساطعة أعينها كالنجوم هي رءوس ولدان، وأن الدماغ المستقر في هذه الجمجمة لا يساوي ثلثي دماغ الرجل وزنًا، كلا بل ربما كانت المرأة أرقى من الرجل بالعواطف والشعور والتصور وقوة الاكتساب، فليخفض الرجل من كبريائه، ولا ينتظرن أن يراني عدوًّا لهن في هذه الليلة، بل أنا محدث عن المرأة من حيث هي كائن لطيف وضعته العناية إلى جانب الرجل لتقرب إليه أسرار الطبيعة، وتفتح على قريحته بالغرائب. انظر إليها من خلال حجب التاريخ بعين الشاعر وكشاعر أسجد لدى هيكل حسنها، وأقدم لها البخور مدائح وتسبيح من أفئدة ملئت بحبها وأدمغة اشتعلت بجمالها فجادت بأسمى الأقوال، وأبدع التصورات، وأرق المعاني التي خلدت مجد قائلها كما خلدت جمال الموحي بها، وما برحت فكاهة للأفكار جيلًا فجيل، أريد أن أقول وأؤيد قولى بالبرهان؛ إن العالم قاطبة مديون للمرأة بأنبغ رجاله في الأدب، فإن أشهر ما نسمع عنهم من فحول شعراء العرب والإفرنج الذين أتوا بمعجز القول، وبلغوا من الشهرة والمقام في قلوب الأمم ما لم يبلغه الفاتح العظيم؛ هم صنعة ذاك البنان اللطيف وخلقة تلك العين الدعجاء، أريد أن أظهر ما هو معروف بالقرينة، ولكنه لم يكتب به درس خصوصي كهذا الدرس ليتلى في محفل كهذا، أريد أن أعرف الناس بحقيقة الشاعر ثم أبين ما هو فضل المرأة عليه، وما هي نسبتها إلى الشعر وإليه، فهائنذا ابتدئ بالشاعر ثم أنتقل إلى المرأة الشاعرة، وأختم بتأثير المرأة على الشعراء.
(١) ما هو الشعر؟
لا يحد بكلمة ولا يحد بألف، خذ أخفى ما يكنه القلب البشري وأسمى ما يحمله الفكر البشري، وألبسه حلة من اللفظ الرقيق والقول الرشيق يكن لك الشعر، جسد أبهى صور الوجود التي تملأ العيون، وأجمل أصوات الطبيعة التي تسحر الأسماع، وألذَّ أنفاس الكون التي تُسكر الألباب يتمثل لك الشعر، فالشعر هو حركة أمواج، أمواج الخيال وأمواج الحقيقة، هو الروح ممتزجة بالمادة والمادة متحركة بالروح، الشعر هو اللغة الوحيدة التي تستولي على الإنسان بكل ما فيه من الإنسانية فتولد سلطتها في قلبه ودماغه وسمعه لتخرج منه أحيانًا دويُّ الزوبعة وأحيانًا حفيف الأوراق، ولهذا يفعل الشعر على سامعيه إذا أُتقن فعل الصاعقة التي تقتلع الأشجار والصخور، أو النشيد الذي تُسكرُ به الأم طفلها في السرير. من أجل ذلك لا يمكن الشاعر كثير من الشعر الجيد في المرة الواحدة؛ لأن الشعر يجلب الضعف سريعًا باستيلائه على الفكر والروح؛ إذ يستنفد بقليل من القول وقليل من الوقت كلَّ ما في الإنسان من القوة والحياة في قلبه ودماغه.
هذا هو الشعر فمن هو الشاعر؟
هذا هو الشعر فمن هو الشاعر؟ قال أحد كتبة الإنكليز الشاعر نبيٌّ والنبيُّ شاعر فكلاهما يشعران بالغوامض، كلاهما يقرآن في هذا السرِّ المكشوف، سرُّ الكون الخفي الظاهر، النبي يبحث في الخير والشر، والمباح والممنوع، والاختيار والواجب، والشاعر يبحث في الجميل والقبيح، الأول يرشدنا إلى ما يجب أن نعمله، والثاني إلى ما يجب أن نحبه، ومن يفصل ما نحبه عما نعمله أليس الحب طريق العمل؟ وينطبق على هذا التعريف قول ابن المقفع أي حكمة أغرب أو أبلغ أو أحسن من غلام بدوي لم يرَ ريفًا ولم يشبع من طعام، يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى القفر واليرابيع والظباء، فإذا قال الشعرَ وصفَ ما لم يرَه ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساويها، ويقول ما يكتب عنه ويُروى له ويُبقي عليه. الشاعر كما قال بعضهم ترجمان الطبيعة، أُرسل إلى العالم ليتمم لغة العالم؛ لأن كل ما يرى ويُسمع يستنشق سرُّ غامض ألفناه، فاكتفينا منه بما عرفناه، غير أن الشاعر يفضه بنظره البعيد وينفخ في الجماد روحًا، ويعطي الأبكم لسانًا، ويهب الأصمَّ سمعًا، ويلبس كلَّ حالٍ لبوسًا جديدًا، الشاعر كما قال خليل أفندي الخوري:
ومن هذه المعجزات:
الشاعر طير الإنسانية يغادرها من حين إلى حين هائمًا في فضاء التصور، بل إن الطير قد لا يرجع من سفرته، ولكن الشاعر لا بدَّ من رجوعه إلى العالم الذي هو منه ليصلحه، فهو بين ذوات الأجنحة لا يعدُّ من الطيور بل من الملائكة.
تاريخ الشعر وفائدته
وُجد الشعر مع الإنسان وسيرافقه إلى آخر الزمان، ومن ظن أنَّ هذا الصوت سوف يتلاشى فقد ضلَّ؛ لأن الله هدى عبده إليه، وهو أول صراخ سما نحو عرشه من البشر، وقد كان له في الأعصر الأول قبل التاريخ عظمة الآلهة فحمل لواءه أورفه ليخضع به الوحوش الشاردة وامڨيون ليعمر أسوار تيبة، ثم شهدنا هومر يخط به تاريخ عصره، وموسى يسنَّ الشرائع لقومه، وداود يسرج نبراس الحكمة، وجوفنال يحمل مقرعة الضمير، وأبا العلاءِ يفتح باب الفلسفة، ورأينا دانتي لاهوتيَّ زمانه، وشكسبير مصور زمانه، وفلنر منتقد زمانه، وجوت مهذب زمانه، وهيجو أديب زمانه، قال أحد كتبة الأميركان: من الناس من لا يرى غير العمل فيحتقر الشعر والشعراء، ويقبح من يقول ولا يفعل جاهلًا أن العالم قسمان قسم خُلق ليقول وقسم خُلق ليعمل، وأنَّ الطبيعة جميلة كما هي صادقة فعليها أن تظهر كما عليها أن تفعل. الشاعر كالبطل كل كلمة فيها له انتصار، وكلُّ معنى فتح جديد، فإن أغاممنون ليس بأعظم من هومر، وشارلمان ليس بأكبر من شكسبير، ووظيفته كوظيفة أورفي التي كانت الوحوش تسرع إليه عند سماع أغانيه وتتعرى من أخلاقها الشرسة، فإن إنشاده يدوي في قلب الإنسانية ليخضع منها ما كان كالضواري والكواسر، فيزيل الشراسة والظلم ويُعيدُ الرفق واللين، قال أشيل: خدم الشاعر الإنسانية منذ البدء؛ لأن أورفه بغض القتل إلى الناس وموسى علمَ الطبَّ، وهزيود الصناعة، وهومر الشجاعة، وأنا أتيت من بعد هومر أترنم بأوصاف ليتشبه بها أبناء وطني.
وقد كان للأمة العربية نصيب وافر من الشعر، وبلغ إكرامه عندهم أكثر مما بلغ عند غيرهم فجعلوه عنوان الفضل، وديوان الأدب، واتخذوه وسيلة لحماية أعراقهم والذب عن أحسابهم وواسطة لتخليد مآثرهم، ولم يكونوا يهنئون بعضهم بعضًا إلا بغلام يُولد أو فرس تنتج أو شاعر ينبغ، فإذا نبغ شاعر أتت القبائل مهنئة، ووضعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما في الأعراس، وقد كان لهم فيه سوق منافسة ومجالس طرب يحضرها ملوكهم ويشتركون معهم فيها، وكثيرًا ما حمل الواحد منهم صولجان الشعر والملك في وقت واحد وجعل النظام في قوله وفعله معًا، وقد بلغ من تأثيره عندهم أن بيتًا أذكى نار الحرب بين أمتين وأنَّ لهم سجدةً سموها سجدة الشعر، ومن نكاتهم في هذا الشأن أن قبيلة اسمها أنف الناقة كان إذا ذُكر أحد عند أحد منهم هذا الاسم فضلًا عن نسبته إليهم أثار غضبهم عليه فما إلَّا أن قال الحطيئة يمدحهم:
فانقلب هذا اللقب إلى فخر، وصاروا إذا سُئل أحدهم الانتساب لم يبدأه إلا به.
فيالقوة الفكر البشري يغير بكلمة القلوب، ويصرف مجاري الأهواء شأن الدفة بالسفينة، وهل في إمكان غير الشاعر أن يفرغ مثل هذه الألفاظ في مثل هذه الصور، لما سئل كمبرون أحد قوَّاد نابليون التسليم في واقعة واترلو لفظ وهو في حال الهياج الشديد بين عوامل الغضب واليأس كلمةً منكرة بذيئة فعلت في قلوب ذويه ما لا تفعل ألف قصيدة، وقد أخذ هيكو هذه الكلمة فملأ بها ثلاثين صفحة من أبلغ ما خطَّ في كتاب البؤساء، فلا ريب أن قائل هذه الكلمة ككاتبها شاعر.
كيف، ومتى يصير الإنسان شاعرًا؟
كل إنسان شاعر إذا أردت؛ لأن حب الطبيعة راسخ في كل قلبه، وصورتها ماثلة لكل خيال، فالصياد وسائس الخيل، وراعي الأغنام شعراء، ولكن الفرق بينهم وبين الشعراء المعروفين بهذا الاسم أن هؤلاء يعبرون عن شاعريتهم بانتخاب لغتهم وأولئك بانتخاب طرق معيشتهم، هذا بإطلاق النظر، وأما الشعر الصحيح القائم بتصوير الجمال فلا يُنال بمجرد الرغبة والناس فيه طبقات، فالرجل الذي يُحسن قراءة الشعر شاعر، وكلما زاد شعور المرء رقةً واتسعت مقدرته في التعبير عن ذلك الشعور لامس أسرار الشعر، وكلما اتسعت حلقة المتأثرين بشعره علا مقامه الشعري حتى إذا ضرب على أوتار كل فؤاد كان الشاعر العظيم، وهذا لا يكون إلا لمن رُزق ذهنًا صافيًا، وخلقًا رقيقًا، ونفسًا طائرة يمكنه بها أن يرتفع نحو تلك الطبقات العلوية حيث الهواء موسيقى لا يسمع أنغامها كل آذان البشر، وبالجملة فالشعر هو صوت الإنسانية منحصر في أفواه البعض ممن فاقوا الإنسان.
هل بلغ شاعر حدَّ الكمال؟
نعم ولا. لا: لأن الشاعر طائر مجاله اللانهاية فلا يصلُ إلى قمة إلَّا برز له أعلى منها، نعم: لأن للفكر البشري حدًّا من النبوغ لا يتعداه، فكما أنَّ الماء الغالية لا يتجاوز مائة درجة بمقياس سنتغراد مهما اشتدَّ غليانها، كذلك الفكر البشري إذا سما له حدٌّ يقف عنده، ومهما غلا لا تتجاوز حرارته مائة سنتغراد، وهذه الدرجة قد يبلغها بعضهم من الشعراء كما يبلغها بعضهم من الفلاسفة، وهذا هو الفرق بين العلم والشعر، فالشعر يبلغ الكمال؛ لأنه لغة القلب والطبيعة الثابتة، والعلم لا يبلغ الكمال؛ لأنه لغة الاستقراء والتنقيب، وكم هدم في يومه ما بناه في أمسه، جاء هومر، وسليمان، ودانتي، وشكسبير، والمعري، وفرجيل وكثير غيرهم وجاء بقراط، وابن سينا، وأرخميدس، وغليله، ونيوتن، ولافوازيه، وسبنسر وكثير غيرهم، فماذا كانت النتيجة؟ يأتي العالم فيبني على أنقاض سلفه أو يزيد من عنديانه ما يغير الصورة المألوفة وأما الشاعر فلا. خذوا التلسكوب مثلًا، فقد أوجده متيوس صدفةً كما وجد نيوتن الجاذبية، وجاء غليله فحسن باكتشاف متيوس، وجاء كيلر فحسن عمل غليله، وجاء ديكارت فكمل عمل كيلر، وجاء الأب ريته فزاد عمل ديكارت، وجاء هو يجانس فزاد على عمل ريته فلم يمض ٥٠ سنة حتى بات متيوس نسيًا منسيًّا وصار الجديد قديمًا. خذوا التلغراف مثلًا آخر فمن تاليس أو فلاسفة اليونان الذي رأى أنَّ الكهرباء بالفرك تجذب الأجسام، إلى جيلبر الإنكليزي الذي وجد الجذب أيضًا في غير الكهرباء كالزجاج والكبريت والشمع الأحمر، إلى ليمونيه الذي قال باجتياز الكهرباء على شريط موصل، إلى وطسن الذي قال بصلاح الأرض والماء لإيصال الكهربائية، إلى كلفن مكتشف الكهرباء في الضفدع، إلى فولته الذي وصل المجرى الكهربائي بين النحاس والتوتيا، إلى امبر وفراداي اللذين بحثا في تحريك الإبرة المغنطيسية في طرف السلك المكهرب لرسم الأحرف، إلى موريس الأميركاني الذي كمل العمل من تاليس إلى موريس مسافة قرون عديدة سعى فيها الإنسان لاختراع آلة التلغراف فلم يلبس إكليل الظفر إلَّا واحد، ثم جاء ماركوني باختراعه الجديد فترك الجميع وراءه، ومن يدري أيُّ اختراع يخبئه لنا المستقبل تشترك فيه العين مع الأذن، فينقل الصوت والصورة معًا وتتم نبوة الشاعر الطرادي:
بلى قد تمت هذه النبوة أيها السادة، وقرأنا في جرائد العلم الحديثة شيئًا من هذا لم يزل في حداثته.
خذوا كتابًا طبيًّا أو علميًّا مطبوعًا في صدر المائة الفائتة فقلما لا تجدون فيه أغلاطًا، كانت حقائق تقود عقول الألوف من الناس لذلك العهد، وسيأتي زمن يغير من حقائق اليوم فلا يثبت منها إلا ما رسخ بطول التجارب، ولا يبلغ العلم الكمال إلَّا إذا صارت كل حقائقه أوليات، وافتضت العقول جميع أسراره الغامضة. أما الشعر فهو كالأوقيانوس موجة تذهب وموجة تجيئ، أو كالريح يتغير صوتها ولا يتغير جوهرها، شكسبير عظيم ولكنه ليس أعظم من دانتي، وأبو العلاء شاعر إلا أنه ليس أشعر من المتنبي، فالعلم سلم يصعد فيها العالِم فوق العالَم أكثر الأحيان، وأما الشعر فحفيف أجنحة في الفضاء الواسع أيها السادة.
الله يتجلى للإنسان في صورتين: صورة من خلال العالم وهذا هو ما يسمونه الطبيعة، وصورة من خلال الفكر البشري وهذا هو ما يسمونه الشعر، فالشاعر والطبيعة صنوان، وطالما خدمت الطبيعة الشاعر فكانت له كتابًا مفتوحًا يشغل فكره وبصره فلا ينصرف عنه إلا ليقرأ في كتاب آخر هو كالطبيعة سعةً وجمالًا وغموضًا، وهذا الكتاب هو المرأة، أقول المرأة كالطبيعة ولا أكذب؛ لأن الطبيعة حاوية اللانهاية والمرأة فيها شيء من اللانهاية، والطبيعة جامعة كل ما يمثل الجمال ونقيضه، والمرأة لها كل ما يدل على السمو وعكسه ناهيك عن ذلك، فما الذي يأخذ بالأبصار والأفكار غير الكواكب في السما، والأزهار في الرياض، والطيور في الهواء، ومن ذا لا يرى في المرأة سرًّا من الكواكب وسرًّا من الأزهار؟ ألا تشعر أحيانًا بحفيف أجنحتها كالأطيار؟ وإذا مرت بالروض في الربيع ألا ينفتح صدرها انفتاح الزهر لندى الصباح الرطب؟ ألا تحس بقرابة بينها وبين تلك الحياة القصيرة التي صباحها أزهار ومساؤها ذبول، ألا تميل إلى مناجاة تلك الزهرة ومداعبتها فتصافحها بيدها وتضمها إلى شفتيها، ثم ترفعها فوق عرش جبينها وتقول لها: اجلسي، فهنا أيضًا روض فيه ورد الخدود ونرجس العيون، هل وقف الشاعر أمام البحر العجاج يسبر غوره العميق، ثم قدر أن يكتشف من المرأة أكثر مما اكتشف من البحر، هل كان ضباب الكون وظلمة الشتاء غريبين عن عواطفها أوليست كهربائية الجو ومغناطيس الأرض من صفات جسمها الناري؟ هل في صفحة الوجود المفتوحة أمامنا سطر لا يخاطب المرأة بمعنى؟ لا ريب أن وجه الشبه عظيم بين هذين الكتابين، من أجل ذلك كان الشاعر ولم يزل مدفوعًا بالعاملين معًا فقلما تكلم عن الطبيعة ولم تكن المرأة مصدر إلهامه، وقلما تكلم عن المرأة ولم تكن الطبيعة موضوع كلامه.
ولما كان الشعر لغة العواطف كالموسيقى كان له تأثير عظيم على المرأة فكم خدعت به حسناء، وكم غلب الحسن والكبرياء، وكم ردد بعض الناس قول أبي نواس:
وقد آثرت درسه على غيره من الفنون للنسبة التي بينه وبين رقة شعورها وغنى معانيها وشدة تصورها، فنبغ في الشعر نساء يذكر لنا التاريخ منهن عند كل الأمم وهائنذا ألم بالقسم الثاني من موضوعي …
(٢) المرأة الشاعرة
ما كفاكِ يا سيدتي ما جمل الله به هيكلكِ اللطيف؟ ما كفاكِ أنه عطر أنفاسك بالنسيم الذي يهب على زنابق الحقل واستعار لتنهدات صدرك حركة أمواج البحار، ووضع في صوتك نغمة الشحرور في الغاب، وكسى حلة جسدك بهاء الورد في نيسان، وجعل ألحاظك مرآة السبع الطباق؟ ما كفاكِ ذلك فأحببتِ أن تضيفي إلى فصاحة عينيكِ فصاحة بيانك، وتزيدي على طلاقة محياكِ طلاقة بنانكِ وتسكبي الخمرة من خديكِ ومن لسانكِ، وتجعلي السحر بين شفتيكِ كما هو بين أجفانك.
ما كفاكِ أنك صغت للشعراء أكاليل الغار فأحببتِ أن تلبسيها أمامهم ففزتِ بذلك، وكأني في العصور الأولى بين رومة واليونان أرى في الجهة الواحدة كارنتا تختلب الألباب بشعرها الجميل وتشيد لها هيكلًا، ولايس الكورنتية تُسحر العقول بفصاحة لسانها، وطلاقة جنانها، وأريبيدس الشهير مطرقًا رأسه أمامها خجلًا مبتعدًا عنها وجلًا مظهرًا قصوره جهارًا تاركًا بلاده اضطرارًا، وأرى في الجهة الثانية مرتيس تلقن الشعر بندار وكورين تسابقه في ميدان الأولمب، ودفني بنت تريزياس تظهر العجائب وتوحي هوميروس، وأسمع بالقرب من شواطئ بلادنا صدى أنغام سافو آلهة الشعر العاشرة ترددها ضفاف جزيرة مثلين وأمواج البحر حواليها، ثم تنقلب أمام عيني صفحات التاريخ فأرى عدد الشاعرات يتكاثر في القرون الوسطى، ولا سيما في إيتاليا؛ إذ لم تخلُ مدينة صغيرة من شاعرة كبيرة، وتنفتح صفحات الأمم فأسمع إنشادًا مختلفًا تحمله إليَّ أصوات الغانيات من فرنسا، وإيتاليا، وبروسيا، وإنكلترا، وألمانيا، وروسيا، وأعرف من بينها صوت جورج ساند تدرس الأخلاق، ومدام ستايل تحرك العواطف، ومسز برونن ترسل نظرها الرقيق إلى نقائص الحياة وأحزانها، وقد استحسنت أن أنقل لكم أنموذجًا مما تجود به قرائح الغادات تحت سماء المغرب، وهي أبيات لمسز برونن التي قال بها بعضهم قرأت من أشعارها فعدت نصف سكران، فعزمت أن لا آخذ مثل هذه الجرعة الشعرية مرة ثانية، والقصيدة عنوانها «صراخ الأطفال».
صراخ الأطفال
•••
•••
وقد كان للغة العربية حظ وافر من أقوال هذا الجنس؛ فأبقى لنا التاريخ في عداد الشاعرات ليلى الأخيلية، وخنساء صخر، وجنوب وغيرهن، أوليست علية بنت المهدي قائلة هذا البيت الشهير:
ومن لا يسمع بقصة تلك الفتاة التي مرت بالأعرابي وهو يردد هذا الشطر «نسج الريحُ على الماءِ زرد» دون أن يهتدي إلى إتمامه، فقالت له على الفور: «يا له درعًا منيعًا لو جمد»، وهل في وسع الشاعر المجيد أن يأتي في هذا الصدد بأبلغ مما قالته الفتاة؟ ومن الأخبار التي تتناقلها الرواة أن المهلهل عندما أراد به العبدان تنكيلًا سألهما أن يبلغا بنتيه سلامه، وهذا البيت الذي لا معنى له «من مبلغ بنتي أن مهلهلًا لله دركما ودر أبيكما»، فلما عاد العبدان قاما بالوصية وهما لا يفقهان مرموزها، ولكن البنت أدركت ما وراء هذه الألفاظ الغامضة، وقالت: هذا البيت لا يلتحم صدره بعجزه وإنما أراد أبي أن يقول:
ويُحكى أن أبا بكر الخوارزمي سأل الدخول يومًا على كبير فقيل له: لا يؤذن بالدخول إلا لمن حفظ عشرة آلاف أرجوزة من الشعر، فقال أبو بكر: سلو الأمير من شعر الرجال يُريد أم من شعر النساءِ؟ فإذا كان أبو بكر وهو واحد يحفظ عشرة آلاف أرجوزة من شعر النساء؛ فما قولك بغيره من كتبة وشعراء ذلك العصر، وكم يبلغ إذن عدد الشاعرات لعهد هذا العالِم، لا ريب أن دماغ المرأة العربية كان كجسمها في القوة والنماء.
(٣) تأثير المرأة على الشعراء
وصلت إلى القسم الثالث والأخير من موضوعي: تأثير المرأة على الشعراء.
أيها السادة، ما يوجد من وراء الغيوم، من وراء الأحراج، من وراء الجبال، من وراء الثلوج الأبدية، من وراء الأوقيانوس، من وراء النجوم، من وراء العالم؟ ما الذي تطويه أعماق البحار، وتخفيه طبقات الأثير، وتسره دقائق المادة؟ عبثًا تركض النفس في فضاء اللانهاية فإنها لا تجد في طريقها إلا الحب.
والعجيب أن هذا الواقف أمامكم الآن كيفما أجال فكره يعثر قلمه بهذه اللفظة، فقد أراد أن يحادثكم عن الشاعر فلم يرَ بدًّا من الكلام عن المرأة، ومن ذا يتكلم عن المرأة ولا تنسكب قريحته في فؤاده قبل أن تنسكب في مداده، ولقد تساءلت مرارًا ما هذه القوة التي يكتسبها الفكر البشري فينشر بها أجنحته في أكناف الفضاء، ويخرق بأنواره حجب الخفاء، ثم يجمع من الألفاظ ما يموت ويحيا على كل لسان فيؤلفه نظامًا فريدًا ويفرغه قالبًا جديدًا، ثم يمثله للسمع؛ فإذا هي خمر تدب في النفوس وسحر يسطو على الرءوس ونسيم يهب بالعواطف فيثير شرارها أو ماء تمشي في الجوارح فتبرد أوارها تساءلت ما هذه القوة، فأجابتني الألحاظ بنبالها وذكرتني مصرع أبطالها، فعلمت أن الحب وحده شرارة الوجود تلهب القرائح كما تلهب الخدود …
ولا بأس بعد أن ذكرت لكم هذا الطفل الصغير أن أروي لكم عنه هذه القصة الصغيرة:
هذا ما قالت ڨانوس لطفلها المحبوب، أما أنا فأقول ليضرب الحب بسهامه القلوب ما شاء إذا كان النبوغ بين الحاء والباء.
يا سادة، خلق الله لنا الماء لنروي به الظمأ، ولكن هناك ظمأ آخر لا يرويه الماء وهو الظمأ إلى المجهول، من الناس من يطلب السكر بالخمرة مثل نوح، ومنهم من يطلب السكر بالمرأة مثل سليمان، والسكر في الحالتين يفتح أبواب هذا المجهول؛ إذ يفصل الإنسان حينًا عن عالم الهيولي ويرفعه إلى مقام الآلهة، ألا ترى أن شارب الخمرة لا يصدق كل ما يقال عنه من السوء فقد يكون ذلك لأنه في حالة ثموله يشعر بأفلانه حينًا من أسر المادة والتراب وعرمه في بحر الخيال، وهكذا الشاعر فإنه يشعر وهو تحت سلطة المرأة وتأثيرها بتلك الحرية التي ترفعه إلى الملأ الأعلى وتفتح لقريحته أبواب التصور المغلقة والمعاني السامية، ويقال: إن هذا الظمأ الذي لا يُروى واصل إلينا بالإرث من أمنا حواء؛ فقد رأت التفاحة مرة وأكلت وسليمان ومن بعدها رأى المرأة يا سيداتي مرةً وأخذ سبعمائة.
قال بعضهم: إن الشاعر يجيد إذا أطلقت قريحته من عقال التقييد، وأضيفت إلى قوتها قوة المنبهات؛ لأن تنبيه الذهن يفتح أمامه طريقًا جديدة في الطبيعة فيندفع العقل إلى أمور أسمى، ولهذا السبب ترى الشعراء مغرمين بالنبيذ والجعة والقهوة والشاي والأفيون والعطور والتنباك وكل ما ينبه عواطف السرور، وتراهم يستحسنون السمر، والموسيقى، والصور، والتماثيل، والرقص، والسفر، والنار وما شاكل، ولهذا السبب أيضًا تجد كثيرًا غير الشعراء ممن وقفوا قواهم العقلية للتعبير عن الجمال كالمصورين والممثلين منهمكين بحياة اللهو والبذخ والإسراف، قال عبد الملك بن مروان لابن سمية: هل تقول الآن شعرًا؟ قال: لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب فلا يقال الشعر إلا بواحد من هذه. كل هذه المنبهات تزيد قوة التصور وتفتح للعقل أبواب عالم مجهول، ولكن الشاعر قد يستغني عنها كلها بمنبه واحد وهو المرأة، فالمرأة قهوة الشعراء وأفيونهم هي نارهم وهي دخانهم، قال اللورد بيرون: تأثير المرأة عجيب عليَّ مع ما أنا عليه من سوء الظن بهذا الجنس، فتراني أشعر بلذة غريبة إذا كانت المرأة بالقرب مني ولو كانت خادمتي التي تُوقد لي النار، وما من شاعر نبغ إلا كانت المرأة مهماز عقله وزناد تصوره ومفتاح قريحته، وحيث لا مرأة ولا حب فالشعر بارد ولا حياة فيه. لنفرض أن المرأة مُحيت من سفر الوجود لا سمح الله والناس كلهم أبطال وجبابرة، فماذا يخلق الفكر البشري؟ ماذا يعمل بدونها المصور أمام لوحه والنقاش أمام حجره، وماذا يغني الشاعر والموسيقى؟ ماتت ڨانوس فسقط آخر حجر من هيكل الحب وآخر بيت من الشعر، ولا ريب أنه لم يفهم معنى الشعر، ولم يذق لذة الوحي أولئك الذين جهلوا قدر المرأة فذروا عليها الرماد وقصوا شعرها الطويل، وطفوا عينيها بالدموع.
والتاريخ يثبت لنا علاقة النساء بالشعراء وتأثيرهنَّ عليهم، فقد كان الإنسان في الأعصر الأولى بعيدًا عن جمال الشعر؛ لأنه لم يكن يعرف غير القوة وما رفع للجمال هياكل إلا بعد أن أشبع الأرض من صبيب عرقه فسرت حينئذٍ في فؤاده حركة غريبة، وهبت على عواطفه نسمة جديدة جاوبتها أوتار قلبه بنغمات الهوى وأشعار الصبابة، فسمعنا أوفيد في الرومان يستمد الإلهام من جوليا، وفرجيل ينشد حب كاليوس وليكوريس، ورأينا داليا ترسل شعاع الوحي إلى تيبول ورومانينا إلى متاستاز، وبروسبر وكانول يكتبان على أقدام ليسبي وسنيتي، وأرانا دانت السماء من ابتسامة بياكتريس، وحيت مراسح فرنسا في شاعريها راسين، وكوريفل مدام منثون، وبنت المركيزة رمبولية، ولولا المرأة ما اشتهر في روسيا بوشكين، ولاجامي في الفرس، ولا كات عند الألمان، ولا ازدانت اللغة العربية بأفصح ما ينطق به لسان، وأبلغ ما يجري به فكر، ألم تسمعوا بأولئك الذين يكتشفون مصادر المياه بقضيب من البندق؟ فإن للمرأة أيضًا هذه القوة المغنطيسية، فهي تعرف أين كمنت ينابيع الفصاحة في القلب البشري، وتحمل قضيب السحر الذي تفجر به ينابيع الدمع السرية لتنظم منها أكاليل النوابغ وترسم أقوالهم على صفحات القلوب وصفحات الدهور، ولا أقصد هنا الإحاطة بكل شاعر خلقته الألحاظ وصنعته العيون، بل أذكر ما يسمح به المقام؛ فاختار من الفرنسيين ثلاثة من شعراء العصر الماضي، بل شعراء كل عصورهم هيكو وموسي ولامارتين، ومن الإنكليز بيرون، ومن الفرس حافظ، ومن الألمان كات، ومن العرب أميرهم إمرؤ القيس، وفارسهم عنترة وغيرهما من المولدين، ولا تنتظروا أن آتي على ترجمة حياتهم، أو ذكر ما بلغوا من الشعر والشهرة في بلادهم وسائر الأقطار، فإن ذلك يطول بي، ولا أطمع بترجمة أقوالهم لأن الترجمة لا تفي لإظهار شاعرية الشاعر، بل أنا أذكر بإيجاز على سبيل المثل والفكاهة تأثير المرأة على هؤلاء وعلاقتها بشهرتهم ونبوغهم، وأنقل لكم أبياتًا قليلة لبعضهم.
هذا هيكو أمير شعراء الفرنسيس لم تنطلق قريحته بمعجزات القول الباهرة إلَّا بعد الثلاثين من سنيه عندما جمعته المراسح بالممثلة مدام درُوه، فإن الألفة التي انعقدت أسبابها بينهما حينئذٍ أثارت في فؤاده تلك النار الكامنة، وإذا كانت رواية هرناني قد أُلفت قبل ذلك العهد فهي واحدة من معجزاته، وما قولك بالبؤساء، والقصاص، وريبلاس، وبيركراف، وتاريخ العصور وأوراق الخريف، والسنة الهائلة، وبقية تلك السلسلة الطويلة الدالة على قوته الخارقة؟ وكانت زوجته عالمة بما بينهما من الحب فلم تعترض وإن عذبها ذلك كثيرًا؛ لأنها كانت تجد من نفسها العجز عن أن توحي إليه الحب، وتعلم أن هذه الحبيبة لازمة لزوجها لزوم الخبز والماء، وأن لها مرجع الفضل بما يتناول العالم من فيض هذه القريحة. وقد قضى هيكو خمسين سنة تحت سلطة هذا الحب فلم يفصله عنها غير الموت، ولولاها ما حفظ الربيع في فؤاده بالرغم عن ثلج الشتاء الذي كلل رأسه.
وهذا ميسه شاعر الهوى كل أبياته أنين وشكوى ودموع بألفاظٍ أرق من الدموع، ولياليه الأربع مشهورة في الأقطار الأربعة، ومنها ما نظم على أثر جورج سوند الشهيرة التي ملكت فؤاده ثم آثرت بعاده، وكذلك قصيدته بعنوان الذكرى فليس في وسع القلب البشري أن يرسم خفقانه وتأثره بأحسن مما رسمه ميسه في شعره الرقيق، وكنت أود أن أقابل بينه وبين ابن ربيعة والبهاء زهير فإنهما لم يبلغا شأوه في رواية الجمال وجمال الرواية، فأترك ذلك الآن، وأكتفي بأن أنقل لكم أبياتًا نظمها للغناء عنوانها «اذكري».
اذكري (الفرد دي ميسه)
•••
•••
وهذا دانتي شاعر الإيتاليان يصف لك فعل الحب به في كتابه الحياة الجديدة، ويبين لك كيف كانت المرأة وحي أيامه الأزلي، وصلة أفكاره بين الأرض والسماء والحقيقة والخيال والبشر والملائكة، والغريب أن هذا الشاعر لم يجتمع بحبيبته بياكتريس، ولم يحادثها مرة بل أحبها لمجرد نظره إليها، وبقي هذا الحب حيًّا في فؤاده بعد موتها فأوحى إليه كتاب الجحيم والفردوس والمطهر.
وهذا بيرن الشاعر الإنكليزي تشبه أشعاره أمواج البحر المتلاطمة، وزوابع الليالي الحالكة وتسيل منه كما يسيل الدم من الجرح لولا الحب ما انتشر في فؤاده ظلام اليأس والسوداء، وفي قريحته نور ذلك الذكاء وهو القائل:
وهذا حافظ الإيراني آخر حلقة السلسلة الشعرية التي تُفاخر بفردوسي، ونظامي، وعمر الخيام، وجلال الدين، وسعدي، وجامي فقد شرب كأسلافه كأس الهوى مترعة، ولا بأس بأن نروي لكم ظريفة حُفظت لهذا الشاعر؛ وهي أن بعض غزلياته طرقت مسامع تيمورلنك الفاتح الشهير فرأى فيها أن الشاعر يهب مدينة سمرقند وبخارى فدًى للخال الأسود على خد حبيبته، فلما أخضع تيمورلنك فارس استقدم الشاعر ووبخه على هذا الكرم الكاذب بإعطائه الحبيبة مدنًا لا يملك منها على شيء، إلَّا أن الشاعر استنجد ذكاءه وقبَّل الأرض بين قدمي الفاتح وقال: يا سلطان العالم لم أصل إلى هذا اليوم السعيد بالمثول بين يديك إلا بفضل هذا الكرم.
وهذا بوشكين الروسي الذي لقب بادئ بدءٍ بيرن الروس ما اشتهر إلا بقوة الحب الذي جاوز الغاية منه فأودى به في مقتبل العمر بمبارزته أحد القواد؛ غيرة منه على زوجته الجميلة، وكانت سلطته عظيمة على عقول أبناء عصره فجاء نبأ موته كالصاعقة، واضطرت الحكومة إلى دفنه ليلًا حذرًا مما لا تُحمد عقباه.
وهذا لامارتين الملقب بعاشق الڨير يروي لنا بنفسه وقائع صبابته في كرازيلا وغيرها، ومن قرأ روايته رفائيل رأى صورة هذا الشاعر الحقيقية ماثلة من خلال كل سطر، ومدار الرواية على فتاة تبناها شيخ من أعضاء المجمع العلمي الفرنساوي، ثم تزوج بها فتعرف إليها لامارتين في إحدى سفراته وعقد معها مواثق الحب الطاهر، ثم افترقا على أمل اللقاء فما فسح الموت لها بذلك، وكان الشيخ على علم من حبهما فأرسل إلى لامارتين رسائله التي كان يكتبها لها في غربته مع خصلة من شعرها وهي عروس القصيدة الشهيرة البحيرة، ولا أعلم من دعا على لامارتين، وأي ذنب جناه هذا الشاعر حتى وصلت قصيدته إليَّ لأترجمها، فإني مع علمي بعجزي عن حفظ معشار محاسن الأصل لم أحجم عن ركوب هذا المركب الخشن، وهأنذا أُلقي عليكم بضاعتي فقد تلمحون من خلالها بصيصًا من ذلك النور الساطع، وتشتمون من جانبها أثرًا من عرفها الطيب.
البحيرة (للامارتين)
واللغة العربية غنية بهذا الموضوع، وعادة شعرائنا في الغزل برهان واضح على تأثير المرأة على قرائحهم؛ لأن هذه الصورة الجميلة التي يرسمها الشاعر العربي في غزلياته يستحيل أن تكون وهمًا محضًا، ولا بد أن الشاعر أخذها عن صورة حية، وكل معنى جميل في الغزل لا يجيئ عفوًا دون أن يكون في دماغ صانعه صورة يرسم عنها، إلَّا أن البعض تفردوا وجرت لهم وقائع عُرفوا بها وعُرفت أسماء الجميلات اللاءِ أوحين إليهم بغرائب القول، والبعض الآخر لم يبقَ لدينا من جميلاتهم إلا رسم شعري مبهم يصدق على كل جميلة، ولا يغرب عن السامعين أني أعني بقولي الشعراء المجيدين لا المقلدين الذين ينظمون دون أن يشعروا من أنفسهم بتلك القوة التي تُحرك الجماد، والذي أراه أن كل شعراء العرب كانوا عشاقًا، والغزل المنسجم في الشعر العربي لا تراه في اللغات الأخرى، ولا تجد للمرأة في سائر الألسن وصفًا يبلغ من الرقة واللطافة وبلاغة المعنى وحسن التشبيه ما بلغ وصف شعراء العرب لها، فأين نجد ندًّا لبيت المتنبي:
وبيت ابن معتوق في وصف رقة الزند:
ولو أن الشعراء العرب صرفوا قواهم الشعرية إلى سائر المواضيع كما صرفوها إلى الغزل لما بقي بيت من الشعر لم يُنقل إلى سائر اللغات الحية؛ لأنهم جازوا كل حدٍّ في هذا الشأن فلم يلحقهم في بلاغة ما كتبوه شاعر من شعراء الغرب أيًّا كان، ومن ذا يبلغ رقة إمرئ القيس وهو ينشد هذ البيت بين صهيل الخيل العتاق وصليل البيض الرقاق:
فإن هذا الشعر وإن أدرك بعضهم على قائله يسيل رقة، ويبقى ما بقي قلب يخفق بعاطفة غرام.
وقول أبي فراس:
وقول جرير:
وقول ابن ربيعة:
وقول عنترة:
وقول مجنون ليلى:
وقول خليل أفندي الخوري:
وأمثال هذا الجميل كثير لا يخلو منه كتاب عربي، وكله ناطق بحياة الفكر الشرقي وحدته، وبلاغة تصوره وعومه في بحر الخيال، ومن قرأ عينية ابن زريق ونونية ابن زيدون ودالية النابغة لا يسعه إلا الإعجاب والإقرار بأن المرأة وحدها تقدر أن تخلع جمالها على الشعر، وأنها الهيكل الوحيد الذي يسرج فيه نبراس الذكاء، وللعرب حكايات بهذا الشأن فإن قصيدة معاوية الشهيرة ومطلعها:
لم يفتح عليه بها لولا المرأة، والذي يروى أن هذا الرجل لم يكن قادرًا على النظم فحبسه ذووه؛ لأن من العار عندهم أن يكون فيهم من لا يقول الشعر، فجاءته بنت عمه تختال بقوامها العسال وقد كشفت عن معصمها الموشَّى ووجهها الفتان، فانطلقت على الفور عقدة جنانه وجرى الشعر على لسانه.
وقد يمكن الشاعر أن يغني الغزل من غير أن يكون عاشقًا ذاتًا معينة؛ لأن مجرد التصور يقود إلى الأفكار البديعة، والألفاظ الجزلة الرقيقة والتصورات الشائقة، فالمرأة تفعل بالفكر حاضرة بذاتها أو رسمها وغائبة لمجرد تصور حسنها وشكلها، وذلك غاية ما يمكن الصعود إليه من السلطة والسيادة، وبواحدة من هاتين القوتين اندفع سيل القرائح العربية من أيام الجاهلية إلى المولدين، وكثير من شعراء الأندلس في الماضي، وشعراء العراق ومصر والشام لعصرنا الحاضر لم ينبغوا إلا بخضوعهم لهذه السلطة السماوية، وإنَّا لا نعلم من هي تلك الجميلة التي تُوحي إلى هذا وذاك، ولكن لتكن من كانت فإن العالم الأدبي مديون لها وهو يمجدها وإن جهل اسمها، وإني أذكر في هذا العرض نكتة عن اليازجي كبير شعرائنا رواها لي أبي، وكان كثير التردد عليه، قال: كان الشيخ إذا ضاقت قريحته يُنادي يا أم حبيب فتأتي زوجته وتقف أمامه حينًا، ثم يبتسم لها ويصرفها ويعود إلى نظمه الشائق وقد فُتح عليه.
ولا يسعني بعد أن وصلت إلى عصرنا الحاضر، ونوهت بذكر النهضة الأخيرة في مصر والشام والعراق التي كان بين زعمائها الأسير، والأحدب، والإنسي، وأسعد طراد، والعمري، والموصلي، والإبياري وغيرهم كثير ممن اتصلت بينهم وبين الشيخ ناصيف اليازجي أسباب المراسلة، إلا أن أذكر طريقة جديدة في الغزل أخذ إليها شاعر سوريا المشهور خليل أفندي الخوري صاحب قصيدة الشاعر التي ذكرت بعضها في مطلع الخطاب، فقد جمع بها بين رقة ألفاظ زهير، وخفة روح موسى، وكانت الصفة الغالبة في شعره تنزهه عن آفتي التقليد والتعقيد، وحصوله على مزيتي السهولة والامتناع، وقد أحببت أن أقدم لكم مثلًا من هذا الشعر الجديد، فأخذت أول قصيدة وقعت عليها عنوانها الياسمين وهي طويلة أجتزئ ببعضها.
وحكاية الحال أن الشاعر رأى القمر في نجواه يرسل له نوره الضئيل فأرسل له شكواه.
أحسدًا من الحبيبة ذبت يا قمر أم سقمًا بهواها أم حيلة لحت في شكل السوار لتجعلك من بعض حلاها.
لا لا تنزل يا سمير العاشقين فيصيبك منها ما أصاب الياسمين قطعه المحب ظلمًا عن أغصانه، وكتب أسرار الهوى بين أجفانه ثم جعله إلى الحبيبة رسول شوقه وأحزانه، حتى إذا قارب إليها الوصول واستأذن بالدخول.
فتلفتت تلفت المشتاق وإذا بها تقرأ بين تلك الأوراق سطرًا لم يُخط بقلم ولم يُكتب بدمع ولا بدم.
ما حاله بعد هجري وبعادي وهل لم يزل مقيدًا على عهد ودادي، بلى وهذه أنفاسك الساحرة تحمل تحيته إلى فؤادي فأهلًا برسول الحبيب، كنت له رسولًا فكن لرأس الحبيبة إكليلًا.
حتى إذا طلع النهار علقت عروقه بأطراف اللهيب فذوى فنزعته عن رأسها غضبى، ورمت به الأرض فهوى وقالت له: ما عدت يا ياسمين تنفع الحسن ولا ينفعك الهوى.
فيا قمر السماء هذي فعال حبيبتي مع من سرى في طوعها، فاترك غرورك وارحل ويا إخوان الهوى.
وقد سمعتم لعهد قريب في حفلة شمس البر شاعرًا يصف لكم الجمال والكبرياء بأرق ما يوحيه الجمال إلى النفوس، فعرفنا منه أنه شاعر مفتون لا بحمرة الخدود وسود العيون، وعلمنا شعره أن مسَّ القلوب لمن قرن مثله تواضع المحب بكبرياء المحبوب.
ولم ينحصر تأثير المرأة على دماغ العقلاء، بل جاوز المجانين، فأجرت على لسانهم الحكمة والسحر، وأقامت صلة بين الجنون والشعر، والأمثلة كثيرة أكتفي منها بما رواه ابن يزيد النحوي قال: مررنا يومًا بمجنون عرفناه من قبل فسألناه ما تجد فقال:
قال: فقلنا له أحسنت، فأجاب لمثلي يقال: أحسنت، وأومأ إلينا بشيء يريد أن يضربنا به. فانظروا أين بلغت سطوة الألحاظ التي يقل بها تشبيهها بالسهام.
فيا أيها الشعراء، عظيمة سلطتكم على القلوب ولا سيما إذا خضعتم لسلطة ذلك الكائن اللطيف فاعرفوا كيف تمزجون الخضوع بالأمر، والذل بالأنفة، واعلموا أن أقوالكم لا تقوى إلا إذا سرى إليها هذا الضعف، ولكن حرام على القائلين الشعر أن يجعلوه لغة الرياء والتمليق والمدح الكاذب، أنت حر أن تأكل ما تشاء، وتلبس ما تشاء، وتسكن أين تشاء، ولكن لست حرًّا أيها الشاعر بعد أن عرفت أي مقام تعده لك الكائنات، أن تقول ولا يرمي قولك إلى غاية تُفيد ولا يكون لكلامك نتيجة تُحمد. لك أن تُضحي مالك، لك أن تُضحي دمك الذي هو أغلى من مالك، لك أن تُضحي فكرك الذي هو أغلى من دمك، لك أن تُضحي حبك الذي هو أغلى من فكرك، ولكن ليس لك أن تُضحي الحقيقة والصدق، وتجعل أشعارك جعبة الغش والمداهنة، خُلقت لتهذب النفوس، وتُنير العقول، وتفتح أبواب الحقائق الأبدية فعار عليك أن تحول الشعر إلى مهنة لا تجر غير الهوان، انظر إلى الطبيعة بعين وللإنسانية بعين، وتعلم أن تُتقن تصوير الأولى وتُحسن تهذيب الثانية فتقوم بالواجب نحو الجمال؛ لأنك مثال الجمال.
والآن لو كنت من الشعراء لوصفت لكم شيئًا من حبي، أو لو كنت من المحبين لأنشدتكم شيئًا من شعري، ولقد طلبت ختامًا لهذا الخطاب ففتشت في دفاتري العتق شأن المفلس؛ فإذا بي أقع على قصيدة فيها تنويه بمقام المرأة في الكون، وتأثيرها على الإنسان في شئون حياته فأخذتها وخلعت عنها عنوانها القديم اليأس وعمدتها باسم المرأة والشاعر، وجعلتها ختام حديثي عن المرأة والشعر.