في بيت مايا زوكوف
في بيت مايا زوكوف ما لا يقل عن خمسمائة شخص، أتوا من كل شوارع وزقاقات وعمارات وقطاطي وجامعات ومدارس ومعاهد وأوقات البلاد الكبيرة، وأيضًا من خارجها جاء الساسة والقادة والصعاليك والأدباء والمطاليق والطالبات والطلاب والأساتذة، وجاء الشحَّاذون والباعة الجائلون والأطباء والممرضات والمرضى ودوشكا تودروف وأبناؤها وصديقاتها، وأقرباء مداح المداح وأقارب مايا العزيز، سوريون وسوفييت وأمريكان وعربيان خليجيان يحبان الشعر، والنور عثمان أبكر وآسيا السخيري، وفنانون مغنون ورسامون ونحاتون فرنسيون وألمان وإنجليز وإيرانيون، وبعثة خاصة من اليونسكو، وإبراهيم إسحاق بمركوبه الجميل في صحبة نفر من آل كباشي. شُجيرات العرديب حديثة النمو، حيث ماتت العرديبات الشامخات، وبئر الموسيقى تصدر موسيقى الحياة وحولها الشباب وحبيباتهم، وفي الحديقة العشب البري، النجيل والمحريب العطري والأرانب والسلاحف الكبيرة وأجيالها الصغيرة المتفائلة ببطء، الكافتيريا الحديثة المبنية من الرخام والجرنيت بواسطة نحَّاتين بارعين وفنانين يحبون الله ويفسِّرون لغة الحجر تفسيرًا صائبًا. جزارون، بناءون، لصوص، داعرات جميلات أنيقات نظيفات، يتحدثن في الأدب والسياسة والتاريخ ومايكل أنجلو، ويحببن شاجال.
سابا تخلي الحبشية الجميلة تلبس ثوبًا أبيض يعني أنها في حالة حب، تدفع عربة صغيرة أمامها مليئة بالأم بابا والحلوى والكارميلا، ويفوح منها عطر «مساء باريس»، يأخذ الناس الأم بابا من العربة يأكلونها بعطر مساء باريس، ولون الجلباب الأبيض الناصع، وشفاه سابا الشهية وهي ترحب بالجميع.
– مرحبًا، مرحبًا.
نوار سعد، الخير، يجلسان على مقعد من أخشاب السنط صُنِع بطريقة جميلة بدائية توحي بجو العصر الحجري، يحتسيان عصير الكركدي وهما يتحدثان عن الخير الذي سوف يحققه خزان كجبار على حسب قول الخير، ولكن نوار سعد كانت تقول له: الآثار اللِّي حيغرقها الخزان، التاريخ يا الخير.
– التاريخ شنو يا مرمر؟ التاريخ أهم من حياة الناس؟ الخزان دا حيجيب العالم اللِّي هربت من الديار راجعين تاني، في خير أكثر من كدا؟
– آها قول الناس جو، حيعملوا شنو؟
– يزرعوا ويحصدوا يأكلوا ويشربوا ويعرسوا ويلدوا، في أحسن من كدا؟
– آآها يعني شنو؟
صمت الخير في غضب.
الناس الذين لم يروا مايا العزيز من قبل الآن يتفرسون في النحت الذي يحمل عنوان «مايا العزيز»، اللِّي قام به كل النحاتين الذين شاركوا في إحياء المنزل والكهوف، كما قال ممثل الأمم المتحدة: مايا العزيز، كان الشخص الذي أكَّدَ لنا أن العالم قرية صغيرة فعلًا، وليست مقولة أطلقها موظف كبير في الأمم المتحدة.
في بيت مايا زوكوف النعامات يثيرهن الضجيج والموسيقى، ويندهشن من كثرة الناس الذين جاءوا فجأة، من أين؟
معمل عرق العرديب القديم الذي يعمل الآن في حضرة الجميع، الشرطة والقضاء والساسة والدينيون جنبًا لجنب مع الكفرة والعلمانيين وكريم الديانات الأخرى وعم سيف، محسن طه لوكو، والمنظرون …
وقال أيضًا: في ظل الدولة المدنية أنت حر ما لم تتعدَّ حريتك حقوق الآخَرين.
تحدَّثَ آخَر من الشارع فقال: شكرًا للنظام العالمي الجديد.
شكرًا حبيبتي أمريكا.
مما أثار حفيظة رجلين وسيمين نظيفين قال أحدهما بصوت جهور: سوف ينصرنا الله على اليهود والكفرة قريبًا، قريبًا.
وكادت تنشب معركة صغيرة، ولكن البوليس الوطني قام بحسمها في الوقت المناسب، وأكَّدَ الضابط المسئول: لكل شخص الحق في التعبير عن أفكاره، ولكن بالطرق السلمية فقط.
الصحفيون، كُتَّاب الأعمدة، ملَّاك العقارات والجرائد، الحزبيون، المثقفون، القرويون، رابطة سنار الأدبية، مجنونون، مسافرون، شاهدوا جمهرة الناس والعربات فنزلوا، الأستاذ مبارك الصادق، التلفزيون القومي والراديو، قناة الجزيرة، والحرة والعربية ودبي، متسوِّقون ولصوص آثار، أعراب على حمر غير مستنفرة، لوطيون، ممثلون وفرق شعبية، كواتو، السماني لوال، جنجويد.
وقال أممي أبيض اللون أشقر بلغة غريبة ترجَمَ له مترجم أسود اللون ذو لكنة عربية مغاربية، فمما قال: سوف تتبنى الأمم المتحدة الاحتفال بمايا العزيز سنويًّا.
ثم تحرَّكَ الموكب إلى كهوف مايا زوكوف على موسيقى استيف وندر:
واتفق الجميع على المشي البطيء بالأقدام، الذي سوف يستغرق ساعة واحدة فقط، يمشون فيها على ذات الخطى التي مشاها مايا العزيز يوميًّا طوال حياته في البلاد الكبيرة، ما بين بيته وجبل المرسم.
في جبل المرسم كان بانتظارهم آلاف الأطفال وهم يحملون البالونات والأعلام الملونة، يلوحون فرحين مثل ملائكة من الألوان هبطت توًّا من السماء: سلامًا، سلامًا، سلامًا.
سارة حسن تفتتح معرضها الآن، تنقل الفضائيات إنجازها الكبير للعالَم كله.
كانت تتلعثم من الفرحة وهي تحاوِل أن تشرح لفنان شهير كيف بدأت …
– الفكرة … الفكرة بسيطة … بحثت عن عمل ولم أجده، أرهقتني البطالة والفلس والجري في شوارع الخرطوم، والقعاد في الأتني، فاتسع لي هذا المكان … فكرت في بادئ الأمر ماذا أفعل بالفراغ والكتلة؟ فكرت جديًّا ولكني عندما بدأت، بدأت بدون أية فكرة مسبقة، بدأت بذهن فارغ ولكنه نقي، إلى أن اكتشفت الفكرة التي كان يقودني إليها عقلي الباطن، هنا فقط تدخلت الصنعة والمعرفة أو التسعين في المائة التي تحدَّثَ عنها بيكاسو.
ثم سألها عن قطعة صغيرة سوداء من الجرانيت: دي طفلة؟
– طفلة …
– نعم …
– طفلة أجهضتها في المعتقل …
– آسف، آه.
– هي تجربة للناس كلهم، لا تخصني أنا وحدي، ولا أخجل منها أبدًا.
– نعم، نعم … علينا نحن أن نخجل، نحن بالذات.
يقف الفنَّانون الذين أنجزوا الكهوف، وأعادوا إليها الحياة في زهوٍّ وفخر يتحدثون عن تجربتهم، عن حياتهم، كمال زكريا تحدَّثَ عن حبيباته، الأسر والأطفال والبدويون، الأجانب الطلاب وأصحابهم من كليات وجامعات كثيرة، فنانون … فنانون … فنانون من كل صنف ولون ومدرسة وعالم، كان مهرجانًا بهيجًا حافلًا بالمفاجآت، وأعظم هذه المفاجآت أن كل شيء مَرَّ على ما يرام، في كل لحظة كنَّا نتوقَّع حدوث شيء ما، ولم يحدث.
أما الخبر الذي مرَّ عبر كل لسان هو أن الشيخ طه هو الشخص القابض على الدخل الذي جُمِع بشأن الاحتفال بمايا زوكوف، وأنه يحصل من منظمة اليونسكو وحدها على ما يقارب النصف مليون دولار، غير تبرعات أصدقاء وأحباء مايا زوكوف، والدعم الذي قدَّمته الحكومة السورية من أجل إحياء ذكرى مايا، الذي يعني عندهم إحياء ذكرى مداح المداح، وإحياء روابط صداقة ما بين حكومة البلاد الكبيرة وبلدهم، اشترى الاحتفال بمايا بمبلغ ١٠ ملايين دينار محلي فقط.
بصق الخير سفة سعوط كبيرة وهو يخرج رأسه من شباك العربة.
– فهِّموني يا جماعة، يعني كيف يشتري الزول احتفال؟ هو بقرة ولا نخلة!
قالت له نوار: لا هو نخلة ولا هو بقرة، أنت نخلة ولا بقرة، أنت ذاتك هنا يشتروك ويبيعوك.
قال وهو يلمس حجابه الضراعي بصورة عابرة: أنا اللِّي يشتريني ويبيعني أمو ما ولدتو.
قال له مايكل ضاحكًا: نوار.
قال مبتسمًا: معليش … نوار … اللِّي تشتريني نوار … ويا ريت لو سوت كدا من زمان.
ولكنه فجأة استدرك قائلًا: هي مرا، والمرا كان اشترتك أنت سيدها، وكان اشتريتها أنت برضو سيدها، شوف يا مايكل أخوي اللِّي بطلع في أخو منو؟
فانفقع الجميع بالضحك، قالت القديسة لنوار: زولك دا مجنون، وحلبي، حلبي عديل!
ردت نوار وهي تخفض السرعة قليلًا: ومتخلف.
قال الخير: الزول اللِّي بيقول الحق عندكم متخلف، عشان كده أخير يبيعوكم ويشتروكم زي البهايم، بس اشرحوا لي كيف زول يشتري احتفال؟ ما فاهم.
قالت القديسة: عجبك الاحتفال؟
– مدهش والله، ولكن الزول اللِّي محتفلين بيهو دا، مش كان أحسن تحتفلوا بالولي إدريس ود الأرباب، أو الشيخ فرح ود تكتوك، أو حتى سيدي الحسن، أنا ما شايف أي داعي للبيعملوا فيهو دا.
ردت القديسة: أنت عارف لو نحنا احتفلنا بالشيخ فرح ود تكتوك حيكون برضو في واحد عنده رأي وحيقول لينا أنا ما شايف أي داعي للِّي بتعملوا فيهو دا. عشان كدا، كل زول يحتفل باللِّي عايز يحتفل بيهو.
– حتى لو كان كافر؟
– حتى ولو كان شيطان. قال الخير موجِّهًا كلامه لنوار سعد: رأيك كدا برضو يا نوار؟
قالت نوار: هو مختلف شوية، ولكن ما بعيد من رأي سهير حسان.
– كيف؟
– أنت عايز تعرف التفاصيل دي ليه؟
– عشان بس أفهم حاجة.
– أنت يعني ما فاهم؟
قال وهو يخرج كيس سعوطِه ويبدأ في تجهيز سَفَّة كبيرة: اللِّي أنا فاهمو أنتو ما فاهمنو، اللِّي إنتوا فاهمنوا أنا ما فاهموا ولا حأفهموا، ولكن قلت أخير يالخير تكون قريب شوية.
قال له مايكل وهو يبتسم: كلامك كله صاح يا الخير.
أنت عارف من الأحسن تكون ما عارف اللِّي بيحصل هناك، ونحن نكون ما عارفين اللِّي بيحصل هناك؛ لأننا وأنا أتحدث عن نفسي ما فاهم اللِّي حاصل هنا شنو. أطرش في الزفة، كفاية زفة واحدة، ما تبقى لي زفتين.
قال الخير ضاحكًا: عايز أقول ليك، وبصراحة، هنا زي هناك، طالما في إبليس وفي حكومة، في كذب ونفاق وظلم، وفي ناس زي ناس نوار ديل شايلهم الموج.
قالت له نوار مغتاظة: أنت اللِّي شايلك الموج.
– أنا، والله، أنا لو سكران، سكران واقف زمبرليلي، ما بعمل اللِّي عملتوه دا.
هتف مايكل وسهير في وقت واحد: أمين، أمين.
عندما توقفت السيارة، كان أمين لا يبعد عنها سوى مترين فقط، نوار التي أوقفت المحرك بصورة مفاجئة كانت أول مَن ترجَّلَ من العربة لتسلِّم على أمين محمد أحمد بالحضن وهي تسأل: وين أنت يا ملعون؟
تسالمنا بحميمية وشوق حقيقي، ترجَّلَ أخيرًا الخير وسلَّمَ عليه مندهشًا: وين أنت؟
قال: موجود، في البلد دي.
– مرمي وين؟ في المدينة؟
– نعم، في المدينة دي.
– وما طلعت منها؟
– لا، لسوريا طبعت الكتاب وعدت.
فسألته نوار مشاكسة: زهرة الزقوم؟
قال مشددًا على الكلمة الأخيرة: أيوا، زهرة الزقوم.
ضحكنا جميعًا ما عدا الخير، الذي كان ينظر للجميع في استغراب، عاد وجلس في مقعده في العربة، يلهي نفسه بعضِّ شاربه ومراقبة ذلك في مرآة العربة.
– زهرة الزقوم، اسم يخصك أنت وبودلير؟
– بودلير، بودلير كان عايق.
– وأنت برضو عايق.
– وكان تافه.
– وأنت برضو تافه.
– وكان خصي.
– أنت برضو خصي.
ضحكنا، ضحكنا، قال أمين لي: اسمع يا مايكل أنا راضٍ، ولكن أنت عارف تشبه منو؟
قلت له: منو؟
قال وهو يخفض صوته لأدنى مستوى ممكن: الخير.
كدنا نموت من الرعب جميعًا، ولكن لم يسمع الخير شيئًا، وادعيت عدم الاهتمام بالموضوع حتى لا يطيل فيه، قال: لم تسألني عن وجه الشبه.
قلت له: أعرف.
قال مصرًّا: لا، أنت لا تعرف، إذا كنت تعرف قول.
قلت له: خليك من الموضوع دا.
قالت نوار التي كانت تتابع الحوار باهتمام بالغ: أنا عايزة أعرف وجه الشبه.
قال دون تردد: فحل مأجور، وأنت فحل مأجور.
قالت له نوار: أنت دائما تثير المشاكل يا أمين.
قال: ووجه الشبه الآخَر، أنت وهو تفكران بالجزء الأسفل في ذكوركم.
ثم أضاف فجأةً: عايز أصل معاكم المركز الثقافي الألماني.
قال لي أمين محمد أحمد عندما تركنا معًا بالمركز الألماني الثقافي: أتعرف أن علاقتي بسابا لا تزال جيدة، وأنني أقابلها وقتما شئتُ وأينما شئتُ، والآن بإمكاني أن أضرب لها تلفونًا وتحضر إليَّ هنا في بحر نصف الساعة وبعربة زوجها، بل يحضرها الشيخ بنفسه ويتركها لي ويذهب.
– كيف؟ كيف؟
– وأقول ليك برضو، علاقتي بنوار سعد جيدة جدًّا جدًّا.
قلت مكملًا كلامه: وإذا ضربتُ لها تليفونًا حتيجي في خلال عشر دقائق، وفي صحبة الفحل الخير نفسه، ويتركها لك ويرجع إلى البيت! مش كده؟
قال لي بصورة جادة وهو يقف على رجليه: لا، خيالك يحتاج إلى تنشيط. تعال، تعال معي.
ودخلنا إلى حجرة صغيرة في المركز خلف صالة المعرض يُستضاف بها كبار الزوَّار، معلَّق على جدرانها في كل الاتجاهات لوحات للفنان صلاح إبراهيم، كان الجو باردًا في الداخل، وأمام منضدة صغيرة من خشب المهوقني، على كرسي وثير، يجلس شخص أبيض يتصفح ألبوم رسومات كبير، قال لي: سلِّم على الخواجة دا.
– هاي.
ولدهشتي أن ردَّ لي: أهلًا مرحبًا.
قال لي: إنه لا يتحدث الانجليزية بطلاقة، ولكنه يعرف اللغة العربية معرفة جيدة، والفرنسية والألمانية والروسية، ولغته الأم هي الإسبانية، ثم خاطبه قائلًا: هذا صديقنا، مايكل، هو فنان، ويغني أيضًا بلغات محلية.
– أهلًا وسهلًا، أنا أحب الفنانين والنحاتين والمغنين والصعاليك أيضًا.
ثم التفت إليَّ قائلًا: دا خوان بيدرو؟
– خوان بيدرو بتاع المتحف الإسباني، بتاع مسيو دل برادو؟
– أيوا، أيوا، أيوا.
قال خوان بيدرو: أتعرفني؟
قال له أمين: مايكل أحد أصدقاء نوار سعد.
– ها، نوار سعد الجميلة، ستحضر بعد قليل، إنها صديقة قديمة.
لقد جئتُ إلى حضور الاحتفال بذكرى مرور أعوام كثيرة على وفاة مايا العزيز، وأن أرى نوار سعد.
كان تمامًا كما وصفته لي نوار سعد ذات مرة، أجمل رجل قبيح في العالم.
ولو أنه سِتِّيني أو خمسيني، ولكن — مثله مثل نوار — يبدو شابًّا، كان يتحدث بطلاقة عن الفنانين الإسبان الجدد؛ مدارسهم وحياتهم أيضًا، يبدو كما لو كان يعرف كل شيء عنهم، أدق التفاصيل، وقال لي ذلك: «إن الاهتمام بدقائق حياة الفنان هو نوع من الفن، فالفنان هو المعادل الموضوعي لفنه.»
اعتذر عن تناوُل طبق الزقني لالتزامه بمواعيد مع أحدهم في الغداء.