في الكهف مرة أخرى
استأجرنا بيتًا صغيرًا في ضواحي الخرطوم بأجرة شهرية لا بأس بها، وكان يخلو من المطبخ، ولكن آدم قام ببناء مطبخ صغير بالطوب الأحمر والطين وعرَّشه عرشًا بلديًّا متينًا، حفرنا أنا وهو مرحاضًا في أحد أركان المنزل خاصًّا بنا بدلًا من المرحاض المشترك بيننا والمستأجرين الآخَرين، ساعدنا بعض الأصدقاء في بنائه وتجهيزه.
آدم يعمل موظَّفًا صغيرًا في شركة نقل تخص إحدى نساء الأعمال الثريات، وأنا دخلت عدة معاينات للعمل كمهندسة ديكور أو مصمِّمة أو حتى معلمة للرسم والتلوين في مدرسة من المدارس، ولكن لم أُوفَّق في ذلك. فكَّرت بصورة جادة أن أعمل لحسابي الخاص في المجال الذي لي باع فيه، وهو مجال النحت، وأن أعمل عملًا صعبًا ولو أنه شاق، ولكن حقيقيًّا ويشبع حاجتي وتطلعي الفني، ولا أنتظر عائدًا ماديًّا في القريب العاجل وأن أبدأ العمل في كهوف مايا زوكوف.
أستخدم الحجارة الجيرية والترسُّبية والرخام الجميل الذي يتميَّز به ذلك الموقع، وطرحت الفكرة لآدم فاقتنع بالفكرة وطرحناها على مايكل، القديسة، نوار سعد، أمين وسابا، فأكَّدوا أنها فكرة شجاعة، وكوَّنَّا صندوقًا سريعًا لشراء معدات النحت، قطع الحجارة وصقلها ومواد الطلاء، وقمنا برحلة لمعاينة المكان وتحديد موقع العمل. وجدنا كمال زكريا وفرقته يعملون في جد في صيانة الكهوف وإعادة طلاء ما أتلفته النار التي كان يوقدها البوليس في عهد الظلام لأغراض الإضاءة والطعام والتعذيب أيضًا. اخترنا موقعًا مواجِهًا للكهف الكبير، حيث نصب الحدأة التي تحلق عاليًا صوب الحزن.
وسمَّيْتُ المرسم بيت الأمل، أول قطعة رخام كبيرة بدأتُ في نحتها كانت تزن طنًّا كاملًا، لونها أحمر متدرج نحو الوردي، الفكرة الأساسية هي أن أشكِّل عصرين؛ عصر بدأ منذ ٨٩ واستمر إلى ٢٠٠٤، وينطلق نحو أسئلة كثيرة قد تكون متناقضة وقد تتوافق، ولكنها تمثِّل فيه تأثير النظام العالمي الجديد في واقع الحياة في البلاد الكبيرة، وأريد أن أعبر بالذات عن هذه الحرية التي نعيشها اليوم، الحرية الطلقة، حيث الضمان الوحيد لاستمراريتها أمريكا؛ لأنها لم تأتِ بنضال الشعب في مؤسساته الوطنية الرسمية، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو مجاهدات مثقفيه، أو حتى اقتناع السلطة الحاكمة بجدوى الحرية والديمقراطية والحكم المدني ومؤسسيه وحقوق الإنسان. أريد أن أعبِّر عن كل ذلك، فأخذت أنفِّذ الدراسة تلو الدراسة، أمزِّق وأناقش الناس وأتأمل الحال، وذهبت مرات عدة إلى كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، وطرحت سؤالًا للطلاب وطلبت الإجابة عليه نصًّا أو تخطيطًا أو تكوينًا مرسومًا، فتحصَّلْتُ على أشكال قبيحة سطحية لا تحمل أي بصمة خاصة بجيل أو مدرسة أو شخص أو حساسية، مجرد إحساس، كانوا يقلِّدون أو يرسمون وفي أذهانهم أساتذة لا غير.
قلتُ لهم: ارسموا بأحاسيسكم أنتم؛ حيث كنتم شهودًا على عصر مظلم مضى وزمن جميل يأتي، قالت لي إحداهن: يا أستاذة، نعم هنالك عهد قبيح مضى، ولكن عصر قبيح أتى أيضًا، أقبح نعيشه الآن، ثم أنشدت:
وكان هذا ما أخاف منه بالضبط. قلت لها محاوِلةً أن أعرف منها أكثر: والسلام؟
– السلام اللِّي بين الحركة والحكومة، أم ما بين الشمال والجنوب، ولَّا الشمال ولَّا الغرب ولَّا بين سكان دارفور من عرب وحكومة من جهة، وفور زغاوة ومساليت وداجو وآخَرين من جهة أخرى، أي سلام؟ هل نضع جبال تلشي في الحسبان وحزب المؤتمر الشعبي والوطني؟ أنا لا أفهم يا أستاذة، أضيفي بعد دا كله إلى الانقلابات الكاذبة!
قلت لها بوضوح: أنا أيضًا لا أفهم.
الآن اكتشفت فائدة المعتقل والسجن والتعذيب الذي نلته في الفترة الماضية، إنه يجعلك أكثر حساسية للتغيير الذي يطرأ ولو كان تغييرًا طفيفًا نحو الأحسن، وهؤلاء الذين لم يدخلوا جحيم العهد الماضي لا يستمتعون بجنة هذه الأيام، الذين لم يعتقلوا لا يميزون هامش الحريات، ولا يعرفون أسماء الملائكة، كان الطلاب متشائمين، وأشَارَتْ لي بنت صغيرة جميلة سوداء لها عينان كبيرتان إلى تمثال من الأسمنت قام بنحته كمال زكريا كمشروع للتخرُّج منذ سنوات كثيرة مضَتْ، وهو عبارة عن عنكبوت كبير على رأس رجل، يقبض عليه بأطرافه بقوة، آكِلًا من جلد فروة رأسه، مسيطرًا عليه سيطرة كاملة ونهائية، والرجل لا يفعل شيئًا سوى الصراخ، قالت: شايفة يا أستاذة. دي هي الحكومة بالأمس واليوم وغدًا، واللِّي يصرخ دا هو الشعب.
بدأتُ النحت على قطعة الرخام بعد ذلك مباشَرَةً بدون أية اسكتشات، أو دراسات أو أفكار مسبقة، أطلقت الحرية ليديَّ والأزميل والشاكوش يفعلون فعلهم الأول، ثم بعد ذلك أبدأ بتوجيه الشكل، وهي طريقة استخدمتها من قبلُ عندما تكون لدي الفكرة ولا يغيب عني الشكل المعبِّر عن الفكرة، في تلك الفترة تم إعادة التيار الكهربائي إلى الكهوف، مما سهَّلَ العمل الليلي على ضوء الكشافات الكبيرة، كان آدم يرافقني في العمل بعد الدوام الخاص به في الشركة، كان متخصِّصًا في التلوين، وله معرفة عميقة باللون صناعةً واستخدامًا ودلالات.
وأكَّدَتْ معرفتَه هذه الأعمالُ التي قام بها في إعادة تأهيل كهوف مايا زوكوف، بعدما تأجَّلَ الاحتفال بمايا إلى العام القادم أُتِيحت لي الفرصة أن أفتتح معرضي الأول في ذات أيام الاحتفال؛ لكي يحظى بفُرجة أكبر نوعًا، كيفًا وكمَّا، وقد تنفتح لي آفاقٌ لمشاركات خارجية، وقد تُشترَى بعض قطعي الفنية بواسطة أجانب، حيث تنطلق إلى العالم الأكبر. كانت أعمالي كلها على الحجارة بجميع أنواعها حتى الجرانيت، واستخدمت الحصى أيضًا مع الأسمنت الأبيض، واستخدمت الرمل الخشن والناعم مع مواد كيميائية لامعة، كل ما شكلته الطبيعة حول الجبل، أما العمل الأكبر هو أني استخدمت الواجهة الشرقية للجبل كلها، التي تقع في مساحة نصف ميل مربع كقطعة فنية واحدة كبيرة، قالت عنها نوار سعد: إنها أكبر قطعة نحت في العالم بعد أن دمَّر الطالبانيون تمثال بوذا في أفغانستان، تتكون في ألف قطعة حجر من أحجام مختلفة من الجرانيت الأسود، وقطعة واحدة كبيرة من الرخام الأبيض في شكل بيضة ضخمة لنسر خرافي تكون فضاء المربع أعضاءه كلها، التي تمثِّل في نفس الوقت شمسًا تشرق أو تغيب. استغرق إنجاز هذا العمل ثمانية أشهر وخمسة ألف دينار — دفَعَتْها اليونسكو — معظمها إيجار لرافعات وعمل عتالة ودربكين وقطع حجارة، كان معي خمسة عمَّال أشداء بصورة متواصلة، لا يكلُّون ولا يملُّون ولا يمرضون، إضافةً لذلك كنتُ أستعين بالشغيلة والفنيين الذين يعملون في كهوف مايا زوكوف فلاديمير، ساعَدَني أيضًا طلاب كلية الفنون، وكانوا معي كل ساعات دراستهم العملية وأوقات فراغهم، والبعض أقام مع العمال في الكهف، بين وقت وآخَر يأتي مَن يقدِّم يدَ العون طوعًا، كان عملًا شاقًّا ولكنه مثمر، منحتني من أجله الجامعة شهادة الماجستير في النحت، وتمَّ تعييني أستاذة بالجامعة براتب جيد. ولكن الغريب في الأمر؛ كان من ضمن الأشخاص الذين جاءوا طوعًا للعمل معي والمساعدة الشرطي جمال الأمين، وكان يأتي في الوقت الذي يذهب فيه الجميع للراحة، ويطلب مني تكليفه بعمل ما، فينجزه على سرعة البرق ويختفي، طلب مني ألَّا أبلغ عنه أو أن أحرمه من المساعدة، وقال: أنا شخص مفيد، ولكني شديد الغدر، ولا يمكن قتله، مش كدا؟ ومن الأحسن اتعلمي كيف تحبيني، وتعتادي عليَّ.
اللحظة التي رأيته فيها كاد يُغمَى عليَّ من الرعب والخوف والدَّهشة، أو ربما لا شيء سوى استدعاء الصدمة التي عانيت منها، التي كان هو المايسترو وقائد أوركسترا رعبها، ولكني: أَلَمْ أقتله؟!
ألم أقتلك؟
لا أحد في ذلك الوقت أحتمي به، لا أحد يمكنه أن يسمع صراخي، لا، إذا صرختُ فيهب لنجدتي لا أحد.
كنت أنحني على قطعة فخار كبيرة أقيس أبعادها، حينما أحسستُ بظل ثقيل يقترب مني، قال: ما في طريقة الزُّول يعرف بيها أخبارك إلا في الجرايد، مش كدا؟
ما يقارب العشرين عامًا منذ أن قتلته في الكهف، عشرون عامًا!
– أنا مش قتلتك؟
قال وهو يقترب مني أكثر، فتقترب مني رائحة العرق، تبدو ابتسامته أكثر وضوحًا: ورميتيني في القبر، مش كدا؟ برضو أنا سامحتك، حتى لو مت كنت حأموت وأنا ما زعلان منك، ولكن أنا عندي روح كلب، سبعة أرواح، ولو كنت أموت بالسهولة دي، سجم أمي؟
ثم أضاف عندما أحس أنني ما زلت أرغب في الهرب: أرجوك، أنا الآن في وضع مختلف، الكلُ يريد قتلي وعلى رأسهم الناس الذين كنت أحميهم وارتكبت كل الجرائم من أجلهم، كنت أداة مرحلة لا أكثر، وحسوا أنني أمثل ليهم شاهدًا خطيرًا على جرائم أكبر ويجب التخلُّص منه، من هذا الشاهد الهو أنا. وعايز أقول ليكِ، أنت هربت من الكهف بمزاجي أنا، أنا اللِّي أديتك الفرصة للهروب، صحيح أنا ارتكبت خطأ واحدًا وكان بإمكاني تداركه في الوقت المناسب، ولكن ربنا أراد غير كدا، وكنت برضو عارفك وين مدسية، ولكني قلت لنفسي: اعمل يا جمال عمل خير ولو لمرة واحدة في حياتك.
بالتالي خليتك تروحي في حالك؛ لأنهم أنقذوني من الموت بعد أقل من ساعة من فعلتك؛ لأنني ما كنت مغفل بالصورة اللِّي تخليني ما أحتفظ بحرس، كنتُ في الأيام ديك مستهدفًا من كل الأحزاب والمعارضين، فقط أنا أخرت الحرس، يجيء بعد ساعتين من وصولنا للكهف، وجاء بعد ساعة من عملتك اللي ما كنت مستبعدها تمامًا، ولو أنك فاجأتيني بيها.
أنا عايز أساعدك وبس، وأريد أن أقول لك حقيقة مهمة، عشان تعرفي حُسْن نيتي: أنا حضرت زواجك من آدم في قريتكم، وكنت سعيدًا جدًّا، وعشان ما أعكر مزاجك وأذكرك بأيام الاعتقال ما ظهرت ليك.
وأخذ يصف لي ذلك اليوم بأدق تفاصيله.
لا أعرف ماذا أقول، لم أعرف ماذا أفعل، لم أعرف أي شيء، كنت في صمت تام وجنون.
فقط، كانت لدي رغبة واحدة مؤكدة، رغبة جامحة وملحة، وهي أنني أريد أن أقتله، أقتله، أقتله، أقتله.
قلت لآدم زكريا زوجي، وهو شخص هادئ رقيق يأخذ الدنيا دائمًا مأخذ رفق وأناة، قال لي: أنا أشوف يا سارة أحسن تبعديه عنك وتنسي موضوعه تمامًا، «فالبلا يكفوه بالكرامة»، الزول دا أصلًا ميت ميت، الحكومة حتقتله، وفي عشرين جهة أخرى عايزة تقتله، عليكِ الله انسي الزول دا، في أشياء أهم.
– الزول دا قتلني مليون … مليون مليووون مرة، دمي الآن يغلي، أنت ما حاسس بي؟
كلما أتذكره، كلما أشوفه، أنا لو ما قتلته بيدي دي ما حأكون مرتاحة، وما عايزة زول يقتله قبلي، أظنكَ فهمتني يا آدم، أنا تعبانة ومغيوظة، ومتألمة ومجرحة من جواي، مقطعة قطعًا قطعًا؟
قال بهدوئه المعتاد: كويس يا سارة، خلينا نشرك أصحابنا في الموضوع دا ونستشيرهم؛ سابا، وأمين، ونوار، ومايكل، وبرهاني. الموضوع دا مش سهل، أنا معاكِ الزول دا يستحق الصلب والحرق حيًّا، ولكن الانتقام رد فعل عاطفي وغير عملي، وأنت زولة فنانة وإنسانة، أنا ما عايزك توسخي يدك النظيفة بالقتل، مهما كان عادلًا ومبرَّرًا ومنطقيًّا، ولكن أنا برضو براعي لظرفك النفسي والألم الكبير اللِّي سبَّبو ليكِ، خلينا نفكر كمجموعة، واللِّي يتفق عليه الناس نعمله.
سارة حسن تحب الكتابة ليلًا، يعجبها الهدوء، أذان الصبح كان يدعو الناس للصلاة في إلحاح.