رسالة: الأَصدِقاءُ لا يَنْسَون
أسوأ ما في الموت أنه يحرمك من التسكُّع ليلًا في الشوارع، هي الفكرة الوحيدة التي توصَّلْتُ إليها من خطاب دوشكا تودروف، صديقة وربما حبيبة مايا زوكوف، وهي السيدة التي أخبرتنا بموته أو انتحاره. لكي أقرأه مرة أخرى وضعته تحت المخدة وخرجت. الفصل صيف، أخذتِ الأشجار تُسقط أوراقها بكثرة عندما تَركُّ عليها عصافير الدوري الصغيرة أو عندما تعبث بها أنامل الريح، تعلمت من المختار ألا أتضجر من الأوراق المتساقطة؛ لأنها كما يقول: هي ما أوساخ قد تكون أي شيء آخَر … لكنها ما أوساخ.
الآن أحس بها أقرب إليَّ من كل شيء، كنتُ أجمعها برفق وأضعها في حوض ضخم، قام بحفره أمين محمد أحمد، لم يحفره من أجل أوراق الأشجار، ولكنه يود أن يفعل شيئًا واضحًا، ولا يمكن محوه أو نسيانه بسهولة ليذكره بما سماه: أكثر أيام حياتي دهشة.
ولم يكتفِ بالحفر، ولكن بنى صرحًا من الأسمنت كتب عليه:
قال إنها قصيدة للأصلع الأمريكي إدوار أسلن كمنجز، اكتشف أنها أحب مكان لأوراق الأشجار المتساقطة وهي ترقد في باطنها باطمئنان.
القديسة تقيم وحدها بالمحراب بعد وفاة المختار سيد المحراب وأبيها الروحي، على الرغم من محاولة الأصدقاء إثناءها عن ذلك، لذا كانوا يزورونها يوميًّا، وقد يقضي كثير منهم الليل معها بالمحراب، بل كانت سارة وآدم ومايكل فيما يُشبِه إقامة دائمة بالمحراب، أما سارة فكانت تجده المكان الذي يلهمها وينشط ذاكرتها ويدفعها قُدمًا على كتابة مُذكراتها، كان قبر المختار قد توسَّط الحديقة، تقع عليه ظِلال الأشجار الباسقة، وهو ما بين الدومتين العجوزتين، شيَّدت عليه القديسة وأصحابها قبة ضخمة، فأصبح كقبرٍ لأحد أقطاب الصُّوفية في وسط البلاد الكبيرة، وهو أيضًا مزار يؤمه الأصدقاء والأصحاب والمريدون. لم يكن بالأمر السهل على القديسة أن تتجاوز أزمة موت المختار، لم يكن سهلًا أن ترى العالم في غياب حكمته اليومية وطلعته وابتسامته، بل في عمق نفسها ما كانت القديسة تظنُّ أن المختار قد يموت، بل كانت توقن أنه هو الذي سوف يشرف على دفنها. لم يأتِ أحد من أقاربه ليسأل عنه طوال هذه السنوات الثمانية التي مضت منذ أن فارَقَ الحياة، وإنه قد جاء من العدم وعاد إلى العدم مرة أخرى. كان صديقها أمين محمد أحمد يقول لها دائمًا كلما طرقَا سيرة المختار: المختار كان مجرد فكرة في رءوسنا، ولا وجود فعلي له، وربما إذا نبشنا قبره فلن نجد فيه شيئًا.
أشياء كثيرة تغيَّرَتْ منذ أن توفي المختار، تغيَّرَتِ السُّلطة السياسية بانقلاب عسكري، وقعت اتفاقات سلام مع فصائل إقليمية متمردة، أهمها اتفاقية السلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان، نشبت حرب أخرى ضَروس ما بين الحكومة ومواطني دارفور، مات فيها الآلاف وتشرَّدَ الملايين. أما على مستوى الأصدقاء، فقد كان الأمر مختلفًا، فسارة بالذات التي أخذت تنعم بالحرية بدأت حياتها من جديد، تمكَّنَ أمين محمد أحمد من الزواج من نُوار سعد أستاذة الفنون، وهي في الحقيقة تكبره بأعوام كثيرة لم يستطع أحد التحقق منها، وسيُحكَى في الصفحات القادمة الكثير من هذه المغامرة العجيبة التي خاضتها نُوار وأمين محمد أحمد، لا أدري ماذا يكون تعليق المختار على هذا الأمر إذا كان حيًّا، لا بدَّ أنه سيندهش، ولكنه — كما أعرفه — لا يرفض العلاقة على كل حال.