أمين السوداني: ينام مع الفئران
المرفعينان الصغيران كبرَا سريعًا، ولأنهما يأكلان كثيرًا جدًّا ولا يطعمان إلا بالفم؛ فإن تربيتهما أصبحت أمرًا مكلِّفًا بالنسبة لنا في المحراب، واتفقنا أنا ومايكل على التبرع بهما لحديقة الحيوان الوطنية، ورفضنا عرض المتحف الطبيعي الذي يسعى إلى تحنيطهما؛ لأننا نريدهما أحياء، لقد أصبحَا من زمرة الأصدقاء.
محمد آدم الصغير لم يحضر إلى المدينة ودخل الثانوي في القرية المجاورة، ولكنه أرسل سلامه وسؤاله عن المرفعينين عن طريق أحد أقربائه، وبلغناه بفكرة إهداء الحيوانين إلى الحديقة العامة؛ لأن إطعامهما أصبح أمرًا عسيرًا بالنسبة لنا، وأنهما قد ينجبان مرافعِين أخرى، وبذلك تصبح عملية سلامة وأمن المحراب في تلتة، وخاصة أن أسرتين من العرب الرحَّل جاءتا واستقرتا قريبًا من المحراب، وفي القريب القريب، أي بعد مائة أو مائتي سنة سيصبح مدينة، مدينة كبيرة لا يتذكر سكانها من أين جاء اسم المحراب، ويطلق المؤرخون لخيالاتهم العنان، وسيؤلفون خطبًا جميلة مسلية عن اسم المدينة، تنيِّم به الأمهات أطفالهن، وفاجأنا محمد آدم الصغير وأمه بزيارة المحراب.
حضرت نساء الخير إلى المدينة في صحبة جميع أطفالهن على ظهر عربة لوري كبيرة: غُبر، شُعث، غُبش، ضاجُّون، ماجون، تتطاير من ملابسهم ورءوسهم الرمال البيضاء الناعمة، يثيرون الأتربة، يضحكون بدون سبب ويندهشون.
كان الأطفال أربعة عشر، بينهم خمسة أولاد وتسع بنات، ينحدرون ما بين عمر سنة إلى عشرين عامًا، حفاة في ثياب رثة، ولكنهم جميلون وطيبون وأدخلوا البهجة في نفوسنا والسؤال أيضًا، وأغضبوا الخير غضبًا شديدًا.
وصلنا نحن — أنا ومايكل ومحمد آدم وأمه — إلى منزل نوار سعد بعد دقائق من إخطار الخير بأن هناك نفرًا غرباء في انتظاره بالخارج على عربة اللوري العملاقة. جئنا والمشاجرة التي ابتدرها الخير كانت في أوجها، كانت زوجته زينب الصغيرة تصرخ بالقول: أنا يا الخير كان شرطي معاك واحد فقط، أنت عارفو ونوار عارفاهو، وقلتو قدام شهود، أنت لو عرست نوار أنا وعيالي كلنا نجي ونسكن معاكم هنا في العاصمة وأنت وافقت.
وبعدما تزوجت عملت أضان «آذان» الحامل طرشًا، سديت دي بطينة ودي بعجينة، والآن ليك تسعة أشهر ورجلك دي ما ختيتا في القرية، عشان كدا نحن جينا، وأقول ليك أنا ولا العيال حنرجع للقرية تاني.
– وأنا كمان.
قالت زينب الزوجة الكبيرة.
كان صاحب اللوري يترجَّى الخير أن يدفع له ثمن الرحلة حتى يتمكَّن من الذهاب إلى السوق والبحث عن رزق آخَر، وبعد ذلك بإمكانه مواصلة المشاجرة مع نسوانه.
قام الأطفال والمساعدون بإنزال العفش بينما ما زال الخير يجادل المرأتين، ويطلب من السائق أن ينتظر ليعدهما للقرية، وسيدفع له ثمن المشوار كاملًا، خرجت نوار سعد على سماع الضجيج، ولكنها عندما تنبَّهَتْ لوجودنا رحَّبت بنا وطلبت منَّا أن نتفضَّل بالدخول، وقبل أن يتم ذلك سلَّمت على المرأتين والأطفال بحميمية وجمال، وطلبت من الجميع الدخول وتناول الطعام وترك المشاجرة إلى وقت آخَر، وقبل الجميع الاقتراح.
مايكل والخير والصبية ومحمد آدم قاموا بإدخال العفش، الذي لم يكن سوى أسرَّة من الحديد منسوجة بحبال السعف، وكثير من العناقريب والبنابر وسحارتين للعفش، وبعض ترابيز الحديد والخشب ذات الألوان البنية الداكنة نتيجة لتراكم الأوساخ عليها، أحذية قديمة، ملابس مربوطة في حزم كبيرة، جولات بها أطعمة مجفَّفة، أدوات صناعة الكسرى والقراصة، حلل وكمش ومفاريك وملاعق، راديو ترانسستور كبير الحجم في إطار من الخشب المضغوط، مراكب قديمة، عصي، أدوات زراعة وبناء، مشلعيبات، لدايات، حطب وقود وطلح للدخان وشملات وأغطية، زجاجات سمن. ولا ينسى أحد البهائم السبع التي ربطها الخير جميعًا في ركن البيت الشرقي قرب الديوان، وهو المكان الوحيد الذي يحفظ الحديقة بعيدًا عن أسنان وأضراس الأغنام، كان يوثقها بالحبال وهو يسب ويسخط ويتوعَّد المرأتين حالفًا بالأيمان الغلاظ وقبر أبيه والطلاق.
– إذا لم أأدبكم أدب المدايح، يا بنات الكلب …
كان الأطفال يحذرونه ولا يحتكون به، ويتجنبون أن تلتقي عيونهم بعينيه، كان لا يكف عن الكلام وهو يعمل هذا ويرمي ذاك ويربط تلك ويرفس ذاك. عندما صلينا صلاة المغرب في جماعة استأذنا بالذهاب إلى المحراب وخرجنا.