العَاشِقُ البَدَوِيُّ: اسمُ الطينِ
رسالة تكتبها القديسة.
رسالة تكتبها القديسة إلى محمد آدم بعد أكثر من ثلاثين عامًا من رحيله بعنوان: «العاشق البدوي».
حبيبي محمد آدم، افتقدتك الآن أكثر مما افتقدتك في أي زمن مضى، في أي مكان كان، بأية روح وعاطفة وذكرى … أحسُّك هوة كبيرة شاسعة فيَّ، لا تجسر ولا تعبر ولا يملؤها موجود الكون كُله، هوة تجذبني نحو الأعمق الأعمق الأعمق، حيث ينتظرني ظلام العالم كله ومواته وثعابينه وعناكبه الشرسة وشياطينه، وكل مخافة وطريق مسدود وشوك.
أنا أغفر الآن لك إن مت، فاغفر لي إن جهلناك واختلط علينا اسمك برسمك بقولك، تبدو الآن واضحًا جليًّا، كتابتك البسيطة السهلة المزينة بالأخطاء الإملائية والنحوية والتباس المعنى، كتابتك الجميلة في صدقك وطبيعتك، أنت الآن معي … غريبان في مكان تنتهكه العادية ويسود فيه اليومي … أنت تعرف أنني ما نسيتك لحظة واحدة، لقد كنتَ معي تشاركني في اتخاذ القرارات الكبيرة التي أحتاج فيها لرأي آخَر، وقد سافرتَ معي إلى هولندا قبل خمس سنوات، ولو أنها لم تكن تلك التي شاهدناها في أطلس الصور والرسومات، لكنها كانت أجمل بكثير، أكثر بآلاف المرات مما كنا نتصور ونتخيل ونضيف إلى الصور مما نتوقع أنهم لم يصوروه لنا، إنها بلاد مدهشة ونظيفة … كل شيء فيها نظيف، وهذا أول ما كنتَ سوف تنتبه إليه، وكنت ستفاجأ أيضًا بأن الطواحين التي على الأنهر الصغيرة التي كنَّا نتعشقها سويًّا، ونظن أنها على شواطئنا ونختلق القصص الغرامية، مثل تلك القصة المصورة التي قرأناها «طاحونة على نهر الفولص»، وهي القصة الأخرى الجميلة المترجمة أيضًا «رسائل طاحونتي». وأخبر بمفاجأة أخرى أنني وجدت الكتاب الذي فيه قصة «الطواحين الهوائية»، وهو كتاب كبير جدًّا جدًّا ويعتبر من أقدم الروايات، وقصة الطواحين الهوائية هي واحدة من مغامرات كثيرة يحتويها الكتاب، واشتريت منه نسخة مصورة في عشر مجلدات، أعلم أنك لا تقرؤها فلقد كبرت كثيرًا، ولكنها مهداة لك على أية حال، وربما إذا أنشأت مكتبة للأطفال في المدينة سأهديها باسمك، علَّ محمد آدم ابن خالتك ونوار ابنة سابا الصغيرين يومًا ما يتطلعان عليها. في كراستك وجدتُ رأيك في أبي، ولو أنك كنت حادًّا بعض الشيء، إلا أنك اقتربت من كنه حقيقته، وربما الصفات الجميلة التي وصفته بها في آخِر مقالتك كانت هي الأصدق والأدق.
أضحكتني كثيرًا فكرة أنك خفت كثيرًا مرة عندما ظننت أنك جعلتني أحبل، وأنهم سوف يكتشفون ذلك وسوف يفتضح أمرك، حقيقة كان ذلك اليوم يومًا مدهشًا، أنا نفسي كنت خائفة؛ لأنني ظننتك أصبت بسوء … الآن وقبل سنين كثيرة عرفت أنك بلغت مرحلة الرجولة في ذلك اليوم، أما أنا فما كنتُ قد بلغت مرحلة الأنوثة بعدُ، وإلَّا لَكان خوفك في مكانه؛ لأنك بللتني بمائك في أماكن خطيرة، وعرفت أن أمي عرفت تلك الحادثة؛ لأن للشيء رائحة مميزة، وأننا استخدمنا ثوب أمي في تجفيف جسدي، بل سألتني عمَّا فعلنا فأنكرت، وقالت لي: في يوم حيذبحك أبوك؛ لأنك حتحملي بالحرام.
ونصحتني في مرة أخرى قائلة: ما تخلي أي زول يلمسك هناك إطلاقًا، لأنو دا المكان الوحيد اللِّي بيدخل البنت النار يوم القيامة، والرجال كلهم هدفهم الأساسي إنو البنات يدخلو النار يوم القيامة، عشان الجنة تفضى ليهم براهم مع بنات الحور، اسمعي الكلام ده سمح.
الآن وبكل صراحة ووضوح أتمنى لو أنك فتحت لي باب الجحيم ذلك، أتمنى لو كنتَ عشتَ قليلًا لتدخلني النار ثم تمضي أو نمضي معًا، صدقني لم أحلم برجل إطلاقًا منذ زمن طويل غيرك، فقط قبل أعوام قليلة عندما تعرَّفْتُ على مايكل وهو شاب في عمرنا تقريبًا مُجدًّا ذكيًّا وسيمًا، تخرَّجَ في كلية الفنون شُعبة النحت، بالرغم من أنه مسيحي إلا أننا سوف نتزوج وسوف لا نخشى أحدًا، كفاية أنني جاملت كثيرًا وراضيت كثيرًا وأرضيت؛ من ناس ومؤسسات واتجاهات فكرية وغير فكرية، والآن حكمتي هي: «ما يفيد الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه.»
الآن سوف أربح نفسي وأخسر تيجانًا كثيرة ليست في مقاس رأسي.
حبيبي محمد آدم.
الصغير الجميل القروي الطيب، الذي علَّمني أسماء الأشياء كلها والشياطين وأهل الكهف وكلبهم، وأسماء الشياه التي كانوا يمتلكونها واحدة واحدة، وقلت لي: «عندما يأتي المسيح الدجال والمهدي المنتظر سوف يصحو أهل الكهف ويحاربون مع المهدي المنتظر، وسوف يصبحون ملوكًا إلى يوم القيامة.»
وهذا ما يذكرني بحكايتك الأخرى التي تأكَّدت من أنها ليست من بنيات أفكارك … «حيث كنتَ تنجر الحكايات نجرًا» … إن قرية قرب قريتكم تسمى المهدية، إنهم يؤمنون بالإمام المهدي كمهدي منتظر حقيقي، وأنه لم يمت وهو في آخِر الأرض يجنِّد الناس للدعوة، وسوف يأتي في آخِر الزمان، وأن المسيح الدجال هو القطار البخاري؛ لأنه بعين واحدة وصفيرًا كنداء الشياطين، ويتنفش دخانًا.
وقلتَ لي: وقالوا إنو دا هو آخِر الزمان.
وعرفت أنك كنت تظن أن هذا هو آخِر الزمان؛ لأن العراة الحفاة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان.
ولكني أريد أن أؤكِّد لك أنه أول الزمان.
نحن الآن في أول أول أول الزمان، وما زلنا في بدايات الحضارة الإنسانية وبداية تشكُّل الكون نفسه، لقد انسحبتَ أنت مبكرًا من الحياة، ولو عشتَ مائة سنة أيضًا ستمضي مبكرًا، ولكن هناك تجارب كان يجب أن تحياها، تجارب صغيرة تافهة … بلاد ومدن وبحار وبشر وسفر وموت وميلاد وحياة، لقد وُلِدت ومتَّ في عصر واحد ومرحلة من الحكم واحدة، أسماها الناس اليوم «عصر الظلمات».
والآن نحن في عصر اسمه عصر «أمريكا»، وهو زمن به شران وخيران؛ أما الشرَّان فالأول منهما أن لا أمان لاتجاهات السياسة الأمريكية؛ حيث إنها قد تتحالف مع الشيطان ذاته إذا كان يخدم مصالحها القومية العليا أو يدعم رئيسًا ما لمرحلة ما. والثاني أن أمريكا تريد مقابلًا تختاره هي وتقدره هي، وهو الخياران اللذان تهبنا إياهما.
أما الخيران فالأول منهما أنها تخيف حكَّامنا وتترقبهم وفي يدها عصا غليظة مانعة إياهم من إيذاء المواطنين تحت أي اسم أو شعار؛ دينيًّا كان أو سياسيًّا …
أما الخير الآخَر هو إتاحة فرصة أكبر للناس في المشاركة في الحكم والثروة …
وبالنسبة لي خيرها أكثر من شرها، هي وجهة نظري ووجهة نظر مايكل أيضًا.
حبيبي محمد آدم.
قرأت كل الكراسات، حتى كراسات الواجب المدرسي اليومي، كنتُ دائمًا أفتش بين السطور على معانٍ أخرى، حتى بين سطور مسائل الرياضيات، كل شيء كان يحمل بصمتك وخصوصيتك وذاتية لا تشبه أحدًا غيرك، واستوقفتني طريقتك في كتابة قصيدة النهر المتجمد لميخائيل نعيمة … فكرت كثيرًا في الشطر الأول الذي كتبته في سطر كامل بخط كبير جدًّا، وقرأته مرات عديدة:
يا نهر!
ماذا يعني النهر عندك؟ وفي قريتكم نهر وحكاية التمساح وفاطمة والساحرة، حكاية الجنة التي أخذت أحد أبطال حكايتك إلى أهلها تحت النهر.
موتك أنت غرقًا في النهر؟
صورة الطاحونة التي في غلاف كتاب رسائل طاحونتي على نهر صغير.
الأوز، المراكب، الأسماك، الشواطئ، أشجار السنط، مالك الحزين، البجعات، الحوريات، الرمال البيضاء النقية، النجيلة، هذه الرسومات التي تنتظم كراساتك وأوراقك. كنت أحاول أن أقرأك في كل شيء وأتواصل معك وأحبك وأجدك، آخذك إلى سرير والدتي الكبير، هل تصدق الآن في المحراب عندي سرير كبير يشبه سريرنا ذاك، وغرفتي بها نعالك وجلباب لك نسيته عندنا على شماعة الملابس، أنفاسك أيضًا عندي.
حبيبي محمد آدم.
سنلتقي في رسالة أخرى، اكتب لي أرجوك، أنا في انتظار رسائلك.