الكهف مرة أخرى: الخير
وجدته يجلس تحت شجرة البرازيل العملاقة عند بوابة المنزل، عرفته من بعيد، كان طويلًا أسود قوي البنية ولا يشبه غيره، بمجرد أن رأى العربة من بعيد وقف.
– الأستاذة نوار سعد.
– الخير … ما بصدق.
– جئت عشان أطمئن عليكم بعد الانقلاب الغريب دا، وأشوف أخوي برضو، ولكن قلت أولًا أجيك أنتِ لأني وعدتك.
كانت تفوح منه رائحة الرمال والشمس الحارقة، البلح الأخضر والأسماك الجافة، فبدا كأسطورة من أغرب ضروب العطر مختلطة بعبق النيل، عيناه عميقتان كطائرين يُحلِّقان بعيدًا في الأفق، ملابسه ملوَّثة بغبار، ومركوبه الكبير عليه بقايا الطعام، آثار الماء وأخرى، بدا واضحًا أنه أتى من سفر شاسع متعِبٍ ولئيم. قال: قبل كل شيء شاي … عايز شاي تقيل.
– مش أحسن تأكل أولًا.
– أشرب الشاي ثم آكل، حاسس بصداع.
– نجيب ليك أسبرين.
– لا، أنا حياتي ما بلعت أية دواء ولا مشيت إلى الدكتور، عايز شاي بس. بالمناسبة وين أمين؟
– أمين في مأمورية في جوبا، طبعًا هو أستاذ في الجامعة.
– ما شاء الله.
ثم أضاف سريعًا وكأنه تذكَّرَ شيئًا فجأةً: أنا جبت معاي شحنة لوري بلح بركاوي وبعته في وقته، الحمد لله لقيت السُّوق كاشف وطبعًا رمضان على الأبواب.
كان يأكل بسرعة ولكن باستمتاع خاص، ويتحدث عن كل شيء؛ عن أمه التي يحبها، العجائز، أطفاله، أنه سوف يتزوج في عيد الفطر.
– البلد كلها نساوين والرجال كلهم شردوا للخرطوم، والواحد منهم عندما يبقى للزواج ويتزوج برضو من الخرطوم. أعمل أيه حأتزوج الرابعة والخامسة والسادسة.
كان يضحك بصوت غليظ مرح يطلب مزيدًا من الرغيف، سألني سؤالًا ماكرًا: ما عندك عيال يا نوار؟
قلت له: والله ربنا ما رزقني، وإنت عارف، بتسأل ليه؟
قال وهو يمد يده في الهواء وكأنه يشير إلى جِنِّي: راجلك اللِّي شايفو دا ما راجل يجيب عيال، اللِّي زيك دي تحتاج راجل جَد جَد، راجل فحل يا نوار، راجل راجل.
وبصورة لا إرادية نظر إلى موقع ذكره، ضحك وهو يحملق في بطني … ثم أضاف: ولَّا رأيك شنو يا بت؟
قلتُ له حقيقةً دائمًا لا أحبُّ أن أصرِّح بها، ولا تحب امرأة أن تقولها: كبرنا يالخير، دا كان زمان.
توقَّفَ قليلًا عن الأكل، وقال في هدوء: يا دوب نحن في بداية الخمسينيات، عمر النُّبوة يا نوار، وأنتِ شباب اللِّي يشوفك ما يديكِ أكثر من تلاتين، نحن عيال متين يا بت! أنت ما شُفت خالتك السُّرة، ولا عمتك نور الهدى، ولا أبوي الطيب، ولا جيرانكم عم سعد ولا زوجته الأولى مكة؟ حتى الآن مكة تلد الأطفال وهي أكبر مننا بسنوات، وضعت السنة اللِّي فاتت تيمان ذكي وذكية، خالتي سعاد كل سنة بتلد وهي في الخرطوم، أنتِ شوفي اللِّي حواليكِ بتقدري تعرفي نفسك. يا نوار شوفي أمي متين وقفت من الولادة، يا بت الراجل كان عنده شي لو دفقه في الحجر بيثمر، ولو ما عندو حاجة، لو بَال في بت تسعتَاشر ما منه أي نفع.
اقتنع بعد الأكل على أخذ حمام دافئ، واستبدال ملابسه بأخرى نظيفة، ثم أخذ قسطًا من الراحة في الديوان، لحظات أخرى وعلا شخيره. استيقظت على صوته يصلي صلاة الصبح، يرتِّل القرآن جهرًا بصوت غليظ ثم يتلو الراتب، نِمتُ، ثم على وقع أقدامه يتجول في المنزل وهو يسبح بصوت مسموع، ثم سمعته يدير حوارًا مع عم جعفر الخفير الذي يبدو أنه انزعج بعبادة الخير، وأنه استيقظ من نوم عميق، اختفت أصواتهما ربما ذهَبَا إلى الحديقة، في الصباح الباكر طلب مني صراحة أن أطلِّق محمد أحمد وأتزوَّجه هو، وقال إنه يَعِدني بأن يقضي شهرين إلى ثلاثة أشهر سنويًّا معي، وأنه يستطيع أن يجعلني حُبْلى في ليلة واحدة، ما فائدة الإنسان بدون ثمرة؟ لكني أكَّدتُ له أنني لن أفعل ذلك، وأن أمين هو زوجي النهائي إلا إذا اتفقنا على الطلاق أنا وهو. ألمح لي إثر رفض فكرته أن أمين لا يمكنه أن يُشبِعني جسديًّا، قلت له في سِري: إنه مسكين لا يعرف شيئًا عن تاريخ مع الرجال يخصني، كان عظيمًا، وكنت ملكة متوَّجَة على عرش رغائبي، وإنني فعلت ما أستطيع من أجل إشباع جسدي، وإنني فعلًا استطعت أن أجد ما كنت أطلبه من الآخر، والآن أنا أمرُّ بمرحلة إعطاء فرصة للآخَر الذي يبحث عن حاجة تخصه عندي؛ أن أجعل الحياة أجمل ولو لشخص واحد لا أكثر، هو أمين محمد أحمد، هي مخاطرة ولكن يقول شيخي النِّفَّري: في بعض المخاطرة النجاة.
فحسبي ذلك، قلت له في سري: أن الوقت الذي يخصني مضى، وأخذ نصيبك رجال شتى يتبعثرون ما بين أقصى شمال العالم إلى أقصى جنوبه. قال لي: قبل ما أسافر حاجي تاني عشان أقولك مع السلامة.
كان وهو يمضي تفوح منه رائحة المَنِي، التمر الطازج وعرق البلح، قال لي شيطانٌ لئيمٌ: فكري في الأمر يا نُوار.