غرائب الوفاء عند الشريف الرضي
أيها السادة
أشرنا قبلًا إلى رجل من أصدقاء الشريف يقال له ابن ليلى، وهو رجل لم تتحدث عنه كتب التاريخ، وإنما نعرف أن اسمه عمرو؛ لقول الشريف وهو يرثيه:
ونعرف أن كنيته أبو العوام من قول الشريف:
والمفهوم أن ابن ليلى كان رجلًا عربيًّا من سادة البوادي، والمظنون أنه كان داعية للشريف، وتشهد أشعار الرضي أن بني تميم هم الذين قتلوا ذلك الصديق.
تلك هي ترجمة ابن ليلى، فهل كان يستحق أن يبكيه الشريف بأربع قصائد، وأن يجعله في قصيدة خامسة مثلًا أعلى لأشراف الرجال.
أن ابن ليلى رجل صغير القدر عند من تستهويهم عنعنات التواريخ، فلو كان لهذا الرجل شأن لأفاض في أخباره المؤرخون، ولكنا نرى أن ابن ليلى رجلًا عظيمًا جدًّا؛ لأنه ذكر بالحمد والثناء في أثر أعظم من كتب التواريخ وهو ديوان الشريف.
والحقّ أن شخصية ابن ليلى تعطينا صورة من صور الرضي، أو هي تدلنا على بعض مذاهبه في الحياة، ومن الواجب أن ننص بصراحة على صفة أساسية من صفات الشريف هي الفروسية، فقد كان الشريف الرضي فارسًا، وكان أبوه فارسًا، وكان أقطاب أسرته من الفرسان، وأبطال الفروسية لهم شمائل تقترب من شمائل الأعراب، فليس من المستغرب أن يكون للشريف صديق بدوي يحبه أصدق الحب، ويبكيه حين يموت بالقصائد الباقيات.
أضيفوا إلى هذا أن الشريف كان ورث عن أبيه صداقات كثيرة، صداقات بدوية أسسها في غدوه ورواحه بين العراق والحجاز، وكان الشريف وأبوه قد عرفا أقطاب البوادي، وشياطين الصحراء، وهما يحجان، وقد حجا مرات كثيرة بفضل المنصب الموروث، منصب إمارة الحج، ومن هنا جاز أن يقال أن ابن ليلى كان داعية الشريف، فليس من المستبعد أن يكون الشريف فكر في تكوين عصبية عربية يناهض بها خلافة بني العباس حين تسمح الظروف، وكان ابن ليلى من الذين اصطفاهم لتحقيق ذلك الغرض المرموق، ولكن ستظل هذه القضية ظنونًا في ظنون إلى أن يظهر ما يحققها من شواهد التاريخ.
والمهم أن نقرر أن الشريف تفجع على ابن ليلى أعظم تفجع، وشهدت أشعاره بأنه كان يرى ذلك الرجل من كرام الأصفياء، والواقع أن البوادي فبها كنوز من الشهامة، والفتوة، والمروءة، وهي عالم مجهول، ولكنه موجود، وكان من حظّ الشريف أن يعرف ما في ذلك العالم من شمائل وخصال.
لا نعرف بالضبط متى مات ابن ليلى، ولكن الأرجح عندنا أن أقدم قصائد الشريف في رثائه هي القصيدة التي نظمها في مطلع سنة ٣٩٣، والظاهر أن ابن ليلى قتل في ذلك الحين، فإن الشريف يقول:
وهي قصيدة بدوية النسج تشهد بأن الشريف أراد أن يلائم بين سمات المبكي، وبين سمات الأسلوب، وفيها يقول:
وفيها توجع الشريف أعنف توجع إذا يقول:
وهناك قصيدة أخرى سلكت هذا المسلك الوعر، أرق ما فيها قوله:
ولكن الشريف سيترك هذه الوعورة، ويبكي ابن ليلى بالشعر السمح كأن يقول:
وهو يحدثنا أن ذلك الرجل كانت إليه قيادة العرب إذ يقول:
ثم يختم القصيدة بأقباس الالتياع فيقول:
وما زال الشريف يبدئ ويعيد في التفجع على ابن ليلى حتى ذهب الحزن به كل مذهب، فخلد ذكره بقصيدة قليلة الأمثال، إذ يقول:
وكان الشريف يذكر ابن ليلى كلما ضجر في أسفاره، فكأنه كان يراه ملك البيداء.
أيها السادة
ليس الذي يهمني في هذا المقام هو النص على وفاء الشريف، وإنما الذي يهمني هو تعليل ذلك الوفاء، فالشاعرية التي كانت تتفجر في صدر الشريف هي التي جعلت الدنيا أمام عينيه منادح للأطراب والأشجان، فإذا كان من الشعراء من يتكلف أسباب الحنين فيتفجع لغروب الشمس، أو يتوجع لسقوط الأوراق في الخريف، فإن الرضي يجد من نوائبه الوجدانية ينابيع للحزن لا تنضب، ولا تغيض.
والحزن أيها السادة طيف أسود، ولكنه محبوب، والشعراء هم الذين جعلوا وصف الحزن من الشرائع الإنسانية، والحزن لا يكون دائمًا صفة سلبية كما يتوهم بعض الناس، فهو حين يسمو يكون دليلًا على عافية القلب، وسلامة الروح، ولا يحزن حق الحزن إلا الأصحاء.
إن الحزن العنيف هو الشاهد على قوة شعورنا بما نفقد، وهو الدليل على أننا نحاول العظائم، فنطلب الخلود لكل ما تصطفي أرواحنا في عالم المحسوس والمعقول.
وما كان الشريف يبكي أحبابه مرة واحدة، ثم يلوذ بالصمت، لا، وإنما كان يصل أحبابه بالذكرى والحنين؛ فلا يفقد منهم غير الوجود الملموس، فطريق الحج على طوله في تلك العهود كان يمثل للشريف أممًا كثيرة من عوالم الأحياء والأموات، ولعل ظهور الخيل لم تعرف فتى أقوى شاعرية من ذلك الفتى البكاء، والفرح والترح يفيضان من ينبوع واحد، لو تعلمون.
أليس من العجيب أن يسأل الشريف بكاء ميت لا يعنيه فيقول:
ومعاذ الأدب أن يكون الشريف في هذه القصيدة كالنائحة المستأجَرة، وهل كانت النائحة المستأجرة تعني حقًّا من دعيت للبكاء عليه؟ إنها تبكي ودائعها في التراب، فهي نائحة ثكلى مفطورة الفؤاد.
ويظهر جانب المروءة من وفاء الشريف حين نتذكر بعض المواقف التي تجلَّت فيها شجاعته، فقد اتفق لرجل من عظماء بغداد أن يتألب الجمهور عليه لبعض الأسباب، وكان لذلك الرجل كثير من الأصدقاء والأشياع، فلما مات خاف أصدقاؤه وأشياعه عواقب التفجع عليه، فلم يمشِ في جنازته غير ثلاثة منهم الشريف، وفي هذا الحادث البشع يقول:
ومن هذا الباب جزع الشريف على أصدقاء لم ترفعهم مواهبهم، ولا مقاماتهم لمرتبة النص على أسمائهم في الديوان، وهم ناس كانوا في صدر الشريف معارف، وكانوا في زمانهم نكرات، وهؤلاء الأصدقاء المجهولون لا يعرف أقدارهم غير الشعراء، وهل من العدل أن يغلق باب الصداقة فلا يفتح إلا لمن ظفروا بالشهرة وبعد الصيت؟ أليس من حق الشاعر أن يقول: إن أخلص من ودعوني يوم الفراق هو كلبي؟!
وما هذه الغطرسة التي نعتصم بها فلا نهب معاني المودة لغير المشهورين؟ وهل كان المشهورون أصدق من نعرف حتى نقف عليهم لواعج الشوق والحنين؟
كم رجل حرمته الطبيعة أسباب التفوق في الميادين المعاشية والأدبية والسياسية، ثم وهبته قلبًا يشعر، ولسانًا لا يبين!
كم رجل خامل الذكر صغير الشأن يقبل عليك بنفس تواقة، وقلب حنان!
كم امرأة أمية لا تعرف غير شؤون البيت، ثم تمد زوجها بأرواح من القوة والفتوة لا تقدر على مثلها المتخرجات في السوربون!
إن الصداقة لها منابع غير منابع العرفان، والرجل العالم لا يصادق إلا حين يرجع إلى الفطرة الأولى، فطرة الإنسان الحساس.
فلا تلوموا الشريف إن رأيتموه يرثي ناسًا لم يسمح مقامه الاجتماعي بذكر أسمائهم في الديوان، فتلك وثبة فطرية لا تصدر إلا عن كرام الرجال.
وإن وقفات كهذه لأشرف من وقفاته وهو يرثي رجلًا من بني أمية، أو رجلًا من بني العباس؛ لأن في بكاء العادلين من الخصوم لونًا من الأثرة، وحب الإعلان، أما بكاء المغمورين المجهولين فهو فيض من الطبع الصادق، والإحساس الأمين.
ومثل الشريف في هذا الباب مثل الفنان الذي ينحت التماثيل، فهو دائمًا يوهم الجمهور أنه يضع تمثالًا لامرأة مجهولة، أو رجل مجهول، هو يخدع الناس حين يوهمهم أنه لا يهتم بغير تمثيل المعاني، ولو أبيح له أن يفصح لقال إنه لا ينظر إلى النموذج، وإنما يستوحي صورة هي بعض ما في ضميره من دفائن الكنوز.
وقد اهتديت إلى هذا المعنى لطول ما عاشرت المثالين، فقد صحبت المسيو بلانشو وهو يضع تمثال العارية، وصح عندي أن في التمثال شمائل لم تكن في النموذج، فأدركت أن المثال يستعين النموذج على تذكر ما كان فتن به في عالم العيان.
فالشريف يجسم معناني الأخوة وهو يبكي أصدقاءه المجهولين، وهو أيضًا يشرع للناس مذاهب الوفاء، وللشعر في صدر ذلك الرجل جوهر لا يملك مثله إلا من اصطفاهم الله للتعبير عن حقائق الوجود.
أيها السادة
إنكم في غنى عن التذكير بما في آداب المجتمع من أوهام وأغاليط، فلا تضق صدوركم حين يطوي الشريف أسماء فريق من الذين سكب على قبورهم شآبيب الدمع السخين، وإنما أرجوكم أن تتمثلوا ديوان شعره شبيهًا بمصانع الرسامين والنحاتين في القديم والحديث، فليس يعلم إلا الله من الذين يعنيهم فنان مثل أحمد راسم، أو فنان مثل محمود سعيد، كما لا يعلم إلا الله من الذين كان يعنيهم البحتري وهو يفتتح قصائد المديح بالنسيب.
إن قلب الشاعر كالغابة الشجراء، لا يعرف مجاهلها غير الأيقاظ من الأدلاء، وقد دللتكم على قلب الشاعر الذي اسمه الشريف؛ لأنه أقدم صديق عرفته في بغداد، وإني لأرجو أن يعذرني حين يراني نممت عليه، فما أذكر أننا تعاهدنا على كتمان هذه الأحاسيس.
وإليكم شواهد من شعره في بكاء المغمورين، قال من قصيدة:
وقال من قصيدة ثانية:
وقال من قصيدة ثالثة، وهي في رجل كانت له شخصية، ولا نعرف السبب في طيّ اسمه عن الناس:
أيها السادة
هناك جانب من غرائب الوفاء عند الشريف هو بكاء النساء، وهذا أغرب الجوانب، وهو يحتاج إلى تأمل ودرس، ولا نعرف بالضبط كيف نشأ هذا عند الشريف، فقد كان من المألوف في التقاليد العربية أن لا يبكي من النساء غير المعشوقات، وبكاء الأمهات والحلائل باب من النبل، ولكنه في شعر العرب قليل، فقد لا يساوي واحدًا من خمسين إذا أحصينا ما قيل في الرثاء، فكيف اتفق للشريف الرضي أن يكثر من تعزية الناس في أمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم؟
إن هذه الظاهرة ليس لها عندي غير تعليل واحد، هو أن الشريف الرضي كان (ابن أمه) كما يعبر المصريون حين يداعبون من يغضبون لأمهاتهم من الأطفال.
ونحن نعرف أن أيام البؤس في حياة الشريف مضت وهو في رعاية أمه الرءوم التي باعت أملاكها، وحليها لتقيه، وتقي أخاه ذل العوز والاحتياج.
والأم الرءوم لم تجد من يؤرخ فضلها في اللغة العربية، ويندر بين كتاب العرب من يقول: حدثتني أمي، وأنبأتني أختي، وأخبرتني حليلتي، وإن كان في شعرائهم من يقبل النعال في أقدام الملاح!
وما أريد أن أطيل القول فيما أثر عن العرب والهنود من بغض البنات فذلك معروف، وإنما أريد أن أقف عند هذه النزعة النبيلة من نزعات الشريف، وأنا أجزم بأنه كان يرى المرأة في صورة أمه، تلك الأم التي وقته مكاره الحياة في السنين العجاف يوم أودع أبوه غياهب الاعتقال.
والحق أن اللغة العربية كانت تحتاج إلى من يمجدون الأمهات، والأخوات، والبنات على نحو ما وقع في اللغات الأجنبية، فإن المرأة عناصر من العطف والتضحية لا يدركها إلا ذوو الألباب، وصاحبنا الشريف قد وفق في هذه الناحية كل التوفيق.
ورثاء الشريف لأمه يشهد بأنه كان يفهم قيمة هذا المذهب النبيل، فهو يجعل موتها بابًا لشماتة الأعداء؛ إذ يقول:
والتصريح بأن موت الأم باب إلى الشماتة هو أعظم تمجيد لكرائم النساء.
وهو يصرح بأن أمه كانت تقيه النوائب، وتنفق عليه وتواسيه، فيقول:
إلى أن يقول:
وهذا البيت يتضمن صورة حسية لا يصرح بها إلا شاعر يفهم الحقائق، فهو يرى حياته في بطن أمه دينًا واجب الأداء.
وكذلك صح لهذا الشاعر الإنساني أن يعزي بعض الناس في بنت ماتت بعد بنت، فيقول من قصيد طويل:
ولكن ما بالنا نحصر أسباب هذه العاطفة فيما تلقاه الشريف عن أمه الرءوم؟ ما الذي يمنع من افتراض أن تكون هذه المعاني أوحيت إليه من التعرف إلى كرائم النساء؟ ما الذي يمنع من التصريح بأن أشراف الرجال لا تخلو حيواتهم من مودات شريفة نبيلة يضمرونها لبعض العقائل المصونات؟ ما الذي يمنع من القول بأن في بنات الأعمام والأخوال ظلالًا من العطف نلوذ بها في هجير الحياة؟ بل ما الذي يمنع من القول بأن في بعض الأجنبيات نفحات من الرفق نتنسم بها أرواح الفردوس؟
وهل قضى علينا سوء الطالع أن لا تكون صلاتنا بالنساء إلا شبهات تحوطها شبهات؟
إن تلك المعاني السود لا ينبغي أن تطيف بأخيلة الكرام من الرجال، فللرجل النبيل كل الحق في أن يشغل قلبه وذهنه بشواغل المودة الصادقة لمن يعرف من أشراف النساء، وهذا باب من أنس الضمائر والقلوب عرفه الناس من قديم الزمان وإن جبنوا عن التصريح به فيما يكتبون وما ينظمون.
وصديقنا الشريف الرضي كان يفهم هذه المعاني، وأكاد أجزم بأنه كان يضمر الإعزاز لكثير من عقائل الكرخ وبغداد، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه كان يصادق كثيرًا من نساء البيداء، فإن لم تصدقوا ذلك فحدثوني كيف صحّ له أن يقول في رثاء سيدة غيبها التراب:
إي والله، كذلك تسجل مودات الكرائم من النساء، ولو أفنينا الأعمار في تخليد مآثر الحرائر، وفضلهن على أرباب العقول لما بلغنا بعض ما نريد.
أيها السادة
إن المقام يضيق عن شرح ما عند الشريف من غرائب الوفاء، ويكفي في ختام هذه المحاضرة أن نشير إلى ما في شعره من رقة الحنين؛ فهو الذي يقول في رثاء بعض الأصدقاء:
وهو الذي يقول:
وهو الذي يقول في التوجع على من فقد من الأهل:
ومن هذه الشواهد ترون أنه كان يخاطب الأحباب الذاهبين، كما يخاطب الأحباب الغائبين، وذلك فيض من قوة الإحساس.