عفاف الشريف
أيها السادة
رأيتم ما كان يحيط بشاعرنا من المحرجات، ورأيتم أنه حرم نفسه أعظم لذة يتغنى بها المشببون، فلم يصف مراتع الأنس، وملاعب الطيش، ولم يتحدث عن أسرار الهوى في الكرخ أو بغداد.
وقد آن أن تعرفوا بوضوح أن شاعرنا لم يكن له بدّ من الحديث عن العفاف: العفاف المطبوع، أو العفاف المصنوع، ومن المؤكد عندي أن الشريف كان من المتجملين، ولم يكن من المنافقين، فهو قد عشق بالفعل، وكيف لا يعشق والعراق بفطرته مفطور على تقلب القلوب؟ ألم تروا كيف بتلاعب جوه من صحو إلى غيم، ومن برد إلى قيظ؟ ألم تروا إلى أهله كيف يغضبون ويبتسمون في لحظة واحدة؟ ألم تلاحظوا أن العراق تفرد بمزية غريبة هي الإسراف، ففيه ظهر أعاظم النساك، وفيه نبغ أكابر الفساق؟
إن هذه الطبيعة المزدوجة هي الشاهد على تقلب القلوب، والقلوب لا تتقلب إلا بقوة الإحساس، والإحساس القوى هو منبع العشق، والعشق على جموحه هو أساس النظام في حياة الرجال.
وكان من حظ الشريف أن يكون صورة طريفة لذلك الازدواج، فلم يكن من النساك، ولا من الفساق، وإنما كان قلبه مسرحًا لتقلب الأجواء العراقية، فكان فاسق النظر، عفيف الخطرات، خطرات القلب والروح.
ولم يكن عفاف الشريف بابًا من عفاف الضعفاء أصحاب الحب العذري، فالعذريون في حقيقة الأمر كانوا مرضى لا يحسنون صيال الفحول، أما الشريف فكان رجلًا قويًّا، وكانت فحولتة تدعوه إلى التفكير في شريف المصاهرات، وهو قد تزوج بالفعل وأنجب، فلم يبق إلا أن يكون عفافه بابًا من التصون ليسلم من ألسنة السفهاء، والتصون هو في ذاته قوة؛ لأن كبح النفس يحتاج إلى نضال، وقد ناضل صاحبنا في سبيل شرفه فلم يمت إلا وهو مرموق الجلال.
أيها السادة
لا تحسبوني أتفلسف، فأنا في هذه المحاضرات من خدام الحقائق، وحولي عيون وأرصاد تصدني عن شطط الخيال.
وقد تأملت ما قال الشريف في العفاف مرات ومرات قبل أن أدون الكلام الذي تسمعون، وصحّ عندي أن غراميات ذلك الرجل كانت عراكًا في عراك.
هو عفيف، ولكن حديثه عن عفافه يشعرنا بأنه كان يجاهد هواه جهاد المستميت، وانظروا كيف يقول:
فما رأيكم في هذه الأبيات؟ أعلنوا رأيكم بصراحة، فليس بيني وبينكم حجاب، ألا ترونها جميعًا قوية، ألا هذه الشطرة:
وإنما أستضعف هذه الشطرة؛ لأني أعتقد أن مشيئة الله أقحمت إقحامًا في هذه الأبيات؛ مراعاة لأهواء الجهلاء!
وهذه الأبيات:
فهل ترون فيها إلا اعتلاجًا في اعتلاج؟ هل ترون إلا رجلًا يخشى ثورة المجتمع على من يرشح نفسه لأعظم المناصب الدينية؟
وهذه الأبيات:
فهل ترون هذه الأبيات إلا صورة من صور النضال بين المجد والحب؟ إن الشاعر يصرح باللوعة، ثم يثور على هواه، فيعلن أن قلبه من داء الغرام خراب؛ ليصح له أن يقول: إن المجد غاية مناه، وليس من الكثير على مثله أن يدوس الهوى في سبيل المجد، فتلك ثورة نفسية عرفها أحرار الرجال، ولكن من الواجب أن نتذكر هذا لنعرف أن صاحبنا لم يؤثر العفاف وهو طائع، وإنما اختار العفاف؛ لأنه أصلح الصفات لبلوغه من المجد ما يشتهيه، وللمجد شهوة أقوى وأفحل من شهوة الجمال.
ثم اسمعوا الأبيات الآتية فهي أغرب:
ألا ترون قوة النفس في هذا الشعر الغريب؟ ألا تشهدون عثير المعركة بين العقل والقلب؟ إن الرجل يصرح بأن العفة ضرب من الغباوة والجهل، ولا يرى لها أية قيمة إلا إن كانت بابًا من الكفاح، الكفاح ضد أدواء الوجد المغالب. والشاعر بهذه الوثبة الشعرية يؤرخ قلبه أعظم تأريخ، فهو يدرك نور الوجوه — ولبعض الوجوه أنوار — ويدرك حلاوة العناق — وفي بعض العناق حلاوة تزلزل الجبال — ولكنه بجانب ذلك يتذكر مطالبه العالية في ساحات المجد، والمجد فيه نور، وفيه رضاب، وفيه عناق، وفيه كل ما تشتهي أنفس الفحول، وهل يشقى الناس أنفسهم في سبيل المجد إلا إذا رأوه أروع وأفتن وأملح وأعذب من جميع ما تغريهم به بوارق الحسن الفتان؟
ولكن هذا الجبار المتمرد على الحب قد يتفق له أن يرق فيقول:
وهذه قطعة تصافح القلوب، ولكن ماذا صنع صاحبنا الشريف؟ لقد ترفق بمحبوبته، فمنحها شطرًا من الفضل إذ جعل تصونها أعنف الرقباء، وهذا معنى إنساني نبيل، وهل ينكر منصف أن من النساء من يجاهدن الهوى كما يجاهده أعفاء الرجال؟ هل ينكر منصف أن هناك نساء نعاشرهن طوال السنين وفي قلوبنا وجد مشبوب، ثم نكتفي منهن بحلاوة الإنس وبشاشة الحديث؟
لا تقولوا: إن الشريف يتكلف العفاف، فإن حاله يختلف عن حال أبي نواس، وأمثال أبي نواس ممن لا يرون الوجوه الصباح إلا في المواخير، فإن التبذل في وصف ليالي الأنس يقبل من شاعر لا يرى وجه الدنيا إلا في سراديب الحانات، أما الشعراء الذين تسمح لهم مقاماتم في المجتمع بأن يكونوا على صلات مع كرائم «العلائلات» فلهم شان آخر؛ لأنهم يدخلون بيوتًا لها قدسية المحاريب، وليس من التزيد أن أقول: إني عرفت هذا النوع من الحياة فرأيته أغرب الألوان في عالم الشعر والخيال، وله لذّة أنضر وأعمق من لذة العبث والمجون، ولكن أين من يدرك كرائم المعاني؟
ثم اسمعوا أيضًا كيف يقول:
فهل رأيتم أدق من هذا الوصف؟ وهل رأيتم أظرف من هذا العاشق المنافق؟ ما هو الفرق بين ما يضمر الخمار، وما يضمن الإزار، يا مولانا الشريف؟
الفرق بعيد جدًّا، فالحنين إلى ما يضمن الخمار هو من النوازع التي يتفرد بها أصحاب الأذواق الرقاق، أما التطلع إلى ما يضمن الإزار فهو من شهوات الإذواق الغلاظ!
ثم انظروا صورة النزاع بين العقل والقلب، انظروا كيف يبتلى الرجلين بقوتين: قوة العاذر من الشوق السفيه، وقوة العاذل من القلب العفيف.
لقد سمعتم بما سماه القدماء خيال البحتري، ولعلكم قرأتم تفصيل ذلك في كتاب (مدامع العشاق)، ولكن ألا ترون أن الشريف بلغ الغاية في وصف تفاهة الفرح بالطيف حين قال:
تأملوا عبارة (رضي غير راض).
وبعد هذه القطعة أبيات أرى إمتاع أسماعكم بها، فهي عندي من وثبات الخيال.
ألا ترون يا أدباء بغداد كيف يزعم شاعركم أن للطبيعة أحاسيس؟
ألا ترون كيف يدعي أن الرياح تمرّ بتلك الدار فتتلفت إلى ما فيها من مقاصير؟
ليت الوقت يسمح بأسماعكم فقرات من كتاب (التصوف الإسلامي) لتروا بقوة المنطق أن الشريف لم يكن عابثًا، وإنما كان يحسّ ما سيقوله أنصار القول بوحدة الوجود بعد مئات السنين، وهل يعقل أن تمرّ الريح بالوادي الجديب، كما تمر بالوادي الخصيب؟ هل يعقل أن تمرّ النسمات بوجوه أهل البلادة كما تمر بوجوه أرباب القلوب؟
وهل اختلت الموازين في الدنيا حتى نصدق أن الأرض التي تدوسها البهائم كالأرض التي تتخطر عليها أقدام الظباء؟
نترك هذه الفلسفة الوجدانية، وننتقل إلى قول الشريف:
وفي هذه القطعة ألفاظ طريفة كعبارة (عاقر الوطر)، ونعوذ بالله من الوطر العاقر، ونسأله السلامة من عقم الأماني! وفيها أيضًا سياسة يحسنها المحبون، وهي مصانعة الكلاب، ولا بدّ لكل عاشق من مصانعة الكلاب، بل لا بد لكل رجل من مصانعة الكلاب!
ولكني أحب أن أنوه بتلك المخاصرة، فما يليق أن يعيش صاحبنا عيش المحروم في جميع الأحوال، وهل يتفق العفاف مع المخاصرة؟ تلك إحدى المعضلات؟
إن العفاف هنا ليس صورة للعفاف الذي يمضغه أدعياء الدين، وإنما هو عفاف الشاعر الذي يرى ما دون الرذيلة مباحًا في مباح، ويكفي لغفر ذنوبه أن يمتعنا بهذا البيت:
الله أكبر! ما هذا السحر يا أظرف الفاسقين!
ثم ماذا؟ ثم يقول في مخاطبة الظباء:
وكان يمكن أن نعيب عليه النص على المآزر في هذا الكلام النفيس، ولكن ماذا يصنع والناس في سرهم وجهرهم يطوفون حول ذلك الجمر المدفون!
وحسبه من الشرف أن يقول:
فهذا كلام لا يقوله إلا الفتيان الشرفاء، وفيه صور لا تخفى على اللبيب، ثم يقول:
فإلى من توجه هذا الكلام أيها الفاجر العفيف؟
وما رأيك إذا خبرناك أننا سألنا تلك المضاجع، فأنبأتنا أن أكاذيبك الطريفة لن تمنع من دخولك الجنة مع الصادقين؟!
أيها السادة
تذكروا أن الشريف شاعر، وللشعراء أضاليل أفضل من الهداية، وأكاذيب أشرف من الصدق، وعبث ماجن هو في جوهره أنضر وأطيب من الجد الرزين.