في القرية: ابتسامةُ الرملِ
كان وجهُ السماءِ المُورَّد يُوقظ واحةً إلى العاشق البدوي.
توقفت عربة نُوار سعد التي يقودها أمين عند منزل قديم مهجور في وسط تلٍّ من الرمال مشرف على النهر، تجمَّعَ قليل من الأطفال ذوي البشرة الترابية والملابس الغبشاء، يلتفون حول العربة ويتفرسون الغرباء. جاءت امرأة عجوز منسلة من شيخوخة المكان، تتوكأ عصًا من الصفصاف، فاجأتنا قائلة: سلام يا بت سعد.
ردَّتْ عليها: أهلًا أمي أم الخير، كيف حالك؟
رغم مرور الأعوام الكثيرة تعرفتْ عليَّ وتعرفتُ عليها، عشرون عامًا منذ أن تَمَّ آخِر لقاء بيننا، حدث ذلك عندما توفي والدي سعد، وأتذكر أنها آخِر مَن ودَّعَنا أنا ونور، التي كانت تقيم مع أبيها وحدهما بالقرية.
– جيتي تشوفي البيت؟ ناس القرية كلهم رحلوا؛ كل الشباب والناس اللِّي فيهم فايدة، وخلونا نحن العجايز وشوية أطفال، لمَّان يكبروا هم برضو حيمشوا الخرطوم أو بلاد بره.
– وين الخير يا أمي؟
– ديل هم عيالو، هو يعمل في الساقية، وغير الخير ما في راجل في القرية كلها يقولوا عليه. الخير وشاب شابين وبس … كلهم سافروا.
من على بُعد عشرات الأمتار ظهرت ابتسامة الخير واضحة جليَّة، وبَدَتْ أسنانهُ البارزة للأمام قليلًا أكثر بروزًا وهي تعكس أشعة شمس الظهيرة الحارقة، ارتمى ومن غير تحفُّظ في حضن نوار سعد، وكأنه حبيب عائد من آلاف السنين، لفَّها بجلبابه الكبير ويديه الطويلتين، احتضنته نوار سعد بطفولية حميمة، ظهَرَا وكأنهما سيصيران شخصًا واحدًا إذا استمَرَّا في عناق كهذا لثانية أخرى. هذا ما لا يعجبني في نوار سعد؛ إنها تتعامل مع جميع الناس مباشَرَةً دونما تمييز للنوع، وأحسست حينها أنها بعيدة عني، بعيدة جدًّا، بل لا أعرفها، ثم انتبه لي الخير ورمى بنفسه في حضني بنفس التلقائية، ووجدتُ نفسي أحتضنه، حلف علينا بالطلاق مباشَرَةً إذا لم نذهب معه إلى المنزل. قدمتنا نُوار بمرح: دا زوجي أمين محمد أحمد، أمين دا الخير.
سأل الخير مُندهشًا: زوجك!
قالت له نوار وهي تنظر إليَّ وكأنها تراني لأول مرة: أيوا، أمين محمد أحمد زوجي.
قال وهو يمشي أمامنا في خطًى واسعة نحو بيته: أهلًا، أهلًا وسهلًا.
أمه التي يبدو أنها لم تسمع شيئًا من الحوار كانت مشغولة بإعطاء الأوامر للأطفال بأن يحضروا ماءً للشرب بأسرع ما يمكن.
طفنا القرية خرابة خرابة، وطللًا طللًا، هنا كان دكان اليماني صالح، هنالك طاحونة المجنون دودا، شوف، شوف الكوشة اللِّي جرحتني فيها قزازة، جرحٌ لا أنساه أبدًا، عند العالي، هيا نذهب إلى هنالك، عند تلك الربوة العالية كانت الأنادي، بقايا أغطية زجاجات البيرة والشري، عظام النيفة، البلاط الذي كانت توضع عليه البراميل، اللالوبة التي قُتِل فيها العوض ود جبريل، قتله سالم الجزار، هي اللالوبة ذاتها اللِّي مات تحتها سالم الجزار في خريف العمر، من هناك يبدأ السوق بعد الخور الصغير مباشَرَةً — خور الحلب — ويمتد إلى قرب النهر حيث الموردة والمراكبية النازلين من الجنوب، أو الطالعين إلى دنقلا، في المكان دا بالذات يا أمين كان يرقد أبوي الله يرحمه وهو سكران واقف ظمبرليلي، وحوله كلابه وقُربه نور ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه، حتى أمي نفسها عليها رحمة الله. كان الأطفال القلائل الغبش ذوو الشفاه الجافة والأرجل الحافية المتشققة من سخونة الرمال وجفاف الجو وحرقان الشمس، يجرُون خلفنا، ويسألون: كم الساعة؟ الساعة كم؟
بعض الكلاب العجفاء بين هنا وهناك تنبح في ذُعر وغضب، استطاعتْ نوار أن تميِّز أحد الكلاب، وتؤكد على أنه من سلالة كلاب والدها، وأيَّدَ ذلك الخير.
– أمين، شايف الخراب دا، كان في يوم من الأيام جنة.
ابتسمتُ، وكنتُ أعرفُ وهي أيضًا تعرف أن تلك الجنة كانت نوار وأسرتها فيها مشرَّدين، ويفتك بهم الجوع، ونصيبهم منها نصيب الطير، وهي نفسها قصَّتْ لنا ذلك فيما قبلُ.
– أمين، الأنادي دي كانت احتفالية شعبية مُدهِشة.
الجروف، المزارع، النيل، السُّوق، عم محمد زين بائع النيفة ود دينار، أوشيك، ود الكشيمبو بت كرار، حريرة أم جبرين، حواية بت أم دقة، كرارية، بت جادين، ود النذير وحوش ود النذير … عبد الله على الله، الرفاعي، طيارات، كبسون السماك.
– هناك، تتذكري، جنب حلة الشراميط، الله يرحمه ود النذير.
– كان راجل شهم.
– أمين، حأحكي ليك في يوم ما عن ود النذير وكلبه اللِّي عنده فك واحد.
كانت نوار سعد مثل طفلة صغيرة، استيقظتْ فجأةً ووجدتْ اللعبة التي تحبها وتحلم بها، سنوات من الطفولة المعذبة الطويلة. كانت فَرِحة ومبتهجة وهي تقفز على الرمال والخيران وبقايا المنازل القديمة المهجورة الجميلة، وهي تسأل، تجيب، تبحث وتتذكر، تتكلم بدون انقطاع، تربت على رءوس الأطفال؛ تعطيهم بعض العملات النقدية، تقبض على يد الخير فجأةً …
– أمين، أنا والخير دا لعبنا سوا، دخلنا المدرسة في يوم واحد، تتذكر يالخير، مدرسة الجُبوراب المبنية من الكرانك.
في تلك الليلة التي قضيناها في منزل الخير أعطتني نوار سعد نفسها بعمق وحب لم تفعله من قبلُ ولا من بعدُ، فيما بعدُ عرفت أنها ما كانت تهب نفسها لي أنا بالذات، ولكن كان ذاك هو الخير، كانت ترقد معي وتقبِّلني وتهبني الحياة واللذة العظيمة والألم والحب، جسدي أنا: روح الخير، وربما كان العكس صحيحًا أيضًا، روحي أنا وجسد الخير.
قالت لي ذات يوم وهي مخمورة: الليلة التي قضيتها مع الخير في القرية كانت أسعد لحظات حياتي.
ذبح لنا الخير عند الفجر حَملًا سمينًا، أكلتْه النسوة الجيران معنا، تجمَّعَ بعض الشيوخ والأطفال تحت الراكوبة الكبيرة، وأخذوا يعيدون شريط الذكريات ويحكون عن أبنائهم المغرَّبين وأصدقائهم الذين عبروا للحياة الأخرى، عن القرية التي أصبحت خرابة كبيرة، حتى النيل لم يَعُدْ كما هو … وَدَّعْتُ أهل القرية، وعدتهم بأنني سأزورهم كل عام، وعدهم أمين أيضًا بذلك، قد أحب الجميع، ولو أنهم سخروا قليلًا مني؛ لأنني تزوجت «شافع» صغير، قالت لي امرأة عجوز في مكر، وكانت تعرف كما عرفت القرية كُلها في اللحظات الأولى لقدومنا أن أمين هو زوجي: الود دا راجلِك ولَّا سواق؟
– راجلي يا أمي.
– مُش كان أخير ليكي تعرسي الخير يا بتي؟
ضحكتْ زوجة الخير زينب الصغيرة وأكَّدَتْ أنها ترحِّب بالفكرة، فقط عليَّ أن أطلِّق أمين، والشرط الآخَر أن تذهب هي وعيالها، والزوجة الأخرى زينب الكبيرة وعيالها أيضًا معنا إلى السكن في الخرطوم في صحبة الخير. ضحك الجميع ولكنني فهمت الدرس.
أنا والخير نحتسي الشاي في ديوانه الكبير بعد أن غادَرَ الذين جاءوا للتحية والتفرُّس في زوج نوار سعد الصغير، الذي هو أنا. كان يحكي لي حكايات جميلة عن المكان والناس والحيوانات؛ حميره، كلابه ونسائه، وقال لي بصورة واضحة وبلذَّة غريبة أنه زوجٌ لنساء كثيرات بالحلة وبالقرى القريبة، وعندما سألته ما إذا كان ذلك تحت مظلة شرع الله ورسوله، قال: مُش بعيد شديد عن شرع الله ورسوله … يعني.
قلت له إنني لا أفهم، قال وهو يصب لي مزيدًا من الشاي: البلد دي كُلها نساوين، وأنا الراجل الوحيد، يعني أعمل شنو؟
قلت له ضاحكًا مُدَّعِيًا أنني فهمت: الضرورات تبيح المحظورات.
قال وكأنه لم يفهم ما أرمي إليه، أو أنه يريد أن يقول شيئًا آخَر لم أفهمه أنا، أو ربما يريد أن يضللني: الزواج سُنَّة.
ثم سألني سؤالًا مباغتًا: لييه ما تتزوج مرا تانية؟ أنت لسع صغير وبإمكانك تتزوج وتنجب، والبنات كتيرات.
قلتُ له مراوغًا: ما أظنني أتزوج زُولة تانية مع نُوار.
وكدتُ أقول له أنني أُحبُّ نُوار، لولا أنني استدركت أنَّ ذلك قد لا يعني شيئًا لدى معظم الناس بالريف، بل قد يعتبرونه ضعفًا إذا لم يكن قلة أدب.
فصبَّ لي كوبًا من الشاي آخَر في ذات الكوب الذي فرغت من شُربه للتو، قال متجاهلًا ردي بصورة تامة: أنا حآجي الخرطوم.
أخذ الخير عنواننا في الخرطوم وقال: عندما ينزل للخرطوم سيمرُّ علينا أولًا، ثم إلى بيت أخيه حمد مدير الضرائب.
كانت نوار سعد تغطُّ في نوم عميق طوال الرحلة، منذ أن اتخذنا طريق الأسفلت العام، ولم تستيقظ إلا عند مشارف الخرطوم، حيث تولَّت هي القيادة ونمتُ أنا، وحلمت بالمختار ومايا العزيز يجلسان تحت شجرة عرديب ضخمة في الجنة، وهما يلعبان الشطرنج بقطع مصنوعة من الزجاج الشفاف، قال مايا العزيز لي، وهو يحرك قطعة كبيرة في حجم إنسان طبيعي: كش ملك.
استيقظتُ على شجار عادةً ما يجري بين نوار سعد وعسكر نقاط التفتيش. نمت مرة أخرى، حلمتُ بالخير يراودني عن نفسي، استيقظتُ على شجار نادرًا ما تلجأ إليه نُوار سعد مع رجال شرطة المرور.