فِي الحُبِّ: مَنزِلةُ الشَّبح
الإنسانُ هو مَشروع فاشل لمخلوق أسمَى، ولو أنه لا يزال يحتفظ بقدر ضئيل من ملامح ما كان يجب أن يكونه، وبقدرٍ وافٍ من صفات المَسْخ الذي هو عليه الآن. وأنا أكتب ذكرياتي وأسجل وقائع حياةٍ ما كانت ستصبح قاسية ومؤلمة لولا ذلك الكائن السامي، وما كانت تغدو جميلة وثرية لولا ذلك المسخ الحطيط، سوف أحكي هُنا عن الإنسان؛ فقيرًا ومؤلمًا كما العقرب، ولطيفًا حلوًا كالفراشة، وبعيدًا عن هذه الثنائيات أحاول أن أكون صادقة وواضحة، وأحاول أن أقول أشياء هي غائمة الآن في ذهني، ولكن آثارها جلية في روحي وفي جسدي، سوف أحاوِل ألَّا أخجل للآخرين أو منهم.
أقول إنني سوف أكشف عُري العُراة، وعورة جحيمٍ عشته بعمق، على الرغم من ذلك أرجو أن أكون رحيمة بجلَّادي، ولو أنني أصبحت جلَّادته؛ فلقد قتلته عدة مرات.
لا أعرف من أين أبدأ. اسمي سارة حسن، وستعرفون عني الكثير كلما حكيتُ لكم الكثير، فأنا لست براوية بارعة، ولم تكن لي جدَّة تحكي عند المساء، ولم أقرأ في حياتي كُلها سوى حفنة من القِصص، سيشاركني الرَّوْي جميع الناس الذين سوف أحكي عنهم، سيحكون عني وعن أنفسهم، سيَرْوُون شهاداتهم كما شاءوا، كلهم أبطال ورواة، بعضهم متمرِّس بل وماهر مثل سُهير حسان أو القديسة كما يسميها أصدقاؤها، وبعضهم لا خبرة له في الحكي مثلي، وأخشى أن يكون ذلك مُربكًا، ولكن لكي أقول على الأقل معظم ما عليَّ قوله، لا بدَّ من ذلك، اسمحوا لي أيضًا أن أبدأ حكايتي بالمشهد الأعمق في ذاتي الذي لن أنساه ما حييت.
حدث ذلك ذات يوم في سجنٍ لئيم، يبدو أنَّ اليوم كان جمعة؛ لأنَّ الشرطي الوسيم لم يتبختر عبر زنازين النساء؛ لينثر عطره الوقح في كرم وبجاحة إلَّا متأخرًا، أي بعد الثالثة ظهرًا، وهذا استثناء لا يحدث سوى مرة في الأسبوع، حيث إنه يستعد لصلاة الجمعة طيلةَ فترة الصباح. في الطبع والعادة، في غير أيام الجمعة، كان يحضر إلينا عند السابعة صباحًا ثم يختفي، ثم يظهر مرة أخرى عند الواحدة بالضبط، ثم في غرفة الاستجواب — قاعة الاحتفال — ما بعد الواحدة بعد منتصف الليل.
قال لي الشرطي الوسيم وقد دخل إليَّ دون أية مقدمات، ملأ عطره القوي المستفز زنزانتي تمامًا، وزكم منخريَّ وهو يقف أمام وجهي، يكاد يلمس أنفُه فمي، لولا أنني كنت أنسحب للخلف تدريجيًّا، حتى كدتُ ألتصق بالحائط: أحبك يا سارة، أحبك جد، ولو وافقتِ على الزواج عندما تطلعي من هنا حنتزوج.
قلتُ له: أنا ما بحب ولا فاضية لمواضيع فارغة، ولو حبيت ما بحب في الوقت دا، ولا في المكان دا، ولا في الظروف دي، ولا واحد زيك.
قال في برود وقد كفَّ عن التقدم نحوي: أنا عارف الشيوعيين عندهم رأي في العساكر، وناس الأمن والشرطة … وكثير من الناس يعتبروننا بدون أحاسيس، ولكن المشاعر الإنسانية مفروض تكون ليها مكانة خاصة … وبعدين العسكر ذاتهم خَشمُ بيوت، زيهم زي أي زول؛ فيهم الصالح وفيهم الطالح.
قلتُ له من بين أسناني: وفيهم اللِّي مثلك.
قال ساخرًا: اللِّي مثلي نادر.
ثم أضاف ضاحكًا: أنا مُش أسيبك … وفي يوم ما حتلقي الحقيقة … ونتزوج، وأنا جاد.
وما كنتُ أظن أنَّ اليوم (الما)، هو نفس الليلة، على الرَّغم من أنَّ الحوار الذي أداره معي يعني في عُرف المكان أنني ضمن صيد اليوم.
عندما أخذنا الحرس من السجن السري بعربة، وأعيننا مغمضة إلى المكان الآخَر، دعوني أسميه المكان الآخَر؛ لأنني إلى الآن لا أدري أين هو أو أعرف اسمه الحقيقي، كنَّا ثلاث فتيات من ثلاث زنازين مختلفة، لم أَرَهُنَّ من قبلُ، وكانت تظهر عليهن علاماتُ الضرب والتعذيب، قُلْنَ لي فيما بعدُ إنهن طالبات بالجامعة في السنة الأولى، وإنهن يعرفنني جيدًا، وكنتُ أمثِّل لهن نموذجَ المرأة المناضلة، وحكَيْنَ عني الكثير من المواقف والبطولات التي ما عادت تهمني الآن، كان تفكيري كله ينصبُّ في أمر واحد؛ الحُرية، أريد أن أخرج من هذا المكان بأسرع ما يمكن، يكفي هذا الأسبوع الطويل الذي قضيته في هذا المكان المُرعب.
بعد أن قدَّموا لنا وجبة العشاء بدأ التحقيق، وفي ربع الساعة الأولى من التحقيق أحسستُ بالدوار يتملَّكني، كنتُ أرى كل شيء وأسمع كل شيء كما لو كنتُ في الحلم، ولكن عضلاتي لا تستجيب لأية حركة، قامت الطالبتان بتجريدي من ملابسي ووضعي على فراشٍ بالأرض، مِن ثَمَّ جاء الشرطي الوسيم ومارَسَ الجنس معنا الثلاثة، البنتان سعيدتان تضحكان وهنَّ يهيِّئنني في أوضاع مختلفة ويرضعن صدري، بل يفعلن بي أسوأ من ذلك. عندما استيقظتُ في الفجر وجدتُ نفسي وحيدة في حجرة، كانت أصوات المعتقلات تأتي من بعيد مختلطة بهمهمة العسكر ولَجَبِهم وكركبة معالجة السلاح والأقفال. يؤلمني ما بين فخذيَّ، جُرحٌ أحس به عميقًا في روحي، عميقًا في مشاعري، عميقًا في كبريائي وإنسانيتي، ثم جاءني الشرطي، تحدَّثَ مباشرةً وكأنه يُكمِل كلامًا كان قد بدأه سابقًا: كنتُ مدفوعًا لعمل دا … مدفوعًا ما من زول، ولكن بالحب، الحب وحده.
قلت له مغتاظة: حا أقتلك إذا خرجت حية من هنا.
ابتسم وهو يقول: حتخرجي حيَّة من هنا، وأنا أعرف وما حتقتليني، ما تقدري تقتلي نملة، المهم تعرفي أنا بحبك وما أخليك، كوني مثل صاحباتك هم الآن أحرار، وأخَيَر ليكِ تفضلي معاي، كوني مثل صاحباتك هم الآن يستمتعوا بكل لحظة يقضوها هنا، وحياتهم الليلة أكثر سعادة من الأول … حرية تامة هنا … أيُّ شيء هنا بدون ذنب، ذنبك كله عليَّ وعلى الحكومة، أنا قبلان أنو أدخل النار عشانكم. فأنت سجينة في يد غيرك وتصرُّف غيرك، وذنبك برضو على غيرك … هي فرصة إنك تعملي أي شيء كنتِ محرومة منه … وأنا ماشي وما عايز رد الآن … فكري في الموضوع.
كنت أحسُّ أنه يسخر مني، وهذا فصل من التعذيب آخَر، قتْلُ الروح المعنوية وتدمير الذات، كان كلامه ينخر في عظمي كالسوس. وذهَبَ.
يبدو أن المكان الذي نُحبَس فيه الآن مُعتقل كبير عتيق، ولو أننا لا نرى منه غير الحُجرة التي نشغلها، ولا نعرف غير الذين هم نحن، ولا يمرُّ علينا من السجَّانين غير اثنين: الشرطي الوسيم والآخَر، ولو أننا نسمع كثيرًا من الأصوات ليلًا ونهارًا، كنَّا فيما يُشبِه قاعة كبيرة في عمارة شاهقة، وكان هذا إحساسنا جميعًا، ربما كنَّا في الطابق الرابع أو الخامس، نسبة لما يبدو حركة بشر وأصوات تأتي من تحتنا.
كان شميم المكان هو الموت، أصواته نواح وألم، ملمسه جثث باردة، منظره حزن عميق ومأساة، كان كل شيء فيه يثير غرائز النهاية والاستسلام.