كِلابٌ: لصُوصٌ وَطَلاَق
بعد أن منعت الحكومة الجرائد من تناول موضوع الانقلاب، وسكن الراديو والتليفزيون عنه، وهما الكَدِيسَان التابعان للحكومة الوفيان المدلَّلان، نسي الناس الموضوع برمته، وبيعت المستشفى وسافَرَ الطبيب إلى الخارج طالبًا حق اللجوء إلى أية بلاد كانت … غاضبًا.
– بلد كلها كذَّابين وحرامية.
كشفت نوار سعد مخطط أمين وفاجأته قائلة وهما قد فرغا من شرب شاي الغداء: أنت مسافر مع سابا؟
قلت مندهشًا: وين؟
قالت ببرود وهي تحملق في وجهي دارسة إياه بالطريقة القاسية التي أعرفها فيها: إثيوبيا ثم أستراليا.
قلت وبدأت أحسُّ بالرعب يسري في عظمي، محاوِلًا في نفس الوقت ألَّا أبدو كذلك: قال ليك منو؟
قالت ولا تزال عينها في عيني: سمعك زول تتحدث بالموبايل.
بكل أنفه قمت من مقعدي، وبحركة مسرحية قلت: نعم، قلت، ما قال ليك إننا جادين ولَّا كنا بنهزر ونضحك!
– ما قال لي، قول لي أنت!
قالتها في غنج وهي تهز كتفها: أنتِ رأيك شنو؟
قالت مدعية البراءة بصورة فجة وواضحة: أنا سمعت ما سمعت وأنت عليك تفسر ما قلت، كدا ببساطة، وأقول ليك أنا بصدَّق كلامك أنت اللِّي تقوله الآن قدامى وبس، في أكثر من كدا.
يبدو أنها كانت متأكدة مما تقول، وأنها افتعلت مسألة مَن سمع افتعالًا، وأن لديها مصادر أخرى أكثر قوةً ودلالةً، وأنا أعرف نوار سعد عندما تكون قوية وعندما تكون في موقف ضعف، هي الآن في موقف قوة، وذلك من انبساط وجهها، ولبسها القصير جدًّا، والتحدث من غير أن تستخدم أصابعها في حركة جفونها، وعليكَ يا أمين أن تكون صاحيًا دقيقًا، قلت لها محاولًا استطالة الحوار أو البحث عن منفذ: أنتِ تعرفي أن سابا متزوجة مش كدا؟ هل حأسوقها مع زوجها أو أطلقها منه؟
قالت ببرود وهي ترفع كتفيها إلى أعلى: دا شيء تحدده هي وأنت!
عندما طرق الباب تأكَّدَ لي أنني نجوت، فانطلقت أفتحه وجدت أمامي الشيخ طه يحمل ما يدَّعِي أنها بنته على كتفه في حنان دافق، التي هي بنتي أنا بحق وحقيقة، وأستطيع أن أؤكد ذلك وخاصة بعد اكتشاف خارطة الجينوم البشري. حيَّا بحرارة ثم جلس، قالت له نوار: أمين قال الكلام حقيقة وهو حيأخذ سابا معه للخارج، وربما تزوجها هناك أو عاشوا سوا كدا.
فوجئت تمامًا، وأدركت أنني بين فكي غول، أردت أن أقول شيئًا ولكنه قال بسرعة وهو يضع البنت الصغيرة في رجليه الكبيرتين: اسمعني جيدًا يا أمين، أنت عمرك حاليًا على مشارف الأربعين، ولكنك تتعامل بعقلية طفل صغير، والصعلكة اللِّي بتعملها دي أنت ما بتعرف خطورتها ولا حدودها، وتتصرف في الدنيا دي زيك زي أي كلب مطلوق ما عنده سيد وسعران، يعض اللِّي يجده، حتى نفسه ذاتها، نعم أنت متعلم أكثر مني، وأنا زول تخرجت من الأولية ولكن الأكبر منك بيوم بيعرف أكثر منك بسنة، وبيني وبينك على الأقل عشرين سنة، وأنا عارف كل شيء عنك، ومن الأحسن يا أمين تشوف مستقبلك وحياتك وتعود لأمك وأسرتك وزوجتك وتخلي الناس في حالهم، وأنا عارف أنت دائمًا بتحاول تغوي سابا، ودائمًا تحاول تضللها، وأنا أعرف أنك حاولت تردها للدين المسيحي، وراودتها عن نفسها ولكنها ردتك، أنا أعرف زوجتي جيدًا وعايز أعيش مع أسرتي وبنتي في سلام وشرف، وهي فرصة أخيرة بالنسبة لك، وأنا قادر بعدها أحسمك بطريقة يندهش ليها الجن نفسه، موضوعك دا ما بياخد مني قَدْرَ رمشة عين. وأقول ليك: سابا تخلي بنفسها أخبرتني بمؤامرتك الأخيرة، وحتى تسجيل البنت وتغيير اسمها، وهي دي الشهادة اللِّي وعدك بيها القمسيون الطبي أرسلها لي بنفسه.
وأخرج الشهادة من جيبه برهانًا جليًّا، وعرضها بصورة استفزازية وقحة: آها، رأيك شنو؟
كنت أحاول أن أكون قويًّا وأبدو كما لو كنتُ على حقٍّ مدَّعِيًا متكبِّرًا، ولكن الإحساس بأنني أصحو أو سكران أو أن شيطانًا في صحوتي يكشفني لنفسي … كان يسيطر علي هذا الإحساس الغريب، وحاولت أن أراوغ، ولكن نوار سعد قالت لي بصورة مسرحية مفاجئة: أنت طَالق يا أمين محمد أحمد!
كانت تقف أمامي مباشَرَةً وهي ترقص ردفها بثقة في تحدٍّ، قلتُ وقد جفَّ حلقي وكاد صوتي يختفي: أنا؟
قالت وما برحت مكانها بعد تبحلق في وجهي: نعم، أنت طالق!
ثم أضافت وهي تمضي بعيدًا نحو سفرة الطعام: فالعصمة في يدي أنا، ودا كان شرط زواجي منك، هل نسيت؟ أنا الآن أطلقك، أنت طالق طالق طالق.
صرخت في هستيرية مفاجئة، قلتُ موجِّهًا كلامي إلى طه مشيرًا إلى ابنتي، وقد أتتني شجاعة من حيث لا أدري: البت دي بتي!
وأشرت إلى نوار الصغيرة وهي ترقد في حضنه.
قال مندهشًا وهو يقبض على نوار الصغيرة التي يبدو أنها قد نامت، أمسكها برعب كأنما هنالك نسرٌ كبيرٌ سيخطفها منه: منو؟
– نوار.
– بنتك أنتَ! أنت أمين القدامي دا؟ اللِّي طلقوك الآن زي المرا؟
مشيرًا إليَّ بأصبعه الأصغر.
– نعم، بنتي أنا أمين اللِّي قدامك دا.
قال ضاحكًا: لو كان بإمكانك إنجاب بنت ولَّا ولد ولا حتى فأر لَأنجبت، فأنت متزوج منذ عشر سنوات من أجمل امرأة في العاصمة كلها، وأقول لك بصراحة يا أمين، أنت ما راجل، أنت زيك زي أخواتك والناس دي كلها عارفة كدا، وأول الشهود نوار.
قال موجِّهًا حديثه لنوار: يا نوار، أمين دا راجل؟
قالت بكل وقاحة ودون تفكير وهي تنظر إليَّ في أم عيني: لا والله، الرجالة في وادي وهو في وادي، زي أخواته تمامًا ويمكن أخواته رشا ورشيدة وديل أرجل منه.
غضبتُ غضبًا أفقدني السيطرة على نفسي، وفي ذاتي أعرف أنهما كاذبان، وأريد أن أؤكِّد لهما الآن في ذات اللحظة أنني رجل، ولكن كيف؟ كيف يؤكِّد الرجل رجولته!
– أنا ما راجل، يا نوار؟
قالت وهي تنظر في أم عيني بمقلتين باردتين لا تعبران عن شيء إطلاقًا: بالتأكيد، أنت يا أمين محمد أحمد، اللِّي طلقتك قبل شوية، اللِّي قدامي دا هسع، ما راجل بكل ما تعنيه الكلمة من معاني، أنت عنين وعاجز عجزًا كاملًا، وأنت عارف الحقيقة دي جيدًا.
– أنا ما راجل؟
قال الشيخ وهو يضحك بكل ما أُوتِيَ من قوة وسعة فم وبمتعة خاصة، وهو يضغط الطفلة على صدره الضخم: عشان كدا أنا ما كنت خايف على سابا منك … لكن أنت كمان كترت المسألة، عايز تاخدها معاك لأستراليا وأوروبا، تذكرني بالطواوشة الذين يقيمون في الحريم مع نسوان السلاطين. ثم أضاف في استغراب: وتقول عندك بنت كمان، اختشي يا ابني، اختشي!
قالت لي نوار وهي تنهض وتبدو فتنتها في العيان تتبختر بملبسها القصير: يمكنك أن ترحل الآن، أنا طلقتك.
ثم أضافت في سخرية وانتقام مُرَّين: ولمَّان تكمل العدة بتاعتك عليك الله قول لي عشان أرسل ليك القسيمة مع مرتضى «الود المحامي».
حاولت أن أفعل أية فعلة، ولكني عجزت، عجزت حتى من مجرد انتصاب صغير تافه أمام هذين الكلبين لأثبت لهما رجولتي، حقيقة لقد اختفى شيء عن الوجود تمامًا، وأحسست بأنني امرأة يطلِّقها رجلها الآن، ولا أدري كيف تمثَّلَ لي الشيخ طه وكأنه الزوج الذي طلَّقَني.