سائق التاكسي الذي خدع «أحمد»!
خرج «أحمد» من الفندق، بنفس مشيته التنكُّرية؛ كان يعرُجُ عرَجًا واضحًا، وعندما وصل إلى التاكسي، فتح الباب وهو يشير إلى السائق، الذي ألقى عليه نظرةً فاحصة، جعلته يشكُّ في الأمر، لكنَّه لم يكن يملك الآن فرصة التراجُع عن قراره …
فكر بسرعة، ثم قال للسائق: مطار أورلي؛ إن أمامي ساعة واحدة فقط …
هزَّ السائق رأسه، ثم انطلق. كان «أحمد» قد جعل السائق تحت عينيه تمامًا؛ حتى لا يأتي بحركة مفاجئة. وإن كان قد فكر — في نفس الوقت — أن السائق إذا كان منهم، فإنه لن يشكَّ فيه، فإن هيئته الجديدة لا تلفت نظر أحد …
عندما خرج التاكسي من «باريس» إلى مطار «أورلي» الذي يقع خارج المدينة، بدأ سائق التاكسي يتحدَّث. لفت ذلك نظر «أحمد»؛ فهو يعرف أن سائقي التاكسي في أوروبا لا يتحدَّثون مع الركَّاب، إلا إذا تحدَّث إليهم أحد؛ ولذلك، فقد بدأ يشكُّ في الرجل، وفي نفس الوقت بدأ يكون حذِرًا.
قال السائق: لعلك قضيت وقتًا طيِّبًا في «باريس»!
رد «أحمد»: نعم … إن «باريس» مدينة رائعة!
السائق: هل السيِّد من «إسبانيا»؟
کان «أحمد» يرى وجه السائق في مِرآة السيارة، فابتسم قبل أن يقول: ولماذا «إسبانيا» بالذات؟!
السائق: إن لون الإسبانيِّين مُميَّز!
أحمد: ولماذا لا أكون من «البرازيل» مثلًا، أو «الهند»؟
السائق: البرازيلي لونه يكاد يكون أسود، والهندي شعره غزير كالليل، وأنت لست كذلك!
ضحك «أحمد» بصوت مرتفع، وكأنه يخلق نوعًا من العلاقة الطيِّبة مع السائق. قال في النهاية: لست من إسبانيا مع ذلك!
السائق: من أين إذن؟
أحمد: من مصر.
ابتسم السائق، وظهرت أسنانه الصفراء قليلًا، ثم قال: لعلَّك رأيت مِسلَّتكم إذن!
ردَّ «أحمد» بابتسامة، وقال: نعم … ثم ضحك وهو يُضيف: لقد فكرت في اصطحابها معي!
ضحك السائق، وقال: إنها أثر عظیم؛ نحن فخورون بأنها عندنا، ولعلَّك رأيت اهتمامنا بها!
كان الحديث رقیقًا وهادئًا؛ ولذلك فقد بدأ «أحمد» يُلغي فكرة الشك فيه. سأل بعد لحظة: هل رأيت الملك «توت عنخ آمون» عند زيارته لكم؟
قال السائق بأسَفٍ: لقد حاولت یا سیِّدي، لكن الزحام كان شديدًا على الملك؛ فلم أستطع مشاهدته! غير أني أنوي أن أزور بلادكم، عندما أدَّخر ما يكفي لأن أقضي وقتًا مُمتِعًا في بلادكم الجميلة!
كان الليل يحوط كلَّ شيء، وكانت الأضواء هادئة على جانب الطريق. في نفس الوقت، كان «أحمد» يعرف أن المطار لا يزال بعيدًا. قال في نفسه: إن الحديث مع الرجل، يمكن أن يقطع الوقت، وإن كان ينبغي أن أُرسل للشياطين، حتى لا يشعروا بالقلق. غير أنه لم يُنفِّذ أيًّا من الفكرتين؛ فلم يكن بحاجة إلى الحديث من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن باستطاعته الآن أن يرسل الرسالة؛ فهو يعرف أن السائق ينظر إليه بين كلِّ لحظةٍ وأخرى. فجأةً، شَمِل التاكسي ضوءٌ قوي؛ كانت هناك سيارة قادمة من الخلف، تُرسل أضواءها القويَّة. رفع السائق يده وغطَّى المِرآة.
فقال «أحمد»: لِمَ لا تُغيِّر اتجاهها؟
ردَّ السائق: إن الضوء قوي بدرجة عالية، حتى إنني لا أكاد أرى.
بدأ يخفض سرعة السيارة وهو يقول: فلنتركها تمضي.
اقتربت السيارة الخلفية أكثر، وبدأ «أحمد» يشك في الأمر. قال في نفسه: لعلهم اكتشفوا خروجي من الفندق … أو لعلهم انتظروا انفجار القنبلة، فلمَّا لم تنفجر دخلوا الحجرة، فاستنتجوا في النهاية أنني خدعتهم.
بدأت السيارة الخلفيَّة تقترب بجوار التاكسي تمامًا. ألقى «أحمد» نظرة على مَن بداخلها، فعرف أحد الرجلين. فكر بسرعة: إن الموقف سوف يصل إلى الصِّدام، لكنَّه صدامٌ غير متكافئ، لكن لا بأس أن يبدأ … تجاوَزَت السيارة التاكسي، ثم توقَّفتْ أمامه فجأةً، غير أن السائق كان يقِظًا تمامًا، فانحرف بسرعة، وتفادى السيارة، ثمَّ انطلق.
قال السائق: يبدو أننا سوف نتعرَّض لبعض المتاعب …
سأل «أحمد» في هدوء: لماذا؟
قال السائق: ألم ترَ السيارة التي توقَّفت أمامنا فجأة؟! …
ردَّ «أحمد»: ظننت أنها اضطُرَّت إلى ذلك!
قال الرجل: لا، هذه ليست حركة سيارة تُصاب بعطل فجأةً؛ إنها حركة مقصودة! …
سأل «أحمد»: وماذا يريدون؟!
قال السائق: لعلهم يظنون أنك أحد الأثرياء!
ضحك «أحمد»، وقال: هل يبدو عليَّ الثراء؟! …
في نفس اللحظة، غمره ضوءٌ مُنبعِث من الزجاج الخلفي للتاكسي. نظر خلفه، لكنه لم يستطع رؤية شيء. لقد كانت إضاءة السيارة قويَّة تمامًا، لدرجة أنه اضطُرَّ إلى أن يُغلق عينيه!
سأل «أحمد» السائق: هل تستدعي الشرطة؟
قال السائق بعد لحظة: سوف أنتظر؛ ربَّما يكون ما حدث مُصادفةً! …
في نفس الوقت، كانت هناك سيارة آتية من الاتجاه المقابل، لكنها لم تكن تُعطي نفس الضوء القوي. اقتربت السيارة الخلفية، لكن اقترابها كان يبدو محسوبًا هذه المرة. بعد لحظات، تجاوزت التاكسي بسرعة مفاجئة، ثم سبقته. وبنفس المفاجأة، توقَّفت بعرض الشارع، لكن سائق التاكسي كان يقِظًا تمامًا للحركة التي حدثت؛ فقد داس فرامل التاكسي بقوَّة جعلته يزحف ويُصدر صوتًا عاليًا. في نفس الوقت، قال السائق: هذه حركة أخرى مقصودة. لقد فكروا أنني سوف أتفادى سيارتهم التي تقف بعرض الشارع، فأضطرُّ للخروج إلى الجانب الآخر من الطريق، فأصطدم بالسيارة القادمة …
كانت السيارة القادمة تمرُّ في نفس اللحظة في الجانب الآخر، ورأى «أحمد» رجلين يُغادران السيارة بسرعة، وهما يُشهران مُسدَّساتِهما.
سأل السائق بسرعة: هل يحمل السيِّد أشياء ثمينة؟ … ابتسم «أحمد»، وقال: لا أحمل شيئًا سوى رأسي، إن كان يبدو ثمینًا! …
ضحك السائق بقوَّة، وكأنه قد فقد أعصابه. قال: إذن استعد!
سأل «أحمد»: ماذا تعني؟ …
قال الرجل وهو يتحرَّك بالتاكسي: سوف أدخل في معركة أظن أنك لا بُدَّ أن تشاركني فيها … إن هذا هو الحلُّ الوحيد …
دُهش «أحمد» لكلمات السائق؛ فهذا التصرف لا يفعله سائق تاكسي عادي. كان الرجلان يتقدَّمان في بطء، وقد شهرا مُسدَّساتهما، بينما كانت سيَّارتهما تقف بعيدًا قليلًا. فجأةً، أضاء السائق إضاءة قوية، جعلت الرجلين يضعان أيديهما على عينيهما. في نفس الوقت الذي اندفع فيه التاكسي بقوَّة عالية، بينما كانت يد السائق تُطلق طلقات متوالية من مُسدَّس كان يحمله، حتى إن كلًّا من الرجلين قد ألقى نفسه في جانب من الطريق، وبصعوبة استطاع السائق أن يمرَّ بجوار أحدهما؛ حتى لا يدوسه ويقضي عليه.
كان هذا يحدث في دقائق سريعة، لكن لم يكد التاكسي يتجاوز السيارة، حتى أطلقت الرصاص عليه. ولم يكن أمام «أحمد» إلا أن يدخل المعركة، فهو حتى الآن لم يكن يدري شيئًا! لقد كان دهِشًا من تصرُّف السائق؛ إن ما يفعله لا يفعله سوى الشياطين، لكن، أين هم الآن؟
کانت السيارة الأخرى قد بدأت مطاردتها. فكر «أحمد» لحظةً، وفي هدوء، أخرج قنبلة دُخانيَّة؛ فقد كان يعرف أن أفراد العصابة لن يتركوه، ولن يتركوا السائق. وكان من واجبه الآن أن يقف بجوار السائق الذي أنقذه منهم … نزع فتيل القنبلة، وفي هدوء، بینما كان التاكسي ينطلق بسرعة كبيرة، أنزل زجاج النافذة، ثم انتظر.
قال السائق بسرعة: أغلِق الزجاج؛ إن الهواء قوي …
لم يردَّ «أحمد» مباشرة، فقد كان مشغولًا في هذه اللحظة بمراقبة سيارة العصابة من الزجاج الخلفي؛ کانت السيارة تقترب. قال في نفسه: إنها تسير بسرعة غير عاديَّة، ولا بُدَّ أنها سيارة خاصَّة للمُطاردات!
قال السائق مرَّة أخرى: أرجو أن تغلق الزجاج یا سیِّدي، وأن تُدخل يدك.
کان «أحمد» قد أخرج يده التي تحمل القنبلة، وانتظر أن تقترب سیارة العصابة إلى مسافة معقولة. اقتربت السيارة إلى المسافة التي يحتاجها، فألقى القنبلة، وبسرعة أغلق الزجاج … نظر خلفه، ورأى الدُّخان يملأ الطريق. كانت أضواء سيارة العصابة تُنير الطريق. لكنَّها اضطرت أن تُهدِّئَ من سرعتها؛ ولذلك فقد كان ضوءها يتباعد شيئًا فشيئًا.
في نفس الوقت، ابتسم السائق وهو يقول: إنها فكرة جيِّدة، أعرف أنك سوف تلجأ إليها!
نظر «أحمد» إلى السائق في دهشة، ثم سأل: وما الذي جعلك تعرف؟
ضحك السائق طويلًا؛ فقد كانت أضواء المطار تظهر، وتقترب. أعاد «أحمد» السؤال، غير أن السائق قال: بعد أن تُغيِّر السيارة، سوف تعرف كلَّ شيءٍ!
اتَّسعت عينا «أحمد» دهشة، وظلَّ ينظر في مرآة السيارة التي أعادها السائق إلى مكانها. كان وجه الرجل يبدو واضحًا فيها. حاول «أحمد» أن يتذكَّر أنه قابله يومًا، أو أنه أحد الشياطين قد اختفى تحت الماكياج، إلا أن ذلك كان مستحيلًا؛ فالشياطين لا يعرفون تفاصيل ما حدث، وإن كانوا قد عرفوا أن الصِّدام قد بدأ.
ضحك السائق ضحكة قويَّة، وقال: لا تحاول أن تُجهِدَ ذاكرتك؛ فقد نحتاجها في طريق العودة …
ابتسم «أحمد»، وقال: إن تصرُّفَك يُحيِّرُني يا سیِّدي! …
أجاب الرجل: لا بأس، ولا تدعني أكشف كلَّ أوراقي دفعة واحدة …
كان التاكسي قد دخل دائرة المطار، فقال الرجل بسرعة: يمكن أن تدخل الآن، وتُغيِّر شكلك مرَّة أخرى؛ حتى نستطيع العودة معًا. إنهم لا يعرفون شکلي؛ لم تكن أمامهم فرصة لذلك …
امتلأ «أحمد» بالدهشة، وتساءل: مَن يكون هذا الرجل؟ إن أحدًا لا يعرف ما حدث، ولا يمكن أن يكون لأحدٍ اتصال برقم «صفر» … وحتى رقم «صفر» لا يعرف ما حدث هذه الليلة …
كان التاكسي قد وقف أمام باب المطار. فقال السائق: سوف تنتظرك سيارة مرسيدس بيضاء، أرقامها سوف تعرفها عندما تراها …
ثمَّ ضحك الرجل مرَّة أخرى، وقال بعد أن فتح «أحمد» الباب ونزل: ينبغي ألا تتأخَّر؛ فإنهم سوف يكونون هنا حالًا …
لم يعد «أحمد» يُفكِّر؛ لم يكن أمامه الآن إلا أن يتصرَّف بسرعة، وأن يترك اكتشاف شخصيَّة الرجل إلى وقت آخر؛ ففي طريق العودة يمكن أن تظهر أشياء كثيرة. دخل صالة المطار، وبحث بعينيه عن مكان الحمَّام، وعندما وقعت عيناه عليه، أسرع في اتجاهه. دخل بسرعة؛ لم يكن أحد موجودًا. أغلق على نفسه الباب، وفي لمح البصر أزال الماكياج، ثم بدأ يضع ماکیاجًا آخر.
لم تستغرق العملية دقائق … فكر في نفس اللحظة أن يُرسل رسالة إلى الشياطين، ونفَّذ فكرته في الحال. كانت الرسالة شفريَّة، وكانت تقول: «الطريق إلى «أورلي»، المطاردة بدأت. سيارة مرسيدس بيضاء.»
فكر لحظة: إن هناك عشرات السيَّارات المرسيدس البيضاء، ولا بُدَّ من ذِكر الرقم! نظر لنفسه في المرآة. كان عقله يعمل بنشاط. فجأة توصَّل إلى نتيجةٍ ما، فغرق في الضحك. أكمل الرسالة: «الأرقام … شياطين …»
وفي لحظة، كان خارج الحمَّام. أخذ طريقه إلى الخارج بسرعة، ثم توقَّف أمام الباب. كان يريد أن يجعلها مفاجأة للسائق؛ ليرى إن كان سيعرفه أم لا. لكن مفاجأة أخرى كانت في انتظاره. لقد كانت سيارة العصابة تقف أمام الباب، خلف السيارة المرسيدس البيضاء التي عرفها بسرعة؛ فقد كانت تحمل أرقامًا لا يعرفها سوى الشياطين، وهي أرقام مستخدمة لهم في كل مكان، ولا تحملها سوى السيَّارات التابعة لرقم «صفر».
ظل في مكانه يرقب تحرُّكات أفراد العصابة. في نفس الوقت، وقعت عيناه على سائق التاكسي، الذي كان يجلس داخل السيارة في هدوء. وقف بطريقة جدِّية؛ ليرى إن كان السائق سوف يعرفه، وكانت دهشته شديدة؛ فقد نظر السائق له وابتسم، فعرف أنه كشفه!
في هدوء شديد، اتَّجه ناحية السيارة، وفتح بابها الأمامي بجوار السائق، وهو يبتسم ويقول: ما رأيك؟
قال السائق: رائع؛ لقد كانوا يقفون، دون أن يعرفك أحدهم …
ابتسم «أحمد»، بينما كان السائق يتحرَّك بالسيارة، وهمس: لقد عرفتك أنا أيضًا …
ضحك السائق وهو يقول: من الضروري أن تكون قد توصَّلت إلى ذلك. لقد قلت لك لا تدعني أكشف أوراقي مرَّة واحدة …
ضحك «أحمد»، وهو يقول: لكنَّها كانت خدعة جيدة! …