من «نابليون» إلى مصر!
لقد كان يُفكر جيدًا؛ ولذلك فإنه لم يندفع إلى الأمام، ولم يتراجع إلى الخلف؛ فهو يُدرك أن أي اتجاه منهما يجعله تحت سيطرة أي رصاصة، سواء من الباب الأيمن للسيارة، أو من الباب الأيسر. وهو يُدرك أيضًا، أن أفراد العصابة قد استعدوا تمامًا لكي يقضوا عليه، فإذا استطاع أن يقفز مُبتعِدًا عن طريق السيارة، فإن رصاصة واحدة يمكن أن تُنهي الموقف؛ ولذلك فقد تصرَّف بطريقة لم يُفكروا فيها؛ فقد قفز قفزة عالية، جعلته يرتفع أعلى من سقف السيارة، التي فرَّت مُندفعة في سرعة، وكانت هذه مفاجأة لهم. وقبل أن يُفكِّروا في أي تصرُّف آخر، کان «أحمد» قد اختفی!
لقد شاهد السيارة وهي تقف فجأة بعد أن تجاوزته، وفي سرعة كان اثنان قد نزلوا، لكنه كان يدرك كل هذا. ولهذا، فلم تكد قدماه تلمسان الأرض، حتى قفز قفزة واسعة، جعلته يقطع الشارع الضيِّق، ويختفي عند أوَّل مبنًى. كان بيتًا مُكونًا من أربعة أدوار، والباب مغلق. التصق بالباب؛ حتى یری ما سوف يفعلونه. تحرَّكت السيارة مرة أخرى، وانطلقت في شارع «الشانزليزيه»، في نفس الوقت الذي تقدَّم فيه الرجلان معًا، في نفس الاتجاه الذي اختفى فيه. كان يراهما وهما يتقدَّمان ناحيته؛ استعدَّ حتى لا يُفاجأ بأي حركة منهما. توقَّف الرجلان لحظةً، وبدآ يتكلَّمان بصوت منخفض؛ فلم يستطع أن يسمعهما. كانا يبدوان كشبَحَين. لحظةً، ثم افترقا؛ كل منهما في اتجاه.
اقترب أحدهما منه، لكنَّه لم يتحرَّك من مكانه، وظلَّ مُلتصقًا بالباب كما هو. اقترب الرجل أكثر، وبدأت ملامحه تتضح أمام «أحمد». كان مفتول الذراعين، يبدو التجهُّم على وجهه، وكانت يده فوق مُسدَّس. انتظر لحظةً، حتى أصبح على مسافة تكفي لحركة قاتلة. وفي لمح البصر، انقضَّ على الرجل، حتى إنه لم يتحرَّك من مكانه، ولم يبدأ أي تصرُّف. لقد أدهشته المفاجأة! وفي لكمة قوية، كان الرجل يتراجع بشدَّة، إلا أن «أحمد» كان يُتابعه؛ حتى لا يُعطيَه فرصة التصرُّف، فعاجله بيمين مستقيمة جعلته يستمر في تراجُعِه. كان رصيف الشارع قد انتهى، فسقط في عرض الشارع. أسرع «أحمد» إليه، وضربه ضربة قوية جعلته يئِن من الألم، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا. لقد رفعه «أحمد» بين ذراعيه، حتى أوقفه على قدمَيه، ثم ضربه في وجهه ضربة خُطَّافية جعلته يتكوَّم على الأرض!
كان «أحمد» قد حفظ ملامح الرجل جيدًا، ولذلك قال في نفسه، بسرعة: إن هذا يكفي؛ فقد نحتاجه فيما بعد. ترکه مُكوَّمًا على الأرض، ثم قفز بسرعة في اتجاه أقرب مبنًى إليه. وعندما التصق بجدار المبنى، ألقى نظرة سريعة على المكان. كان ينتظر الرجل الآخر، غير أنه لم يظهر. تقدَّم ببُطءٍ بجوار الجدار إلى الشارع، ولم يكد يصل إليه حتى ارتدَّ بسرعة؛ لقد رأى الرجل الآخر مُقبِلًا.
كتم أنفاسه، وانتظر، وكانت خطوات الرجل تُسمع في هدوء الليل. ظل ينتظر تبعًا لصوت الخطوات، لكن فجأة اختفى الصوت. تسمَّع بتركيز شديد، لكن لم يكن هناك سوى الصمت. فكر أن يتقدَّم نصف خطوة؛ ليرى الرجل، لكنه تراجع؛ فقد يفاجئه؛ فربما كان الرجل فكر نفس التفكير.
مرَّت لحظات متوتِّرة، وكما فكر «أحمد» تمامًا؛ كان الرجل يتصرَّف. ففجأة، برز وجه الرجل عند بداية جدار المبنى. كان ضوء خافت يتسرَّب في الشارع الضيِّق، فيلقى بعضه على وجه الرجل. کتم «أحمد» أنفاسه، وانتظر، وعندما بدأ يخطو أول خطوة، كانت مؤخِّرة مُسدَّس «أحمد» قد نزلت كالصاعقة فوقه. وقبل أن يُفيق من أثر الضربة، وأثر المفاجأة، كان «أحمد» قد سدَّد إليه يمينًا مستقيمة أطاحت به، لكن الرجل كان من القوة بحيث تحمَّل الضربتين، فارتدَّ كالثور الهائج في اتجاه «أحمد»، الذي كان قد استعدَّ له. تلقَّى لكمة قوية استطاع أن يجعل أثرها ضعيفًا. في نفس الوقت، كانت عيناه على يد الرجل؛ حتى لا يستخدم مُسدسه، لكن الرجل كان قد فكر في ذلك فعلًا. وقبل أن تمتدَّ يده السريعة إلى المُسدس، كان «أحمد» قد انحرف بسرعة عند نهاية المبنى ليختفي.
لقد فكر بسرعة: إن المسافة لم تكن كافية، حتى يتمكن من اصطياده بضربة. لكنه يستطيع أن يصطاده من جديد. فإذا هرب، فإنه يكون مرشدًا آخر لبقية العصابة؛ فقد حفظ ملامحه أيضًا. دار «أحمد» بسرعة حول المبنى، لكن عند نهايته، رنَّت طلقة عند قدمه، فقفز قفزة كافية لأن يختفي عند المنحنى الجديد. لقد دخل في لعبة صيدٍ الآن؛ إما أن يصطاد الرجل، أو يصطاده الرجل! فكر قليلًا، وقال في نفسه: المؤكَّد أنه لن يكون وحده الآن؛ فسوف تعود سيارة العصابة، أو ينضم إليه أحد. إن أحسن تصرُّف الآن هو الاختفاء! بسرعة أخذ يُنفذ ما فكر فيه، وسار في الاتجاه المعاكس؛ فقد فكر في أنهم سوف يبحثون عنه في دائرة المكان.
ظل في طريقه يسير حذِرًا، حتى ابتعد تمامًا. أخذ اتجاه الفندق، ثم بدأ رحلة العودة. كان في طريقه يبتعد عن الأماكن المضاءة؛ حتى لا ينكشف. وعندما بدأ يقترب من الفندق، فكر لحظة: إنهم بالتأكيد يعرفون المكان الذي ينزل فيه؛ ولذلك فإنهم ينتظرونه! فهم يعرفون الفندق من رصدهم لموجة الإرسال القديمة. توقف لحظة، بينما كان الفندق يبدو أمام عينيه. قال في نفسه: إما أن أُدبر حِيلة لدخول الفندق؛ فلا يكتشفوني، وإما أن أُغيِّر الفندق الآن! لم يتخذ قرارًا سریعًا. تحرك من مكانه إلى منطقة أخرى أقرب، ثم قال لنفسه: إن الشياطين لا يتراجعون أبدًا، وسوف أعود إلى الفندق!
في لحظات، كان قد أخرج أدوات الماكياج من حقيبته السحرية الصغيرة، ثم أجرى بعض الخطوط على وجهه، ووضع شاربًا كثيفًا، ثم تحرك من مكانه. أخذ يقترب من الفندق على مهل، ثم فجأة خطرت له فكرة أخرى، يمكن أن تَصرِف نظرهم عنه تمامًا. لقد تصنَّع العرَج؛ أخذ يعرج في مشيته وهو يقترب، وكأنه مُصاب بعاهة. عندما أصبح أمام الفندق تمامًا، حيث تزداد الإضاءة، ابتسم ابتسامة خفيفة؛ فقد حدث ما فكر فيه تمامًا. لقد كان رجل العصابة يسير على مهَل قريبًا من الفندق، ثم أخذ يقترب منه.
فكر: هل يمكن أن يكتشفه الرجل وهو على هذه الهيئة؟ لقد تغير شكله، وتغيرت مشيته! … أصبح الرجل على بعد أمتار منه، لكنه لم يتردد. تجاوزه الرجل وهما أمام باب الفندق تمامًا. دفع باب الفندق، ثم دخل. ومن خلال الباب الزجاجي، شاهد الرجل وهو يبتعد. لم يكن أحد في صالة المكان، سوى موظف الفندق يجلس وحده؛ ألقى إليه تحية المساء، وكان قد اعتدل في مشيته، ثم اتَّجه إلى المصعد، وعندما توقَّف به عند الطابق الرابع غادره في حذر؛ خشيةَ أن يكون هناك مَن ينتظره.
في الطريق إلى حجرته، التي تبعد قليلًا عن باب المصعد، فکر: هل يمكن أن يكون هناك أحد في الغرفة، أو يكون هناك شرَك خداعي؟ قنبلة زمنية مثلًا، يمكن أن تنفجر بمجرَّد أن يفتح الباب! إنه يعرف أن العصابة لن تتردد في عمل أي شيء، حتى لو كان نسف الحجرة كلها وهو بداخلها. ولذلك، فعندما وقف أمام الباب، أخرج جهازًا دقيقًا للكشف عن المتفجرات …
وفجأة، اتسعت عيناه دهشة؛ لقد حدث ما توقعه. لقد تحرَّك مؤشر جهاز الكشف! فكر بسرعة: هل القنبلة مرتبطة بأُكرة الباب، فإذا أدار الأُكرة انفجرت؟ أو أنها قنبلة زمنية تنفجر في وقت مُعيَّن؟ …
قال في نفسه: إن الاحتمال الأول هو الأقوى؛ لأنهم لا يعرفون الوقت الذي سوف يعود فيه؛ ولذلك فتحديد الزمن مسألة صعبة. إذن، فلو أدار أُكرة الباب، فسوف تنفجر القنبلة. كيف يفتح الباب إذن؟ …
فكر لحظة، ثم نظر في ساعة يده؛ لقد كانت تُشير إلى الواحدة والنصف صباحًا. قال في نفسه: إن الشياطين على وشك الوصول، لكن المهم الآن هو دخول الحجرة وإبطال مفعول القنبلة. ظل يتأمَّل الأكرة؛ كانت مُثبَّتة بأربعة مسامير، داخل دائرة نحاسية. بسرعة، جاءه الحل؛ أن يفُكَّ المسامير الأربعة، وبذلك تخرج الأكرة من الباب دون أن يُديرها.
أخرج خنجره، ثم استخدم طرَفه في فكِّ المسامير. كان يفكُّها بحذرٍ؛ حتى لا يحدث أي خطأ. وفي دقائق، كان قد خلع الأكرة من مكانها. وبهدوء، وضع المفتاح في مكانه، ثم أداره، وفتح الباب. وقف لحظة يتأمَّل المكان؛ كان كما ترکه تمامًا. أضاء النور، فغرِقت الحجرة في الضوء، بعد أن كانت مُضاءة بتأثير الأضواء الخارجية للشارع. وقعت عيناه على خيط رفيع دقیق؛ عرف أنه الخيط الذي يوصل الأُكرة بمسمار القنبلة … مشي تبعًا للخيط؛ كانت القنبلة مُثبَّتة في السرير. وبحذر شديد، فكَّ الخيط عنها، ثم نزع فتيل الاشتعال، فأبطل مفعولها. عاد إلى الباب، وأخذ يُثبِّت الأُكرة كما كانت.
قال في نفسه: إذن لقد دخلوا الحجرة، لكنهم لا يملكون قنابل أحدث. إن قنبلة الضوء كانت تستطيع أن تُنهي هذه الحكاية، دون أكرٍ، ودون خيط؛ فهي تنفجر بمجرد أن يُضاء النور؛ لأنها تعمل بجهاز حسَّاس، ينفجر بتأثير الضوء.
ضغط زرَّ جهاز الكشف، وبدأ يدور في الحجرة؛ حتى يأمن وجود أي شيء. ظل مؤشِّر الجهاز ثابتًا لا يتحرَّك، فعرف أنهم اعتمدوا على هذه القنبلة فقط. جلس في الكرسي المريح، وبدأ يُفكِّر.
تناهى إلى سمعه صوت دقَّات ساعة؛ كانت تُعلن الثانية صباحًا.
ابتسم، وهمس لنفسه: لقد وصل الشياطين! … ولم یكد ينتهي من جملته، حتى كان جهاز الاستقبال يلتقط رسالة؛ كانت الرسالة من الشياطين. قالت الرسالة الشفرية التي استقبلها: «١ – ٢٣ – ١٣ – ٢٨ – ١ – ١٦ – ٢٨ – ٢٥» وقفة «٧ – ٢٨» وقفة «٢ – ١ – ١٠ – ٢٨ – ١٢» وقفة «٧ – ٢٥ – ٨ – ٢١» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٢ – ٦ – ٢٥ – ٢٢ – ٦ – ١٠ – ٨» انتهى. ترجم الرسالة بسرعة؛ كانت تقول: «الشياطين في «باريس»، فندق «الكونكورد».» تنفَّس «أحمد» في ارتياح …
أخيرًا، سوف تبدأ المواجهة الشاملة. إن العصابة الخفيَّة هي الوحيدة الآن التي تعرف أن هناك مَن يقف ضد أي انحرافٍ؛ ولذلك ينبغي القضاء عليها. أرسل رسالة شفرية إلى الشياطين: «٢٥ – ١ – ٢ – ٢٣ – ٢٨ – ٢٧ – ٢٥» وقفة «١ – ١٤ – ٨ – ١ – ٢٤» وقفة «٢ – ٨ – ١» وقفة «١ – ٢٥ – ٣ – ٢١ –٢٣» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٨» وقفة «٢٤ – ٢٢ – ١ – ٢٥» وقفة «١ – ٧ – ١٠» انتهت. وكانت الرسالة تعني: ««نابليون»، الصدام بدأ؛ انتقل إلى مكانٍ آخر!» …
بعد أن أرسل الرسالة، بدأ يُفكِّر في الخروج. فكر لحظةً، ثم أخرج خريطته الصغيرة، وبدأ يُحدِّد مكان الفنادق في «باريس»، وأقربها إلى فندق «الكونكورد» الذي ينزل فيه الشياطين. وقعت عيناه على فندق قريب منهم، يقع في نفس الميدان. كان اسم الفندق «إيجبت» ویعنی «مصر». ابتسم، وقال في نفسه: يجب أن أنتقل إلى مصر! … وفي دقائق، كان قد جمع حاجاته، ثم خرج.
كان الماكياج لا يزال يُغطِّي وجهه، وعندما دخل المصعد الذي لم يكن قد تحرَّك من مكانه، ألقى نظرة سريعة على المرآة المُثبَّتة أمامه، ثم ابتسم. لقد كان شخصيَّة مختلفة تمامًا، حتى إن الشياطين يمكن ألا يعرفوه. توقَّف المصعد عند الطابَق الأرضي، فخرج في هدوءٍ، واتَّجه إلى موظَّف الاستعلامات، وأنهى ارتباطه بالفندق، ثم اتَّجه إلى الباب. ما إن خطا خطوة، حتى تذكَّر أنه لا بُدَّ أن يستدعي تاكسيًا. عاد إلى الداخل، واتَّجه إلى التليفون، ثم أدار القرص وتحدَّث. حدَّد المكان الذي يقف فيه أمام فندق «نابليون». قال له المُتحدث: إن التاكسي سوف يكون عنده في خلال خمس دقائق. وضع السمَّاعة، ثم نظر في ساعة يده؛ كانت الثانية والنصف إلا خمس دقائق. فكر لحظة، ثم اتَّجه إلى أحد المقاعد المنتشرة في الصالة وجلس. إنه لن يخرج مباشرة؛ حتى لا يكون تحت أعين رجال العصابة، الذين يحاصرون المنطقة الآن؛ فبالتأكيد هم في انتظاره!
كانت عيناه على ساعة يده، بينما كانت أفكاره تعمل بسرعة. فكر: إن الخروج الآن مسألة لافتة للنظر، خصوصًا وأن التاكسي سوف ينقلني من فندق إلى فندق آخر. وإذا فُرض أن سائق التاكسي يعمل معهم، فإنه بالتأكيد سوف يعرف. إن استنتاجًا سريعًا يمكن أن يكشف كلَّ شيء. ظل مُتردِّدًا، ولم يقطع برأي نهائي، لكنه في النهاية فكر: هل يذهب إلى مطار «أورلي»، ويظل هناك حتى الصباح، ثم يعود من هناك إلى فندق «مصر»؟
كانت هذه فكرة جيدة، لكنه لم يُقرِّر بعدُ تنفيذها … فقد كانت الساعة الثانية والنصف تمامًا. ومن خلال زجاج الباب، رأى التاكسي يصل، ويقف أمام باب الفندق مباشرةً، ولم يكن أمامه إلا أن ينصرف؛ حتى لا يلفت نظر موظَّف الاستعلامات.