حجازيات الشريف
أيها السادة
سمعتم فيما سلف أن الشريف الرضي تفتحت عبقريته بفضل طريق الحج، وموسم الحج، ورأيتم أقباسًا من جذوات وجده المشبوب.
ونريد اليوم أن نتكلم بالتفصيل عن قصائده الحجازيات.
ولي مع تلك الحجازيات تاريخ، فقد ألقيت عنها محاضرة في نادي الموظفين بالقاهرة منذ سنين، ثم كتبت عنها بعد ذلك فصولًا مطولة في جريدة البلاغ، وقد حاولت إحضار تلك الفصول من القاهرة، ولكني لم أستطع؛ فأنا أكتبها للمرة الثالثة، وذلك عناء أتقبله في سبيل الشاعر البكاء الذي خلد مواسم العيون والقلوب.
أيها السادة
إن أسلافنا لم يخطئوا حين جعلوا حجازيات الشريف من فرائد الشعر العربي، فهي قصائد تفردت بغرائب من الأحاسيس، والشريف في هذه القصائد من فحول الابتكار والإبداع، فهو لا يكرر ما سبق إليه الشعراء، وإنما تتفجر عبقريته عن معان طريفة تشوق الأذواق والعقول.
والشريف في الحجازيات كأبي نواس في الخمريات، فإن أبا نواس ألحّ إلحاحًا شديدًا في وصف الصهباء، وكانت لجاجته في وصفها خليقة بأن تقذف به في مهاوي الإسفاف، ولكنه مع ذلك تماسك، وظل دائمًا من المبدعين.
وكذلك الشريف، فهو لم يكتف في وصف موسم الحج بقصيدة، أو قصيدتين، أو ثلاث قصائد، أو سبع قصائد، وإنما قال وأعاد، ثم قال وأعاد حتى بلغت قصائده في الحنين إلى موسم الحج نحو الأربعين.
وأنتم تدركون — أيها السادة — خطر هذا الإسراف، فقد كان كفيلًا بأن يسوقه إلى مدارج الابتذال، ولكن الشاعر ظل قويًّا، وظلت معانيه جديدة على الزمان، فهو في حجازياته قادر على أن يبهر بيرون وجوت وميسيه، ومن إليهم من الشعراء الذين جعلوا الحب شريعة إنسانية لها من الشعر فرقان وإنجيل.
وإني لأخشى — أيها السادة — أن أكون بهذه الإشارة ظلمت الشريف، فالشعراء العشاق في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا عاشوا في بلاد لا تدعي أنها تحرس الدين، والتقاليد في الأندية الأدبية، أعني أنهم نظموا قصائد الحب في بيئات يغلب عليها المرح، ويصرفها الفتون، فالشاعر كانت تسوقه المغريات إلى التشبيب، والملاح اللائي يدرن الأندية الأدبية إدارة الكؤوس كنّ يطلبن بالقول، أو بوحي، الملاحظ أن تكون لهن سيرة كالجدائل المعطرة في قصائد الشعراء، فلم يكن من المستغرب، ولا المستبعد أن تتسع مذاهب القول في وصف الوسامة والجمال.
أما الشريف فكان ينظم الحجازيات في مواطن لا يجوز فيها رفث، ولا فسوق، وينشدها بين أقوام يصطحبون، ويغتبقون بالتسبيح والتكبير والتهليل.
فأنصفوا الحق أيها السادة، واعترفوا بأن الحجازيات ما كانت تصدر عن شاعر يعيش في بيئة مثقلة بالتحرج والتعفف والتنسك إلا إن كانت جذوات صدره أقوى وأعنف من أن تطفئها شآبيب التحنف بين زمزم والحطيم.
أنتم اليوم في عصر يسمونه (القرن العشرين)، ويزعمون أنه حرّر المشاعر والقلوب من رباق التقاليد، فهل فيكم شاعر يملك من الجرأة ما كان يملك الشريف منذ نحو ألف نسمة، يوم كانت قالة السوء تصرف رجلًا مثله عن ولاية المظالم، وإمارة الحج، ونقابة الأشراف؟ هل يستطيع طلعت حرب — وهو رجل حرّ الذهن والعقل — أن يضيف إلى الشريط السينمائي: شريط الحج، منظرًا يمثل موقعة غرامية في سفح عرفات؟ إنه لو فعل لقامت قيامة المتزمتين في مصر، والمغرب، والشام، واليمن، والحجاز، والعراق، وقال القائلون: إنها دسيسة يراد بها انتهاك المناسك، والغض من هيبة الإسلام.
تصوروا — أيها السادة — أن وصف الحسن الذي ينثر أيام الصيف على الشواطئ المصرية يضيف الشاعر أو الكاتب إلى عصبة الماجنين، وإن صحّ لأحد شعرائنا أن يقول في شاطئ الإسكندرية:
إنه لا مفرّ من الاعتراف بأن الشريف كان مثال الجرأة والشجاعة حين استطاع أن يؤرخ هواه في أيام الحج بقصائده الحجازيات، وهذه الجرأة كانت من فيض الشاعرية، فإن الشاعر الحق أشجع الناس، وأقدرهم على الاستهانة بالمكاره والحتوف.
قد تقولون: إن عمر بن أبي ربيعة سبقه إلى هذه الجرأة، ونجيب بأن الفرق بعيد بين الشاعرين: فعمر بن أبي ربيعة نشأ في صدر الإسلام، يوم كان دينًا سمحًا لا تثقله الأوهام التي أثقلته فيما بعد، حين حمل أوزار الواغلين الذين نقلوا إليه أوضار التزمت والجمود، فيما ورثوا عن أصولهم في الشرق أو في الغرب، من بلادات المتزهدين، وغباوات المتقشفين، ورقاعات المتنسكين، كان عمر بن أبي ربيعة يعيش بين أمراء وخلفاء كانوا في حقيقة الأمر من أشراف الفتيان، وكان الناسكون لعهده رجالًا ظرفاء، لا ينكرون حقوق الأفئدة والقلوب.
أما الشريف فعاش في الصدر الثاني من القرن الرابع بعد أن حمل الإسلام ما حمل من عسير التقاليد، وبعد أن كانت بغداد قد عرفت ألوانًا من التزهد والتقشف تجعل الغزل في مواسم الحج ضربًا من اللهو والفجور مع استثناء الظرفاء من الصوفيين العراقيين الذين أطفنا بأخبارهم في كتاب (التصوف الإسلامي).
ذلك فرق بين العصرين: عصر صديقنا عمر، وعصر أستاذنا الشريف.
وهناك فرق بين الرجلين: فعمر بن أبي ربيعة كان في يأس من المجد السياسي، فلم يكن ينتظر أبدًا أن يكون له مجال في سياسة الدولة الإسلامية التي استبد بها الأمويون، وكذلك أقبل على دنياه ينهب منها ما تسمح به مواسم الحج من التطلع إلى الخدود النواضر، والعيون الفواتك، ويخلق لنفسه آفاقًا من السيطرة الوجدانية تعوض ما فاته من السيطرة السياسية والإنسان حيوان لئيم يهمه أن يسيطر في أي ميدان.
أما الشريف فكان له حال غير تلك الحال، كان الشريف علويًّا، والعلويون كانت لهم مطامع سياسية توارثوها من جيل إلى جيل، والذي يراجع ما فصلناه في كتاب (المدائح النبوية) يعرف أن أولئك القوم كانوا بلغوا غاية الغايات في رياضة أبنائهم، وأحفادهم، وأسباطهم على الإيمان بأنهم مظلومون، وأن الدنيا لا تصلح إلا إن رجع إليهم الأمر في قيادة المسلمين، وقد وصلوا في ذلك إلى غاية لا تحتمل ولا تطاق، فكانوا يتصورون أن الدنيا — إن لم يسوسوها — ستظل ظلمات من فوقها ظلمات.
وكان الشريف الرضي يرى نفسه أهلًا للخلافة الإسلامية، وساعده على ذلك مركز أبيه في المجتمع، وتشرفه بالانتساب إلى علي بن أبي طالب، وكان لعلي بن أبي طالب سلطة روحية هائلة في تلك العهود، ويكفي أن نحدثكم أن الخليفة القادر أذاع في الناس أنه رأى في منامه نهر الصليق قد اتسع حتى صار عرض دجلة دفعات، وأنه سار على حافته فرأى عليه قنطرة عظيمة، فأراد أن يعبر فانبثق النهر من حوله؛ فرأى شخصًا يناديه: أتريد أن تعبر؟ فقال: نعم، فمدّ يده حتى وصلت إليه، وأخذه فعبر به، وهاله الفعل، فسأل: من يكون هذا المتفضل بنجاته؟ فقال صاحب اليد الكريمة: علي بن أبي طالب، هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.
وهذه الرؤيا الصحيحة أو المخترعة تشهد بأن العلويين في ذلك العهد كان ينصب لهم ميزان، وكان الخلفاء العباسيون يرون من السياسة أن يداروهم بالثناء على جدهم أمير المؤمنين.
وكانت الظروف تسمح بعض السماح بأن يتطلع الشريف إلى الخلافة، فقد كان له في ذات نفسه خصائص ترشحه لذلك المنصب: كان من أسباط الرسول، وكان متفوقًا في العلوم النقلية والعقلية، وكان جميل الوجه جدّا، بحيث استطاع بعض أساتذته أن يقول: إنه لم يستبح النظر إلى وجهه إلا بعد أن اخضرَّ شاربه، ونبت عارضاه، والجمال كان من الصفات المأثورة عن الرجل الذي أعزَّ العرب في بقاع الأرض، وخلد لغتهم على وجه الزمان الرجل الذي اسمه أحمد ﷺ وحشرنا في زمرة أصفيائه يوم يقوم الحساب.
كان ذلك أيها السادة حال الشريف، فتصوروا كيف جاز لرجل له مثل تلك الأماني أن يفضح نفسه بين الناس، فيصرح بأنه من عبيد النحور، والخدود، والعيون؟
إن ذلك لا يقع إلا في حالين اثنين: حال الشعر، وحال الجنون.
وما اعتقد أن الشريف كان من المجانين، فلم يبق إلا أن يكون من الشعراء.
وما أدعوكم إلى الخروج على تقاليد المجتمع لتُعَرْبِدُوا في معاقرة الحسن عربدة الشريف. لا، وإنما أرجوكم أن ترحموه وتعطفوا عليه، فهو من سلالة قلَّ فيها الشعر جدًّا، حتى صار من كنايات العرب أن يقال: فلان من نسل الرسول، ويعنون أنه لا يصلح للانتساب إلى الشعراء. وما كان من الحق أن ينسلخ أسباط الرسول من الشاعرية، وإنما السبب في ذلك أن القبائل التي كانت ترشح نفسها للملك لم تكن ترى الشعر مما يليق بالملوك والخلفاء، وذلك باب من القول فصلته في كتاب (النثر الفني)، فلا أعود إليه في هذا المساء، ويكفي أن تذكروا أن الشاعرية لا تزكو إلا إن عاش الشاعر عيش البلبل يتنقل كيف يشاء بين أماليد الأفانين، والتأهب للملك يوجب أن يصير الرجل من عبيد المجتمع، فيعيش كرئيس الجمهورية الفرنسية لا يلقي أية كلمة في أي محفل إلا بعد استئذان.
وأريد — أيها السادة — أن أقول: إن الشريف الرضي لم يكن يصلح لغير الشعر، وأخشى أن أقول: إن إمارته للحج لم تكن إلا منحة يتفضل بها عليه الخلفاء العباسيون ليكون الفتى الذي اسمه الشريف الرضي خليفة للشيخ الذي اسمه أبو أحمد الموسوي.
ولكن شاعرنا جمع بين المزيتين، فكان أميرًا للحج، أميرًا فقيهًا، يقدم إلى الحجيج العراقي ما يبصره بالمشاعر والمناسك، وكان شاعرًا يتلهف على الحسن تلهف الظامئ إلى الورد الممنوع.
فإن اختال علينا أهل الأدب والذوق من اللاتينيين والسكسونيين والجرمانيين بأن عندهم قسيسين ورهبانًا يدركون أسرار الأدب الرفيع، فسنقول: إن عندنا «شيخًا» يؤدي الفرائض والنوافل، ويقرأ الأوراد، وهو مع ذلك شاعر حساس يفوق جوت، وبيرون، ولامرتين.
فإن سألوا: ومن هو ذلك الشيخ الشاعر؟
قلنا: هو الشيخ الذي ذهب لأداء فريضة الحج فبهرته الصباحة فقال:
تلكم إحدى طلائع الحجازيات، فلنتناولها بشيء من التحليل، ولنبدأ بهذين البيتين:
فذلك شاعر يطوف بالبيت فتقع عينه على غرائب الحسن، ثم يكشف الواقع غشاوة هواه، إذ يعرف أنها لحظة لن تعود. ومن الذي يضمن للشاعر أن يسمح الزمان اللعوب بأن يردّ إليه هوى قلبه بعد عام أو عامين؟ وهل يمكن أن تسمح ظروف العيش لإنسانة هاجرت في سبيل الحج من الأندلس أم المغرب، أو مصر أو الشام أن تعود لتلك المواقف مرة ثانية؟ من الذي يضمن لك حين تقع عينك على وجه جميل في بلد غريب أن تجود الأيام برؤيته مرة ثانية ولو في عرض الطريق؟ وهل تعرف المقادير قلب الشاعر فتعطف على جواه؟
إن الشريف يؤلف المقاطع من قلبه الممزّق وهو يقول:
وقد ركب صديقنا المترو ألف مرة، وحج باريس مرات، ولم يسمح الزمن بأن تقع عينه مرة ثانية على تلك العيون، فواحر قلباه!
واتفق لذلك الصديق أن يدعوه فريق من أصفيائه إلى زيارة نور منديا في كل عام مرة، ولكن الزيارة الأولى لبساتين التفاح كانت في الوقت الذي فرغ فيه من دراسته بالسوربون، فكانت أيامه بتلك البساتين أول العهد وآخر العهد، وقد رجع إلى فرنسة بعد ذلك، ولكنه وا أسفاه كان يصل بعد (مايو) شهر الأزهار والرياحين، وقد علمت أن شواغله في دنياه لن تسمح له أبدًا برؤية نور منديا في شهر مايو، إلا أن يصبح من تقاليد الحكومات أن ترسل البعثات لتثقيف الذوق والوجدان!
يكفي هذا في الطواف حول هذين البيتين، ونترك لأذواقكم درس الحسن في بقية القطعة، وننتقل إلى الأبيات الآتية، وقد قالها في مدينة الرسول في المحرم سنة ٣٩٤:
فما رأيكم في هذه الأبيات؟ قد تقولون: إن فيها معاني مألوفة، وهو كذلك، ولكن هل تغيب عنكم قوة إحساسه بالمألوف من تلك المعاني؟ أرجوكم أن ترجعوا إلى الفصل الذي أنشأناه عن المبتذل والطريف في الجزء الأول من كتاب النثر الفني لتعرفوا بوضوح كيف يكون المعنى مألوفًا، ثم يكون صاحبه أشعر الناس؛ لأنه أحسّه أقوى إحساس.
ومن الذي ينكر قوة الشاعرية في هذا البيت:
من الذي ينكر أن كلمة (يلجلجن) على ثقلها وقعت أجمل موقع في هذا البيت؟
من الذي ينكر طرافة الخيال في هذا البيت:
والمهم عندي هو النص على عبقرية السحر في هذا البيت:
المهم أن تتصوروا مبلغ إحساسه بالوحشة لفقد الجمال، وإن تذكروا كيف يتشوق ويلتاع.
وهذه الأبيات:
وهذه أبيات هادئة النفس، ولكن ما رأيكم في هذا البيت:
إن الشريف كان يتوهم أنه كحمام الحرم لا يُطرد ولا يُصاد، وكان يجهل أن الحرم يباح فيه صيد القلوب! … وهذا البيت:
فهو يمثل الحسرة اللاذعة التي يحسها من يرحم الجمال، فيضيع منه الجمال.
وهذا البيت:
وهو يمثل لؤم الملاح: فهن يملكن الوفاء، ثم لا يقدمن غير الصدود. وفي منطق الشريف أن المليحة يقبح منها المطل؛ لأنها موسرة، موسرة بالحسن والصباحة، والشاعر لا يطلب غير الأنس بالحسن والصباحة، والجود لا يتلف المحاسن كما يتلف الأموال!
وما رأيكم في هذه القصيدة التي سارت في المشرقين والمغربين، وعارضها جمهور من الشعراء:
فما ترون في هذه القصيدة العصماء؟ خبروني ماذا ترون؛ فإنها تسمو على كل تحليل؟
أيكون السحر في أن يصبح القلب مرعى تلك الغزالة؟ أيكون السحر في ألا يرويها الماء المبذول، وإنما يرويها الدمع المسفوح؟ أم يكون في أن يعرف العاشق مهب الريح بما تحمل عنها من نفحات؟ وما هو ذلك السهم الذي يبعد مرماه فيصيب وهو بذي سلم أحشاء من في العراق؟
إن هذه من الحقائق النواصع — لو تعلمون — فالعاشق تقوى عنده ذاكرة النظر، ويتصور ملامح معشوقه على بعد الديار وعلى بعد السنين فتغزوه الملامح الفتانة في كل وقت، كلما أدار أبصار فكره على ما رأت عيناه في عالم الفتون، والجاهل هو الذي لا يعرف ذلك، الجاهل هو المحروم من نعمة الخيال الوثاب الذي يمثل ما نأى وما بعد، وكأنه مشاهد ملموس، والشعراء بهذه المنحة الربانية يتمتعون بالمحاسن في صور مختلفات، ويشهدون المنظر الفاتن ألوف المرات، على حين لا يراه الجاهل غير مرة واحدة — إن كان الجاهل يدرك ما يراه — وأكثر أهل الأرض جهلاء، وإن ظفروا بأعظم الألقاب، وعلى الله رزق الدواب.
ويحدثنا الشاعر عن وعد العيون، وللعيون وعود.
فهل يسمح الشريف بأن نعترض على ما نسبه إلى محبوبته من خلف الوعد؟
هل يصدقنا الشريف إذا حكمنا بأن العيون عالم منفصل عن عالم القلوب؟
هل يصدقنا الشريف إذا جزمنا بأن العين تعد وتحلف، وتبرم وتنقض، في غيبة القلب؟
إن الناس يظنون منذ ألوف السنين أن العيون رسل القلوب، فليعرفوا منذ اليوم أن العين خلق عجيب لا يعرف أسراره غير علام الغيوب.
ولعل الشريف فطن إلى ذلك حين استدرك فقال:
وحين قال:
فهو يرى للعيون أعمالًا يجهلها أهل العيون، والأمر والله كذلك، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
ويقول:
فيرينا أن الحلاوة في عيون النساء أمتع من الحلاوة في عيون الظباء.
وانظروا كيف سجل مناسك الحج بهذين البيتين:
فهل رأيتم أظرف من هذا الكلام؟ وهل تدركون ما فيه من دقيق الإشارات؟ اغفروا لي هذه الهفوة، فما اتهمكم بالجهل، والعياذ بالذوق، وإنما أريد أن أهجم على الشريف فأقول: إنه كان يتخذ أيام الحج مواعيد غرام، وأخشى أن أقول: إنه لم يكن يفارق مناسك الحج إلا على ميعاد. وهذا يفسر حرصه على إمارة الحج بالأصالة عن نفسه، أو بالنيابة عن أبيه، ولا تستكثروا أن يحج الرجل ليرى امرأة يهواها، أو أن تحج المرأة لترى رجلًا تهواه، فقد كنا ننظم المواعيد في القطار بين ليون وباريس، مواعيد لعام أو عامين، ثم نفي فنلتقي بعد عام أو عامين، وللقلوب غرائب لا تدركها العقول.
وما الذي يمنع من مجاراة أبي عمرو بن العلاء في الحكم بين الأعشى ولبيد؟
أتذكرون ما قال أبو عمرو بن العلاء؟
إنه قال: لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر.
وكذلك أحكم بأن الشريف رجل شاعر، وليس برجل صالح.
وهل قلَّ الصالحون في الدنيا حتى نشرفهم بالشريف؟
إن الأغبياء يعدون بالألوف، وألوف الألوف، وإمارة الحج تولاها مئات ممن يحسنون التسبيح والتهليل، فليكن فيهم رجل واحد يفهم أن الحج معرض من معارض الجمال في أمة قامت تقاليدها على الاستهانة بالجمال.
لتكن حجازيات الشريف هي الشاهد على أن ماضينا لم يكن كتلة من الجمود، وإنما كان ماضي أمة حية تدرك دقائق الأحاسيس، تأملوا هذه الصورة:
ثم انظروا كيف يضل المرء بين الحسان، وليس له فيهن إلا محبوبة واحدة، وذلك أظرف أنواع الضلال.
وتأملوا قوله:
فهذا البيت يشهد بأن شاعرنا كان ينتهب الفرص التي يغفو فيها الركب؛ ليمتع القلب اليقظ بما يوحي الهوى من انتهاب القبلات.
•••
وما رأيكم في هذه الأبيات:
ما رأيكم في إحساس من يحكم بان «بلاغ السلام بعض التلاقي»، ما رأيكم فيمن يشعر بالأنس حين يمر بخاطر من يهواه؟
والشاعر واثق بأن هناك قلوبًا تسأل عنه حين يغيب، وما أسعد من يشعر بأن في الدنيا قلوبًا تسأل عنه حين يغيب! وشاعرنا لا تفارقه السيطرة العلوية، فهو يحب أن يبكيه الأحباب، فيوصي الرسول بأن يحدثهم أنه أصبح في حكم الفانين عساه يظفر منهم بزفرة، أو شهقة، أو أنين.
وما هذا البيت:
أتعرفون كيف تضيع القلوب، وكيف ينشدها الناشدون؟؟ أتحسون المعنى الملفوف في هذه الكلمة «عند بعض تلك الحداق»؟ أتفهمون من هذا أن الرجل كان له في الحجاز هوى خاص؟
وهذا البيت:
أنت كنت تعير الدموع للعشاق؟
ليت العباس بن الأحنف كان رآك قبل أن يقول:
لقد بكى العشاق عنك، وبكوا ثم بكوا، فإن لم تصدق فأنصت من عالم الغيب لترى كيف يسمع أهل العراق أبياتك هذه مرات في كل يوم من حنجرة أم كلثوم.
•••
وهذه الأبيات:
إن الشاعر يحس معنى الحياة في وقفات الركائب الأنضاء؛ لأن السفر لا ينضي الركائب إلا بعد أن تصل بالعاشق إلى هواه، فهو يطرب لوقفاتها في قرار واطمئنان.
والشاعر يوصي رفيقه بأن يتذكر عنه مناخ مطاياه، وتلك لفته شعرية لا يدركها إلا الأقلون.
وكما حدثنا عن «بعض تلك الحداق» يحدثنا عن «بعض تلك الظباء»، فيقول:
وعبارة «ما كان» عبارة لطيفة يوشيها الذوق، وهي أبرع من عبارة ابن المعتز إذ يقول:
لأن ابن المعتز أحاط عبارته بالشبهات.
أما الأبيات الأخيرة فهي تشعركم بأن الشريف لم يكن يودع مناسك الحج بالتلبية والتكبير، وإنما كان يودعها بزفرة الملتاع على ما يفارق من خدود وعيون.
أيها السادة
ما رأيكم في هذا القصيد المرقص:
ما رأيكم فيمن يرى أن يسمي هذه القصيدة «أنشودة الحجيج»؟
لا تعجبوا من هذا الاقتراح فمواسم الحج تحتاج إلى ضروب من الأناشيد، مواسم الحج في شوق إلى من يرجعها إلى عهدها الأول يوم كانت أقدم ما عرف الناس من المعارض الدولية، مواسم الحج تحتاج إلى شاعر كالشريف يفرق بين عقر البدنات وعقر القلوب، وتحتاج إلى شاعر يعلم الناس أدب الصيد فيقول:
وتتشوف إلى من يتلهف على أيامها فيقول:
وأعظم الحسرات أن تتشوف إلى أنس لن يعود، ويرحم الله أرباب القلوب!
•••
وهذه القصيدة التي تسجل لوعة القلب إلى ما شهد في طريق الحج من أسباب الفتون:
هل ارتبعوا واخضر واديهم بعدي.
فإنها تصور فهمه لمعاني السعادة في البوادي، وقد يكون في الارتباع والاخضرار إشارة إلى ما يتخوفه من أن يأنس الأحباب بغير هواه بعد الفراق.
ثم انظروا إحساسه بالفروسية في الحب إذ يقول:
وحدثوني عن شعوركم بهذا المعنى الطريف، فذلك شاعر يرى أن أطياف الشوق تعرفه بين الركب بسيماه، ويعتقد أن العشاق لا يردون في الحب إلا على ورده، ولا يشربون إلا بقاياه، والعشاق كالأنبياء لا تجود الدنيا بهم في كل يوم، وإنما تسمح بهم من جيل إلى أجيال.
•••
وما رأيكم في هذه الأبيات:
ألا ترون هذه الحسرة الدامية؟ ألا تحسون اللوعة في هذا البيت:
وأي لوعة آلم وأوجع من لوعة المفارق الذي لا يعرف متى يعود؟ أي لوعة آلم وأوجع من لوعة من يودع ناسًا لا يدري أيلقاهم مرة ثانية أم يكون أنسه بهم آخر العهد في دنياه؟
وهذا البيت:
وهل في الدنيا أفظع وأشنع من أن ترى العين ما لا تنال اليد؟ إن هذا أصل الشقاق والنزاع بين طوائف الإنسان والحيوان، وكل شقاء في عالم الذوق والوجدان يرجع إلى أصل واحد: هو أن ترى ولا تملك. وهل يعرف أحد حقيقة اللوعة في قلب الشاعر الذي يرى امرأة جميلة وهو يعرف أن لن تنالها يده، وأنها مع ذلك قد تكون ملكًا لرجل سخيف لا يدرك أسرار الجمال؟
نترك هذا الشطط، وننتقل إلى هذه الأبيات:
وهذا شعر واضح، ولكن لا بدّ من التذكير ببعض المحاسن، كأن ننص على الخيال في هذا البيت:
وما هو بخيال، وإنما هو حقيقة تراها العيون، ومن الذي ينكر أنه يتمنى أن يكون شيطانًا ترجمه بعض الأنامل الرقاق؟ فهل يستكثر على الشريف أن يقول: إن بعض الراميات لا ترمي بالجمار، وإنما ترمي الأحشاء بالجمر المشبوب؟
ما هذه البدعة الطريفة التي تفرد بها الحج الإسلامي؟ ما هذا التلطف الظريف الذي شرعه الإسلام، وهو يوجب على المرأة المليحة أن تمدّ معصمها لترمي الجمار؟
أما خطر ببال أحد الفقهاء أن يتصور أن المعصم الجميل قد يكون أفتن وأخطر من الشيطان الذي يرجمه الحجاج؟
ليت الدهر يسمح بأن نرى مرة كيف ينعم صديقنا الشيطان، وهو يتلقى الرميات من أيدي الملاح! إن حظه لو تعلمون عظيم!
وهذا البيت:
والمهم هو النص على أن الرامي قد يصيب وهو لا يدري، ذلك منطق الشريف! والأغرب منه أن ننص على أن الرامي قد يقصد هدفًا واحدًا فيصيب هدفين!
وهذا البيت:
فذلك هو المعنى الأصيل الذي يدور حوله الشريف في سائر الحجازيات.
•••
وهذه الأبيات وقد قالها عند دخول الحجيج إلى مدينة السلام في شهر صفر سنة ٣٩٥.
هل ترون؟ ألا تحسون لوعة المشتاق إلى أنفاس الظباء بالحجاز؟ ذلكم شاعر فاته أن يحج فلم يبق أمامه إلا أن يتنسم أرواح القادمين ليرى الديار بأذنيه، وقد فاته أن يراها بعينيه؟ والعاشق يستبيح كل شيء حتى الأنس بالخيال، وهو والله مظلوم فقد ينشد القدح الضائع، ولا ينشد الفؤاد المفقود … وهذه الأبيات:
ما رأيكم في هذا الشعر المرقص؟ وما هي التعابير التي تفصح عما فيه من فتون؟ ما رأيكم في العذوبة التي تتموج بين ألفاظه ومعانيه كما يتموج البريق في الثنايا العذاب؟
حدثوني عند أي بيت نقف لنحدد غرائب البيان؟
انظروا هذا البيت:
تجدوا المعنى قديمًا مبذولًا تناهبه مئات الشعراء. ولكن ألا توافقون على أن الشريف أداة تأدية رشيقة حتى كاد يصبح من المبتكرات؟
وهذا البيت:
وهو أيضًا معنى قديم، ولكن هل تدركون الصورة الشعرية التي تتمثل في قوله:
وهو يريد أنها لم ترح مع الغزلان إلا بعد أن شبعت لعبًا بذلك القلب الخفاق، وهل تشبع الظباء من اللعب بالقلوب!
وهذا البيت:
فقد يمكن رجع صدره إلى قول دعبل:
ولكن من الذي يجهل قيمة اللطف في هذه الشطرة:
وهذا البيت:
وهذا البيت:
هو أيضًا معنى قديم، ولكن لا يكذب من يقول: إنه من مبتكرات الشريف.
وهذا البيت:
وما أحسبكم تطالبونني بالتنبيه على ما في هذا البيت البارع من جمال، فإني أخشى أن تفسده الشروح، وانظروا كيف عقب عليه بهذا البيت:
وأحب أيها السادة أن تتأملوا الحسن في هذه الأبيات:
أتدركون قيمة العذوبة في هذا القصيد؟
أعتذر مرة ثانية وثالثة ورابعة عن الارتياب في أذواقكم، فمثلي لا يسيء الظن بأذواق أهل العراق، وإنما أعجب حين أرى من يتهمني بالتعصب للشريف، ويطالبني بكشف ما عنده من عيوب، وأنا والله مستعد لكشف عيوب الشريف، ولكن متى؟ بعد أن يعرف الناس محاسن الشريف.
أليس من العجب العاجب ألا يعرف هذه القصيدة مغنٍّ في تونس، أو مراكش، أو الجزائر، أو صنعاء، أو مكة، أو المدينة، أو دمشق، أو بيروت، أو القاهرة، أو بغداد، وما إلى أولئك من الحواضر العربية؟
لو كانت هذه القصيدة العذبة مما نظم ميسيه، أو بيرون، أو جوت لكانت على جميع الألسنة في بلاد الفرنسيس، والإنجليز، والألمان، ولكنها واأسفاه من نظم شاعر يجهله أكثر العرب، وينكره بعض أهله في العراق.
أنا لا أقول بأن الشريف ابتكر جميع معانيه، فلأكثرها أصول عند أسلافه من الشعراء، ولكني مع ذلك أقول بأن جميع معانيه من المبتكرات؛ لأنه يحسها بأقوى وأعنف ما تتصورون من الإحساس، وقد دعوتكم من قبل إلى مراجعة كتاب النثر الفني لتروا كلمة الحق والصدق في المبتذل والطريف، ولتعرفوا أني في إنصاف هذا الشاعر لم أكن من العابثين.
وهل أستطيع مرة ثالثة أن أدلكم على الحسن في هذين البيتين:
إن المعنى فيهما مأخوذ من قول بعض الشعراء:
ولكن الصورة مختلفة كل الاختلاف.
وأنا — أيها السادة — أقدر منكم على تجريح الشعراء؛ لأني قضيت عشرين سنة أو تزيد في تعقب الألفاظ النثرية، والأخيلة الشعرية، وأستطيع أن أهجم على شاعر مثل المتنبي فأثبت أن معانيه كلها من الحديث المعاد، ولكني لو فعلت لكنت من الظالمين؛ لأني أعرف أن المتنبي أحس معاني شعره أصدق إحساس، وأومن بأنه لم يكن يغير على معاني سواه، وإنما كان يفترع المعاني افتراعًا، وإن أنس بها من قبله كثير من الشعراء.
وهل تظنونني أجبن عن مصارحتكم بكلمة العدل في هذه القضية، وأنا الذي جبهت بها أساتذتي في السوربون في محضر جمهور يعد بالمئات؟
هل تظنونني أجبن عن التصريح بأن النقاد القدماء كانوا يلعبون حين أتعبوا أنفسهم، وأتعبوا قراءهم فيما سموه بالسرقات الشعرية؟
لقد آن لنا أن نقيم النقد الأدبي على قواعد علم النفس، وأظنني وصلت في ذلك إلى بعض ما أريد.
ثم ننتقل إلى هذه الأبيات:
وهذه أبيات تدركون ما فيها من روعة الخيال، ويكفي أن نقف عند هذا البيت:
وليس من العجيب أن تصغي الجبال لأحاديث المحبين، فقد صحّ لأحد شعرائنا أن يقول:
•••
على أن صبابات الشريف في مواسم الحج، وفي طريق الحج، ولم تكن كلها من الوجد العابر الذي يمر مرور الطيف، ولا تبقى من نعيمه غير العقابيل، فقد حدثنا أنه طاف بمعاني الوصل، إذ قال:
والفتوة في صدر الشريف هي التي أنطقته بهذه المعاني، فمن المؤكد أن الدنيا لعهده لم تكن تخلو من أغبياء يصعب عليهم أن يدركوا كيف يصح العفاف لمن يبيتان ضجيعين، هو رجل خُلق للشعر والخيال، لا يصلح للنجاح في المعترك السياسي، ولكنه يؤدي لوطنه وقومه خدمات يعجز عنها الساسيون؛ لأنه يخلق ثقافة الذوق، ويروض النفوس على الأريحية، ويغرس فيها الشوق إلى حب الحياة.
ومن الواضح أن حجازيات الشريف لا تصلح دستورًا للحجاج، فقد يجب أن تكون لهم شواغل غير التطلع إلى النحور والمباسم والعيون، ولكن هل يدّعي الشاعر أنه يضع الشرائع للناس؟ وهل للشاعر شريعة واضحة الرسوم حتى يفكر في سن الشرائع؟
إن الشعراء كالأنهار يحلو لهم الاعوجاج، أما ترون نهر دجلة يمضي يمنة ثم يرجع يسرة؟ أما ترون نهر السين كيف يسير على غير هدى؟ وبفضل ذلك الاعوجاج حسنت مواقع المدائن التي تقوم علي شواطئ الأنهار والبحار، ولو كان شاطئ البحر الذي تقوم عليه مدينة الإسكندرية يعرف الاعتدال لكان من المستحيل أن تظفر الإسكندرية بذلك الموقع البديع الذي يمكن الناظر من أن يراها في الليل، وهي كالعقد على نحر المحيط، وشواطئ الإسكندرية لم تجمل إلا بفضل ذلك الاعوجاج.
كنت أستطيع أن أناقش الشريف فيما ادعاه من العفاف، فأعيد التي جاءت في الجزء الثاني من كتاب البدائع؟ كلمة أستاذنا الدكتور منصور فهمي الذي يرى أن الشهورة قد تخرج من العيون.
ولكن ما رأيكم في أن الله — عز شأنه — لم يضع عقوبة للشهوة التي تخرج من العيون؟
أنكون أغْيرَ من الله؟
إن الشريف رجل شاعر، ولا يعيبه ألا يكون من الصالحين، فإن الصلاح المطلق لا يتم إلا لأهل البلادة والجهل.
كم كنت أتمنى أن أحاسب الشريف على ما ادعاه لنفسه من العفاف، ثم صدني عن ذلك شعوري بأنه لم يكن منافقًا، وأنا رجل يرى الكفر أهون من النفاق.
أيها السادة
لقد طال القول في حجازيات الشريف، وما نريد الاستقصاء، فلنختم البحث بقصيدته اليائية، وقد قالها قبل أن يموت بأربع سنين، قالها عند توجه الناس إلى الحج في ذي القعدة من سنة ٤٠٠ وهو يتلهف على مواقع عينية في أرض الحجيج.
هذه — أيها السادة — أنشودة القلب الحزين، وبها نختم الحجازيات، وكنت أحب أن أتناولها بالنقد والتحليل، ولكني عرضت لها قبل ذلك في مؤلفاتي عدة مرات، وما أدري أين عرضت لها؛ فقد كثرت مؤلفاتي وطالت، وربما كنتم تعرفون عن مؤلفاتي أكثر مما أعرف، فارجعوا إلى ما كتبت في تحليل هذه القصيدة إن كنتم تذكرون!